فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

لعدم المتيقن. وإن كان مع أخذ زمان الآخر ظرفا للمستصحب ، فلا وجه للمنع عنه ، فإنه من بعد اليوم الأول الذي هو ظرف اليقين بعدم كل من البيع ورجوع المرتهن عن الاذن يكون كل من البيع والرجوع مشكوك الحدوث في كل آن من آنات اليوم الثاني واليوم الثالث ومنها آن حدوث البيع أو آن حدوث الرجوع ، فان آن حدوث كل منهما إنما يكون من آنات اليومين ، فيجري استصحاب عدم حدوث البيع في آن حدوث الرجوع واستصحاب عدم حدوث الرجوع في آن حدوث البيع ، فالشك في كل منهما متصف بيقينه ، لأنه لم يتخلل بين اليقين بعدم البيع في اليوم الأول والشك في حدوثه في زمان الرجوع يقين آخر يضاد اليقين السابق ، وقد عرفت : أنه ما لم يتخلل اليقين بالخلاف لا يمكن أن ينفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، وكذا الكلام في سائر موارد الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر وتأخره عنه.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الشك في تقدم وجود الحادث وتأخره إن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان فاستصحاب العدم يجري في كل زمان شك في وجوده فيه ، وإن كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث آخر ، فان كان أحدهما معلوم التاريخ فاستصحاب العدم إنما يجري في مجهول التاريخ فقط دون معلوم التاريخ ـ إلا على بعض الفروض الآتية ـ وإن كان كل منهما مجعول التاريخ فالاستصحاب في كل منهما يجري ويسقط بالمعارضة إذا كان لعدم كل منهما في زمان الآخر أثر شرعي ، وإلا فالاستصحاب يجري في خصوص ماله الأثر بلا معارض ، من غير فرض بين الحادثين اللذين يمكن اجتماعهما في الوجود ـ كإسلام الوارث وموت المورث وكبيع الراهن ورجوع المرتهن عن الاذن ـ وبين الحادثين اللذين لا يمكن اجتماعهما في الوجود كالحدث والوضوء والنجاسة والطهارة ـ فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

٥٢١

تكملة :

عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ليس على إطلاقه ، بل قد يجري الأصل في معلوم التاريخ أيضا ويسقط بالمعارضة مع الأصل الجاري في مجهول التاريخ ، وقد لا يجري الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله ، فالفروض ثلاثة :

الأول : عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ، كالأمثلة المتقدمة : من إسلام الوارث وموت المورث ، أو بيع الراهن ورجوع المرتهن عن الاذن في البيع ، ونحو ذلك من الموضوعات المركبة من جزئين عدميين أو وجوديين أو مختلفين مع العلم بتاريخ وجود أحد الجزئين ـ كالمثالين المتقدمين ـ فان موضوع الإرث مركب من إسلام الوارث وموت المورث ، وموضوع نفوذ بيع الراهن مركب من البيع وعدم رجوع المرتهن عن الاذن ، ففي مثل ذلك الأصل في معلوم التاريخ لا يجري وفي مجهوله يجري ويترتب عليه الأثر الشرعي حسب اختلاف المقامات.

الفرض الثاني : جريان الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله (١) وذلك

__________________

١ ـ أقول : الاستصحاب في مجهول التاريخ تارة عدمي ، ولقد تقدم شرحه في المثال السابق ، وأخرى وجودي ، كما في استصحاب الطهارة والحدث ، وفي هذا المقام لا نحتاج إلى جر المستصحب إلى زمان وجود الآخر أو عدمه كي يحكم العقل بتطبيق المقيد ، بل المقصود استصحاب وجود كل منهما في حد نفسه.

وحينئذ نقول : إنه لو فرض أنه ما مضى إلا زمانين نعلم إجمالا بوجود الحالتين فيهما وشك في تقدم أحدهما على الآخر ، ففي هذه الصورة لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في كل منهما ، لان في الزمان الأول لم يكن يقين بوجود كل منهما ، وفي الزمان الثاني أمر كل واحد منهما مردد بين الشك في الحدوث أو الارتفاع ، فلم يحرز موضوع الاستصحاب : من الشك في وجود ما ينطبق عليه البقاء ، فلا محيص حينئذ من فرض زمان ثالث نشك في بقاء كل من الحادثين.

٥٢٢

__________________

وحينئذ نقول : لا شبهة في عدم اتصال هذا الزمان بزمان المتيقن ، كي يصدق بأنه زمان بقاء ما حدث ، لان ما حدث إذا كان زمانه إجماليا مرددا بين الزمان ، فالزمان المتصل بزمانه أيضا مردد بين الزمانين ، وحينئذ فهذا الزمان الاجمالي يحتمل أن يكون الزمان الأول ، فالزمان المتصل حينئذ هو الزمان الثاني المردد أمره بين الحدوث والارتفاع ، فهذا الزمان الثالث لم يحرز اتصاله بزمان المتيقن ، إلا على تقدير كون الزمان الحادث هو الزمان الثاني ، وفي هذا التقدير يقطع ببقائه.

ولئن شئت قلت : إن ما هو موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء الشيء في زمان وارتفاعه فيه ، بحيث يحتمل ملازمة حدوثه مع وجوده في ثاني زمانه ويحتمل انفكاكه عنه وعدم الملازمة بينهما ، وفي المقام بالنسبة إلى الزمان الثالث وإن احتمل الملازمة ، ولكن احتمال الانفكاك بين حدوثه وفي ثاني زمانه معدوم ، إذ نقطع بعدم الانفكاك بين الحدوث وثاني زمانه في زمان الثالث ، ففي الحقيقة الشك بالبقاء في هذا الزمان يرجع إلى الشك في اتصاف بقاء الشيء من جهة الشك في الحدوث المتصل به ، لا من جهة الشك في قطع الحادث ، وما هو موضوع الاستصحاب هو الأخير ، لا مطلق الشك في البقاء. ومن هذا البيان ظهر : وجه اعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين بالمعنى الذي ذكرنا في الاستصحاب المفقود في المقام ، وهذا معنى آخر من الاتصال غير ما أفاده استاذنا : من احتمال الفصل باليقين كي يرد عليه ما في التقرير. ويا ليت! أنكر الفصل المزبور في جميع المقامات ، على ما شرحناه سابقا ، وحينئذ فلا مجال لجريان الاستصحاب في المقام أصلا كي ينتهي أمره إلى التعارض.

بل ولئن شئت أيضا نقول : بأن المنصرف من أخبار الاستصحاب كون الزمان المشكوك فيه بمثابة لو تمشي القهقرى تضع قدمك على زمان اليقين من زمان الشك ، وفي المقام ليس الامر كذلك ، إذ لو تمشي القهقرى في الأزمنة التفصيلية ما تنتهي إلا إلى زمان اليقين بالعدم لا بالوجود. نعم : لا بأس بتصور هذا المعنى في المقام بالنسبة إلى الأزمنة الاجمالية ، ولكن قد عرفت : أنه غير قابل للانطباق على الأزمنة التفصيلية ، لعدم إحراز الانطباق على زمان خاص كذلك ، فلو كان الأثر مترتبا على وجود شيء في الأزمنة التفصيلية لما يكاد يترتب مثل هذا الأثر. نعم : لو كان في البين أثر يترتب على مجرد بقائه في الزمان الاجمالي بلا احتياج إلى التطبيق على الأزمنة التفصيلية لا بأس بترتبه.

ومن هنا ظهر : دفع نقض من بعض المعاصرين ; وهو الفاضل الكلبايكاني « الشيخ عبد الله » من أن لازم اعتبار الاتصال بالمعنى الأخير جريان الاستصحاب حتى في الشك البدوي في الرافع الوارد على المعلوم بالاجمال من حيث الزمان ، مع أنه لم يلتزم به أحد. وتوضيح الجواب : أن عدم التزامهم به ليس من جهة إجراء الاستصحاب في الأزمنة التفصيلية كي يصير نقضا ، وإنما هو من

٥٢٣

في كل مقام كان الشك في بقاء أحد الحادثين في زمان حدوث الآخر ، لا الشك في حدوث أحدهما في زمان حدوث الآخر ، كما إذا علم بالحدث والوضوء وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وكما إذا علم بنجاسة الثوب وطهارته وشك في المتقدم منهما والمتأخر ، فإنه في مثل ذلك الأصل في معلوم التاريخ أيضا يجري ويسقط بالمعارضة.

فلو علم المكلف أنه قد توضأ في أول النهار وعلم أيضا بالحدث ولكن شك في تقدم الحدث على الوضوء أو تأخره عنه ، كان الأصل في مرحلة البقاء في كل من الوضوء والحدث جاريا ، ويتعارض الأصلان من الجانبين ، فيستصحب بقاء الوضوء إلى زمان الشك وبقاء الحدث أيضا إلى زمان الشك ، فلو كان زمان الشك في تقدم الحدث على الوضوء وتأخره عنه هو أول الزوال ، فاستصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال يعارض استصحاب بقاء الحدث إليه. ودعوى : عدم اتصال زمان الشك في بقاء الوضوء والحدث بزمان اليقين ، قد عرفت ضعفها.

__________________

جهة جريانه في الأزمنة الاجمالية المستتبع في الزمان الثاني التفصيلي الذي هو طرف العلم ، للعلم الاجمالي إما بالطهارة الوجدانية أو التنزيلية ، وهذا المعنى غير جار في المقام ، لما عرفت : من أن في الزمان الثاني الامر مردد بين الحدوث والارتفاع ، فكيف ينطبق عليه الزمان الاجمالي؟ كما أن في الزمان الثالث أمره ينتهي إلى الشك في البقاء من جهة الشك في الحدوث المتصل به ، لا من جهة الشك في قطع الامر الحادث ، وحينئذ فكم فرق بين مقامنا والفرض المزبور! فتأمل في المقام ، فإنه مما زلت فيه الاقدام.

ومن التأمل فيما ذكرنا كله اتضح أيضا وجه التفصيل بين المعلوم تاريخه ومجهوله : من جريان الاستصحاب في معلومه دون مجهوله ، كالمسألة السابقة ، وإن كان الفرق بينهما في وجودية المستصحب وعدميته. والعجب من المقرر! حيث إنه في المقام التزم بجر المستصحب من الزمان الاجمالي إلى الزمان التفصيلي والتزم بالتعارض بين المعلوم والمجهول ، ولم يلتزم بجره من الزمان التفصيلي إلى الاجمالي بوجود غيره في المسألة السابقة كي يلتزم هناك أيضا بالتعارض. وتقدم أيضا بطلان ما اعتذر في وجه عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ ، فراجع وتدبر فيه.

٥٢٤

وتوهم : أن استصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال لا يجري ـ لان استصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء يقتضي تأخر الحدث عن الوضوء ـ فاسد ، فان استصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا يثبت تأخره إلا على القول بالأصل المثبت ، فاستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا أثر له ، لان الأثر المترتب على الحدث إنما هو كونه رافعا للطهارة وناقضا لها ، وهذا إنما يكون إذا تأخر الحدث عن الوضوء ، واستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا يثبت التأخر ، فلا يجري في الحدث استصحاب بقاء العدم ، بل يجري فيه استصحاب بقاء الوجود إلى الزوال الذي هو زمان الشك في المتقدم والمتأخر ، ويعارض مع استصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال ، غايته أن الاستصحاب في طرف الوضوء إنما يكون شخصيا من حيث الزمان للعلم بزمان وجوده ، وفي طرف الحدث يكون كليا لعدم العلم بزمان حدوثه ، وهذا لا يوجب فرقا بين الاستصحابين ، فالأقوى أن الاستصحاب في مرحلة البقاء يجري في كل من الوضوء والحدث ويسقط بالمعارضة وإن علم تاريخ أحدهما وجهل تاريخ الآخر. وقياس مسألة الوضوء والحدث بمسألة إسلام الوارث وموت المورث ـ حيث إنه لا يجري فيها الاستصحاب في معلوم التاريخ ـ في غير محله ، فان الشك في تلك المسألة إنما كان في الحدوث وفي مسألة الوضوء والحدث انما يكون في البقاء ، فما يظهر من الشيخ قدس‌سره من اتحاد حكم المسألتين ، ليس على ما ينبغي ، فان الفرق بينهما في غاية الوضوح.

هذا كله في الطهارة الحدثية ، وكذا الكلام في الطهارة الخبثية ، فلو غسل الثوب في مائين : أحدهما طاهر والآخر نجس ، فاستصحاب بقاء الطهارة والنجاسة في الثوب يجري ويسقط بالمعارضة ، من غير فرق بين كون الماء المغسول به الثوب قليلا أو كثيرا ، أو كان أحدهما قليلا والآخر كثيرا ، غايته أنه لو كان الماء قليلا فزمان حدوث النجاسة معلوم بالتفصيل دون زمان الطهارة ،

٥٢٥

ولو كان الماء كثيرا فزمان كل من الطهارة والنجاسة لا يكون معلوما بالتفصيل.

وتوضيح ذلك ـ هو أن الماء المغسول به الثوب لو كان قليلا : فحال ملاقاة الثوب للماء الثاني قبل انفصال الغسالة عنه يعلم تفصيلا بنجاسته ، إما لنجاسة الماء الأول المغسول به وإنما لنجاسة الماء الثاني الملاقي له فعلا ، ففي زمان ملاقاة الثوب للماء الثاني يعلم تفصيلا بنجاسة الثوب ويشك في زوالها ، لاحتمال أن يكون الماء الثاني هو النجس ولم يتعقبها مزيل ، فيجري استصحاب بقاء النجاسة التي يتعلق العلم التفصيلي بها من حيث نفسها ومن حيث زمانها. وهذا بخلاف الطهارة ، فإنه وإن كان قد علم بطهارة الثوب إلا أنه لا يعلم زمانها ، لتردده بين كونه في زمان عسله بالماء الأول أو بالماء الثاني ، فزمان حصول الطهارة يكون مرددا ، إلا أن ذلك لا يضر باستصحاب بقاء الطهارة ، للعلم بحصولها في الثوب في إحدى الحالتين والشك في ارتفاعها عنه ، لاحتمال أن يكون الماء الثاني هو الطاهر ، فيجري استصحاب بقاء كل من الطهارة والنجاسة في الثوب وهذا من غير فرق بين أن يكون الثوب قبل غسله بالمائين نجسا أو طاهرا.

وقد يتوهم : عدم جريان استصحاب الطهارة إذا كان الثوب قبل غسله بالمائين طاهرا ، لان الطهارة السابقة قد ارتفعت عن الثوب قطعا بملاقاته للماء النجس ولم يعلم بحصول طهارة أخرى للثوب ، بل هي مشكوكة الحدوث ، لاحتمال أن يكون الماء الأول هو الطاهر ، ولا أثر لملاقاة الثوب الطاهر للماء الطاهر ، فاستصحاب الطهارة يكون من القسم الثاني من القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي ، بل أسوأ منه ، لان القسم الثاني كان عبارة عن احتمال حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فإنه لا يحتمل وجود فرد آخر والطهارة في الثوب مقارنا لارتفاع الطهارة السابقة ، لان ارتفاع الطهارة السابقة عن الثوب إما يكون بملاقاته

٥٢٦

للماء الأول وإما أن يكون بملاقاته للماء الثاني. فان كان بملاقاته للماء الأول ، فهو وإن كان قد حدث في الثوب فرد آخر من الطهارة ، إلا أن حدوثه لم يكن مقارنا لارتفاع الطهارة السابقة ، بل قد تخللت النجاسة بين الطهارة المرتفعة والطهارة الحادثة. وإن كان بملاقاته للماء الثاني ، فارتفاع الطهارة السابقة إنما يكون من زمان ملاقاته للماء الثاني ، ولا يحتمل حدوث طهارة أخرى في الثوب بعد غسله بالماء الثاني. وعلى كلا التقديرين : لا يحتمل حدوث طهارة أخرى في الثوب مقارنة لارتفاع الطهارة السابقة عنه ، فاستصحاب الطهارة في المثال يكون أسوأ حالا من استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

هذا ، ولكن فاسد التوهم بمثابة من الوضوح ، فإن الطهارة والمستصحبة في المثال إنما تكون شخصية لا كلية ، والاجمال والترديد إنما هو في ناحية الزمان ، وفرق واضح بين أن يكون المستصحب بنفسه مرددا بين ما هو مشكوك الحدوث وما هو مقطوع الارتفاع ـ كما في القسم الأول والثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ـ وبين أن يكون زمان حدوث المستصحب مرددا مع العلم بحدوثه كما في المثال ، فإنه يعلم وجدانا بطهارة الثوب في أحد الحالين : إما في حال غسله بالماء الأول وإما في حال غسله بالماء الثاني ، ويشك في ارتفاع الطهارة عنه ، فجعل المثال من الاستصحاب الكلي واضح الفساد.

وتوهم : عدم اتصال زمان الشك في الطهارة بزمان اليقين بها ، قد عرفت ضعفه. فالأقوى : جريان استصحاب الطهارة في المثال ومعارضته لاستصحاب النجاسة. هذا إذا كان الماء المغسول به الثوب قليلا.

وإن كان كثيرا : فزمان وجود كل من طهارة الثوب ونجاسته لم يكن معلوما بالتفصيل ـ بناء على عدم اعتبار التعدد وانفصال الغسالة في طهارة المغسول بالماء الكثير ـ فإنه لا يعلم بنجاسة الثوب في آن ملاقاته للماء الكثير الثاني ،

٥٢٧

لاحتمال أن يكون هو الطاهر فيطهر الثوب بمجرد ملاقاته له.

ولكن قد عرفت : أن الجهل بزمان وجود المستصحب لا يضر بجريان الاستصحاب ، ففي الفرض أيضا يجري استصحاب بقاء الطهارة في الثوب ، للعلم بطهارته في أحد الحالين : إما حال ملاقاته للكر الأول وإما حال ملاقاته للكر الثاني والشك في زوالها لاحتمال أن يكون الكر الثاني هو الطاهر ، ويعارض مع استصحاب بقاء النجاسة في الثوب ، للعلم بها أيضا في أحد الحالين والشك في ارتفاعها لاحتمال أن يكون الكر الثاني هو النجس منهما.

وإن كان أحد المائين المغسول بهما الثوب قليلا والآخر كثيرا : فان كان الماء الثاني قليلا فزمان النجاسة المستصحبة يكون معلوما بالتفصيل ، كما إذا كان كل من المائين قليلا. وإن كان الماء الأول قليلا فزمان كل من الطهارة والنجاسة لا يكون معلوما بالتفصيل ، كما إذا كان كل من المائين كثيرا ، وذلك واضح.

وعلى جميع التقادير : العلم بزمان حدوث النجاسة أو الجهل به لا يضر باستصحابها ولا باستصحاب الطهارة ، فتأمل في المقام جيدا ، فإنه من مزال الاقدام.

الفرض الثالث : عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ ومعلومه ، كما إذا علم بكرية الماء وملاقاته للنجاسة وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فإنه لا تجري أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية ولو مع العلم بتاريخ الكرية والجهل بتاريخ الملاقاة ، لان الظاهر من قوله عليه‌السلام « إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء » هو أنه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة سبق الكرية ولو آنا ما ، فان الظاهر منه كون الكرية موضوعا للحكم بعدم تنجيس الملاقاة ، وكل موضوع لابد وأن يكون مقدما على الحكم ، فيعتبر في الحكم بعدم تأثير الملاقاة من سبق الكرية ، ولذلك بنينا على نجاسة المتمم للكر ، لأنه يتحد فيه

٥٢٨

زمان الكرية والملاقاة ، فلا محيص من القول بنجاسة الماء مطلقا ، سواء جهل تاريخ الملاقاة والكرية أو علم تاريخ أحدهما ، سواء كانت الملاقاة معلومة التاريخ أو الكرية.

أما في صورة الجهل بتاريخهما : فلان أصالة عدم كل منهما في زمان الآخر لا تقتضي سبق الكرية. وكذا إذا علم بتاريخ الملاقاة ، فان أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة تقتضي عدم تحقق موضوع الطهارة.

وأما إذا علم بتاريخ الكرية : فأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية لا تثبت تأخر الملاقاة عن الكرية ، ومع عدم إثبات ذلك لم يحرز موضوع الطهارة ، مع أنه لابد منه (١) فان تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحراز

__________________

١ ـ أقول : مفهوم « إذا بلغ » ـ الذي هو المدرك لتنجس القليل ـ اعتبار ورود الملاقاة على ما لايكون كرا في التنجيس المستتبع لسبق عدم الكرية للملاقات ، بملاحظة موضوعية عدم الكرية للملاقات في التنجيس أيضا ، فالمعنى « إذا لم يكن فينجسه الشيء بالملاقات مع عدم الكرية » لا أن المفهوم « إذا لم يكن كرا فينجسه بعدم الملاقاة في ظرف الكرية » وحينئذ فلا شبهة في أن استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية وإن لم يثبت الملاقاة في ظرف الكرية ، إلا أنه ينفي موضوع النجاسة : من الملاقاة في ظرف عدم الكرية. وأما ما ذكره المقرر إنما يصح لو كان التنجيس مترتبا على عدم الملاقاة في ظرف الكرية لا مترتبا على الملاقاة في ظرف عدم الكرية. ولقد عرفت : أن مقتضى المفهوم هو الثاني لا الأول.

وعمدة النكتة في ذلك : هو أن من شأن أخذ المفهوم في القضية الشرطية تجريد الجزاء عن حيث إضافته إلى الشرط والاخذ بنقيضه في طرف المفهوم ، ولازمه حفظ نقيض الجزاء بجميع شؤونه في طرف المفهوم ، وحينئذ فمن المعلوم : أن نقيض الجزاء « ينجسه » ومن البديهي : أن تجريد هذا الجزاء عن إضافته إلى الشرط في المنطوق يقتضي أيضا تجريد الملاقاة المأخوذ في هذا الجزاء ، لأنه من شؤونه ، ولازمه حينئذ كون المفهوم ما ذكر ، لا ما توهم ، فتدبر فيما قلت وقال بعين الانصاف! إذ صحة ما قال مبني على عدم تجريد الملاقاة عن الإضافة بالكرية ، وهو مستلزم لعدم أخذ المفهوم من القضية رأسا ، وهو كما ترى! وإلا فلو قلنا [ بأن هنا ] حكمان : أحدهما عدم المنجسية بالملاقات في ظرف الكرية ، والآخر تنجسه بالملاقات في ظرف عدم الكرية ، فما لا يجدي فيه الاستصحاب هو الحكم الأول ، وأما الحكم

٥٢٩

وجوده في ترتب الحكم عليه ، ومع الشك في وجوده يبنى على عدم الحكم ، من غير فرق بين الشك في أصل وجود الموضوع وبين الشك في وجوده في الزمان الذي يعتبر وجوده فيه ، كما فيما نحن فيه ، فإنه وإن كان قد علم بالكرية إلا أنه يشك في وجودها قبل الملاقاة للنجاسة ، فظهر : أنه لابد من الحكم بالنجاسة في المثال مطلقا.

نعم : لولا كون التعليق على الامر الوجودي يقتضي إحرازه لكان ينبغي في المثال الرجوع إلى قاعدة الطهارة عند العلم بتاريخ الكرية. وكان مبنى شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ قبل هذا على طهارة الماء عند العلم بتاريخ الكرية ، وعلى ذلك جرى في رسالته العملية المسماة ب‍ « الوسيلة » وفي حاشية العروة. ولكن في المقام عدل عن ذلك (١) وبنى على النجاسة مطلقا حتى مع العلم بتاريخ الكرية. نعم : لو كان الماء مسبوقا بالكرية ثم طرء عليه القلة ، فاستصحاب بقاء الكرية إلى زمان الملاقاة يجري ويحكم عليه بالطهارة ، فتأمل جيدا.

ـ التنبيه العاشر ـ

ربما قيل : بجريان استصحاب صحة الاجزاء السابقة في باب العبادات عند الشك في عروض المانع أو القاطع.

وقد تقدم في مباحث الأقل والأكثر : أنه لا مجال للاستصحاب في ذلك ، فراجع.

* * *

__________________

الأخير فيجدي فيه الاستصحاب المزبور جدا كما تقدم ( والله العالم ) وحينئذ فلا قصور في استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية في معلوم التاريخ لاثبات الطهارة.

١ ـ أقول : يا ليت لم يعدل عما كان عليه!.

٥٣٠

ـ التنبيه الحادي عشر ـ

لا ينبغي التأمل والاشكال في عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها العلم واليقين ، كالنبوة والإمامة. وقد أطال الشيخ قدس‌سره الكلام في هذا التنبيه.

ولكن الانصاف : أنه لا يستحق إطالة الكلام فيه.

فالأولى : عطف عنان الكلام إلى

ـ التنبيه الثاني عشر ـ

المتكفل لبيان تمييز الموارد التي يرجع فيها إلى استصحاب حكم المخصص عن الموارد التي يرجع فيها إلى عموم العام.

ومحل الكلام إنما هو فيما إذا ورد عام أفرادي يتضمن العموم الزماني وخرج بعض أفراد العام عن الحكم وشك في خروجه عنه في جميع الأزمنة أو في بعضها ، كقوله تعالى : « أوفوا بالعقود » فان له عموم أفرادي بالنسبة إلى جميع أفراد العقود ، ويتضمن العموم الزماني أيضا لوجوب الوفاء بكل عقد في كل زمان ، وقد خرج عنه المعاملة الغبنية ، فإنه لا يجب الوفاء بها ، ولكن يشك في أنها خرجت عن العموم مطلقا في جميع الأزمنة ، أو في خصوص زمان ظهور الغبن؟ أي تردد أمر الخيار بين كونه على الفور أو على التراخي.

فيقع الكلام في أنه هل يجب الرجوع إلى عموم العام فيما عدا القدر المتيقن من زمان الخروج؟ أو أنه يجب استصحاب حكم المخصص؟.

وقد حكي عن المحقق الكركي رحمه‌الله أنه في المثال يجب الرجوع إلى عموم « أوفوا بالعقود » فيكون الخيار على الفور. وقيل : إنه يجب الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص فيكون الخيار على التراخي.

٥٣١

وقد اضطربت كلمات بعض الاعلام في ذلك وذهب يمنة ويسرة ولم يأت بشيء يمكن أن يكون ضابطا للموارد التي يرجع فيها إلى العام والموارد التي يرجع فيها إلى استصحاب حكم المخصص ، بل حمل كلمات الشيخ قدس‌سره في هذا المقام على ما لا ينبغي الحمل عليه ، وفتح عليه باب الاشكال والايرادات السبعة أو الثمانية التي ذكرها.

وعلى كل حال : تنقيح البحث في ذلك يستدعي رسم أمور :

الأول : لا إشكال في أن الأصل في باب الزمان أن يكون ظرفا لوجود الزماني ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على القيدية مكثرا للموضوع ليكون وجود الشيء في زمان غير وجوده في زمان آخر ، ومع عدم قيام الدليل على ذلك لا يكون الزمان إلا ظرفا لوجود الشيء ، لان نسبة الزمان إلى الزماني كنسبة المكان إلى المكين لا يقتضي أزيد من الظرفية ، سواء كان الزماني من مقولة الأعيان والموضوعات الخارجية أو كان من مقولة الافعال ومتعلقات التكاليف أو كان من مقولة الأحكام التكليفية والوضعية ، فان الزمان في جميع ذلك إنما يكون ظرفا لوجودها (١) وعليه يبتني جريان الاستصحاب ، فإنه لولا كون

__________________

١ ـ أقول : ينبغي للمقرر المستقصي لأنحاء مفاد الخطابات أن يتعرض في فرض الظرفية شقوقا أخرى ، وهو أن مفاد الدليل تارة : حكم شخصي مستمر لموضوع شخصي ، بحيث لو انقطع هذا الشخص لم يكن الخطاب متكفلا لحكم آخر لشخص آخر ، وإن كان قابلا للتحديد من حيث أوله وآخره. وأخرى : حكم سنخي ثابت لكل قطعة من القطعات الموجودة في الفرد الشخصي المستمر على وجه قابل للانحلال بأحكام بلحاظ كل واحد من القطعات الموجودة في ضمن هذا الفرد المستمر الشخصي ، ولازمه عدم اقتضاء الدليل الدال على نفي الحكم عن قطعة معينة ذهاب الحكم عن بقية القطعات. وثالثة : يكون الخطاب متكفلا لحكم سنخي لسنخ وجود الموضوع القابل للانطباق على شخص آخر منقطع عن الشخص الأول مع فرض اخذ الزمان في جميع هذه الفروض ظرفا ، بحيث لو فرض اخذه في لسان الدليل كان لمحض الإشارة إلى أمد استمرار الحكم أو موضوعه سنخيا أو شخصيا ، كما هو ظاهر. وسيجئ ( إن شاء الله تعالى ) بيان نتيجة هذا التشقيق.

٥٣٢

الزمان ظرفا لوجود المستصحب لم يكد يجري الاستصحاب ، لما عرفت : من أن حقيقة الاستصحاب إنما هو جر المستصحب في الزمان ، فلو كان الزمان قيدا لوجود المستصحب فلا يكاد يمكن جريان الاستصحاب فيه ، لان الوجود المقيد بزمان يباين الوجود في غير ذلك الزمان ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لأنه يكون من قسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

الامر الثاني : إذا علم من دليل الحكم أو من الخارج لحاظ الزمان قيدا في الحكم أو المتعلق

فتارة : يلاحظ الزمان على وجه الارتباطية ، أي يلاحظ قطعة من الزمان مجتمعة الآنات متصلة بعضها مع بعض على نحو العام المجموعي ، فيعتبر وجود الحكم أو المتعلق في مجموع الآنات بحيث لا يخلو آن منها عن وجود الحكم أو المتعلق ، فلو خلا آن عنهما يرتفع الحكم من أصله ويفوت المتعلق ولا يمكن بقاء الحكم أو إيجاد المتعلق في الآن الثاني ، كما في باب الصوم ، فان حقيقة الصوم هو الامساك من الطلوع إلى الغروب (١) فقد قيد الامساك بكونه في مجموع آنات النهار من حيث المجموع ، فيتحقق عصيان الخطاب إذا خلا آن من آنات النهار عن الامساك ، كما يتحقق عصيان خطاب « أكرم العلماء » عند ترك إكرام فرد من أفراد العلماء إذا كان المطلوب إكرام مجموع العلماء.

وأخرى : يلاحظ الزمان قيدا للحكم أو المتعلق على وجه الاستقلالية ، نظير العام الأصولي ، فيكون كل آن من آنات الزمان يقتضي وجود الحكم أو المتعلق

__________________

١ ـ أقول : ويمكن في تصور الصوم بجعله عبارة عن الامساك المستمر المحدود أوله بما تقارن الفجر وآخره بما تقارن الغروب ، بحيث يكون الفجر والغروب معينا للحدين وكاشفا عنهما بنحو الكشف اللازم عن الملزوم ، فيكون النهار من أوله وآخره توئما مع المرتبة الخاصة من مراتب الامساك الواجب ، لا انه قيد فيه ، كما لا يخفى. وبمثل هذا التصوير أيضا ربما يفر عن الشبهة الواردة على الغسل قبل الفجر بناء على بعض التقاريب في إبطال الواجب التعليقي ، فتدبر.

٥٣٣

فيه مستقلا ، فيتعدد الحكم أو المتعلق بتعدد الآنات ، ويكون لكل آن حكم أو متعلق يخصه لا ربط له بالحكم أو المتعلق الموجود في الآن الآخر ، فلو خلا آن عن وجود الحكم أو المتعلق كان الآن الثاني مستتبعا لوجود الحكم أو المتعلق فيه ، ولا ملازمة بين عصيان الخطاب في آن لعصيانه في الآن الآخر ، بل لكل آن طاعة وعصيان يخصه.

والحاصل : تقسيم العام إلى الأصولي والمجموعي لا يختص بالعموم الافرادي ، بل يأتي في العموم الزماني أيضا ، غايته أن الاستقلالية والارتباطية في العموم الزماني إنما يلاحظان بالنسبة إلى أجزاء الزمان وآناته ، من غير فرق بين سعة دائرة العموم الزماني وضيقها ، فتارة : لا تكون محدودة بل ما دام العمر ، وأخرى : تكون محدودة بالسنة أو الشهر أو اليوم أو أقل من ذلك ، وهذا كله واضح لا إشكال فيه.

الامر الثالث : اعتبار العموم الزماني بأحد الوجهين يتوقف على قيام الدليل عليه.

فتارة : يكون دليل الحكم بنفسه متكفلا لبيان العموم الزماني بالنصوصية ، كقوله : « أكرم العلماء في كل زمان » أو « في كل يوم » أو « دائما » أو « مستمرا » ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على العموم الزماني. وكقوله تعالى : « نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » (١) بناء على أن تكون « أنى » زمانية لا مكانية.

وأخرى : يستفاد العموم الزماني من دليل لفظي آخر ، كقوله : « حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرام إلى يوم القيامة » (٢)

__________________

١ ـ البقرة : ٢٢٣

٢ ـ أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس ، الحديث ١٩.

٥٣٤

وثالثة : يستفاد من دليل الحكمة ومقدمات الاطلاق ، وذلك إنما يكون إذا لزم من عدم العموم الزماني لغوية الحكم وخلو تشريعه عن الفائدة ، كما في قوله تعالى : « أوفوا بالعقود » (١) فإنه لو لم يجب الوفاء بالعقد في كل زمان يلزم لغوية تشريع وجوب الوفاء بالعقود ، لأنه لا فائدة في وجوب الوفاء بها في الجملة وفي آن ما. ولقد أجاد المحقق الكركي رحمه‌الله فيما أفاده من قوله : إن العموم الافرادي في قوله تعالى : « أوفوا بالعقود » يستتبع العموم الزماني ، وإلا لم ينتفع بعمومه الافرادي.

وبالجملة : كما أنه قد يستفاد العموم الافرادي من دليل الحكمة ، كقوله تعالى : « أحل الله البيع » (٢) حيث إن إطلاقه بقرينة الحكمة يدل على حلية كل فرد من أفراد البيع ـ لأنه لا معنى لحلية فرد مردد من البيع ـ كذلك قد يستفاد العموم الزماني من الاطلاق بقرينة الحكمة (٣).

الامر الرابع : مصب العموم الزماني تارة : يكون متعلق الحكم ، وأخرى : يكون نفس الحكم ، بمعنى أنه :

تارة : يلاحظ الزمان في ناحية متعلق التكليف والفعل الصادر عن المكلف ، كالوفاء والاكرام والشرب ونحو ذلك من متعلقات التكاليف الوجودية أو العدمية ، فتكون آنات الزمان قيدا للوفاء والاكرام والشرب ، أي يكون الوفاء أو الاكرام في كل آن معروض الوجوب وشرب الخمر في كل آن معروضا للحرمة ، سواء كان العموم الزماني علين وجه العام الأصولي أو العام المجموعي.

__________________

١ ـ المائدة : ١.

٢ ـ البقرة : ٢٧٥.

٣ ـ أقول : يمكن ان يقال في هذه الأمثلة : ان الزمان اخذ لبيان مقدار الاستمرار وأمده ، لا انه مأخوذ قيدا في الحكم أو الموضوع بأحد النحوين ، كما لا يخفى.

٥٣٥

وأخرى : يلاحظ الزمان في ناحية نفس الحكم الشرعي : من الوجوب أو الحرمة ، فيكون الحكم الشرعي ثابتا في كل آن من آنات الزمان.

فعلى الأول : يكون العموم الزماني تحت دائرة الحكم ويرد الحكم عليه ، فان الحكم كما يرد على المتعلق يرد على قيده أيضا ، والمفروض : أن الزمان في الوجه الأول يكون قيدا للمتعلق فيرد الحكم عليه لا محالة.

وعلى الثاني : يكون العموم الزماني فوق دائرة الحكم وواردا عليه ، وسيأتي لذلك مزيد بيان.

وهذان الوجهان ـ أي كون العموم الزماني قيدا للحكم أو المتعلق ـ وإن كانا يتحدان بحسب النتيجة ، بداهة أنه لا فرق بين قوله : « الشرب في كل آن آن حرام » وبين قوله : « الشرب حرام والحرمة ثابتة له في كل آن آن » فان النتيجة في كل منهما إنما هي دوام الحكم واستمراره في جميع الآنات ، إلا أنهما يختلفان فيما هو المهم بالبحث في المقام ، على ما سيأتي توضيحه.

الامر الخامس : يختلف العموم الزماني الملحوظ في ناحية المتعلق مع العموم الزماني الملحوظ في ناحية الحكم من جهتين :

الأولى : إذا كان العموم الزماني قيدا للمتعلق فيمكن أن يتكفل اعتباره نفس دليل الحكم ، كقوله : « أكرم العلماء في كل زمان » أو « دائما » وكقوله : « نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » وأما إذا كان العموم الزماني قيدا للحكم فلا يمكن أن يتكفل بيانه نفس دليل الحكم ، بل لابد من بيانه بدليل منفصل (١) فان استمرار الحكم ودوام وجوده إنما هو فرع ثبوت الحكم

__________________

١ ـ أقول : ولا يخفى عليك : ان المولى لو قال : « يجب اكرام العالم مستمرا إلى آخر الشهر » مع إقامة القرينة الحافة بالكلام على وجه يصير ظاهرا في رجوع القيد إلى الحكم لا الموضوع ، فهل هذا الدليل الواحد غير متكفل لثبوت الحكم واستمراره؟ فلم يحتاج إلى اثبات الاستمرار من دليل آخر منفصل؟ وما الفرق من هذه الجهة بين استمرار الموضوع والحكم؟ إذ كل منهما محتاج على ما دل على استمرارهما

٥٣٦

ووجوده ، فنسبة الحكم إلى عموم أزمنة وجوده نسبة الحكم والموضوع والعرض والمعروض ، فان مركب العموم الزماني ومحله ومعروضه إنما يكون هو الحكم ، ففي قضية قولنا : « الحكم مستمر » أو « دائمي » يكون « الحكم » موضوعا و « مستمر » أو « دائم » محمولا ، فلا يمكن أن يكون الحكم متكفلا لبيان أزمنة وجوده.

والحاصل : أن دليل الحكم إنما يتكفل بيان أصل ثبوت الحكم ووجوده ، وأما استمراره ودوامه : فلابد وأن يكون بدلالة دليل آخر ، وذلك واضح.

الجهة الثانية : لو كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم : فعند الشك في التخصيص وخروج بعض الأزمنة عن العموم يصح التمسك بالعموم الزماني الذي دل عليه دليل الحكم ، فلو قال : « أكرم العلماء في كل يوم » أو « في كل زمان » أو « مستمرا » أو « دائما » أو نحو ذلك من الألفاظ الموضوعة للعموم الزماني ثم شك في وجوب إكرام العالم في قطعة من الزمان ، فالمرجع هو الدليل الاجتهادي الذي تكفل العموم الزماني ، ولا تصل النوبة إلى استصحاب وجوب الاكرام الثابت قبل القطعة المشكوكة من الزمان ، فان الشك في التخصيص الزماني كالشك في التخصيص الافرادي يرجع فيه إلى أصالة العموم وعدم التخصيص.

ولا مجال للرجوع إلى الاستصحاب ، بل لا يجري فيه الاستصحاب ، لأن المفروض أن الدليل الاجتهادي قد تكفل لحكم كل زمان من أزمنة ظرف وجود المتعلق ، فقوله : « أكرم العلماء في كل يوم » يكون دليلا على وجوب إكرام كل فرد من أفراد العلماء في كل يوم من أيام العمر أو السنة أو الشهر ، فكان لكل يوم حكم يخصه لا ربط له باليوم السابق أو اللاحق ، فإنه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيام العمر أو السنة

__________________

زائدا عما دل على ثبوتهما ولو في طي خطاب واحد.

٥٣٧

موضوعا لاكرام واحد مستمر ، بل العموم الزماني إنما أخذ على نحو العام الأصولي ، من غير فرق بين الألفاظ الدالة على العموم الزماني ، فسواء قال : « أكرم العلماء في كل يوم » أو قال : « أكرم العلماء مستمرا » يكون كل يوم أو كل زمان موضوعا مستقلا لوجوب الاكرام ، فيتعدد الحكم والمتعلق حسب تعدد الأيام والأزمنة.

فلو شك في وجوب الاكرام في بعض الأيام والأزمنة لا يمكن استصحاب حكم اليوم والزمان السابق (١) لارتفاع ذلك الحكم بمضي اليوم السابق وتصرم الزمان الماضي ، فلا يمكن الحكم ببقائه في اليوم الثاني والزمان اللاحق إلا بالرجوع إلى ما يدل على العموم الزماني : من الدليل الاجتهادي ، ولا يصح الرجوع إلى الاستصحاب ، لأنه يلزم تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، فاستصحاب الحكم فيما كان المتعلق مصب العموم الزماني ساقط من أصله ولا مجال لجريانه.

بل لو فرض أنه لم يكن للدليل الاجتهادي عموم بالنسبة إلى جميع الأيام والأزمنة كان المرجع في زمان الشك هو سائر الأصول العملية : من البراءة والاشتغال ، لا استصحاب حكم العام ، من غير فرق بين الشك في أصل التخصيص أو في مقداره ، كما إذا علم بخروج بعض الأزمنة وشك في خروج الزائد ، ففيما عدا القدر المتيقن من التخصيص يرجع إلى ما دل على العموم الزماني لو كان ، وإلا فإلى البراءة والاشتغال ، ولا يجري استصحاب حكم الخاص. فلو علم بعدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة وخروجه عن عموم

__________________

١ ـ أقول : ما أفيد في فرض التقيد بالزمان في غاية المتانة. ولكن يمكن دعوى ان غالب ما توهم فيها عموم الأزمان كونها من قبيل الطبيعة السارية في ضمن القطعات المستمرة في الزمان ، على وجه يكون الزمان مبينا لأمد استمراره ، فهنا لا قصور في استصحابه لولا عمومها زمانا ، وإن كان الحكم فيها انحلاليا ، كما لا يخفى.

٥٣٨

قوله : « أكرم العلماء في كل يوم » وشك في وجوب إكرامه يوم السبت ، ففي يوم السبت يرجع إلى العموم ، لا إلى استصحاب حكم الخاص.

وبالجملة : لو كان المتعلق مصب العموم الزماني ، فلا مجال لاستصحاب حكم العام إذا شك في أصل التخصيص ، ولا استصحاب حكم الخاص إذا شك في مقدار التخصيص ، بل لابد من الرجوع إلى العام أو إلى سائر الأصول الاخر ، هذا إذا كان متعلق الحكم مصب العموم الزماني.

وأما إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم : فلا مجال للتمسك فيه بالعموم إذا شك في التخصيص أو في مقداره ، بل لابد فيه من الرجوع إلى الاستصحاب ، على عكس ما إذا كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم.

والسر في ذلك : هو أن الشك في التخصيص أو في مقداره فيما إذا كان الحكم مصب العموم الزماني يرجع إلى الشك في الحكم ، وقد تقدم أن الحكم يكون بمنزلة الموضوع للعموم الزماني إذا كان مصب العموم نفس الحكم ، ولا يمكن أن يتكفل العموم الزماني وجود الحكم مع الشك فيه ، لأنه يكون من قبيل إثبات الموضوع بالحكم ، فالعموم الزماني دائما يكون مشروطا بوجود الحكم ، ولا يمكن أن يدل قوله : « الحكم مستمر في كل زمان » على وجود الحكم مع الشك فيه ، فلو قال : « أكرم العلماء » وعلم من دليل الحكمة أو غيرها أن وجوب الاكرام مستمر وثابت في كل زمان ثم شك في وجوب إكرام العالم في زمان ـ لاحتمال التخصيص ـ فلا يصح الرجوع إلى ما دل على استمرار وجوب إكرام العلماء ، فان استمرار الحكم يتوقف على وجود الحكم ، والمفروض : الشك فيه.

وكذا لو علم بعدم وجوب إكرام زيد العالم في يوم الجمعة وشك في وجوب إكرامه في يوم السبت ، فإنه أيضا لا يجوز التمسك بقوله : « الحكم مستمر في كل زمان » بل لابد من الرجوع إلى استصحاب حكم العام عند الشك في أصل

٥٣٩

التخصيص والرجوع إلى استصحاب حكم الخاص عند الشك في مقداره ، بل لو لم نقل بحجية الاستصحاب كان المرجع سائر الأصول العملية ، لا عموم العام.

والحاصل : أن محل الكلام إنما هو فيما إذا كان عام أفرادي يستتبع عموم زماني ، فالعموم الزماني إنما يكون في طول العموم الافرادي ومتأخر عنه رتبة ، سواء كان مصب العموم الزماني نفس الحكم الشرعي أو متعلقه.

غايته أنه لو كان مصب العموم متعلق الحكم كان الحكم واردا على العموم الزماني كوروده على المتعلق ، فيكون تحت دائرة الحكم ، ولأجل ذلك صح أن يكون نفس دليل الحكم متكفلا لبيان العموم الزماني كتكفله لبيان العموم الافرادي ، فعند الشك في التخصيص أو في مقداره يتمسك بعموم الدليل.

وأما لو كان مصب العموم نفس الحكم كان العموم الزماني واردا على الحكم وواقعا فوق دائرة الحكم ، ولأجل ذلك لا يصح أن يكون دليل الحكم متكفلا لبيان العموم الزماني ، بل لابد من التماس دليل آخر يدل على عموم أزمنة وجود الحكم ، فعند الشك في التخصيص أو في مقداره لا يجوز التمسك بما دل على العموم الزماني ، لان الدليل إنما كان متكفلا لعموم أزمنة وجود الحكم ، فلا يتكفل أصل وجود الحكم.

والشك في التخصيص الزماني يستتبع الشك في وجود الحكم ، فلا يصح التمسك بعموم ما دل على العموم الزماني (١) ففي مثل قوله تعالى : « أوفوا

__________________

١ ـ أقول : إذا كان مصب العموم الزماني في نفس الحكم ، فلا شبهة في أن مرجع ذلك إلى أخذ العموم قيدا للحكم ، ولازمه كون الحكم الذي هو مركز هذا القيد مهملة عارية عنه ، كما هو الشأن في رجوع كل قيد إلى المقيد ، إذ لا محيص من أخذ القيد مهملا بالنسبة إلى هذا القيد ، كما هو الشأن أيضا في كل موضوع إلى محموله ، وحينئذ الاستمرار والدوام من عوارض الطبيعة المهملة التي يطرء عليه العموم

٥٤٠