فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

المعين في أول شعبان والآخر في غرة رمضان واختلفا فادعى أحدهما موت المورث في شعبان والآخر موته في أثناء رمضان ، كان المال بينهما نصفين ، لأصالة بقاء حياة المورث ، مع أن أصالة بقاء حياة المورث إلى غرة رمضان لا تثبت موضوع التوارث ، وهو موت المورث عن وارث مسلم ، فان للإضافة الحاصلة من اجتماع موت المورث وإسلام الوارث في الزمان ـ وهي موت المورث في حال كون الوارث مسلما ـ دخلا في إرث الوارث ، وأصالة بقاء حياة المورث إلى زمان إسلام الوارث لا تثبت هذه الإضافة ، بل غاية ما تثبته هو اجتماع الحياة والاسلام في الزمان ، وهو لا يكفي في التوارث.

هذا ، ولكن للمنع عن اعتبار الإضافة وحكاية الحال مجال ، فإنه يمكن أن يقال : إن الموضوع للتوارث نفس اجتماع حياة المورث وإسلام الوارث في الزمان ، فيندرج المثال في الموضوعات المركبة المحرزة أحد جزئيها بالوجدان وهو إسلام الوارث في غرة رمضان ، والآخر بالأصل وهو حياة المورث إلى غرة رمضان فيجتمعان في الزمان ، وهذا يكفي في التوارث ، ويلزمه تنصيف المال بين الوارثين. ولو انعكس الفرض وكان الاختلاف في زمان إسلام الوارث مع الاتفاق على تاريخ موت المورث ، فيجري استصحاب عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث ، ويلزمه عدم التوارث.

وبالجملة : ابتناء الفرع المذكور على اعتبار الأصل المثبت مبني على أن تكون للإضافة الحاصلة من اجتماع حياة المورث وإسلام الوارث في الزمان دخل في الحكم بالتوارث. ومن الممكن أن يكون نظر المحقق ومن تبعه في الحكم بتنصيف المال بين المتوارثين إلى عدم دخل الإضافة ، وسيأتي ( إن شاء الله تعالى ) في التنبيه الآتي مزيد توضيح لذلك.

ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمحقق في كر وجد فيه نجاسة لا يعلم سبقها على الكرية وتأخرها ، فقالوا : إن استصحاب عدم الكرية قبل الملاقاة للنجاسة

٥٠١

معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرية ، وسيأتي الكلام في هذا الفرع ( إن شاء الله تعالى ).

ومنها : ما ذكره في التحرير : من أنه لو اختلف الولي والجاني في سراية الجناية ـ فقال الولي : إن المجني عليه مات بالسراية ، وقال الجاني : بل مات بسبب آخر من شرب السم ونحوه ، أو ادعى الجاني أن المجني عليه كان ميتا قبل الجناية ، وقال الولي : بل مات بالجناية ـ ففي الضمان وعدمه وجهان : من أصالة عدم الضمان ، ومن استصحاب بقاء حياة المجني عليه إلى زمان وقوع الجناية عليه. والظاهر : أن الحكم في المثال لا يمكن تصحيحه إلا على القول بالأصل المثبت ، فان استصحاب بقاء حياة المجني عليه إلى زمان وقوع الجناية عليه لا يثبت قتل الجاني أو سراية الجناية التي هي الموضوع للضمان. وليس الموضوع للضمان مركبا من الجناية وعدم السراية أو عدم وجود سبب آخر ، أو مركبا من الجناية وحياة المجني عليه ليندرج في الموضوعات المركبة التي يصح إحراز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها الآخر بالأصل ، بل الموضوع للضمان هو العنوان البسيط من القتل أو السراية أو نحو ذلك مما لا يمكن إحرازه بالأصل ، فما ذكره في التحرير لا ينطبق إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.

ومنها : ما ذكره جملة من الاعلام : من الحكم بضمان من كان يده على مال الغير مع الشك في إذن صاحبه ، والظاهر تسالم الفقهاء على ذلك. فقد يتخيل : أن ذلك مبني إما على القول باعتبار الأصل المثبت إن كان المستند في الحكم « أصالة عدم الإذن » فإنها لا تثبت اليد العادية ، وإما على القول بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية إن كان الوجه فيه عموم « على اليد ما أخذت حتى تؤدي ».

هذا ، ولكن الظاهر أن الحكم بالضمان في المثال لا يبتني ، لا على القول بالأصل المثبت ولا على القول بجواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية ، فان

٥٠٢

الموضوع للضمان مركب من اليد وعدم إذن صاحب المال ، وهما عرضان لمحلين : أحدهما صاحب اليد ، وثانيهما صاحب المال ، وقد تقدم : أنه لا جامع بين العرضين لمحلين إلا الاجتماع في الزمان ، فيكفي إحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان كما في المثال ، فان اليد محرزة بالوجدان وعدم الإذن محرز بالأصل ، فيتحقق موضوع الضمان.

ومنها : غير ذلك من الفروع التي يقف عليها المتتبع التي يتخيل ابتنائها على اعتبار الأصل المثبت ، وكثير منها قابلة للتوجيه ، وبعضها لا تستقيم إلا على القول بالأصل المثبت أو القول باعتبار الاستصحاب من باب إفادته الظن ليكون من الامارات ، فتأمل جيدا.

ـ التنبيه التاسع ـ

لا إشكال في أن الأصل عند الشك في حدوث كل حادث عدمه إذا كان الشك في أصل الحدوث. وأما إذا كان الشك في تقدم الحدوث وتأخره مع العلم بأصل الحدوث : فتارة : يكون الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، كما إذا شك في موت زيد يوم الخميس مع العلم بموته يوم الجمعة. وأخرى : يكون الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث زماني آخر ، كما إذا شك في تقدم موت زيد على موت عمرو أو تأخره مع العلم بموتهما.

فان كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان : فلا إشكال في أن الاستصحاب يقتضي عدم الحدوث في الزمان المشكوك حدوثه فيه ، فإنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب مشكوك البقاء والارتفاع رأسا وبين أن يكون مشكوك البقاء والارتفاع في جزء من الزمان مع العلم بارتفاعه بعد ذلك ، فلو علم بموت زيد في يوم الجمعة وشك في

٥٠٣

موته في يوم الخميس ، فاستصحاب بقاء الحياة إلى يوم الخميس يجري ويثبت به كل أثر شرعي رتب على حياة زيد في يوم الخميس.

نعم : استصحاب بقاء الحياة إلى يوم الخميس لا يثبت حدوث الموت في يوم الجمعة ولا حياته قبل يوم الجمعة ولا موته بعد يوم الخميس ، فان عنوان الحدوث والقبلية والبعدية ـ كعنوان السبق واللحوق والتقدم والتأخر والتقارن ـ من العناوين الانتزاعية واللوازم العقلية لوجود المستصحب في الزمان ، والاستصحاب لا يثبت شيئا من هذه العناوين ـ كما تقدم في التنبيه السابق ـ فلا يترتب على استصحاب بقاء حياة زيد في يوم الخميس إلا الآثار الشرعية المترتبة على نفس الحياة ، وذلك واضح.

وإن كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث زماني آخر : ففي جريان استصحاب عدم حدوث كل منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر مطلقا أو عدم جريانه مطلقا أو التفصيل بين ما إذا لم يعلم تاريخ حدوث أحدهما بالخصوص وبين ما إذا علم ذلك ـ ففي الأول يجري استصحاب عدم حدوث كل منهما بالإضافة إلى زمان الآخر ، وفي الثاني يجري الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ ولا يجري في معلوم التاريخ ـ وجوه : أقواها التفصيل الأخير.

وقبل بيان وجه المختار ينبغي التنبيه على أمر ، وهو أن اعتبار التوصيف وكون أحد الشيئين وصفا لآخر إنما يتصور بالنسبة إلى العرض ومحله ، لان العرض وإن كان له وجود نفسي ـ لأنه بنفسه من الماهيات الامكانية التي لها تقرر في وعاء الخارج ـ إلا أن وجودها النفسي قائم بالغير ، ومن هنا قيل : « إن وجود العرض لنفسه وبنفسه عين وجوده لغيره وبغيره » فيمكن أن يلاحظ العرض من حيث وجوده النفسي بمفاد كان التامة وليس التامة فيحمل عليه الوجود والعدم المطلق ، ويمكن أن يلاحظ من حيث وجوده الغيري وكونه قائما

٥٠٤

بالغير بمفاد كان الناقصة وليس الناقصة فيحمل على الوجود والعدم النعتي ، وهو بهذا اللحاظ يكون عرضا لمحله ووصفا قائما به ، فيمكن أخذ العرض في موضوع التكليف من حيث كونه وصفا لمحله باعتبار وجوده الغيري ، ويمكن أخذه في موضوع التكليف من حيث هو باعتبار وجوده النفسي.

وأما فيما عدا العرض ومحله : فلا يمكن لحاظ التوصيف فيه ، فإنه لا يمكن أن يكون أحد الشيئين وصفا للآخر مع أنه لا رابط بينهما إلا الوجود في الزمان ، سواء كان الشيئان جوهرين كوجود زيد ووجود عمرو ، أو كانا عرضين لمحل واحد كقيام زيد وعدالته أو لمحلين كقيام زيد وقيام عمرو ، أو كان أحدهما جوهرا والآخر عرضا لموضوع آخر كوجود زيد وقيام عمرو.

ففي جميع هذه الأقسام الثلاثة أو الأربعة لا يمكن أن يكون أحد الشيئين وصفا للآخر ، فإنه لا رابط بين وجود زيد ووجود عمرو أو قيام زيد وعدالته أو قيام زيد وقيام عمرو أو وجود زيد وقيام عمرو إلا الاجتماع في الزمان ، وهذا لا يكفي في كون أحدهما وصفا للآخر ما لم يكن أحدهما عرضا قائما بالآخر ، فالتوصيف ينحصر بين العرض ومحله.

نعم : يمكن أن يتولد من اجتماع الشيئين في الزمان عنوان آخر ، كعنوان السبق واللحوق والتقارن ونحو ذلك من العناوين الانتزاعية المتولدة من وجود الشيئين في الزمان ، ويمكن أيضا أن تكون هذه العناوين الانتزاعية موضوعة للأحكام الشرعية ، إلا أن أخذ العنوان الانتزاعي موضوعا للحكم لا يصح إلا مع التصريح به أو استظهاره من الدليل ، وإلا فنفس أخذ الموضوع مركبا من شيئين لا رابط بينهما إلا الزمان لا يقتضي أزيد من إحراز اجتماعهما في الوجود.

وهذا بخلاف أخذ الموضوع مركبا من العرض ومحله ، فإنه لابد من إحراز عنوان التوصيف وكونه قائما بالمحل بمفاد كان وليس الناقصتين ، فإنه وإن كان يمكن أخذ العرض بوجوده النفسي جزء للموضوع من دون أن يكون لعنوان

٥٠٥

التوصيف دخل في الحكم إلا أن ذلك يتوقف على التصريح به ، وإلا فالموضوع المركب من العرض ومحله يقتضي أن يكون لعنوان التوصيف وحيثية قيام العرض بالمحل دخل في الحكم (١).

__________________

١ ـ أقول : لا إشكال في أن تقيد موصوف بوصف يقتضي توصيفه به الذي هو عبارة أخرى عن قيامه بموصوفه ، ولا إشكال أيضا في أن هذا القيام المأخوذ في موضوع الأثر في عالم ثبوته خارجا منوط بوجود موضوعه خارجا ، وأما في مقام سلبه عنه لا يحتاج إلى وجود موضوعه خارجا ، بل يكفي فيه سلبه عن الموصوف بالسلب المحصل ، لان ما هو نقيض اتصاف الذات بوصفه هو سلب هنا الاتصاف ، لا الاتصاف بالسلب ، ولذا نقول : إن نقيض الموجبة السالبة المحصلة ، لا المعدولة ، ولا نعني من السالبة المحصلة إلا القضية المشتملة على نسبة سلبية بين الموصوف ووصفه ، وهو غير نسبة أمر سلبي إلى الذات الذي هو مفاد المعدولة ، ففي الحقيقة مرجع النسبة الايجابية والسلبية إلى النسبة بين الشيئين بالوصل والفصل ، فمرجع ليس الناقصة إلى مثل هذه النسبة السلبية ، لا إلى نسبة أمر سلبي ، كيف! ونقيض كل شيء رفعه ، ورفع إثبات شيء لشيء هو سلب هذا الشيء عن الشيء ، وهذا السلب مرجعه في مفاد القضية إلى نسبة سلبية بين الموضوع ومحموله ، لا نسبة أمر سلبي إلى شيء ، ولذا قلنا : بأن نقيض اتصاف شيء بشيء ، هو عدم اتصافه ، لا اتصافه بعدم ذاك الشيء ، كي يقتضي هذا الاتصاف وجود موضوعه ، وتمام مركز البحث من هنا.

بل ولئن سلمنا بأن مفاد السالبة الناقصة هو اتصاف الذات بأمر سلبي ، نقول : إن اتصاف شيء بشيء إذا كان مأخوذا في موضوع الأثر في القضية الايجابية ، فيكفي في إثبات نفي أثره استصحاب نقيض هذا الاتصاف ولو بنحو مفاد كان التامة بلا احتياج إلى مفاد كان الناقصة. نعم : لو احتيج في الاستصحاب كون مصبه مأخوذا في لسان الدليل إيجابا وسلبا ، فلك أن تقول : إن المأخوذ في الدليل في القضايا السالبة العدم المحمولي ، وهو لا يكون إلا منوطا بوجود موضوعه. ولكن أنى لك باثبات ذلك! علاوة على ما تقدم : من منع كون مفاد السلب المحصل ـ الذي هو مفاد ليس الناقصة ـ هو ربط أمر سلبي لموضوعه ، بل مفاده مجرد ربط سلبي صادق مع وجود الموضوع وعدمه ، فتدبر.

وببالي أنه جعل من مقدمات مدعاه ـ فيما كتبه في اللباس المشكوك ـ إرجاع القضايا السالبة لبا إلى المعدولة ، بخيال أن طرف الربط الذي هو مقوم القضايا إما سلب أو إيجاب ولا يتصور شق ثالث ، فلا جرم يكون مفاد السالبة حمل العدم النعتي على الموضوع الملازم لاتصافه بالعدم النعتي ، كاتصاف الذات في الموجبة بالوجود النعتي القائم بغيره. ولقد أوردنا عليه ـ في رسالتنا ـ أيضا بما لا مزيد عليه ، وأشرنا هنا أيضا بأن طرف الربط في الايجابية شيء واحد ، وهو ذات الوصف ، وإنما الايجاب

٥٠٦

ومما ذكرنا يظهر : ضابط الموضوعات المركبة التي يمكن إحراز أجزائها من ضم الوجدان بالأصل ، فان التركيب إن كان من غير العرض ومحله أمكن إحراز أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل إن لم يكن للعنوان المتولد من اجتماع الجزئين في الزمان دخل في الحكم ، وإلا فضم الوجدان بالأصل لا يمكن أن يثبت العنوان المتولد إلا على القول بالأصل المثبت.

وأما إذا كان التركيب من العرض ومحله : فلا يمكن أن يلتئم الموضوع من ضم الوجدان بالأصل الذي يكون مؤداه نفس وجود العرض أو عدمه بمفاد كان وليس التامتين ، فإنه لا يثبت به عنوان التوصيف إلا إذا كان نفس التوصيف وقيام العرض بالمحل بمفاد كان وليس الناقصتين مؤدى الأصل ، وعلى ذلك يبتني عدم جريان أصالة عدم قرشية المرأة عند الشك فيها ، لان توصيف المرأة بالقرشية ليس مؤدى الأصل ، فان المرأة حال وجودها إما أن تكون قرشية وإما أن لا تكون ، وجريان أصالة عدم القرشية بمفاد ليس التامة لا يوجب

__________________

والسلب من شؤون النسبة : من كونها ربطا ايجابيا تارة وربطا سلبيا أخرى ، نظير الفصل والوصل : من كونهما ربطين متقابلين. وحينئذ فلا يقتضي القضية السالبة المحصلة ـ التي هي مفاد ليس الناقصة ـ إلا سلب اتصاف الذات بالوصف لا الاتصاف بسلب الوصف ، كما هو ظاهر ، وما يمتنع عن استصحاب الاعدام الأزلية هو الثاني لا الأول ، كما لا يخفى.

وتوهم : أن النسبة ولو سلبية يقتضي وجود الموضوع خارجا ، ممنوع أشد المنع ، إذ في النسب الايجابية بعدما كانت حاكية عن وقوع الاتصاف بالوصف الذي هو لازم وجود الموصوف يقتضي وجوده عقلا ، وهذا بخلافه في القضية السلبية ونسبتها ، إذ لا يقتضي مثل هذه النسبة وجود شيء خارجا. والسر فيه : هو أن وقوع هذا السلب خارجا ليس إلا عين نقيض الاثبات خارجا ، ومن المعلوم : أن نقيض كل معلول كما أنه بعدم نفسه كذلك أيضا بعدم علته ، كما هو الشأن في جميع المعروضات بالنسبة إلى عوارضها ، غاية الامر هذا العدم قائم بذات الشيء ، وفي المقام أيضا هذه النسبة السلبية قائمة بذات الموضوع كقيامه بذات المحمول ، وإن كان بينهما فرق من جهة أن النسبة السلبية دائما يلازم في الخارج عدم المحمول ، بخلافه في طرف الموضوع ، فإنه لا يلازم عدمه ، بل يجتمع مع وجوده تارة ومع عدمه أخرى ( والله العالم ).

٥٠٧

اتصاف المرأة بكونها غير قرشية ، وقد تقدم تفصيل ذلك في الجزء الثاني من الكتاب في مبحث العام والخاص.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنه إذا شك في تأخر أحد الحادثين عن الآخر أو تقدمه.

فان كان أحدهما معلوم التاريخ ـ كما إذا علم بموت المورث في غرة رمضان وشك في تقدم إسلام الوارث على موت المورث ليرث منه أو تأخره عنه ليمنع عن الإرث ـ فالأصل في معلوم التاريخ لا يجري ، لان حقيقة الاستصحاب ليس إلا جر المستصحب في الزمان الذي يشك في بقائه فيه ، ففي كل زمان شك في بقاء الموجود أو حدوث الحادث فالاستصحاب يقتضي بقاء الأول وعدم حدوث الثاني ، وأما لو فرض العلم بزمان الحدوث : فلا معنى لأصالة عدمه ، لعدم الشك في زمان الحدوث ، مع أن الاستصحاب هو جر المستصحب إلى زمان الشك ، فلابد وأن يكون في البين زمان يشك في بقاء المستصحب فيه ، ففي معلوم التاريخ لا محل للاستصحاب.

وما قيل : من أن العلم بالتاريخ إنما يمنع عن حصول الشك في بقاء المستصحب بالإضافة إلى أجزاء الزمان ولا يمنع عن حصول الشك في البقاء بالإضافة إلى زمان وجود الحادث الآخر الذي هو محل الكلام ، فان محل الكلام إنما هو فيما إذا كان الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر ، فيحصل الشك في وجود كل من الحادثين بالإضافة إلى زمان وجود الآخر ، وبهذا الاعتبار يجري استصحاب عدم حدوث كل منهما في زمان حدوث الآخر

فهو واضح الفساد ، فإنه إن أريد من لحاظ معلوم التاريخ بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر لحاظه مقيدا بزمان حدوث الاخر ، فهو وإن كان مشكوكا للشك في وجوده في زمان وجود الآخر ، إلا أنه لا تجري أصالة عدم وجوده في ذلك الزمان ، لان عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد

٥٠٨

كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقنا سابقا ، فلا يجري فيه الأصل (١) وإن أريد من لحاظه بالإضافة إلى زمان الآخر لحاظه على وجه يكون زمان الآخر ظرفا لوجوده ، فهو عبارة أخرى عن لحاظه بالإضافة إلى نفس أجزاء الزمان (٢) وقد عرفت : أنه مع العلم بالتاريخ لا يحصل الشك في وجوده في الزمان ، فالأصل في معلوم التاريخ لا يجري على كل حال.

وأما في مجهول التاريخ : فلا مانع من جريان الأصل فيه ، للشك في زمان حدوثه ، والأصل عدم حدوثه في الأزمنة التي يشك في حدوثه فيها ، ومنها زمان حدوث معلوم التاريخ ، ففي المثال المتقدم يستصحب عدم إسلام الوارث إلى غرة رمضان الذي هو زمان موت المورث ، ويثبت به بضم الوجدان اجتماع عدم إسلام الوارث وموت المورث في الزمان ، ولا يثبت به عنوان آخر متولد من اجتماعهما في الزمان ـ حتى عنوان التقارن أو عنوان الحال ونحو ذلك ـ فلا يصح أن يقال : إنه مات المورث في حال عدم إسلام الوارث. ولو انعكس الامر وكان إسلام الوارث معلوم التاريخ وموت المورث مجهول التاريخ يجري استصحاب حياته إلى زمان إسلام الوارث ، ويثبت به اجتماع الاسلام والحياة في الزمان. فان قلنا : إن هذا المقدار يكفي في التوارث يرث الوارث المسلم من مورثه. وإن قلنا : إنه لا يكفي هذا المقدار في التوارث بل لابد من موت المورث في حال إسلام الوارث ، فاستصحاب حياة المورث إلى زمان إسلام الوارث لا يثبت موته

__________________

١ ـ لا يخفى : أنه إن لوحظ زمان وجود أحدهما قيدا للآخر ، فالأصل بمفاد ليس الناقصة لا يجري ، وأما الأصل بمفاد ليس التامة فيجري ويسقط بالمعارضة ، فان وجود كل منهما في زمان وجود الآخر كان مسبوقا بالعدم ، فإنه عند عدم كل منهما لم يكن لكل منهما وجود في زمان وجود الآخر ولو لأجل السالبة بانتفاء الموضوع ، ولعله هذا مراد صاحب الكفاية من قوله : « إن الأثر لو كان لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم الخ » فراجع وتأمل ( منه ).

٢ ـ أقول : مجرد ذلك لا يجدي لو كان المدار على أجزاء الزمان ولو إجمالا ، فإنه يصح أن يقال : بأن المعلوم التاريخ بقاء عدمه إلى زمان وجود الآخر مشكوك ، فباستصحابه يصدق الاجتماع بين الأمرين.

٥٠٩

في حال الاسلام ، وذلك واضح.

هذا كله إذا كان أحدهما المعين معلوم التاريخ.

وإن كان كل منهما مجهول التاريخ وشك في التقدم والتأخر ، فالأقوى : جريان الاستصحاب في كل منهما ويسقطان بالمعارضة ، فيقال في المثال : الأصل عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث والأصل عدم موت المورث إلى زمان إسلام الوارث ، ولا يثبت بذلك تقارن الاسلام والموت ، كما تقدم.

وقد ذهب بعض الأعاظم إلى عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيه ، ويعتبر في الاستصحاب اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

ولا يخفى ما فيه ، فان الشك في كل من الحادثين متصل بيقينه ، لان اتصال الشك باليقين معناه : أن لا يتخلل بين اليقين والشك يقين آخر يضاد اليقين السابق (١) ولا إشكال في أنه لم يتخلل بين اليقين بعدم حدوث كل من الحادثين والشك في الحدوث يقين آخر بالحدوث ، ليوجب عدم اتصال زمان الشك في كل منهما بيقينه ، وذلك وإن كان بمكان من الوضوح ، إلا أنه لا بأس بزيادة بسط من الكلام فيه لتتميز الموارد التي لا يتصل فيها الشك باليقين.

فنقول : قد عرفت أن اتصال الشك باليقين إنما يكون بعدم تخلل يقين آخر يضاد اليقين السابق بين النسك واليقين ، كما إذا علم بوجوب الجلوس من الصبح إلى الزوال وشك في وجوبه بعد الزوال ، فإنه لا يتصل اليقين بعدم وجوب الجلوس قبل الصبح بالشك في وجوبه بعد الزوال لتخلل اليقين بوجوب الجلوس من الصبح إلى الزوال بينهما ، فهذه القطعة من الزمان ـ وهي ما بين الصبح والزوال ـ قد أوجبت انفصال اليقين بعدم الوجوب عن الشك في

__________________

١ ـ أقول : لقد أجاد فيما أفاد ، ونحن أيضا أوردنا عليه ، ولكن سيأتي أن هذا المقدار لا يجدي في جريانهما وتعارضهما ، فانتظر لتمام الكلام فيه ( إن شاء الله تعالى ).

٥١٠

الوجوب ، ولذا قلنا : إنه لا يجري استصحاب العدم الأزلي بعد الزوال ، خلافا للفاضل النراقي رحمه‌الله سواء كان الزوال قيدا لوجوب الجلوس أو ظرفا ، خلافا للشيخ قدس‌سره على ما تقدم تفصيله.

وبالجملة : لا معنى لاتصال اليقين بالشك إلا بأن لا يتخلل بينهما يقين آخر بالخلاف. وليس اتصال الشك باليقين من الأمور الواقعية التي يدخلها الشك ، بل هو من الأمور الوجدانية التي يعرفها كل أحد ، فإن الأمور الوجدانية تتبع الوجدان ، فكل شخص يعرف أن شكه متصل بيقينه أو منفصل عنه.

نعم : انفصال الشك عن اليقين أو اتصاله به قد يكون واضحا ـ كالمثال المتقدم ـ وقد يكون خفيا ، ولا بأس بتوضيح ذلك بمثال ، وهو أنه لو كان إناء في الطرف الشرقي من الدار وإنا آخر في الطرف الغربي وعلم تفصيلا بنجاسة كل منهما ثم أصاب أحدهما المطر ، فتارة : يعلم تفصيلا بإصابة المطر لخصوص ما كان في الطرف الشرقي ، وأخرى : لا يعلم بذلك ، بل يعلم إجمالا بإصابة المطر لاحد الانائين ، وعلى الأول ـ فتارة : يكون الاناء الواقع في الطرف الشرقي متميزا عن الاناء الواقع في الطرف الغربي ومعلوما بالتفصيل حال إصابة المطر له ، بأن كان بمنظر من الشخص ثم طرء عليه الترديد والاجمال واشتبه بالاناء الغربي (١) وأخرى : لا يكون الاناء الشرقي متميزا عن الاناء الغربي حال إصابة

__________________

١ ـ أقول : لا يحتاج في بيان التفصيل بين الموارد من حيث فصل اليقين وعدمه بخياله بضرب الشرق بالغرب وعكسه ، بل نقول : بأن المعلوم بالاجمال تارة : العنوان الاجمالي المردد بينهما ، ك‍ « أحدهما » وأخرى : العنوان التفصيلي المردد انطباقه على أحدهما ، ك‍ « إناء زيد » مثلا ، وذلك أيضا تارة ، بفرض طرو الترديد بعدما علم انطباقه تفصيلا ، وأخرى : بفرض الترديد من الأول مقارنا للعلم ، وبعد ذلك نقول : فاسمع أولا بأن ما هو متعلق الانكشاف بالمقدار الذي تعلق به الانكشاف التام يستحيل وقوع الترديد فيه ، فالعلم بأي عنوان من العناوين يضاد الشك فيه ، ولذا قلنا كرارا : بأنه لابد من التمييز بين معروض العلم ومعروض الشك والترديد في جميع المقامات ، من دون فرق في ذلك بين العناوين العرضية الاجمالية أو الذاتية التفصيلية ، ومن هذه الجهة حققنا بأن متعلق العلم الاجمالي في جميع المقامات لابد

٥١١

__________________

وأن يكون صورة ومعروض الشك صورة أخرى ـ وإن كانا متحدين وجودا ـ من دون سرايتهما إلى الخارج كي يستلزم عروض المتضادين على شيء ووجود واحد ، ومن ذلك نقول : إن مثل العلم وغيره من الصفات الوجدانية ظرف عروضها الذهن وظرف اتصافها خارجي ، قبال ما كان كلا الظرفين خارجية أو ذهنية.

وبعدما كان كذلك ، فنقول : إنه إذا علم بأحد الانائين فلا جرم يصير المعلوم مثل هذا العنوان المخزون في الذهن ـ وإن لم يلتفت إلى ذهنيته ـ وأن الترديد والشك متعلق بصورة أخرى محتمل انطباق العنوان المعلوم عليه خارجا ، بمعنى اتحادهما فيه وجودا الذي هو أجنبي عن مرحلة عروض العلم أو الشك عليه ، وحينئذ صح لنا دعوى أن ما هو معروض اليقين يستحيل أن يكون معروض الشك ، وكذا بالعكس. فلا مجال في مثله دعوى احتمال انطباق العنوان بوصف المعروضية للعلم على العنوان الآخر ، إذ جهة المعروضية إنما هو من لوازم ذهنيته المحال انطباقه بهذه الحيثية مع عنوان آخر خارجا ، إذ هو فرع قابلية مجيئه في الخارج ، وليس كذلك ، وإلا ينقلب الذهن خارجا. نعم : لا بأس في عالم الاتصاف من دعوى احتمال انطباق ما هو المتصف بالمعلومية بما هو بإزاء معروضه من العنوان على المشكوك ، لان مرحلة الاتصاف من تبعات خارج العنوانين ، وفي هذا العالم يصلح انطباق أحدهما على الآخر ، فيحتمل ذلك في كل واحد من الطرفين.

وحيث اتضح حال العناوين الاجمالية العرضية فلننقل الكلام إلى العناوين الذاتية التفصيلية ، كاناء زيد أو الاناء الشرقي بقوله ، فان العلم فيه أيضا في عالم العروض إذا تعلق بمثله يستحيل عروض الشك إلا بصورة أخرى المنتزعة عن وجوده ، وإحدى الصورتين في عالم العروض يستحيل أن يتحد مع الآخر في هذا العالم ، لأنهما متبائنان ذهنا ، وإنما احتمل انطباق أحدهما على الآخر في عالم الاتصاف الذي يكون ظرفه خارجا ، وهو ظرف اتحادهما أيضا ، كما أشرنا.

فإذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول : إن الغرض من احتمال الفصل باليقين في هذه الفروض إن كان احتماله في عالم الاتصاف والانطباق خارجا ، فهذه الجهة لا يختص بخصوص الأمثلة المزبورة ، بل يجري في كل علم إجمالي بالنسبة إلى طرفه ولو كان المعلوم العنوان العرضي ، كعنوان « أحدهما ». وإن كان الغرض من الفصل احتمال عروض صفة اليقين على ما عرض عليه الشك ، فذلك غير معقول بالنسبة إلى اليقين والشك الفعليين. نعم : لا بأس بالنسبة إلى اليقين الزائل بالشك الساري اللاحق على معروض اليقين ، وفي ذلك أيضا ـ مضافا إلى عدم الفرق بيه وبين العلم بالعنوان الاجمالي كأحدهما ـ أن العلم الزائل لا اعتبار به أصلا ، لان مدار الناقضية والمنقوضية في باب الاستصحاب على

٥١٢

المطر له ولم يكن بمنظر من الشخص ، بل مجرد أنه علم بإصابة المطر لما كان في الطرف الشرقي ، فهذه فروض ثلاثة :

الأول : ما إذا كان متعلق العلم من أول الامر مجملا مرددا بين ما كان في الطرف الشرقي وما كان في الطرف الغربي.

الثاني : ما إذا كان متعلق العلم من أول الامر معلوما بالتفصيل ثم طرء عليه الاجمال والترديد ، لوقوع الاشتباه بين الاناء الشرقي والاناء الغربي.

الثالث : ما إذا كان متعلق العلم مجملا من جهة ومبينا من جهة أخرى ، وهو ما إذا علم بإصابة المطر لخصوص ما كان في الطرف الشرقي مع عدم تميزه عما كان في الطرف الغربي ، فالفرض الثالث متوسط بين الفرض الأول والفرض الثاني. ولا إشكال في أنه في جميع الفروض الثلاثة يشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين اللذين كانا معلومي النجاسة قبل إصابة المطر لأحدهما.

أما في الفرض الأول والثالث : فواضح. وأما في الفرض الثاني : فلانه وإن كان ما أصابه المطر معلوما بالتفصيل في أول الامر فلا شك في طهارته ، كما لا شك في نجاسة الآخر ، إلا أنه لما اشتبه الطاهر بالنجس فبالأخرة يشك في بقاء النجاسة في كل منهما. فالفروض الثلاثة تشترك في الشك في بقاء النجاسة المتيقنة في كل من الانائين ، ولكن في الفرض الأول يتصل الشك في بقاء النجاسة في كل منهما باليقين بالنجاسة ، ولم يتخلل بين الشك واليقين في كل من الانائين يقين آخر بالخلاف ، والعلم الاجمالي بإصابة المطر لأحدهما يكون

__________________

اليقين الفعلي كما هو ظاهر ، وحينئذ مثل هذا التفصيل بين الأمثلة لا يجدي إلا في إلقاء ذهن المبتدي المظلوم إلى الشرق والغرب! وإلا فلا محيص منه بأن يقول : إما بالغاء الاستصحاب عن أطراف العلم الاجمالي بقول مطلق مع قطع النظر عن المعارضة لو كان نظره إلى احتمال الفصل في عالم الاتصاف ، أو بجريانه مطلقا لو كان نظره إلى احتمال الفصل في عالم العروض ، فتدبر فيما قال وقلت.

٥١٣

منشأ للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، فاتصال الشك واليقين في الفرض الأول واضح ، فإنه لم ينقض على كل من الانائين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة وزمان الشك في بقائها ، لأنه قبل العلم الاجمالي بطهارة أحدهما كان زمان اليقين بنجاسة كل منهما ، وبعد العلم الاجمالي بطهارة أحدهما صار زمان الشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، فلم يتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك زمان آخر يعلم فيه بالخلاف ، فلا ينبغي الاشكال في اتصال زمان اليقين بزمان الشك في الفرض الأول.

كما لا ينبغي الاشكال في انفصال زمان الشك عن زمان اليقين في الفرض الثاني ، لان العلم بطهارة أحدهما المعين الممتاز عما عداه تفصيلا يوجب ارتفاع اليقين السابق ، فقد انقضى على ذلك الاناء المعين زمان لم يكن زمان العلم بالنجاسة ولا زمان الشك في بقائها ، وهو زمان العلم بالطهارة. والاجمال الطاري وإن كان أوجب الشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، لان كلا منهما يحتمل أن يكون هو الذي أصابه المطر والذي تعلق العلم بطهارته تفصيلا ، إلا أنه لا يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين بنجاستهما ، لأن المفروض أنه قد انقضى على أحد الانائين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها ، فكيف يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين؟ فلا مجا لاستصحاب بقاء النجاسة في كل منهما ، لأنه في كل إناء منهما يحتمل أن يكون هو الاناء الذي تعلق العلم بطهارته ، ففي كل منهما يحتمل انفصال الشك عن اليقين ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، وذلك واضح.

وأما الفرض الثالث : فالأقوى فيه أيضا عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، كالفرض الثاني ـ وإن لم يكن بذلك الوضوح ـ فإنه قد انقضى على الاناء الشرقي زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها ، وهو زمان العلم بإصابة المطر له ، لأن الشك في بقاء النجاسة فيه إنما حصل بعد

٥١٤

اجتماع الانائين واشتباه الشرقي بالغربي ، فقبل الاجتماع والاشتباه كان الاناء الشرقي مقطوع الطهارة والاناء الغربي مقطوع النجاسة ، فلا يجري استصحاب النجاسة فيهما ، لان كل واحد من الانائين يحتمل أن يكون هو الاناء الشرقي الذي كان مقطوع الطهارة حال إصابة المطر له.

والحاصل : أنه فرق واضح بين العلم الاجمالي بطهارة أحد الانائين وبين العلم التفصيلي بطهارة خصوص الاناء الشرقي ، فان العلم بالطهارة في الأول إنما يصير سببا للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، والعلم بالطهارة في الثاني ليس سببا للشك في بقاء النجاسة فيهما ، بل الشك إنما نشأ من اجتماع الانائين واشتباه الطاهر بالنجس ، فالشك في الفرض الأول إنما يكون مقارنا زمانا للعلم الاجمالي بطهارة أحد الانائين ومتأخرا عنه رتبة لكونه معلولا له ، فيكون الشك فيه متصلا باليقين بالنجاسة. وأما الشك في الفرض الثلث : فهو متأخر عن العلم بالطهارة زمانا ، لأنه بعد العلم بطهارة الاناء الشرقي واجتماع الانائين ووقوع الاشتباه بينهما يحصل الشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين ، فلا يمكن أن يتصل فيه زمان اليقين بنجاسة الانائين بزمان الشك في بقاء النجاسة.

فالتحقيق : أنه لا فرق بين الفرض الثاني والفرض الثالث في عدم اتصال زمان الشك باليقين ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، خلافا لبعض الاعلام (١).

__________________

١ ـ هو المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي رحمه‌الله قال في العروة : « إذا علم بنجاسة شيئين فقامت البينة على تطهير أحدهما الغير المعين أو المعين واشتبه عنده أو طهر هو أحدهما ثم اشتبه ، حكم عليهما بالنجاسة عملا بالاستصحاب » انتهى.

وظاهره جريان الاستصحاب في جميع الفروض الثلاثة. ولشيخنا الأستاذ ( مد ظله ) حاشية يمنع فيها عن جريان الاستصحاب والحكم بالنجاسة في جميع الفروض الثلاثة ، ولكن لا بمناط واحد ، بل في الفرض الأول لا يجري الاستصحاب لكونه من الأصول المحرزة وهي لا تجري في أطراف العلم الاجمالي مطلقا لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم ، وفي الفرضين الأخيرين الاستصحاب لا يجري لعدم اتصال الشك باليقين ، فتأمل جيدا ( منه ).

٥١٥

ويتفرع على ذلك عدم جريان استصحاب النجاسة في الدم المردد بين كونه من المسفوح أو من المتخلف ، أو الدم المردد بين كونه من البق أو من البدن ـ بناء على نجاسة الدم مطلقا ولو قبل خروجه من الباطن بالذبح أو بمص البق ـ لعدم اتصال زمان الشك باليقين فيه ، لأنه حين ذبح الحيوان قد علم بطهارة خصوص الدم المتخلف ونجاسة الدم المسفوح بعدما كان جميعه نجسا ما دام في الباطن ، ولكن حين الخروج من الباطن بالذبح قد علم بطهارة بعضه وهو المتخلف ، فيكون نظير ما إذا علم بطهارة الاناء الشرقي في المثال المتقدم ، لان تخلف الدم في الحيوان يكون مطهرا له كإصابة المطر للاناء ، والشك في كون الدم من المتخلف أو من المسفوح إنما يحصل بعد اشتباه المتخلف بالمسفوح بأحد موجبات الاشتباه ، كما أن الشك في بقاء النجاسة في كل من الاناء الشرقي والغربي إنما يحصل بعد اشتباه الانائين ، فالشك في نجاسة الدم المردد لا يتصل باليقين بنجاسة الدم عند كونه في الباطن ، لان زمان الشك متأخر عن زمان العلم بالنجاسة ، فإنه لا يمكن حصول الشك في نجاسته في حال الذبح ، بل الشك إنما يحصل بعد زمان الذبح لأجل الاشتباه وعدم تمييز المسفوح عن المتخلف ، فيتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك زمان العلم بطهارة الدم المتخلف ، وحيث يحتمل أن يكون الدم المردد من الدم المتخلف الذي قد علم بطهارته فلا يجري فيه استصحاب النجاسة.

والحاصل : أن اشتباه الدم المتخلف بالدم المسفوح يتصور على وجهين :

أحدهما : ما إذا كان الدم المتخلف ممتازا عن الدم المسفوح في أول الامر ثم حصل الاشتباه وتردد الدم الخاص بين كونه من المسفوح أو من المتخلف.

ثانيهما : ما إذا لم يكن الدم المتخلف ممتازا عن الدم المسفوح عند الشخص ، بل كان في بدنه أو لباسه دم تردد بين أن يكون من المسفوح أو من المتخلف.

وفي كلا الوجهين لا يجري استصحاب النجاسة فيه ، لان الوجه الأول يكون

٥١٦

من قبيل الفرض الثاني من الفروض الثلاثة في مثال الاناء المتقدم ، والوجه الثاني يكون من قبيل الفرض الثالث منهما ، وقد تقدم أنه لا يجري الاستصحاب فيهما.

ولا يتوهم : أن الدم المردد يكون من قبيل الفرض الأول من تلك الفروض ، فان متعلق العلم بالطهارة في الفرض الأول إنما كان مرددا بين الانائين من أول الامر ، وأما الترديد في الدم فهو إنما حدث بعد الاشتباه والخلط بين الدم المسفوح والدم المتخلف ، وإلا ففي حال الذبح قبل الاشتباه كان يعلم تفصيلا بطهارة خصوص الدم المتخلف ، فالترديد في الدم لا يمكن أن يكون من قبيل الفرض الأول ، بل هو إما من الفرض الثاني ، وإما من الفرض الثالث. وكذا الكلام في الدم المردد بين كونه من البدن أو من البق ، فإنه لا يجري فيه استصحاب النجاسة أيضا ، بل الأقوى فيه الطهارة ، فتأمل جيدا.

إذا عرفت الضابط لاتصال زمان الشك بزمان اليقين وانفصاله عنه ، ظهر فساد ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين في باب الحادثين بعد العلم بالحدوث والشك في المتقدم والمتأخر منهما.

وحاصل ما أفاده وجها لذلك ـ بتحرير منا ـ هو أن العلم بحدوث الحادثين والشك في المتقدم والمتأخر منهما يقتضي فرض أزمنه ثلاثة : زمان عدم كل منهما ، وزمان حدوث أحدهما ، وزمان حدوث الآخر ، فإنه لولا فرض هذه الأزمنة الثلاثة لا يمكن حصول الشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فلابد من فرض أيام ثلاثة أو ساعات ثلاث ، ليكون اليوم الأول موطن العلم بعدم حدوث كل من الحادثين ، واليوم الثاني موطن العلم بحدوث أحدهما ، واليوم الثالث موطن العلم بحدوث الآخر منهما.

وقد عرفت : أن الشك في حدوث كل من الحادثين تارة : يلاحظ بالإضافة

٥١٧

إلى نفس أجزاء الزمان ، وأخرى : يلاحظ بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر. فان لوحظ بالإضافة إلى نفس أجزاء الزمان ، فالشك في كل منهما يتصل بيقينه ، لأن الشك في كل منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان إنما يحصل من اليوم الثاني لا من اليوم الثالث ، فإنه في اليوم الثاني الذي هو موطن حدوث أحدهما يشك في انتقاض العدم في كل منهما بالوجود ، للعلم الاجمالي بحدوث أحدهما والشك فيما هو الحادث ، ففي اليوم الثاني يشك في حدوث البيع أو رجوع المرتهن عن الاذن ويبقى هذا الشك مستمرا إلى اليوم الثالث الذي هو موطن وجود الآخر ، فالشك في حدوث كل منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان إنما يكون متصلا باليقين ، فان موطن اليقين هو اليوم الأول وموطن الشك هو اليوم الثاني ، والاستصحاب إنما يجري من اليوم الثاني ، وذلك واضح.

وأما الشك في كل منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر : فهو لا يحصل إلا في اليوم الثالث ، فإنه ما لم يعلم بحدوث كل من الحادثين لا يكاد يحصل الشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وموطن العلم بحدوث كل منهما إنما يكون في اليوم الثالث ، والاستصحاب إنما يتبع زمان الشك ، فاستصحاب عدم كل منهما في زمان الآخر إنما يجري في اليوم الثالث أيضا ، والشك في كل منهما بهذه الإضافة لا يمكن إحراز اتصاله باليقين ، لان اليقين بعدم بيع الراهن إنما كان في اليوم الأول والشك في تقدمه على رجوع المرتهن عن الاذن إنما يكون في اليوم الثالث ، فاليوم الثاني يكون فاصلا بين زمان اليقين وزمان الشك ، ولا يمكن استصحاب عدم البيع في زمان رجوع المرتهن من اليوم الثاني ، لان اليوم الثاني لم يكن موطنا للشك في حدوث البيع بهذه الإضافة ، بل كان موطنا لحدوثه بالإضافة إلى نفس الزمان ، فاستصحاب عدم البيع إلى زمان رجوع المرتهن على تقدير جريانه إنما يجري من اليوم الثالث ، ولا مجال لجريانه ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك في حدوث البيع بالإضافة إلى زمان حدوث الرجوع بزمان

٥١٨

اليقين ، لاحتمال أن يكون الحادث الأول في اليوم الثاني هو البيع ، ومع احتمال ذلك لا يمكن إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره في وجه عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين في باب الحادثين.

ولا يخفى ما فيه ، فإن إضافة وجود أحد الحادثين إلى زمان وجود الآخر إن كانت باعتبار أخذ زمان وجود الآخر قيدا لوجوده ، فالشك في الوجود بهذا القيد وإن كان يحدث في اليوم الثالث ، إلا أنه لا يجري فيه الاستصحاب ، لا لعدم اتصال زمان الشك باليقين ، بل لعدم اليقين بعدم الوجود المقيد في الزمان السابق ، كما تقدم (١) وإن كانت الإضافة باعتبار أخذ زمان وجود الآخر ظرفا

__________________

١ ـ أقول : في فرضنا لا إشكال وجدانا أن الزمان الأول ـ كما اعترف ـ هو زمان اليقين بعدمهما ، ولا إشكال أيضا في أن الزمان الثالث زمان اليقين بوجودهما الذي هو زمان انتقاض كل من اليقينين باليقين بوجوده. نعم : هو زمان الشك بحدوث كل واحد ، وإلا ففي هذا الزمان نعلم بوجودهما المردد بين كون حدوثه فيه أو في الزمان السابق ، وحينئذ فجر كل واحد من المتيقنين من حيث أجزاء الزمان إلى الزمان الثالث غير ممكن ، لأنه زمان اليقين بانتقاض كل واحد ، ومحض كونه زمان الشك بحدوث غيره فيه لا يجدي في إمكان جر المتيقن السابق إلى هذا الزمان الذي نقطع بانتقاض يقينه باليقين ، فبالنسبة إلى الأزمنة التفصيلية المنطبقة على الأزمنة الثلاثة لا مجال لاستصحاب كل واحد منهما إلا بالنسبة إلى الزمان الثاني لا الثالث! كيف! وجره إلى الزمان الاجمالي المردد بين الثالث والثاني لا يعقل الجزم بالتطبيق إلا بجر كل منهما في تمام أطراف العلم من الأزمنة التي منها الزمان الثالث المعلوم انتقاض يقين كل واحد بيقين آخر ، وإلا فلو اغمض النظر عن الجر في تمام الأطراف فكيف يعقل الجزم بتطبيق بقاء وجود كل في زمان وجود الآخر؟.

وبالجملة نقول : إن ما هو زمان الشك بوجود كل واحد هو الزمان الثاني ، وإلا فالزمان الثالث هو زمان اليقين بهما وإن كان حدوث كل فيه مشكوكا ولكن أصل الوجود فيه معلوم إجمالا ، ومع هذا العلم يستحيل جر المتيقن فيه ، لأنه يعلم انتقاض يقينه باليقين بالوجود ، ومجرد الشك في الحدوث مع العلم بأصل الوجود كيف يجدي في الاستصحاب؟ فما يجدي في الاستصحاب هو الشك في الزمان الثاني ، ولكنه لا يجدي في التطبيق ، وما يجدي في التطبيق هو الجر إلى الزمان الثالث ، وهو لا يجدي في

٥١٩

لوجوده ، فالشك في وجود كل منهما بهذا الاعتبار إنما يكون متصلا باليقين ، فان معنى أخذ زمان أحدهما ظرفا لوجود الآخر هو لحاظ زمان وجود أحدهما من جملة الأزمنة التي يمكن فرض وجود الآخر فيها ، ومن المعلوم : أن الأزمنة التي يمكن فرض وجود كل من الحادثين فيها هي اليوم الثاني واليوم الثالث ، فزمان الشك هو كل من اليومين ، غايته أنه في اليوم الثاني لم يكن زمان وجود الآخر طرفا للإضافة وفي اليوم الثالث يكون طرفا لها ، وهذا لا يوجب تفاوتا في ناحية الشك ، ولا يقتضي انفصاله عن اليوم الأول الذي هو زمان اليقين بعدم حدوث الحادثين ، فالشك في كل من الحادثين يتصل بيقينه ويجري استصحاب عدم كل منهما من زمان الشك في وجوده إلى زمان وجود الآخر ـ أي من اليوم الثاني إلى اليوم الثالث ـ فان كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم كل منهما في زمان وجود الآخر ، فاستصحاب عدم كل منهما في زمان وجود الآخر يجري ويسقط بالمعارضة ، وإن كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم أحدهما في زمان وجود الآخر فقط ، فاستصحاب العدم يجري ويترتب عليه الأثر بلا مزاحم.

وحاصل الكلام : أن المنع عن جريان استصحاب عدم كل من الحادثين في زمان الآخر إن كان مع أخذ زمان الآخر قيدا للمستصحب ، فالمنع عن جريان الاستصحاب في محله ، ولكن لا لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بل

__________________

الاستصحاب ، لأنه زمان اليقين بالانتقاض.

فان قلت : إن ما أفيد صحيح بالنسبة إلى الجر في الأزمنة التفصيلية ، ولنا أن نقول : إنه بالوجدان يشك في بقاء كل منهما إلى زمان وجود الآخر بنحو الاجمال ، فنجر المتيقن إلى هذا الزمان إجمالا.

قلت : إن المراد من الشك في البقاء إلى الزمان الاجمالي تارة : الشك في البقاء إلى زمان الشك في انطباق المجمل عليه ، وأخرى : يكون المراد الشك في بقائه إلى زمان يقطع بانطباق الزمان الاجمالي عليه ولو إجمالا ، والأول غير مثمر في تطبيق الكبرى على المورد ، والثاني يثمر في التطبيق ، ولكنه فرع إمكان الجر إلى جميع أطرافه ، ولقد عرفت : أنه لا يمكن الجر إلى الزمان الثالث الذي هو من الأطراف ، كما لا يخفى.

٥٢٠