فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

الخارجي ما يشك في بقاء الحكم معه ، ولا إشكال في استصحابه.

وأما الشك في بقاء الحكم الكلي : فهو يتصور على أحد وجوه ثلاث :

الأول : الشك في بقائه من جهة احتمال النسخ ، كما إذا شك في نسخ الحكم الكلي المجعول على موضوعه المقدر وجوده ، فيستصحب بقاء الحكم الكلي المترتب على الموضوع أو بقاء سببية الموضوع للحكم ، على القولين في أن المجعول الشرعي هل هو نفس الحكم الشرعي؟ أو سببية الموضوع للحكم؟ وقد تقدم تفصيل ذلك في الأحكام الوضعية ، وعلى كلا الوجهين المستصحب إنما هو المجعول الشرعي والمنشأ الأزلي قبل وجود الموضوع خارجا إذا فرض الشك في بقائه وارتفاعه لأجل الشك في النسخ وعدمه ، ولا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الحكم على موضوعه وعدم نسخه عنه.

ونظير استصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ استصحاب الملكية المنشأة في العقود العهدية التعليقية ، كعقد الجعالة والسبق والرماية ، فان ملكية العوض المنشأة في هذه العقود غير الملكية المنشأة في عقد البيع والصلح ، إذ العاقد في عقد البيع والصلح إنما ينشأ الملكية المنجزة ، وأما في العقود التعليقية : فالعقد ينشأ الملكية على تقدير خاص ، كرد الضالة في عقد الجعالة وتحقق السبق وإصابة الرمي في عقد السبق والرماية ، فكانت الملكية المنشأة في هذه العقود تشبه الاحكام المنشأة على موضوعاتها المقدرة وجودها ، فلو شك في كون عقد السبق والرماية من العقود اللازمة التي لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين أو من العقود الجايزة التي تنفسخ بفسخ أحدهما يجري استصحاب بقاء الملكية المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبل تحقق السبق وإصابة الرمي ، كما يجري استصحاب بقاء الملكية المنشأة في العقود التنجيزية إذا شك في لزومها وجوازها.

وقد منع الشيخ قدس‌سره ـ في مبحث الخيارات من المكاسب ـ عن

٤٦١

جريان الاستصحاب في العقود التعليقية ، مع أنه من القائلين بصحة الاستصحاب التعليقي في مثل العنب والزبيب ، ويا ليته! عكس الامر واختار المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي في مثال العنب والزبيب والصحة في استصحاب الملكية المنشأة في العقود التعليقية.

أما وجه المنع عن جريان الاستصحاب في مثال العنب والزبيب : فلما سيأتي بيانه. واما وجه الصحة في الملكية المنشأة في العقود التعليقية : فلان حال الملكية المنشأة فيها حال الاحكام المنشأة على موضوعاتها ، وكما يصح استصحاب بقاء الحكم عند الشك في نسخه ولو قبل فعليته بوجود الموضوع خارجا ، كذلك يصح استصحاب بقاء الملكية المعلقة عند الشك في بقائها ولو قبل فعليتها بتحقق السبق وإصابة الرمي خارجا.

الوجه الثاني : الشك في بقاء الحكم الكلي على موضوعه المقدر وجوده عند فرض تغير بعض حالات الموضوع ، كما لو شك في بقاء النجاسة في الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، ولا إشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم في هذا الوجه أيضا ، وهذا القسم من استصحاب الحكم الكلي هو الذي تعم به البلوى ويحتاج إليه المجتهد في الشبهات الحكمية ولا حظ للمقلد فيها.

والفرق بين هذا الوجه من الاستصحاب الكلي والوجه الأول ، هو أنه في الوجه الأول لا يتوقف حصول الشك في بقاء الحكم الكلي على فرض وجود الموضوع خارجا وتبدل بعض حالاته ، لأن الشك في الوجه الأول إنما كان في نسخ الحكم وعدمه ، ونسخ الحكم عن موضوعه لا يتوقف على فرض وجود الموضوع. وأما الشك في بقاء الحكم الكلي في الوجه الثاني : فهو لا يمكن إلا بعد فرض وجود الموضوع خارجا وتبدل بعض حالاته ، بداهة أنه لولا فرض وجود الماء المتغير بالنجاسة والزائل عنه الغير لا يعقل الشك في بقاء نجاسته ، فلابد من فرض وجود الموضوع ليمكن حصول الشك في بقاء حكمه عند فرض تبدل

٤٦٢

بعض حالاته.

نعم : لا يتوقف الشك فيه على فعلية وجود الموضوع خارجا ، فان فعلية وجود الموضوع إنما يتوقف عليه حصول الشك في بقاء الحكم الجزئي ، وأما الشك في بقاء الحكم الكلي : فيكفي فيه فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، فهذا الوجه يشارك الوجه الأول من جهة وهي كون المستصحب فيه حكما كليا ، ويفارقه من جهة أخرى وهي توقف حصول الشك فيه على فرض وجود الموضوع ، بخلاف الوجه الأول.

نعم : المستصحب في كل منهما لا يخلو عن نحو من التقدير والتعليق ، فان المستصحب عند الشك في النسخ هو الحكم الكلي المعلق على موضوعه المقدر وجوده عند إنشائه وإن كان لا يحتاج إلى تقدير وجود الموضوع عند نسخه واستصحابه ، والمستصحب في غير الشك في النسخ هو الحكم الفعلي على فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، فيحتاج إلى تقدير وجود الموضوع عند استصحابه. وعلى كل حال : لا مجال للتأمل في صحة الاستصحاب عند الشك في بقاء الحكم الكلي في كل من الوجهين.

الوجه الثالث : من الوجه المتصورة في الشك في بقاء الحكم الكلي ، هو الشك في بقاء الحكم المرتب على موضوع مركب من جزئين عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر (١) كما إذا شك

__________________

١ ـ أقول : قد تقدم منا أن حقيقة الأحكام التكليفية التي هي مستفاد من الخطابات الشرعية ليس إلا إبراز الاشتياق نحو المرام بانشاء أو إخبار ، وأن مرتبة تحريك المكلفين خارجا هو مرتبة تأثير الاحكام في حكم العقل بلزوم الامتثال ، ومن المعلوم : أن هذه المرتبة منوط بالعلم وقيام الطرق ، وإلا ففي ظرف الجهل لا محركية في البين ، مع أن مفاد الخطابات مشتركة بين العالم والجاهل ، فما هو موجود في حال الجهل ليس إلا الاشتياق المبرز ، ولا نتصور في هذه الصورة أمرا جعليا اعتباريا كسائر الجعليات ، ولذا لو أبرز المولى إرادته بكلامه لا محيص من حكم العقل بوجوب امتثاله ولو لم يخطر ببال المولى جعل شيء مقدر بفرض وجود موضوعه.

٤٦٣

__________________

نعم : تأثير هذا الاشتياق المبرز كما أنه منوط بوجود الموضوع مقدمة لتطبيق خطابه ، كذلك منوط بالعلم به ، فلو كان مفاد الخطابات هذا الامر المنوط يلزم اختصاص مضمون الخطاب بالعالم به ، وليس كذلك ، فلا محيص من الالتزام بأن مضامين الخطاب ليس إلا نفس الإرادة أو الطلب المبرز بانشائه الكلامي ، وأن مرتبة تأثيرها متأخر عنها رتبة ، وهو المساوق لرتبة امتثالها ، مع أنه على فرض تخصيص فعلية الحكم بهذه المرتبة لا يكون هذه المرتبة أيضا جعليا ، كيف! والعقل بمجرد الالتفات إلى اشتياق المولى ـ ولو باعلامه إياه بخطابه ـ يحكم بتأثير مثل هذا الخطاب في حكم العقل بلزوم الامتثال ، فياليت شعري! أن القائل بجعلية الأحكام التكليفية أي مرتبة يريد؟ ونحن لا نتعقل إلا تكوين الاعلام بكلامه ، وهذا المعنى آب عن جعلية الحكم في عالم التشريع وفي مقام الحقيقة ، كما هو الشأن في الأحكام الوضعية ، فإنه لا محيص من جعليته فيها.

ثم إن المبرز بخطاب المولى تارة : إرادة فعلية غير منوط بوجود الشيء في لحاظ الآمر ، وأخرى : منوط بوجوده ، ومرجع إناطة الإرادة إلى اشتياق فعلي في ظرف لحاظ الشيء ، لا أن الاشتياق تقديري ، كما هو الشأن في سائر الوجدانيات : من العلم والتمتي وأمثالهما ، والسر في ذلك : هو أن هذه الصفات في فعليتها بأي نحو من التعلق لا يحتاج إلى وجود المتعلق خارجا ، وأنها مما كان ظرف عروضها الذهن وأن الخارج ظرف اتصافها ، نعم : لابد وأن يكون الملحوظات الذهنية بنحو يرى خارجية على وجه لا يلتفت إلى ذهنيتها ، كما هو الشأن في تعلق القطع والظن بها عند تخلفها عن الواقع ، وهكذا بالنسبة إلى ما أنيط بها. ولذا في القضايا التعليقية ترى الجزم بوجود شيء منوطا بوجوده في لحاظه متحققا على وجود المنوط في ظرف ملحوظه. ولا يتوهم : بأن مركز جزمه الملازمة بينهما ، إذ هما مفهومان متغايران متلازمان ، والجزم بأحد المفهومين غير الجزم بالآخر ، لان قوام أنحاء التصديق بأنحاء تصوره.

فإذا عرفت ذلك ترى أن لب الإرادة المشروطة يرجع إلى فعلية الاشتياق التام القائم بالنفس في ظرف لحاظ الشيء خارجا ، قبال الإرادة المطلقة الراجعة إلى الاشتياق بالشئ لا في ظرف وجود شيء آخر في لحاظه ، وربما يفترقان في عالم التأثير ، حيث إن تأثير الإرادة في ظرف الشيء لا يكون إلا بوجوده خارجا ، ومن هذا الباب كلية إناطة الإرادة بموضوعه. وحينئذ فمفاد الخطاب المشروط ليس إلا هذه الإرادة في ظرف الشيء لحاظا ، ففي الحقيقة الاشتياق الفعلي قائم بفرض وجود الموضوع أو الشرط ، فصح لنا أن نقول : إن المبرز بالخطابات التي هي روح الحكم المتجسم بابرازه بخطابه في جميع المقامات فعلي قائم على الوجودات الفرضية واللحاظية ، لا أن مفاد الخطاب مجعول فرضي بفرض وجود موضوعه ، نظير الملكية الفرضية في العقود التعليقية. وحينئذ لنا دعوى أجنبية القضايا الطلبية عن القضايا الحقيقية

٤٦٤

__________________

المصطلحة ، بل هي إنما يصح في الاحكام المجعولة أو العوارض الخارجية التي كان فرض وجود الموضوع موجبا لفرض محموله ، وفي الاحكام الطلبية ـ كما عرفت ـ ليس الامر كذلك ، فجعلها من سنخ القضايا الحقيقية مبنية على كون الأحكام التكليفية بحقايقها مجعولة ، نظير الأحكام الوضعية في المعاملات ، ولقد عرفت ما فيه بأوضح بيان. وحينئذ ففي مورد إذا ثبت وجوب المشروط ففرض الشرط فيه لم يكن إلا ظرفا لمفاد الخطاب الثابت للذات فعلا ، ومن المعلوم : أن هذا المعنى غير راجع إلى قيدية شيء لموضوع الخطاب أو للمخاطب ، وإن كان قابلا لارجاع أحدهما بالآخر بنحو من الاعتبار والعناية ، وإلا فبحسب الحقيقة أحد الاعتبارين غير الآخر. وحينئذ فتوهم أن الموضوع مركب من ذات ووصف غلط ، إلا بتمحل خارج عن كيفية الخطاب. وحينئذ بعدما كان مفاد الخطاب ثبوت حكم فعلي للذات العاري عن القيد ـ غاية الامر كان هذا الحكم موجودا فعليا في ظرف فرض الموضوع لا في ظرف وجوده خارجا ، بل هو ظرف تطبيق الخطاب وتأثيره الخارج عن مفاده ـ فلا قصور في شمول دليل التنزيل لمثله ولو قبل حصول شرطه ، غاية الامر لا أثر له أصلا إلا بعد حصول الشرط ، والمفروض : أن في الاستصحاب أيضا لا يحتاج إلا إلى كون المنزل وما هو مفاد الخطاب موجودا حين يقينه ومشكوكا بقائه مع ترتب عمل حين الشك. ثم إنه لو بنينا على جعلية الاحكام ، فلم لا يقول بأن المجعول ما هو على وفق إرادته؟ إذ حينئذ لابد وأن يلتزم بان الوجوب المجعول فعلي على وفق فعلية إرادته ومنوط بوجود الشيء في لحاظه وفرضه ، لا أنه منوط بوجود الشيء خارجا ، إذ حينئذ لا بأس بالاستصحاب التعليقي أيضا ، لان المستصحب أيضا وجوب فعلي في ظرف لحاظ الشيء الحاصل قبل وجود الشرط خارجا ، كما هو شأن إرادته واشتياقه.

ولئن اغمض عما ذكر كله وقلنا بجعلية الوجوب وإناطته بوجود الشرط والموضوع خارجا ، فنقول : إنه لا شبهة في أن مفاد الخطاب قبل وجودات الموضوع لا يكون إلا فرضا ، كما أن قبل قيوده الحكم أيضا لا يكون ثبوته للذات المجرد عن القيد أيضا إلا فرضا ، وحينئذ فان أريد في الاستصحاب اليقين بالوجود الفعلي فلازمه عدم جريانه في الاحكام الكلية قبل وجود موضوعاتها ، والمفروض : أنه يلتزم بجريانه فيها ، ولازمه الاكتفاء بوجود الحكم فرضا في زمان يقينه ، فلم لا يلتزم بكفاية فرضية هذا الحكم لمثل هذا الذات المجرد قبل حصول شرطه؟.

وتوهم : أن موضوع الحكم في الواجبات المشروطة هو الذات المقيد لا المجرد ، قد عرفت فساده ، لان شأن شرائط الحكم إخراج الذات عن الاطلاق كنفس الحكم ، لا تقيد الذات بالحكم أو بما أنيط به الحكم ، فالذات في القضايا المشروطة تمام الموضوع نحو لا إطلاق فيه ولا تقيد ، فيصدق على هذا الذات

٤٦٥

في بقاء الحرمة والنجاسة المترتبة على العنب على تقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدله إلى الزبيب قبل غليانه ، فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان ، ويترتب عليه نجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أن وصف العنبية والزبيبية من حالات الموضوع لا أركانه ، وهذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح عليه بالاستصحاب التعليقي.

وبعبارة أوضح : نعني بالاستصحاب التعليقي « استصحاب الحكم الثابت على الموضوع بشرط بعض ما يلحقه من التقادير » فيستصحب الحكم بعد فرض وجود المشروط وتبدل بعض حالاته قبل وجود الشرط ، كاستصحاب بقاء حرمة العنب عند صيرورته زبيبا قبل فرض غليانه. وفي جريان استصحاب الحكم في هذا الوجه وعدم جريانه قولان :

أقواهما : عدم الجريان ، لان الحكم المترتب على الموضوع المركب إنما يكون وجوده وتقرره بوجود الموضوع بما له من الاجزاء والشرائط ، لان نسبة الموضوع

__________________

المجرد تمام الموضوع للوجوب الفرضي ، فيصير نسبة الوجوب في فرضه وتعقله بالإضافة إلى هذا القيد ووجود الموضوع على السوية ، فلم يجر الاستصحاب في الأول دون الثاني.

ولئن اغمض عما ذكرنا أيضا وقلنا برجوع قيود الحكم إلى الموضوع ، فنقول : إن فرضية الحكم تبع فرضية وجود الموضوع إما بتمامه أو ببعض أجزائه وقيوده ، وأي عقل يفرق في فرضية الحكم بين فرضية تمام الموضوع أو بعضه؟ وليس مفاد الخطاب إلا حكم فرض تبع فرضية وجود الموضوع عقلا ، وفي هذه العرصة هل العقل يفرق بين فرضية تمام الموضوع أو بعضه؟ حاشا! وعلى فرض كون هذه الإناطة شرعية ، بمعنى أن الشارع جعل حكما فرضيا منوطا بفرضية موضوعه بتمامه ، نقول : إن الحكم الثابت للمركب إذا كان منبسطا على أجزائه فكل جزء يتلقى من هذا الخطاب حظا من الحكم الملازم مع حكم سائر أجزائه فعلية وفرضية ، وحينئذ كل جزء مشمول حكم فرضي تبع فرض حكم غيره بعدم وجوده ، فأين قصوره في شمول « لا تنقض » حكم هذا الجزء الفرضي المختص به؟.

وتوهم : أنه كالصحة التأهلية ، غلط واضح ، إذ المتيقن هو الحكم للذات في حال العنبية لا مطلقا ، ونحن نستصحب هذا الحكم الضمني الفرضي في حال الزبيبية. ولئن تأملت فيما ذكرنا ترى أنه ليس في كلماته إلا رعدا وبرقا خاليا عن المطر! ومصادرة محضة! فتأمل جدا.

٤٦٦

إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يعقل أن يتقدم الحكم على موضوعه ، والموضوع للنجاسة والحرمة في مثال العنب إنما يكون مركبا من جزئين : العنب والغليان من غير فرق بين أخذ الغليان وصفا للعنب ، كقوله : « العنب المغلي يحرم وينجس » أو أخذه شرطا له ، كقوله : « العنب إذا غلى يحرم وينجس » لان الشرط يرجع إلى الموضوع (١) ويكون من قيوده لا محالة ، فقبل فرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم ، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه ، لما تقدم : من أنه يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون للمستصحب نحو وجود وتقرر في الوعاء المناسب له ، فوجود أحد جزئي الموضوع المركب كعدمه لا يترتب عليه الحكم الشرعي ما لم ينضم إليه الجزء الآخر.

نعم : الأثر المترتب على أحد جزئي المركب هو أنه لو انضم إليه الجزء الآخر لترتب عليه الأثر ، وهذا المعنى مع أنه عقلي مقطوع البقاء في كل مركب وجد أحد جزئيه ، فلا معنى لاستصحابه ، وقد تقدم في مبحث الأقل والأكثر : أنه لا يمكن استصحاب الصحة التأهلية لجزء المركب عند احتمال طرو القاطع أو المانع ، لان الصحة التأهلية مما لا شك في بقائها ، فإنها عبارة عن كون الجزء على وجه لو انضم إله الجزء الآخر لترتب عليه الأثر ، ففي ما نحن فيه ليس للعنب المجرد من الغليان أثر إلا كونه لو انضم إليه الغليان لثبتت حرمته وعرضت عليه النجاسة ، وهذا المعنى مما لا شك في بقائه ، فلا معنى

__________________

١ ـ لا يخفى : أن المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي لا يتوقف على رجوع الشرط إلى الموضوع وكونه من قيوده ـ كما لا محيص عنه ـ بل يكفي كون الشرط علة لحدوث النجاسة والحرمة للعنب ، فإنه مع عدم الغليان لا نجاسة ولا حرمة أيضا ، لانتفاء المعلول بانتفاء علته كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، غايته أنه في الموضوع يدور بقاء الحكم أيضا مدار بقاء الموضوع ، وفي العلة يمكن أن تكون علة للحدوث فقط ، فالاستصحاب التعليقي لا يجري على كل حال ( منه ).

٤٦٧

لاستصحابه.

وحاصل الكلام : أن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة المحمولين على العنب المغلي إنما يمكن بوجهين ـ أحدهما : الشك في رفع الحرمة والنجاسة عنه بالنسخ. ثانيهما : الشك في بقاء الحرمة والنجاسة عند تبدل بعض الحالات بعد فرض وجود العنب المغلي بكلا جزئيه ، كما إذا شك في بقائهما عند ذهاب ثلثه. ولا إشكال في استصحاب بقاء الحرمة والنجاسة للعنب في كل من الوجهين ، كما تقدم.

وليس هذا مراد القائل بالاستصحاب التعليقي ، ونحن لا نتصور للشك في بقاء النجاسة والحرمة للعنب المغلي وجها آخر غير الوجهين المتقدمين ، فالاستصحاب التعليقي بمعنى لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخ ولا إلى استصحاب الحكم عند فرض وجود الموضوع بجميع أجزائه وقيوده وتبدل بعض حالاته ، مما لا أساس له ولا يرجع إلى معنى محصل.

وما يقال : من أنه يمكن فرض بقاء النجاسة والحرمة في المثال بوجه آخر لا يرجع إلى الوجهين السابقين ، بتقريب : أن العنب قبل غليانه وإن لم يكن معروضا للحرمة والنجاسة الفعلية لعدم تحقق شرط الموضوع ، إلا أنه معروض للحرمة والنجاسة التقديرية ، لأنه يصدق على العنب عند وجوده قبل غليانه أنه حرام ونجس على تقدير الغليان ، فالحرمة والنجاسة التقديرية ثابتتان للعنب قبل غليانه ، فيشك في بقاء النجاسة والحرمة التقديرية عند صيرورة العنب زبيبا ـ بعدما كان عنوان العنبية والزبيبية من حالات الموضوع لا من مقوماته ـ فعدم حصول الغليان إنما يمنع عن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة الفعلية واستصحابهما ، لا عن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة التقديرية واستصحابهما

فهو واضح الفساد ، فان الحرمة والنجاسة الفرضية التقديرية لا معنى لاستصحابهما ، إذ ليست الحرمة والنجاسة الفرضية في العنب الغير المغلي إلا

٤٦٨

عبارة عن « أن العنب لو انضم إليه الغليان لترتبت عليه النجاسة والحرمة » وهذه القضية التعليقية ـ مضافا إلى أنها عقلية لأنها لازم جعل الحكم على الموضوع المركب الذي وجد أحد جزئيه ـ مقطوعة البقاء لا معنى لاستصحابها ، كما تقدم.

وأما حديث كون عنوان العنب والزبيب من حالات الموضوع لا مقوماته فهو أجنبي عما نحن بصدده ، فإن اعتبار كون الخصوصية المنتفية من الحالات لا المقومات إنما هو في مرحلة الحكم ببقاء المتيقن بعد الفراغ عن ثبوته وحدوثه ، والكلام في المقام إنما هو في مرحلة الثبوت والحدوث ، لما عرفت : من أنه لم يحدث الحكم المترتب على الموضوع المركب إلا بعد وجود جميع أجزائه ، والعنب قبل الغليان جزء الموضوع فلم تحدث فيه النجاسة والحرمة حتى يقال : إن خصوصية العنبية والزبيبية من الحالات لا المقومات.

وبعبارة أوضح : حديث أخذ الموضوع من العرف واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة إنما هو باعتبار مفاد أخبار الاستصحاب ، يعني أن المشكوك فيه في قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لابد وأن يكون متحدا مع المتيقن السابق اتحادا عرفيا ، لا عقليا. وليس معنى أخذ الموضوع من العرف أخذ موضوع الدليل الذي رتب الحكم فيه على الموضوع من العرف ، فإنه لو كان المراد منه ذلك لكان ثبوت الحكم على الموضوع الذي تبدل بعض حالاته مما يفيده نفس دليل الحكم ، ولا يبقى موقع لاثباته بالاستصحاب.

والحاصل : أن أخذ موضوع الدليل المثبت للحكم من العرف غير أخذ موضوع الاستصحاب من العرف ، فان معنى أخذ موضوع الدليل من العرف هو أنه لو قام الدليل على طهارة الحطب مثلا فالمرجع في تعيين معنى الحطب ومقدار سعة مفهومه وضيقه إلى العرف ، فلو شك في أن القصب من الحطب أو لا ، فيرجع إلى العرف ، فان كان العرف يرى القصب من أفراد الحطب

٤٦٩

بحسب ما ارتكز في ذهنه من معنى الحطب ، فيكون حكم القصب حكم سائر أفراد الحطب ويشمله دليل طهارة الحطب ، وإن لم يكن القصب من أفراد الحطب عرفا أو توقف العرف في كونه من أفراده ، فلا يشمله دليل طهارة الحطب ، بل لابد في الحكم بطهارته ونجاسته من الرجوع إلى دليل آخر لو كان ، وإلا فإلى الأصول العملية ، فهذا معنى أخذ موضوع الدليل من العرف.

وأما معنى أخذ موضوع الاستصحاب من العرف : فهو إنما يكون بعد الفراغ عن أن موضوع الدليل لا يعم المشكوك فيه عرفا بل للمشكوك فيه معنى يباين ما لموضوع الدليل من المعنى بحسب المرتكز العرفي ، كما إذا شك في بقاء طهارة الحطب بعدما صار فحما ، فان للحطب مفهوما يباين مفهوم الفحم عرفا ، ولا يكاد يشك العرف في عدم صدق الحطب على الفحم ، ومع هذا يجري استصحاب بقاء طهارة الحطب عند صيرورته فحما ، لان مفهوم الحطب وإن كان يباين مفهوم الفحم عرفا ، إلا أن العرف بحسب مناسبة الحكم والموضوع يرى أن معروض الطهارة ذات الحطب المحفوظة في الفحم أيضا وأن عنوان الحطب كان علة لعروض الطهارة على الذات ، فيشك في أنه علة حدوثا وبقاء فتزول الطهارة عن الذات عند انعدام عنوان الحطب بتبدله فحما لزوال علتها ، أو أن عنوان الحطب علة لحدوث الطهارة على الذات فقط من دون أن يكون علة للبقاء أيضا فتبقى الطهارة ما دامت الذات محفوظة عرفا ، ومعنى انحفاظ الذات عرفا ، هو أن العرف يرى اتحاد ذات الفحم لذات الحطب ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عرفا ويجري فيها الاستصحاب لو فرض الشك في بقاء الطهارة في الفحم.

بخلاف الرماد ، فان ذات الرماد وإن كانت هي ذات الحطب عقلا ، إلا أن العرف يرى التباين بين ذات الرماد وذات الحطب ، فتختلف القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة لو فرض الشك في بقاء الطهارة في الرماد ، فلا

٤٧٠

يجري فيه استصحاب الطهارة.

فظهر : أن حديث أخذ الموضوع من العرف في باب الاستصحاب وكون وصف العنبية والزبيبية من الخصوصيات التي لا تضر تبادلها ببقاء الموضوع عرفا أجنبي عن المقام ، فإن أخذ الموضوع في باب الاستصحاب من العرف إنما هو بعد الفراغ عن تشخيص مفهوم الموضوع الذي رتب عليه الحكم في لسان الدليل وتعيين ما ينطبق عليه المفهوم وبعد ثبوت الحكم على موضوعه ، وأين هذا مما نحن فيه : من استصحاب نجاسة العنب وحرمته عند صيرورته زبيبا قبل فرض غليانه؟ مع أن النجاسة والحرمة إنما يعرضان للعنب المغلي ، فقبل غليان العنب لا نجاسة ولا حرمة ، والحرمة والنجاسة التقديرية قد عرفت أنه لا معنى لاستصحابها ، فأين المتيقن وما المستصحب؟ فيبقى نجاسة الزبيب المغلي وحرمته مشكوكة الحدوث ، فان الزبيب المغلي غير العنب المغلي كمغايرة الفحم للحطب ، فلا يعمه أدلة نجاسة العنب المغلي وحرمته.

هذا كله إذا أراد القائل بالاستصحاب التعليقي استصحاب نفس الحرمة والنجاسة العارضتين على العنب المغلي. وإن أراد به استصحاب الملازمة بين الغليان والنجاسة والحرمة وسببيته لهما ، كما يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره ففيه :

أولا : أن الملازمة بين غليان العنب ونجاسته وحرمته وإن كانت أزلية تنتزع من جعل الشارع وانشائه النجاسة والحرمة على العنب المغلي أزلا ويكون انقلاب العنب إلى الزبيب منشأ للشك في بقاء الملازمة ، إلا أنه قد عرفت في الأحكام الوضعية : أن الملازمة والسببية لا يعقل أن تنالها يد الجعل الشرعي ، فلا يجري استصحاب بقاء الملازمة والسببية في شيء من الموارد ، لان المستصحب لابد وأن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي (١). والعجب

__________________

١ ـ أقول : المراد من الحكم الشرعي في باب الاستصحاب ما كان أمر رفعه ووضعه بيد الشارع ،

٤٧١

من الشيخ قدس‌سره! حيث إنه شدد النكير على من قال بجعل السببية والملازمة ، ومع ذلك ذهب إلى جريان استصحاب الملازمة في الاستصحاب التعليقي.

وثانيا : إن الملازمة على تقدير تسليم كونها من المجعولات الشرعية فإنما هي مجعولة بين تمام الموضوع والحكم ، بمعنى أن الشارع جعل الملازمة بين العنب المغلي وبين نجاسته وحرمته ، والشك في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم لا يعقل إلا بالشك في نسخ الملازمة ، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ ولا إشكال فيه ، وهو غير الاستصحاب التعليقي المصطلح عليه. فالانصاف : أن الاستصحاب التعليقي مما لا أسا له ، ولا يرجع إلى معنى محصل (١).

مع أن القائل به لا أظن أن يلتزم بجريانه في جميع الموارد ، فإنه لو شك في كون اللباس متخذا من مأكول اللحم أو من غيره ، فالحكم بصحة الصلاة فيه تمسكا بالاستصحاب التعليقي بدعوى « أن المكلف لو صلى قبل لبس المشكوك كانت صلاته صحيحة فتستصحب الصحة التعليقية إلى ما بعد لبس المشكوك والصلاة فيه » مما لا أظن أن يلتزم به القائل بالاستصحاب التعليقي ، ولو فرض أنه التزم به فهو بمكان من الغرابة!!.

هذا كله مضافا إلى ما في خصوص مثال العنب والزبيب من المناقشة في الموضوع ، فان الذي ينجس بالغليان إنما هو ماء العنب لا جرمه إلا تبعا ،

__________________

وحينئذ فبعدما كانت هذه الملازمة ناشئة من جعل الشارع الحكم للمقيد بحيث لولاه لما كان العقل يعتبر هذه الملازمة أصلا ، وحينئذ فأين قصور في شمول دليل التنزيل لمثله؟ ونظيره السببية في الأمور الجعلية ، كما تقدم ، وما لا يكون جعليا هو السببية في الأمور الواقعية ، كما شرحناه سابقا. وحينئذ لا منافاة بين كلام الشيخ ، ولا مجال للتعجب بأن هذا منه شيء عجاب ، كما لا يخفى.

١ ـ أقول : حاشا من المنصف لو تأمل فيما ذكرنا ان ينكر الاستصحاب التعليقي بهذا المقدار من البيان!!.

٤٧٢

فالموضوع للنجاسة هو الماء وقد انعدم بصيرورة العنب زبيبا ، والباقي في الحالين إنما هو الجرم وهو ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، والزبيب لا يغلي إلا إذا اكتسب ماء جديدا من الخارج ، وغليان الماء المكتسب من الخارج ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، فالموضوع لهما قد ارتفع قطعا ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

تتمة :

لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي وكونه مثبتا لنجاسة الزبيب وحرمته عند غليانه ، ففي حكومته على استصحاب الطهارة والحلية الفعلية الثابتة للزبيب قبل غليانه وعدمه وجهان (١) أقواهما : الأول ، فإنه لا موجب

__________________

١ ـ أقول : والتحقيق أن يقال : إن الشرط في الحرمة المجعولة مثلا تارة : اخذ شرعا غاية للحلية أو حكم آخر مضاد له ، وأخرى : لا يكون غاية كذلك للحكم المضاد وإنما هو غاية له عقلا ، بملاحظة أهمية الحرمة المشروطة حين شرطه وسقوط الوجوب الغير المغيا بالمضادة وحكم العقل بعدم اجتماع الضدين. فان كان المورد من قبيل الأول : فلا محيص من الحكومة إجمالا ، لان مرجع استصحاب الحرمة المشروطة إلى بقاء الشرطية للحرمة ولعدم الحكم الآخر المضاد له المعبر عنه بالغاية ، فيرتفع الحكم المزبور في ظرف الشك أيضا ، لثبوت غايته ، ففي الحقيقة الحاكم على استصحاب الحكم ليس إلا هذا الاستصحاب الحاصل في ضمن الاستصحاب الحكم التعليقي الآخر ، وإلا فأحد الحكمين في عرض الآخر وأن ما هو في طولهما هو جهة بقاء الشرطية والغائية التوئمين في الثبوت للقيد المزبور ، كما هو ظاهر. وإن كان المورد من قبيل الثاني : فلا مجال للحكومة أصلا ، لان الحكمين عرضيين والشرطية والغائية أيضا عرضيان ، وما هو في طول الحرمة هو وجود الشرط والغاية. والأول وإن كان شرعيا فيترتب عليه أثره ، بخلاف الثاني ، فلا مجال لرفع اليد عن الاستصحاب في الحكم الآخر باستصحاب المشروط بشرطه ، كما هو واضح.

وحينئذ فما أفيد : من تعريف السببية والمسببية بين نفس الحلية في الزبيب وإطلاق الحرمة المشروطة بالغليان لحال الزبيبية بحيث يكون أحد الشكين مسببا عن الشك في الآخر ، غلط واضح ، إذ إطلاق حرمة لحال وثبوت ضده لهذه الحالة من المتضادين ، فلا يكون أحدهما مقدمة لعدم الآخر أو عدم

٤٧٣

لتعارض الاستصحابين إلا توهم : أن الاستصحاب التعليقي كما يقتضي نجاسة الزبيب وحرمته بعد الغليان كذلك استصحاب حلية الزبيب وطهارته الثابتة له قبل الغليان يقتضي حليته وطهارته بعد الغليان ، وليس الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، فان الشك في بقاء الطهارة والحلية يلازم الشك في بقاء النجاسة والحرمة وبالعكس ، فهما في رتبة واحدة ، والاستصحابان يجريان في عرض واحد ، فيتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى أصالة الطهارة والحلية.

هذا ، ولكن فيه : أن الشك في حلية الزبيب وطهارته الفعلية بعد الغليان وإن لم يكن مسببا عن الشك في نجاسته وحرمته الفعلية بعد الغليان وإنما كان

__________________

أحدهما مقدمة لوجود الآخر ، بل هما متلازمان ، وحينئذ أين شك سببي والآخر مسببي؟ في هذا * التقرير للسببية والمسببية ينادي بأعلى صوته باشتباهه في تعيين مركز السببية والمسببية ، ولو دقق النظر وفتح البصر! لا محيص له من التفصيل المتقدم وأن هذا التقرير من قوله : إن إلى آخره ، إنما يجري في القسم الثاني لا الأول.

وأعجب منه!! أنه صار بصدد دفع الاشكال بخيال جريان دفع هذه الشبهة في الموردين ، وملخص كلامه : أن شرطية ترتب المسبب على السبب شرعا إنما هو في الاستصحابات الموضوعية ، وأما في الحكمية : فعدم ترتب الحكم الآخر على ثبوت حكم آخر من لوازم نفس استصحابه ، وفي مثله يترتب جميع الآثار حتى العقلية بلا خصوصية في شرعية الأثر فيه ، وحينئذ فاستصحاب الحرمة التعليقية في حال الزبيبية والتعبد ببقائه في هذا الحال يلازم عقلا للتعبد بارتفاع الحلية في هذا الحال.

وتوضيح فساده : أن التعبد بوجود الحكم الآخر أيضا عين التعبد بارتفاع الحرمة التعليقية ، فلم لا تنعكس الامر في المقام؟ لان لازم تضاد الحكمين ملازمة وجود كل منهما لعدم الآخر واقعا وظاهرا من دون تقدم رتبة أحدهما على الآخر ، ومع وحدة الرتبة لا يبقى لك مجال إجراء الأصل في طرف وترتب لازمه ظاهرا ، بل لنا أن نعكس الامر. ولا يخفى أيضا أن هذا البيان إنما يجري في الصورة الثانية ، وإلا ففي الصورة الأولى تقريب الحكومة في غاية الوضوح وبه يبقى الأساس لاستصحاب الاحكام التعليقية ، إذ في موردها غالبا الحلية اللااقتضائية الموجب لكون ما هو شرط للحرمة شرعا غاية للحلية كذلك ، كما هو ظاهر ، فتدبر فيما ذكرنا فإنه دقيق.

* كذا في النسخة ، والصحيح « فهذا التقرير » ( المصحح ).

٤٧٤

الشك في أحدهما ملازما للشك في الآخر ـ بل الشك في أحدهما عين الشك في الآخر ـ إلا أن الشك في الطهارة والحلية الفعلية في الزبيب المغلي مسبب عن الشك في كون المجعول الشرعي هل هو نجاسة العنب المغلي وحرمته مطلقا حتى في حال كونه زبيبا؟ أو أن المجعول الشرعي خصوص نجاسة العنب المغلي وحرمته ولا يعم الزبيب المغلي؟ فإذا حكم الشارع بالنجاسة والحرمة المطلقة بمقتضى الاستصحاب التعليقي يرتفع الشك في حلية الزبيب المغلي وطهارته.

والحاصل : أن الشك في الحلية والحرمة والطهارة والنجاسة في الزبيب المغلي مسبب عن الشك في كيفية جعل النجاسة والحرمة للعنب المغلي وأن الشارع هل رتب النجاسة والحرمة على العنب المغلي مطلقا في جميع مراتبه المتبادلة؟ أو أن الشارع رتب النجاسة والحرمة على خصوص العنب ولا يعم الزبيب؟ فالاستصحاب التعليقي يقتضي كون النجاسة والحرمة مترتبين على الأعم ، ويثبت به نجاسة الزبيب المغلي ، فلا يبقى مجال للشك في الطهارة والحلية.

فان قلت : الأصل الجاري في الشك السببي إنما يكون رافعا لموضوع الأصل المسببي إذا كان أحد طرفي المشكوك فيه في الشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي ، كما في طهارة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة ، فان نجاسة الثوب وإن لم تكن من آثار نجاسة الماء بل هي من آثار بقاء علتها : من الدم أو البول الذي أصاب الثوب ، إلا أن طهارة الثوب من الآثار الشرعية المترتبة على طهارة الماء ، فان معنى حكم الشارع بطهارة الماء هو طهارة الثوب المغسول به ، ولأجل ذلك كان استصحاب طهارة الماء أو قاعدة الطهارة رافعا للشك في نجاسة الثوب ، فما لم يكن أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الاحكام والآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي لا يمكن أن يكون الأصل الجاري في السبب رافعا

٤٧٥

لموضوع الأصل الجاري في المسبب ، وفيما نحن فيه ليس الامر كذلك ، فان الشك في حلية الزبيب المغلي وطهارته وإن كان مسببا عن الشك في كيفية جعل النجاسة والحرمة للعنب المغلي ، إلا أن عدم حلية الزبيب وطهارته ليس من الآثار الشرعية المترتبة على حرمة العنب المغلي ونجاسته ، بل لازم جعل حرمة العنب ونجاسته مطلقا حتى مع تبدله إلى الزبيب هو عدم الحلية والطهارة عقلا ، وإلا لزم اجتماع الضدين ، فاستصحاب الحرمة والنجاسة التعليقية لا يثبت عدم حلية الزبيب المغلي وطهارته ، لان إثبات أحد الضدين بالأصل لا يوجب رفع الضد الآخر إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.

قلت : هذا الاشكال إنما نشأ من الخلط بين الأصول السببية والمسببية الجارية في الشبهات الحكمية والجارية في الشبهات الموضوعية ، فإنه في الشبهات الموضوعية لابد وأن يكون أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي مع قطع النظر عن التعبد بالأصل الجاري في السبب ، فعند ذلك يكون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي. وأما الشبهات الحكمية : فلا يعتبر فيها أن يكون أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالأصل السببي مع قطع النظر عن التعبد بالأصل الجاري في السبب ، بل نفس التعبد بالأصل السببي يقتضي رفع الشك المسببي شرعا ، لان المسبب يصير أثرا شرعيا للسبب بالتعبد بالأصل الجاري فيه.

والسر في ذلك : هو أنه في الشبهات الموضوعية يكون أحد طرفي الشك المسببي أثرا شرعيا لمؤدى الأصل السببي بدليل آخر غير أدلة الأصول ، فتكون الكبرى الكلية الشرعية في طرف كل من السبب والمسبب معلومة من الخارج ، وإنما يراد بالاستصحاب تطبيق الكبرى الكلية على المورد المشكوك فيه ، كما في مثال الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة ، فان الكبرى الكلية

٤٧٦

ـ وهي طهارة كل ما يغسل بالماء الطاهر ـ إنما تكون معلومة من دليل اجتهادي آخر غير أدلة الاستصحاب ، وإنما يراد من استصحاب طهارة الماء اثبات كون الثوب مغسولا بالماء الطاهر وانطباق الكبرى الكلية على الثوب النجس المغسول بالماء ، فيرتفع الشك في نجاسة الثوب من ضم الوجدان بالأصل ، أي الغسل بالوجدان وطهارة الماء بالأصل.

وهذا بخلاف الشبهات الحكمية ، فان كون أحد طرفي الشك المسببي أثرا شرعيا لمؤدى الأصل السببي وجعل الكبرى الكلية الشرعية في طرف المسبب إنما يكون بنفس أدلة الاستصحاب ، بحيث لو لم يكن الاستصحاب حجة شرعية لم تكن تلك الكبرى مجعولة في طرف المسبب ، كما في مثال العنب والزبيب المغلي ، فإنه لم يقم دليل على حكم الزبيب المغلي وإنما يراد إثبات حكمه بالاستصحاب ، فيكون استصحاب نجاسة العنب إذا غلى مثبتا لنجاسة الزبيب المغلي وحرمته ورافعا للشك في حليته وطهارته ، فان التعبد بنجاسة الشيء وحرمته يقتضي عدم الحلية والطهارة ، فالاستصحاب التعليقي لو لم يثبت عدم حلية الزبيب وطهارته كان التعبد به لغوا ويلزم بطلان استصحاب التعليقي أساسا.

وحاصل الكلام : هو أن عدم أحد الضدين وإن كان من اللوازم العقلية لوجود الآخر والأصول العملية لا تثبت اللوازم العقلية ، إلا أن هذا فيما إذا لم يكن التعبد بعدم أحد الضدين مما يقتضيه التعبد بوجود الضد الآخر ، كما فيما نحن فيه ، فان التعبد بنجاسة العنب المغلي وحرمته بما له من المراتب التي منها مرتبة كونه زبيبا ـ كما هو مفاد الاستصحاب التعليقي ـ يقتضي التعبد بعدم طهارته وحليته ، إذ لا معنى للتعبد بالنجاسة والحرمة إلا إلغاء احتمال الحلية والطهارة ، فاستصحاب الحرمة والنجاسة التعليقية يكون حاكما على استصحاب الحلية والطهارة الفعلية ورافعا لموضوعه ، فتأمل جيدا.

٤٧٧

ـ التنبيه السابع ـ

قد تقدم أنه لا مجال للاشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ ، من غير فرق بين أحكام هذه الشريعة المطهرة وبين أحكام الشرايع السابقة ، فكما يجري استصحاب بقاء الحكم عند الشك في نسخ حكم من أحكام هذه الشريعة ، كذلك يجري استصحاب بقاء حكم الشرايع السابقة عند الشك في نسخه ، وقد يمنع عن جريان استصحاب بقاء أحكام الشرايع السابقة لوجهين :

الأول : دعوى اختلاف الموضوع ، فان المكلف بأحكام كل شريعة إنما هو المدرك لتلك الشريعة ، والذين أدركوا الشرايع السابقة قد انقرضوا ، فلا يجري الاستصحاب في حق من أدرك هذه الشريعة ولم يدرك الشرايع السابقة.

الوجه الثاني : دعوى العلم الاجمالي بطرو النسخ لاحكام الشرايع السابقة ، فإنه لو لم نقل أن هذه الشريعة المطهرة قد نسخت جميع أحكام الشرايع السابقة فلا أقل من كونها ناسخة لبعضها ، والعلم الاجمالي يمنع عن جريان الأصول في الأطراف. هذا ، ولكن لا يخفى ما في كلا الوجهين من النظر.

أما الوجه الأول : ففيه أن توهم اختلاف الموضوع مبني على أن تكون المنشآت الشرعية أحكاما جزئية بنحو القضايا الخارجية ، فيكون كل فرد من أفراد المكلفين موضوعا مستقلا قد أنشأ في حقه حكم يختص به ولا يتعداه ، فتستقيم حينئذ دعوى كون الموضوع لاحكام الشرايع السابقة هو خصوص آحاد المكلفين الذين أدركوا تلك الشرايع. ولكن كون المنشآت الشرعية أحكاما جزئية بمراحل عن الواقع ولا يمكن الالتزام به ، فإنه يلزم أن تكون الأدلة الواردة في الكتاب والسنة كلها أخبارا عن إنشاءات لاحقة عند وجود آحاد المكلفين بعدد أفرادهم ، وهو كما ترى!.

٤٧٨

بل التحقيق : أن المنشآت الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوع في ترتب المحمول عليه ويؤخذ للموضوع عنوان كلي مرآة لما ينطبق عليه من الافراد عند وجودها ، كالبالغ العاقل المستطيع الذي اخذ عنوانا لمن يجب عليه الحج ، وكالحي المجتهد العادل الذي اخذ عنوانا لمن يجوز تقليده ، ونحو ذلك من العناوين الكلية ، فالموضوع ليس آحاد المكلفين لكلي يتوهم اختلاف الموضوع باختلاف الأشخاص الموجودين في زمان هذه الشريعة والموجودين في زمان الشرايع السابقة ، فإذا كان الموضوع لوجوب الحج هو عنوان البالغ العاقل المستطيع ، فكل من ينطبق عليه هذا العنوان من مبدء إنشاء الحكم إلى انقضاء الدهر يجب عليه الحج ، سواء أدرك الشرايع السابقة أو لم يدرك ، فإذا فرض أنه أنشأ حكم كلي لموضوع كلي ثم شك المكلف في بقاء الحكم ونسخه فيجري استصحاب بقائه ، سواء أدرك الشرايع السابقة أو لم يدرك إلا هذه الشريعة المطهرة ، إلا إذا كان الحكم من أول الامر مقيدا بزمان خاص.

فالانصاف : أنه لا فرق في جريان استصحاب عدم النسخ عند الشك فيه بين أحكام هذه الشرعية وبين أحكام الشرايع السابقة ، وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين كون الأحكام الشرعية على نحو القضايا الخارجية أو على نحو القضايا الحقيقية ، فمن منع عن جريان استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى احكام الشرايع السابقة بدعوى اختلاف الموضوع تخيل : أن الأحكام الشرعية تكون من القضايا الخارجية ، وقد عرفت فساده.

وما أجاب به الشيخ قدس‌سره عن دعوى اختلاف الموضوع : بأنا نفرض كون الشخص مدركا للشريعتين فيجري في حقه استصحاب عدم النسخ ، لا يحسم مادة الاشكال ، فإنه لا أثر له بالنسبة إلى من لم يدرك الشريعة السابقة. ولا يجوز التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف ، بداهة أن الاشتراك إنما

٤٧٩

يكون في التكاليف الواقعية ، وأما التكاليف الظاهرية التي تؤدي إليها الأصول العملية : فليس محل لتوهم الاشتراك فيها ، فان مؤديات الأصول إنما تختص بمن يجري في حقه الأصل ، فقد يجري في حق شخص لوجود شرائطه فيه ، ولا يجري في حق شخص آخر لعدم وجود شرائطه فيه ، وذلك واضح.

وأما الوجه الثاني : ففيه أن العلم الاجمالي بنسخ جملة من الاحكام التي كانت في الشرايع السابقة ينحل بالظفر بمقدار من الاحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليها (١) فتكون الشبهة فيما عدا ذلك بدوية ويجري فيها الأصل بلا مزاحم.

فالأقوى : أنه لا مانع من جريان الأصل بالنسبة إلى أحكام الشرايع السابقة عند الشك في نسخها.

نعم : يمكن أن يقال. إنه لا جدوى لاستصحاب حكم الشريعة السابقة ، فإنه على فرض بقاء الحكم في هذه الشريعة فإنما يكون بقائه بإمضاء من الصادع بها ، كما يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به » (٢) الخبر ، فمع عدم العلم بالامضاء لا جدوى لاستصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة (٣) فتأمل.

__________________

١ ـ أقول : بناء على كون العلم الاجمالي تعلق بالنسخ الوارد فيما بأيدينا من الكتب لا مجال لانحلاله على مبناه السابق في مسألة الفحص في الاحكام. ولكن قد عرفت ما فيه.

٢ ـ الوسائل الباب ١٢ من أبواب مقدمات التجارة الحديث ٢.

٣ ـ أقول : بعد كون حكم كل شريعة حكما إلهيا ناشئا عن مصلحة ثابتة في حق المحكوم عليه ، فعلى تقدير بقاء هذا الحكم في زمان الشريعة اللاحقة يستحيل عدم إمضائه له ، لان عدم إمضائه مساوق عدم تمامية مبادي حكمه في حقهم ، والمفروض : أن بقائه في حقهم يكشف عن تمامية الملاك والمبادئ ، وإلا يلزم الجهل في المبدء الباري جلت عظمته ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) وحينئذ الشك في بقائه مساوق الشك في بقاء ما هو ممضاة في الشريعة السابقة ، والاستصحاب يثبت بقائه ، كما لا يخفى.

٤٨٠