فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

بتقريب إلى القسم الأول أو الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، وبتقريب آخر إلى الوجه الثالث من القسم الثالث من تلك الأقسام ، وهو ما إذا كان الشك في بقاء القدر المشترك لأجل احتمال تبدل الحادث إلى مرتبة أخرى من مراتبه بعد القطع بارتفاع المرتبة السابقة ، وقد تقدم : أن الأقوى جريان الاستصحاب فيه.

فالأقوى : جريان الاستصحاب في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتصورة في الشك في بقاء الزمانيات المتصرمة.

ويلحق به الوجه الثاني ، وهو ما إذا كان الشك في بقائها لأجل الشك في مقدار استعداد بقاء المبدء ، فان الشك في بقاء الزماني فيه أيضا يرجع إلى الشك في بقاء ما وجد ، فإنه لا فرق في صدق وحدة الكلام والماء والدم بين أن يكون المبدء يقتضي وجودها ساعة من الزمان أو ساعتين ، فيجري الاستصحاب في الساعة الثانية عند الشك في اقتضاء المبدء للوجود فيها ، مع قطع النظر عن كونه من الشك في المقتضي إلي لا نقول بجريان الاستصحاب فيه.

وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا كان الشك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدء آخر يقتضي وجوده مقام المبدء الأول الذي علم بارتفاعه ، فالأقوى : عدم جريان الاستصحاب فيه ، لأنه يرجع إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، فان وحدة الكلام عرفا إنما يكون بوحدة الداعي ، فيتعدد الكلام بتعدد الداعي ، فيشك في حدوث فرد آخر للكلام مقارن لارتفاع الأول عند احتمال قيام داع آخر في النفس بعد القطع بارتفاع ما كان منقدحا في النفس أولا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وكذا الحال في الماء والدم ونحو ذلك من الأمور التدريجية (١) فتأمل.

__________________

١ ـ أقول : على فرض تسليم ما أفيد في التكلم : من مساعدة العرف على تغير التكلم من فرد إلى فرد آخر حسب اختلاف الدواعي في الكلام ـ مع أنه لا كلية فيه أيضا وإنما العرف يساعد في صورة تغير عنوان الكلام من مثل القرآن والدعاء على اختلاف الأدعية والسور أيضا ـ لا مجال لتسليمه في

٤٤١

تذييل :

قد ذكر الشيخ قدس‌سره للشك المتعلق بالزمان والزماني أقساما ثلاثة :

الأول : الشك في بقاء الزمان. واختار فيه جريان الاستصحاب بالبيان المتقدم.

الثاني : الشك في بقاء الزماني المتصرم ، كالتكلم والحركة. وقد أطلق جريان الاستصحاب فيه ، ولكن كان الأنسب أن يذكر فيه التفصيل المتقدم.

الثالث : الشك في بقاء الزماني المقيد بالزمان الخاص ، كما إذا وجب الجلوس إلى الزوال ثم شك في وجوب الجلوس بعد الزوال. وقد جزم بعدم جريان الاستصحاب فيه.

والحق فيه أيضا التفصيل بين كون الزمان قيدا للجلوس مكثرا للموضوع بحيث كان الجلوس بعد الزوال مغايرا للجلوس قبله وبين كون الزمان ظرفا له ، ففي الأول لا يجري الاستصحاب ، وفي الثاني يجري. ومجرد أخذ الزمان الخاص في دليل الحكم لا يقتضي القيدية الموجبة لتكثر الموضوع ، بل يمكن فيه الظرفية أيضا.

ومن الغريب! ما حكاه الشيخ قدس‌سره عن الفاضل النراقي رحمه‌الله من القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي في الاحكام ، كما لو علم بوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال وشك في وجوبه بعد الزوال ، فاستصحاب بقاء الوجوب الثابت قبل الزوال يعارض استصحاب بقاء عدم الوجوب الأزلي للجلوس بعد الزوال ، فان المتيقن من

__________________

جريان الماء والدم إلا بتغير خصوصيتها المتقومة عرفا ، وإلا فمثل اختلاف المبدء في هذه الأمور كمثل اختلاف عمود الخيمة بالنسبة إلى بقاء هيئة الخيمة بحالها ، كما لو شك في بقاء عمود آخر مقام العمود السابق المنتفي قطعا ، فإنه لا قصور في استصحاب بقاء هيئة الخيمة بحالها ، كما لا يخفى.

٤٤٢

انتقاض العدم الأزلي هو وجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال ، فكما يصح استصحاب بقاء الوجوب إلى ما بعد الزوال ، كذلك يصح استصحاب بقاء عدم الوجوب الأزلي إلى ما بعد الزوال ، وليس الحكم ببقاء أحد المستصحبين أولى من الحكم ببقاء الآخر.

ثم أورد على نفسه بما حاصله : أن الشك في بقاء العدم الأزلي بعد الزوال ليس متصلا باليقين لفصل اليقين بالوجوب الثابت قبل الزوال بين اليقين بالعدم الأزلي وبين الشك في بقائه بعد الزوال ، وهذا بخلاف الشك في بقاء الوجوب بعد الزوال ، فإنه متصل بيقينه.

وأجاب عن ذلك : بأنه يمكن فرض حصول الشك في يوم الخميس ببقاء عدم الوجوب بعد زوال يوم الجمعة ، فيتصل زمان الشك بزمان اليقين ، فإنه في يوم الخميس يعلم بعدم وجوب الجلوس ويشك في وجوبه بعد الزوال من يوم الجمعة ، فيجتمع زمان اليقين والشك في يوم الخميس ويتصل أحدهما بالآخر.

ثم ذكر أمثلة اخر لتعارض الاستصحابين :

منها : ما إذا حصل الشك في بقاء وجوب الصوم والامساك في أثناء النهار ، كما إذا عرض للمكلف مرض أوجب الشك في وجوب الامساك عليه ، فيعارض استصحاب بقاء وجوب الصوم الثابت قبل عروض المرض مع استصحاب بقاء عدم وجوب الصوم الأزلي في الزمان الذي يشك في وجوب الصوم فيه.

ومنها : ما إذا شك في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو بقاء النجاسة بعد الغسل بالماء مرة واحدة ، فيعارض استصحاب بقاء الطهارة الحدثية والخبثية مع استصحاب عدم إيجاب الشارع الوضوء عقيب المذي (١) وتشريع النجاسة

__________________

١ ـ لا يخفى عليك ما في هذه العبارة من الخلط ، والصحيح أن يقال : « مع استصحاب عدم جعل

٤٤٣

عقيب الغسل مرة واحدة.

ففي جميع هذه الأمثلة يقع التعارض بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم الأزلي. نعم : في خصوص مثال الوضوء والمذي يكون استصحاب عدم جعل الشارع المذي رافعا للطهارة حاكما على استصحاب عدم جعل الوضوء المتعقب بالمذي موجبا للطهارة. هذا حاصل ما حكاه الشيخ قدس‌سره عن الفاضل النراقي.

وقد أورد عليه بقوله : وفيه أولا وثانيا وثالثا. وحاصل ما ذكره في الامر الأول : هو أن الزمان في مثال وجوب الجلوس إلى الزوال ، إما أن يؤخذ قيدا للحكم أو الموضوع ، واما أن يؤخذ ظرفا له ، فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب الوجود لارتفاع الوجود قطعا بعد الزوال ، فلو ثبت وجوب الجلوس بعده فهو فرد آخر للوجوب والجلوس مباين لما كان قبل الزوال ، فان التقييد بالزمان يقتضي تعدد الموضوع وكون الموجود بعده غير الموجود قبله ، فأخذ الزمان قيدا يقتضي عدم جريان استصحاب الوجود ، بل يجري فيه استصحاب العدم الأزلي فقط ، لان العدم الأزلي وإن انتقض بالوجود ، إلا أنه انتقض بالوجود المقيد بزمان خاص ، وانتقاضه إلى المقيد لا يلازم انتقاضه المطلق ، فيستصحب عدمه المطلق فيما بعد الزوال.

هذا إذا اخذ الزمان قيدا للحكم أو الموضوع. وإن اخذ ظرفا له : فلا يجري فيه استصحاب العدم الأزلي ، لانتقاض العدم إلى الوجود المطلق الغير المقيد بزمان خاص ، والشيء المنتقض لا يمكن استصحابه ، بل لابد من استصحاب الوجود ، ففي المورد الذي يجري فيه استصحاب العدم لا يجري فيه استصحاب الوجود ، وفي المورد الذي يجري فيه استصحاب الوجود لا يجري فيه استصحاب

__________________

الوضوء المتعقب للمذي موجبا للطهارة » ( المصحح )

٤٤٤

العدم ، فكيف يعقل وقوع التعارض بينهما مع كون التعارض فرع الاجتماع؟.

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس‌سره بقوله : « أما أولا ».

ولكن للنظر فيما أفاده مجال ، فان الظاهر عدم جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا ، وإن اخذ الزمان قيدا للحكم أو الموضوع ، لان العدم الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كل حادث مسبوقا به ، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كل حادث إنما يكون بحدوث الحادث وشاغليته لصفحة الوجود ، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده فهذا العدم غير العدم الأزلي ، بل هو عدم آخر حادث بعد وجود الشئ.

وبعبارة أوضح : العدم المقيد بقيد خاص من الزمان أو الزماني إنما يكون متقوما بوجود القيد ، كما أن الوجود المقيد بقيد خاص إنما يكون متقوما بوجود القيد ، ولا يعقل أن يتقدم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاص عنه ، فلا يمكن أن يكون لعدم وجوب الجلوس في يوم السبت تحقق في يوم الجمعة.

وحينئذ نقول : إنه إذا وجب الجلوس إلى الزوال فالعدم الأزلي انتقض إلى الوجود قطعا (١) فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لاخذ الزوال قيدا

__________________

١ ـ أقول : مرجع أخذ الزمان قيدا ومفردا للموضوع كون الوجوب الثابت له وجوبا آخر غير ما يثبت للفرد الآخر ، فقهرا يصير المجعول في المقام فردين من الوجوب ، غاية الامر يكون الفردان تدريجيان حسب تدريجية موضوعاته المقيدات بالزمان. فعند ذلك نقول : إن كل واحد من هذه الافراد هل من الحوادث الملازم لسبقه بالعدم أم لا؟ لا سبيل إلى الثاني. كما أن مرجع حدوث الشيء إلى سبقه بعدم نفسه ، لا بعدم الطبيعة الجامعة بينه وبين غيره ، فإذا كان الفرد الثاني أيضا حادثا فلا محيص من أن يكون وجوده مسبوقا بعدم نفسه ، ومرجعه إلى سبقه بالعدم المضاف إلى المقيد لا بالعدم المقيد ، إذ العدم المقيد لا يكون نقيض الوجود المقيد ، كيف! وبارتفاع القيد يلزم ارتفاع النقيضين ، وهو كما ترى! بل الوجود والعدم طاريان على الماهية المقيدة بنحو يكون القيد في مثلها مأخوذا في مرتبة ذاتها السابقة في اللحاظ عن مرتبة طرو الوجود والعدم عليه ، فالوجود والعدم في عالم طروهما على المقيد مرسلتان عن القيد ، كيف! والقيد مأخوذ في معروض الوجود فكيف يرجع هذا القيد إلى نفسه؟ نعم : هو مانع عن إطلاق الوجود ،

٤٤٥

للوجوب ، فعدم الوجوب بعد الزوال لا يكون هو العدم الأزلي ، لأنه مقيد بكونه بعد الزوال ، والعدم المقيد غير العدم المطلق المعبر عنه بالعدم الأزلي ، فالمستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المطلق ، بل هو العدم المقيد بما بعد الزوال ، فإنه لو قطعنا النظر عن قيد كونه بعد الزوال ولاحظنا العدم المطلق فهو مقطوع الانتقاض لوجوب الجلوس قبل الزوال ، فلابد وأن يكون المستصحب هو العدم بعد الزوال ، والعدم المقيد بما بعد الزوال كالوجود المقيد به قوامه وتحققه إنما يكون بما بعد الزوال ولا يكون له تحقق قبل الزوال ، فلا يمكن استصحاب العدم بعد الزوال إلا إذا آن وقت الزوال ولم يثبت الوجود ، ففي الآن الثاني يستصحب العدم.

وأما إذا فرض أنه في أول الزوال شك في الوجود والعدم ـ كما هو مفروض الكلام ـ فلا مجال لاستصحاب العدم ، بل لابد من الرجوع إلى البراءة والاشتغال.

وحاصل الكلام : وجوب الجلوس بعد الزوال وإن كان حادثا مسبوقا بالعدم ، إلا أن العدم المسبوق به ليس هو العدم الأزلي ، لانتقاض العدم الأزلي بوجوب الجلوس قبل الزوال (١) فلابد وأن يكون العدم المسبوق به هو العدم آن الزوال أو بعد الزوال لو فرض أن آن الزوال كما قبل الزوال يجب الجلوس فيه ،

__________________

لا أنه موجب لتقيده ، كما هو الشأن في كل قيد مأخوذ في الموضوع أو الحكم بالقياس إلى غيره من حكمه أو موضوعه ، وحينئذ فقهرا العدم المضاف إلى هذا الفرد المقوم لحدوثه لا محيص من كونه أزليا ، وما ليس أزلي هو العدم المقيد ، بحيث يكون القيد راجعا إلى العدم لا إلى المعدوم ، ولإن تأملت ترى هذه المغالطة دعاه إلى انكار الاستصحاب في كلية الاعدام الأزلية في موارد الشك في مقارنة الموجود الخاص بوصف ، كقرشية المرأة وأمثاله ، كما شرحه في رسالة مستقلة ، ونحن أيضا كتبنا شرح مغالطته في رسالة مستقلة ، فراجع الرسالتين ، ولا تنظر إلى الرعد والبرق منه ومن أصحابه المتعبدين بمسلك أستاذهم!!!.

١ ـ أقول : بعد الاعتراف بأنه حادث مسبوق بالعدم ، فأين عدم سبقه الوجوب من حين الزوال؟ فان لم يكن له عدم فكيف يكون حادثا؟ وإن كان حادثا فعليك بتعيين عدمه! وليس لك أن تقول

٤٤٦

فقبل الزوال ليس الوجب المقيد بما بعد الزوال متحققا ولا عدم الوجوب المقيد بذلك متحققا ، إلا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

نعم : جعل الوجوب بعد الزوال وإنشائه إنما يكون أزليا كعدم الجعل والانشاء ، فإنه لا مانع من إنشاء وجوب الجلوس يوم الجمعة من يوم الخميس أو قبله ، بل إنشاء الأحكام الشرعية كلها أزلية ، فإذا شك في جعل وجوب الجلوس بعد الزوال أزلا فالأصل عدم الجعل ، لان كل جعل شرعي مسبوق بالعدم ، من غير فرق بين أخذ الزمان قيدا أو ظرفا ، غايته أنه إن أخذ الزمان قيدا لوجوب الجلوس لم يعلم انتقاض عدم الجعل بالنسبة إلى ما بعد الزوال ، لأنه بناء على القيدية يحتاج وجوب الجلوس بعد الزوال إلى جعل آخر مغاير لجعل الوجوب قبل الزوال ، وحيث إنه يشك في جعل الوجوب بعد الزوال فالأصل عدمه.

ولعل مراد الشيخ قدس‌سره من استصحاب العدم الأزلي بعد الزوال إذا كان الزمان قيدا هو عدم الجعل ، لا عدم المجعول ، لما عرفت : من أن عدم المجعول بعد الزوال لا يكون أزليا ، بخلاف عدم الجعل ، ولكن قد تقدم بما لا مزيد عليه في مباحث الأقل والأكثر أنه لا أثر لاستصحاب عدم الجعل إلا باعتبار ما يلزمه : من عدم المجعول ، وإثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت.

هذا ، مضافا إلى ما عرفت أيضا في مباحث الأقل والأكثر : من أن استصحاب البراءة الأصلية ـ المعبر عنه باستصحاب حال العقل ـ لا يجري مطلقا ، لان العدم الأزلي ليس هو إلا عبارة عن اللاحكمية واللاحرجية ، وهذا المعنى بعد وجود المكلف واجتماع شرائط التكليف فيه قد انتقض قطعا ولو إلى الإباحة ، فان اللاحرجية في الإباحة بعد اجتماع شرائط التكليف غير

__________________

بأن عدم الحكم بعدم موضوعه ، إذ الوجوب لابد وأن يكون في ظرف عدم الموضوع ، إذ بوجوده يسقط الوجوب ، وحينئذ لا محيص إلا من الاعتراف بما ذكرناه ، فتدبر.

٤٤٧

اللا حرجية قبل وجود المكلف ، إذا الأول يستند إلى الشارع والثاني لا يستند إليه ، فراجع ما سبق منا في بعض مباحث الأقل والأكثر.

فتحصل مما ذكرنا : أنه لا مجال لما أفاده الشيخ قدس‌سره من استصحاب العدم الأزلي إذا كان الزمان قيدا لوجوب الجلوس قبل الزوال (١) بل لابد في ذلك من الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال. نعم : لا إشكال فيما افاده : من استصحاب الوجوب الثابت قبل الزوال إذا كان الزمان ظرفا للموضوع أو الحكم.

وعلى كل تقدير : لا يستقيم ما ذكره الفاضل المتقدم : من تعارض استصحاب الوجود والعدم في مثال وجوب الجلوس قبل الزوال مع الشك في وجوبه بعده ، فإنه إن اخذ الزمان ظرفا فلا يجري إلا استصحاب الوجوب ، وإن أخذ قيدا فلا يجري استصحاب الوجوب ولا استصحاب عدم الوجوب ، بل لابد من الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال.

وأما ما ذكره من مثال الصوم : ففيه أولا : أنه لابد من فرض الصحة والمرض من حالات الموضوع والمكلف الذي يجب عليه الصوم لا من القيود المأخوذة فيه ، بداهة أنه لو كان المريض والصحيح موضوعين مستقلين يجب على أحدهما الافطار وعلى الآخر الامساك كالمسافر والحاضر ، فالشك في عروض المرض المسوغ للافطار يوجب الشك في بقاء الموضوع ، فلا مجال لاستصحاب الحكم ، لعدم اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.

ودعوى : كون المرض والصحة من الحالات لا القيود المقومة للموضوع واضحة الفساد (٢).

__________________

١ ـ أقول : ولعمري! إنك بعد الاعتراف بكون كل فرد من الوجوبات الثابتة للمقيدات بالأزمنة أفرادا حادثة تدريجية لطبيعة الوجوب ، لا محيص لك من الالتزام بسبق كل فرد حادث بعدم نفسه ، فيستصحب حينئذ هذا العدم ، وإلا فلابد وأن ننكر حدوث كل فرد وحادثيته بشخصه ، وهو كما ترى.

٢ ـ أقول : لا نرى وضوح فساده إذا كان المدار على العرف.

٤٤٨

وثانيا : ما تقدم من أنه لا يجرى استصحاب عدم الوجوب ، بالتقريب المتقدم.

وأما ما ذكره من مثال الوضوء والمذي والنجاسة والغسل مرة واحدة : ففيه مضافا إلى ما تقدم أن رتبة جعل المذي رافعا لاثر الطهارة أو غير رافع له إنما تكون متأخرة عن رتبة جعل الوضوء سببا للطهارة ، فلا يعقل أخذ عدم رافعية المذي قيدا في سببية الوضوء للطهارة ، فتأمل جيدا.

ـ التنبيه الخامس ـ

قد تقدم : أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون الدليل المثبت للمستصحب هو العقل أو الكتاب والسنة. وقد خالف في ذلك الشيخ قدس‌سره فذهب إلى عدم جريان الاستصحاب إذا كان الدليل هو العقل ، وقد عرفت ضعفه. ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول : إن البحث عن جريان الاستصحاب في باب المستقلات العقلية يقع في مقامات ثلاث :

الأول : في استصحاب نفس الحسن والقبح العقلي عند الشك في بقائه لأجل حصول الغاية أو وجود الرافع.

الثاني : في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة.

الثالث : في استصحاب الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه والشارع بوجوبه أو حرمته.

أما المقام الأول : فلا أثر للبحث عنه ، إذ لا يترتب على استصحاب الحسن والقبح العقلي أثر إلا إذا أريد من استصحابه إثبات الحكم الشرعي : من الوجوب أو الحرمة (١) ولا يمكن إثبات ذلك إلا على القول بحجية الأصل

__________________

١ ـ أقول : الأولى أن يقال : إن الحسن والقبح بعدما كان من الاحكام العقلية الوجدانية بحيث يكون دركه إياه مقوم وجوده وليس من الاحكام العقلية الاستكشافية التي يكون دركه لها طريقا عليها

٤٤٩

المثبت ، فان جريان الأصل في أحد المتلازمين لاثبات اللازم الآخر يكون من أوضح مصاديق الأصل المثبت ، وذلك واضح.

وأما المقام الثاني : فالحق جريان الاستصحاب فيه ، سواء كان الشك في الغاية أو الرافع ، وسواء كان الرافع والغاية شرعيين أو عقليين ، فإنه لا موجب لتوهم عدم جريان الاستصحاب فيه إلا تخيل كون الاحكام العقلية مما لا يعرضها الاجمال والاهمال فلا يمكن أن يدخلها الشك ، فان الشك في بقاء الحكم أو الموضوع لابد وأن يكون لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يكون الحكم أو الموضوع واجدا لها ، فإنه مع بقاء الشيء على ما هو عليه لا يمكن أن يدخله الشك. ومن المعلوم : أن العقل لا يستقل بحسن شيء أو قبحه إلا بعد تشخيص الموضوع وتبينه لديه بتمام ما له دخل في الموضوع ، فكل خصوصية أخذها العقل في الموضوع فلابد وأن يكون لها دخل في ملاك حكمه ، فلا يمكن الشك في بقاء حكم العقل ، فإنه إن كان واجدا للخصوصية التي اعتبرها العقل فيه فلا محالة يقطع ببقاء الحكم ، وإن كان فاقدا لها فيقطع بارتفاع الحكم ، ولا يعقل الشك من نفس الحاكم خصوصا مثل العقل الذي لا يستقل بشيء إلا بعد الالتفات إليه بجميع ما يعتبر فيه ، فإذا كان كان الحكم العقلي مما لا يتطرق إليه الشك فالحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أيضا لا يتطرق إليه الشك ، لان الحكم الشرعي تابع للحكم العقلي في الموضوع والملاك ، فلا يمكن أن يدخله الشك ، فالاستصحاب لا يجري ، لا في الحكم العقلي ولا في الحكم الشرعي المستكشف منه بقاعدة الملازمة.

__________________

ـ كاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدين ـ فلا يتصور فيها الشك ، إذ بمجرد عروض ما يوجب زوال دركه يقطع بعدم دركه الحسن. نعم : ما هو مشكوك حينئذ هو ملاك حسنه من المصالح الواقعية الغير المرتبطة بعالم الاحكام العقلية ، وحينئذ فلا ينتهي النوبة إلى ابتناء المسألة بالأصول المثبتة ، كما لا يخفى. ثم إن المقرر خلط بين نحوي الحكمين فيما يأتي ، وننتظر لسان خلطه في محله.

٤٥٠

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس‌سره في وجه المنع عن جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية.

ولكنه ضعيف ، لما فيه :

أولا : المنع عن كون كل خصوصية اعتبرها العقل في موضوع حكمه لابد وأن يكون لها دخل في مناط حكم العقل ، إذ من الممكن أن لا تكون للخصوصية دخل في المناط واقعا ، وإنما أخذها العقل في موضوع حكمه لمكان أن الموضوع الواجد لها هو المتيقن في اشتماله على الملاك بنظر العقل ، مع أن العقل يحتمل أن لا يكون لها دخل في الملاك واقعا ، فيكون حكم العقل بحسن الواجد لها أو قبحه من باب الاخذ بالقدر المتيقن.

ودعوى : أن الاحكام العقلية كلها مبينة مفصلة مما لا شاهد عليها ، إذ من المحتمل أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار الغير النافع من جهة أن الكذب الواجد لهذه الخصوصيات هو المتيقن في قبحه وقيام المفسدة به ، مع أنه يحتمل أن لا يكون لخصوصية الضرر أو عدم النفع دخل فيما هو مناط القبح ، بل يكون نفس العقل شاكا في قبح الكذب الغير الضار.

وثانيا : سلمنا أن كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه فلابد وأن يكون لها دخل في المناط بنظر العقل ، إلا أن ذلك يمنع عن استصحاب حكم العقل ، وليس المقصود ذلك ، لما عرفت : من أن استصحاب حكم العقل لا أثر له ، بل المقصود استصحاب حكم الشرع ، فيمكن أن لا يكون لبعض الخصوصيات التي أخذها العقل في موضوع حكمه دخل في الموضوع عرفا ، فلا يضر انتفائها ببقاء الموضوع عرفا (١) والمناط في جريان الاستصحاب هو بقاء

__________________

١ ـ أقول : بل الأولى أن يقال : ليس كل ما هو دخيل في حكمه العقلي دخيلا في مناطه ولو عقلا ، والحكم الشرعي تابع مناطه ، وإلا فلو كان دخيلا في مناطه عقلا فعدمه يوجب القطع بعدم المناط ، ومع القطع بعدمه يقطع بعدم الحكم الشرعي التابع له ، إلا إذا فرض احتمال أو سعية مناط الحكم

٤٥١

الموضوع عرفا لا عقلا. فالانصاف : أنه لا مجال للاشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية ، وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا.

وأما المقام الثالث : وهو استصحاب بقاء الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه والشارع بوجوبه أو حرمته ، فخلاصة الكلام فيه : هو أن الشك في بقاء الموضوع إن كان لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في موضوعية الموضوع (١) فلا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الموضوع إن لم تكن تلك الخصوصية من أركان الموضوع عرفا ولا يضر انتفائها ببقائه في نظر العرف وإن كانت عند العقل من مقومات الموضوع وأركانه ، فان كونها عند العقل كذلك إنما يضر بالاستصحاب إذا بنينا على أخذ الموضوع في باب الاستصحاب من العقل ، وأما إذا بنينا على أخذه من العرف ـ على ما سيأتي بيانه ـ فكونها من مقومات الموضوع عقلا لا يمنع عن الاستصحاب. هذا ، مضافا إلى ما عرفت : من أنه يحتمل أن لا يكون لها دخل في الموضوع عقلا ، بل إنما كان حكم العقل على الواجد لها من باب الاخذ بالقدر المتيقن ، فمنع الشيخ قدس‌سره عن جريان الاستصحاب في هذا القسم من الشك في الموضوع في غير محله.

__________________

الشرعي عن الحكم العقلي عقلا. وعلى أي حال : حكم العرف في المقام ببقاء الموضوع أجنبي عن مرحلة الشك في بقائه ، إذ هو تابع احتمال عدم الدخل عقلا ، كما هو ظاهر.

١ ـ أقول : إن كان الغرض من استصحاب الموضوع في مثل المقام من الشبهات الحكمية استصحاب الموضوع بوصف موضوعيته ، فهو يرجع إلى استصحاب حكمه ، لان وصف الموضوعية منتزع عن حكمه ، فيغني استصحاب الاحكام عن مثله. وإن كان الغرض استصحاب ما هو معروض صفة الموضوعية الذي هو نفس الذات التي عرض عليها الحكم ـ كما هو الظاهر من كلامه ـ فمثل هذا الاستصحاب غير جار في كلية موضوعات الحكم في الشبهات الحكمية ، لان مرجع الشك فيه إلى الشك في أن الأعم من الواجد موضوع أم خصوص الواجد ، ومن البديهي أن ما هو المعروض أمره دائر بين مقطوع البقاء وبين مقطوع الارتفاع وأن الشك إنما تعلق ببقاء ما هو معروض الحكم بنحو الاجمال ، وهو بهذا العنوان لا أثر له ، فيكون حكم استصحابه حكم استصحاب الفرد المردد ، فتدبر.

٤٥٢

وإن كان الشك في بقاء الموضوع لبعض الأمور الخارجية كالشك في بقاء وصف الاضرار في السم لاحتمال أن يكون قد تصرف الهواء فيه بحيث زال عنه وصف الاضرار ، فظاهر الشيخ قدس‌سره جريان الاستصحاب فيه إذا بنينا على حجية الاستصحاب من باب إفادته الظن بالبقاء لا من باب التعبد.

وهذا الكلام من الشيخ قدس‌سره بمكان من الغرابة! بداهية أن الظن المعتبر في باب الاستصحاب على القول بإفادته الظن إنما هو الظن النوعي لا الظن الشخصي ، فإنه لم يحتمل أحد اعتبار الظن الفعلي في جريان الاستصحاب ، والظن المعتبر في باب الظن بالضرر إنما هو الضرر الشخصي الفعلي ، فان العقل إنما يستقل بقبح الاقدام على الضرر المظنون فعلا ، واستصحاب بقاء الضرر في السم لا يوجب حصول الظن الفعلي ، وذلك واضح.

وعلى كل حال : ينبغي في المقام من تحرير الكلام في جميع موارد الشك في موضوعات الاحكام العقلية ، وإن كان قد سبق منا الكلام فيه.

وقبل ذلك ينبغي التنبيه على أمر :

وهو أنه ليس في الاحكام العقلية ما يستقل العقل بالبراءة فيها عند الشك في الموضوع الذي يحكم العقل بقبحه (١) بل للعقل حكم طريقي في صورة الشك

__________________

١ ـ أقول : قد تقدم منا الإشارة إلى أن الاحكام العقلية سنخان : سنخ منها تابع وجدان العقل ، بحيث يكون دركه مقوم حكمه ، وهذا كحسن شيء لديه أو قبحه ، فان حقيقة الحسن ليس إلا عبارة عن ملائمة الشيء لدى القوة العاقلة ـ كسائر ملايمات الشيء لدى سائر قواه من السامعة والذائقة وغيرهما ـ قبال ما ينافر لدى القوة العاقلة ، فيسمى بالقبح ـ نظير سائر المنافرات لدى سائر القوى ـ وجميع هذه القوى في الحقيقة من آلات درك النفس وجنوده ، فالمدرك هو النفس بتوسيط هذه القوى. وعلى أي حال : بعدما كان قوام حسن الشيء أو قبحه بالدرك المزبور يستحيل تصور الشك في بقائه عند طرو ما يزيل مقدمات دركه. نعم : ما هو قابل للشك هو مناط حكم العقل : من المصالح والمفاسد ، وهو أيضا أجنبي عن الاحكام العقلية ، بل هو مناط أحكامه ، كما أنه ربما يكون مناطا للأحكام الشرعية

٤٥٣

__________________

أيضا ، وهذا بخلاف الاحكام الاستكشافية : من مثل استحالة اجتماع الضدين والنقيضين لديه ، فان دركه طريق إلى الاستحالة الواقعية ولا يكون مقوم استحالته ، نعم : تصديقه بالاستحالة طريق فهمه إياه ، وفي مثله ربما يطرء الشك في استحالة الشيء ، ومنه حكمه باستحالة التكليف بما لا يطاق واعتبار القدرة واقعا مع إمكان الشك فيه من جهة احتمال عدم قدرته. وحيث عرفت ما ذكرنا ظهر لك : أنه في صورة احتمال فقدان ما له دخل في حكمه الواجداني يستحيل حينئذ أن يحتمل حكمه المتقوم بدركه ووجد انه بل في هذه الصورة يجزم بعدم الدرك ، إذ يستحيل خفاء الوجدانيات على الوجدان ، إذ مرجعه إلى الشك في تصديق نفسه بشيء ، وهو كما ترى! ومع الجزم بعدم دركه الحسن التكليف بما لا يطاق واعتبار القدرة واقعا مع إمكان الشك فيه من جهة احتمال عدم قدرته. وحيث عرفت ما ذكرنا ظهر لك : أنه في صورة احتمال فقدان ما له دخل في حكمه الواجداني يستحيل حينئذ أن يحتمل حكمه المتقوم بدركه ووجد انه بل في هذه الصورة يجزم بعدم الدرك ، إذ يستحيل خفاء الوجدانيات على الوجدان ، إذ مرجعه إلى الشك في تصديق نفسه بشيء ، وهو كما ترى! ومع الجزم بعدم دركه الحسن المساوي لعدم حسنه لديه أين شك فيه كي يبقى مجال حكمه بايجاب الاحتياط في رتبة شكه؟ غاية ما في الباب ليس إلا احتمال المصلحة المقتضية لحكمه بحسن الشيء عند دركها ، وهذا الاحتمال لو كان موضوع حكم العقل بايجاب الاحتياط ، فيلزم حكمه به في كل شبهة حكمية أو موضوعية بدوية ، لاحتمال وجود ملاكه فيه ، ومرجع هذا الكلام إلى أن الأصل في الأشياء لدى العقل الحذر.

ولعمري! إن ذلك مسلك سخيف لا يعتنى به ، إذ العقل مستقل بالرخصة في صورة عدم البيان على الحكم الشرعي ولو مع احتمال ملاك حكمه. نعم : ما أفيد من الشك صحيح في الاحكام الاستكشافية : من مثل استحالة التكليف بغير المقدور ولا يطاق ، ولكن الشك في الاستحالة لا يوجب أيضا حكم العقل ظاهرا على وفقه ، وإلا فيلزم حكمه بعدم التكليف مع الشك في القدرة ، مع أنه ليس كذلك ، بل العقل مستقل بوجوب الاحتياط عند الشك به بملاحظة أن موضوع حكمه بالترخيص إنما هو في صورة الشك في أصل الغرض ، وأما مع العلم به أو الشك في قابلية المحل لاستيفائه فهو داخل في حكم العقل بالاحتياط ، وعمدة النكتة فيه : هو أن هم العقل في باب الامتثال على تحصيل غرض المولى الكاشف عن تمامية المصلحة في عالم القضية فعلية خطابه ، ولذا لم علم من الخارج تمامية غرضه لما يحتاج إلى خطابه في وجوب تحصيله عقلا ، بل لو فرض صدور خطاب عن مولاه اشتباها على خلافه لا يجب اتباعه ، وذلك أقوى شاهد على أن تكاليف المولى طرا طرق إلى ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الاتيان بلا موضوعية لفعلية إرادة المولى فيه ، وحيث كان الامر كذلك ، فمع دلالة الخطاب على تمامية الغرض وعدم قصور في ناحية الملاك في وفائه بغرض مولاه وشك في قصور المورد عن توجيه التكليف ، فقد تم ما على المولى بيانه ، فيخرج المورد عن باب العقاب بلا بيان ، إذ المفروض : أن المصلحة لا قصور في تماميته في عالم الغرضية للمولى ، وإنما القصور لو كان فإنما هو في تمكن العبد على تحصيله ، فمع العلم بعدم القدرة لا يبقى لحكم العقل مجال بتحصيله ، ومع عدم علمه به واحتمال القدرة

٤٥٤

في الموضوع على طبق حكمه الواقعي ، ولا يمكن أن لا يكون للعقل حكم في موارد الشك في الموضوع أو يكون له حكم على خلاف حكمه على الموضوع الواقعي ، بل إذا استقل العقل بقبح الاقدام على شيء فلابد وأن يكون له حكم طريقي آخر بقبح الاقدام على مالا يؤمن أن يكون هو الموضوع للقبح ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فان للشارع أن يجعل في صورة الشك في الموضوع حكما مخالفا للحكم الذي رتبه على الموضوع أولا ، وله أيضا أن يجعل في صورة الشك في الموضوع حكما موافقا لما حكم به أولا ، كما جعل أصالة الاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال وأصالة البراءة فيما عدا هذه الموارد الثلاثة.

ومنشأ الفرق بين الأحكام الشرعية والاحكام العقلية ، هو أن الأحكام الشرعية إنما تتبع المصالح والمفاسد النفس الأمرية ، وهي تختلف ، فقد تكون المفسدة بمرتبة من الأهمية بحيث لا يرضى الشارع بالاقتحام فيها مهما أمكن ، وقد لا تكون المفسدة بتلك المثابة ، فلو كانت المفسدة على الوجه الأول فعلى

__________________

في حقه يحكم حكما طريقيا بالاقدام علي الامتثال ، لتمامية البيان وان المانع عنه هو العجز الواصل لامجرد الشك فيه ومن هذا الباب ايضا الشك في وجود المزاحم الاهم او المساوي ، اذ مرجع الشك فيه الي الشك في القدرة علي اتيانه ، بل الامر فيه اوضح ، لان الشك في القدرة فرع كون المقتضي للقدرة التكليف بالاهم بوجوده واقعا ، والا فلو كان المقتضي له تنجزه. فيقطع بعدم تنجز الاهم الملازم للقطع بقدرته علي المهم وان كان التكليف به مشكوكا.

ومن هذا الباب : الشك في كل مزاحم ولو كان وجوده مانعا عن محبوبيته ، كما هو الشأن في باب اجتماع الامر والنهي ، اذ المصلحة في اقتضاء التكليف تام بلا قصور فيه ، وانما القصور في المحل من جهة عدم قابليته للتكليف لوجود المزاحم. ولذا نقول : انه مع الجهل بنهي المولي تكليفا او موضوعا يجب الحركة علي وفق المصلحة مالم يكن ذلك ايضا من جهة في قدرته ، والا فالعقل ايضا يحكم علي طبق المزاحم الاهم. والعجب كل العجب عن المقرر. حيث التزم بسراية هذه الجهة الي كل حكم عقلي ، بخيال ان المناط في حكم العقل بالاحتياط عند الشك في القدرة لمحض الشك في حكم العقل بضميمة تصور الشك في مطلق الاحكام العقلية ، فتدبر تري في كلام المقرر من الخلط العظيم.

٤٥٥

الشارع سد باب الوقوع فيها ولو بإيجاب الاحتياط في موارد الشك ـ كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال ـ وإن كانت المفسدة على الوجه الثاني فللشارع الترخيص في الاقتحام في موارد الشك بجعل أصالة البراءة والحل. وطريق إحراز كون المفسدة على أي من الوجهين إنما يكون بقيام الدليل عليه ، فان قام الدليل على وجوب الاحتياط في موارد الشك فهو ، وإلا كان المتبع عمومات أدلة البراءة والحل.

وأما الاحكام العقلية : فحكم العقل بقبح شيء إنما يكون على وجه الاطلاق وفي جميع التقادير ، من غير فرق بين العلم والظن والشك ، فإذا استقل العقل بقبح شيء فيستقل أيضا بقبح الاقدام على مالا يؤمن معه من الوقوع في القبيح العقلي ، فالأصل في جميع المستقلات العقلية هو الاشتغال ، ولا مجال للاخذ بالبراءة فيها.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن العقل إذا استقل بحسن شيء أو قبحه ، فتارة : يكون له حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم بتحقق الموضوع والظن به والشك فيه بل الوهم أيضا ، كحكمه بقبح التشريع ، فان موضوع التشريع وإن كان عبارة عن إدخال ما ليس من الدين في الدين ، إلا أن الذي يستقل العقل بقبحه هو التدين بما لا يعلم أنه من الدين وإسناد شيء إلى الشارع من دون علم بأنه منه ، سواء علم بأنه ليس منه أو ظن أو شك ، فيكفي في القبيح العقلي مجرد احتمال عدم ورود التدين به ، وليس حكم العقل بقبح التشريع في صورة العلم بعدم ورود التدين به في الشريعة بمناط غير مناط حكمه بقبح التشريع في صورة الظن والشك ، بل بمناط واحد يستقل بقبح التدين بما لا يعلم أنه من الدين.

وأخرى : يكون للعقل حكمان : حكم واقعي مترتب على الموضوع الواقعي عند انكشافه والعلم به ، وحكم آخر طريقي في صورة الظن والشك في تحقق الموضوع ، كحكمه بقبح التصرف في أموال الناس ، فان القبيح العقلي هو

٤٥٦

التصرف فيما كان مال الناس واقعا ، وأما عند الشك في كون المال مال الناس فله حكم طريقي بقبح التصرف في المشكوك مخافة أن يكون مال الناس واقعا ، فحكم العقل بقبح التصرف في المشكوك إنما يكون لمحض الاحتياط والطريقية ، نظير حكم الشارع بالاحتياط في باب الفروج والدماء.

إذا تبين ذلك ، فنقول : إنه في القسم الأول من الاحكام العقلية لا تجري الأصول العملية في موارد الشك في الموضوع ولا مجال للتعبد بها. لأن الشك بنفسه موضوع لحكم العقل بالقبح ، فيكون الحكم العقلي محرزا بالوجدان ، وذلك واضح.

وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كان للعقل في مورد الشك حكم طريقي ، فالأصول المحرزة كالاستصحاب تجري ويرتفع بها موضوع الحكم العقلي الطريقي ، سواء كان موافقا لمؤدى الأصل الشرعي أو مخالفا له ، فان حكم العقل بقبح التصرف في المال المشكوك كونه مال الناس إنما هو لمجرد الاحتياط وعدم الامن من الوقوع في مخالفة الواقع ـ نظير حكمه بالاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ـ فيرتفع موضوعه بالاستصحاب المثبت كونه مال الناس أو مال الشخص ، لحصول المؤمن في الثاني واندراج المشكوك في الموضوع الواقعي في الأول ، فلا يبقى مجال للحكم العقلي الطريقي.

هذا إذا كان في المشكوك أصل موضوعي محرز ومثبت لاحد طرفي الشك. وأما إذا لم يكن في المشكوك أصل موضوعي محرز ووصلت النوبة إلى أصالة البراءة والحل ، فالحكم العقلي الطريقي يكون حاكما ومقدما في الرتبة على أصالة البراءة والحل ، لان موردهما أعم من المستقلات العقلية ، فلو قدم أصالة البراءة والحل يبقى الحكم العقلي الطريقي بلا مورد ، وقد تقدم البحث عن ذلك في مباحث البراءة والاشتغال.

٤٥٧

ـ التنبيه السادس ـ

قد اصطلح على بعض أقسام الاستصحاب بالاستصحاب التعليقي ، وقيل بحجيته. والأقوى : ان الاستصحاب التعليقي مما لا أساس له إلا على بعض الوجوه المتصورة فيه ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :

الأول : يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له : من وعاء العين أو وعاء الاعتبار ، إذ لا يعقل التعبد ببقاء وجود مالا وجود له ، وكذا يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي حتى يصح التبعد ببقائه باعتبار حكمه ، وأما الموضوعات التي لا يترتب على بقائها أثر شرعي فلا معنى للتعبد بها ، وذلك كله واضح.

الامر الثاني : الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام ـ كالحنطة والعنب والحطب ونحو ذلك من العناوين ـ تارة : يستفاد من نفس الدليل أو من الخارج أن لها دخلا في موضوع الحكم ، بحيث يدور الحكم مدار بقاء العنوان ويرتفع الحكم بارتفاعه ولو مع بقاء الحقيقة ، كما إذا علم أن لعنوان الحنطة دخلا في الحكم بالإباحة والطهارة ، فيرتفع الحكم بهما بصيرورة الحنطة دقيقا أو عجينا أو خبزا.

وأخرى : يستفاد من الدليل أو من الخارج أنه ليس للوصف العنواني دخل في الحكم ، بل الحكم مترتب على نفس الحقيقة والذات المحفوظة في جميع التغيرات والتقلبات الواردة على الحقيقة التي توجب تبدل ما كان لها من العنوان والاسم إلى عنوان واسم آخر مع انحفاظ الحقيقة.

وثالثة : لا يستفاد أحد الوجهين من الخارج أو من دليل الحكم ، بل يشك في مدخلية العنوان والاسم في ترتب الحكم عليه.

٤٥٨

ولا إشكال في حكم الوجهين الأولين ، فإنه في الأول منهما يجب الاقتصار في ترتب الحكم على بقاء العنوان ، ولا يجوز ترتيب آثار بقاء الحكم مع زوال الوصف العنواني عن الحقيقة ، وفي الثاني يجوز التعدي إلى غير ما اخذ في ظاهر الدليل عنوانا للموضوع ، بل يجب ترتيب آثار بقاء الحكم في جميع التغيرات والتبدلات الواردة على الحقيقة وإن سلب عنها العنوان والاسم الذي كان لها أولا.

وبهذين الوجهين يجمع بين قولهم : « الاحكام لا تدور مدار الأسماء » وبين قولهم : « إنها تدور مدار الأسماء » فان المراد من كونها « لا تدور مدار الأسماء » هو ما إذا كان الحكم واردا على نفس الحقيقة والذات بلا دخل للاسم والعنوان فيه ، والمراد من كونها « تدور مدار الأسماء » هو أنه لو كان للعنوان والاسم دخل في الحكم ، فلا يتوهم المناقضة بين القولين. وقد عرفت : أن استفادة أحد الوجهين إنما يكون من الخارج أو من الدليل ، ولا مجال للاستصحاب في كل من الوجهين ، لأنه لا موقع للاستصحاب مع قيام الدليل على أحدهما.

وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا لم يحصل العلم بأحد الوجهين وشك في كون الوصف العنواني له دخل في الحكم أولا

فان كانت المراتب المتبادلة والحالات الواردة على الحقيقة متباينة عرفا ـ بحيث تكون الذات الواجدة لعنوان خاص تباين الذات الفاقدة له وكان الوصف العنواني بنظر العرف مقوما للحقيقة والذات ـ كان ارتفاع الوصف عن الذات موجبا لانعدام الحقيقة عرفا ، فلا إشكال أيضا في وجوب الاقتصار على ما اخذ في الدليل عنوانا للموضع ولا يجوز التعدي عنه ، لان الذات الفاقدة للوصف موضوع آخر يباين ما اخذ في الدليل موضوعا للحكم ، ولا يجري فيه الاستصحاب ، لأنه يلزم تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

٤٥٩

وأما إذا لم تكن المراتب المتبادلة موجبة لتغير الحقيقة والذات عرفا ، بل كانت المراتب من الحالات التي لا يضر تبادلها في صدق بقاء الحقيقة وكانت الذات عرفا باقية ومحفوظة في جميع التبدلات والتقلبات الواردة عليها أو في بعضها ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب بقاء الحكم ويثبت بقائه في الحالات المتبادلة ، ولا يضر في جريان الاستصحاب عدم صدق العنوان والاسم عند ارتفاع ما اخذ في ظاهر الدليل عنوانا للموضوع بعد بقاء الحقيقة على ما هي عليها.

فمورد الاستصحاب هو ما إذا كان دليل الحكم غير متكفل لحكم المشكوك فيه ولكن كان المشكوك فيه بنظر العرف عين المتيقن ، سواء صدق على المشكوك اسم المتيقن أو لم يصدق عليه اسم المتيقن.

ولا يتوهم : أنه مع صدق اسم المتيقن على المشكوك لا يحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب بل يكفي في ثبوت الحكم للمشكوك نفس الدليل الذي رتب الحكم فيه على المسمى بالاسم الكذائي. فإنه يمكن أن لا يكون لدليل الحكم إطلاق يعم صورة تبدل الحالة التي لا تضر ببقاء الاسم والعنوان ، فنحتاج فني إثبات الحكم مع تبدل بعض حالات الموضوع إلى الاستصحاب.

الامر الثالث : المستصحب إذا كان حكما شرعيا ، فإما أن يكون حكما جزئيا وإما أن يكون حكما كليا ، ونعني بالحكم الجزئي هو الحكم الثابت على موضوعه عند تحقق الموضوع خارجا الموجب لفعلية الحكم ـ على ما تكرر منا من أن فعلية الحكم إنما يكون بوجود موضوعه في الخارج ـ فعند وجود زيد المستطيع خارجا يكون وجوب الحج في حقه فعليا ، وهو المراد من الحكم الجزئي في مقابل الحكم الكلي ، وهو الحكم المنشأ على موضوعه المقدر وجوده على نهج القضايا الحقيقية ، كوجوب الحج المنشأ أزلا على البالغ العاقل المستطيع.

ثم إن الشك في بقاء الحكم الجزئي لا يتصور إلا إذا عرض لموضوعه

٤٦٠