فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

ولكن التحقيق : أن الأمور الاعتبارية مباينة للأمور الانتزاعية ، فان وعاء الاعتبار يباين وعاء الانتزاع.

وتوضيح ذلك : هو أن الشيء تارة : يكون تقرره ووجوده في وعاء العين بحيث يكون بنفسه من الثابتات في الأعيان الخارجية سواء كان من المجردات أو من الماديات.

وأخرى : يكون تقرره ووجوده في وعاء الاعتبار ، فيكون تقرره وثباته بيد من ينفذ اعتباره ، فهو متأصل في عالم الاعتبار ، كما أن الأول كان متأصلا في عالم الأعيان ، غايته أن تأصل الأول ووجوده إنما يكون بتعلق الإرادة التكوينية الإلهية به ، وتأصل الثاني إنما يكون باعتباره ، فهو يوجد بنفس اعتبار من بيده الاعتبار ، كاعتبار السلطان سكة الدراهم والدنانير ، فان السكة المضروبة على الدراهم والدنانير لا مالية لها في حد ذاتها وإنما تكون ماليتها بنفس اعتبار السلطان لها ، ولمكان نفوذ اعتباره يثبت للسكة مالية.

وثالثة : لا يكون للشئ نحو تقرر ووجود لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار ، بل يكون وجوده بانتزاعه عن منشأ الانتزاع ، فهو بنفسه لا تقرر له ، وإنما التقرر لمنشأ الانتزاع ، سواء كان منشأ الانتزاع من الأمور التي لها تقرر في وعاء العين أو كان لها تقرر في وعاء الاعتبار ، فان يصح الانتزاع عن كل من الموجود في عالم الأعيان والموجود في عالم الاعتبار. فالأول : كانتزاع العلية والمعلولية من العلة والمعلول الخارجي التكويني ، والثاني : كانتزاع السببية من العقد الذي صار سببا للملكية والزوجية في عالم الاعتبار ، إذ ليس العقد سببا للملكية تكوينا ، فان الملكية لا وجود لها إلا في وعاء الاعتبار ، فسببها أيضا يكون من الأمور الاعتبارية لا محالة.

وحاصل الكلام : أن الأمور الانتزاعية إنما تكون من خارج المحمول ليس لها ما بحذاء في الخارج ، سواء كان انتزاعها من مقام الذات كالعلية والامكان

٣٨١

والوجوب والامتناع المنتزعة من ذات العلة والممكن والواجب والممتنع بالذات ، أو كان انتزاعها من قيام أحد المقولات التسع بمحله كالفوقية والتحتية والقبلية والبعدية الزمانية والمكانية ، فان الفوقية ليست من مقتضيات ذات الفوق ، بل لأجل قيام خصوصية في الفوق أوجب انتزاع الفوقية منه ، وكذا التحتية والقبلية والبعدية ونحوها.

وهذا بخلاف الأمور الاعتبارية ، فان لها في نفس الامر نحو تقرر وثبات ويكون لها وجود في الخارج (١) غايته أن تقررها النفس الأمري يتحقق بعين

__________________

١ ـ أقول : إن الوجودات الاعتبارية بعدما كانت قوامها بالاعتبار فينبغي شرح حقيقة الاعتبار ، فنقول : إنه لا يكون إلا ما يكون قوام وجوده باللحاظ بحيث لو لم يكن في البين لحاظ لا يكون في البين اعتبار أصلا ، ثم بعد لحاظ شيء مطلقا أو منوطا بوجود شيء ما لم يقصد ثبوته مطلقا أو منوطا بشيء بانشاء مفهومه المسمى بجعله لا يكاد يتحقق وجوده في عالمه ، فإذا تحقق مثل هذا الجعل يعتبر العقل وجوده ، ولكن ليس هذا الوجود موطنه إلا الذهن ، لان متعلق اللحاظ والجعل ليس إلا ما يرى في ذهنه ، غاية الامر لا بوصف ذهنيته ، بل في لحاظه يرى خارجيا ، ولكن مجرد ملاحظته كذلك لا يخرجه عن الذهنية إلى الخارجية ، وحينئذ جميع الأمور الاعتبارية لا يكون الخارج موطن نفسها ، بل إنما موطن مصحح اعتباره من الانشاء اللفظي أو القولي ، ولذا نقول : لا واقعية للاعتباريات إلا بواقع مصحح اختراعه : من الانشاء المتقوم باللحاظ ، كيف! وربما يكون الامر الاعتباري مثل الملكية قائمة بنفس الكلي بوصف كليته التي لا موطن له إلا الذهن ، كما أنه لو فرض في مورد قيامه بأمر خارجي يحصل به إحداث خصوصية خارجية غير متقوم باللحاظ في هذا الشئ. وعليه فما أفيد : من أن الأمور الاعتبارية بنفسها لها وجود خارجي لا نفهم معناه ، كيف! ولا يكون المجود الخارجي إلا ما هو موجود في خارج الذهن واللحاظ بحيث لو لم يكن في العالم لاحظ كان الخارج ظرفا لنفسه ، مع أنه ليس كذلك جزما ، كيف! ولو لم يكن لاحظ أين وجود كلي بوصف كليته معروض ملكية شخص؟ وحينئذ فما أفاد من الفرق بين الأمور الاعتبارية والانتزاعية من هذه الجهة لا معنى له ، وإنما الفرق بينهما من جهة أن الاعتباريات تابع جعل وإنشاء وأن الجعل مصحح اعتبارها ، وفي الأمور الانتزاعية ليس مصحح الانتزاع جعله ، بل هو قهري حاصل في موطنه ، وربما يكون الامر الاعتباري منشأ انتزاع مفهومه ، كمفهوم الملكية بالنسبة إلى حقيقته ، ففي مثله يكون منشأ الانتزاع والمنتزع كلاهما في موطن الذهن ، غاية الامر يفترقان بخصوصية المنشأ والمصحح والتعقل الأولي والثانوي ، كما لا يخفى.

٣٨٢

اعتبارها ، ففرق بين الملكية والفوقية فإنه ليس للفوقية وجود إلا بوجود منشأ انتزاعها ، وأما الملكية فلها وجود اعتباري ، بل يمكن أن يقال : إن الملكية الاعتبارية إنما تكون من سنخ الملكية الحقيقية التي هي إحدى المقولات التسع المعبر عنها بالجدة ، فان حقيقة الملكية هي الواجدية والسلطنة والإحاطة على الشيء ، وهي ذات مراتب أقواها وأتمها ملكية السماوات والأرضين وما فوقهما وما بينهما وما تحتهما لله ( تعالى ) فان إحاطة الباري ( تعالى ) وواجديته للسماوات والأرضين أقوى مراتب الواجدية وأعلى درجات الإحاطة وأي واجدية تكون أقوى من واجدية العلة لمعلولها الذي وجوده يكون من مراتب وجودها!؟ نظير واجدية النفس للصور المخلوقة لها.

وبالجملة : لا إشكال في أن واجدية الله ( تعالى ) لما سواه أقوى مراتب الواجدية ، ثم دون ذلك واجدية اولي الامر الذين هم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فان واجديتهم ـ صلوات الله عليهم ـ إنما تكون من مراتب واجدية الباري ـ عز اسمه ـ ثم دون ذلك واجدية الشخص لما يملكه من أمواله ، فان الشخص واجد لما يملك ومحيط عليه وإن لم يكن تحت يده وكان بعيدا عنه ، ثم دون ذلك الواجدية الحاصلة من إحاطة شيء بشيء ، كالقميص المحيط للبدن عند التقمص والعمامة المحيطة بالرأس عند التعمم.

فظهر : أنه لا وجه لجعل الجدة خصوص المرتبة الأخيرة من الواجدية التي هي أضعف المراتب ، وهي الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالتعمم والتقمص ، بل ينبغي تعميم مقولة الجدة لجميع مراتب الواجدية ، غايته أنه تارة :

__________________

ثم من التأمل فيما ذكرنا أيضا ظهر لك : أن الملكية ليس من مقولة الجدة الموجبة لاحداث هيئة فيما يحيط بشيء خارجا ولا من الإضافات المقولية الموجبة لاحداث هيئة أخرى لما يناسب به خارجا ، كيف! ونرى بالوجدان عدم تغير خصوصية خارجية في عين بحدوث ملكية ، بل تمامها نحو خصوصية ذهنية شبيهة بالخارجيات وإن لم يلتفت إلى ذهنيتها ، كما لا يخفى.

٣٨٣

تكون حقيقة وهي التي تكون من المقولات التسع بمراتبها الثلاث. وأخرى : تكون اعتبارية وهي الملكية التي يعتبرها العرف والعقلاء عند حصول أحد أسبابها. وإن أبيت إلا عن كون الجدة التي هي من المقولات التسع عبارة عن خصوص المرتبة الأخيرة من الواجدية جريا على الاصطلاح ، فلا يضر ذلك بالمقصود في المقام : من أنه ليست الملكية من الأمور الانتزاعية ، وكذا غيرها من سائر الاعتبارات كالحرية والرقية والزوجية ونحو ذلك. وليس المقصود في المقام استقصاء الأمور الاعتبارية ، بل المقصود أن الأمور الاعتبارية متأصلة بالجعل وأن وعاء الاعتبار غير وعاء الانتزاع ، فاستعمال أحدهما في مكان الآخر ليس على ما ينبغي ، وسيأتي أن المجعولات الشرعية كلها تكون من الأمور الاعتبارية ، سواء في ذلك الأحكام التكليفية والوضعية.

ـ الامر الثالث ـ

المراد من الأحكام التكليفية هي المجعولات الشرعية التي تتعلق بأفعال البعاد أولا وبالذات بلا واسطة ، وهي تنحصر بالخمسة ، أربعة منها تقتضي البعث والزجر ، وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ، وواحدة منها تقتضي التخيير وهي الإباحة.

وأما الأحكام الوضعية : فهي المجعولات الشرعية التي لا تتضمن البعث والزجر ولا تتعلق بالافعال ابتداء أولا وبالذات ، وإن كان لها نحو تعلق بها ولو باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية ، سواء تعلق الجعل الشرعي بها ابتداء تأسيسا أو امضاء ، أو تعلق الجعل الشرعي بمنشأ انتزاعها ، على ما سيأتي توضيحه.

وقد اختلفت كلمات الأصحاب في تعدادها ، فقيل : إنها ثلاثة ، وهي السببية والشرطية والمانعية. وقيل : إنها خمسة ، بزيادة العلة والعلامة. وقيل :

٣٨٤

تسعة ، بإضافة الصحة والفساد والرخصة والعزيمة. وقيل : إنها غير محصورة ، بل كل ما لايكون من الحكم التكليفي فهو من الحكم الوضعي ، سواء كان له دخل في التكليف أو في متعلقه أو في موضوعه ، حتى عد من الأحكام الوضعية مثل القضاوة والولاية. بل قيل : إن الماهيات المخترعة الشرعية كلها من الأحكام الوضعية ، كالصوم والصلاة والحج ونحو ذلك.

وقد شنع على القائل بذلك بأن الصوم والصلاة والحج ليست من مقولة الحكم ، فكيف تكون من الأحكام الوضعية؟. ولكن يمكن توجيهه بأن عد الماهيات المخترعة الشرعية من الأحكام الوضعية إنما هو باعتبار كونها مركبة من الاجزاء والشرائط والموانع ، وحيث كانت الجزئية والشرطية والمانعية من الأحكام الوضعية فيصح عد جملة المركب من الأحكام الوضعية ، وليس مراد القائل بأن الماهيات المخترعة من الأحكام الوضعية كون الصلاة مثلا بما هي هي حكما وضعيا ، فان ذلك واضح الفساد لا يرضى المنصف أن ينسبه إلى من كان من أهل العلم.

نعم : عد الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعية لا يخلو عن تعسف (١) خصوصا الولاية والقضاوة الخاصة التي كان يتفضل بهما الامام عليه‌السلام لبعض الصحابة ، كولاية مالك الأشتر ، فان الولاية والقضاوة الخاصة حكمها حكم النيابة والوكالة لا ينبغي عدها من الأحكام الوضعية ، وإلا فبناء على هذا التعميم كان ينبغي عد الإمامة والنبوة أيضا من الأحكام الوضعية ، وهو كما ترى.

__________________

١ ـ أقول : بعدما كانت النيابة والولاية الجعلية والوكالة من الأمور الاعتبارية الجعلية ، لا يرى فرقا فيها مع الملكية الشخصية مثلا في كونها من الأحكام الوضعية دونها ، اللهم إلا أن يعتبر في الحكمية جهة الكلية الثابتة لموضوعات كلية ، وفيه أيضا نظر. وعلى أي حال : لا يقاس الولاية الجعلية بالنبوة والإمامة الثابتة للأشخاص لما فيهم من كمال النفس الآبي عن كونها جعلية ، كما لا يخفى.

٣٨٥

فالتحقيق : أن الأحكام الوضعية ليست بتلك المثابة من الاقتصار ، بحيث تختص بالثلاثة أو الخمسة أو التسعة المتقدمة ، ولا هي بهذه المثابة من التعميم بحيث تشمل الماهيات المخترعة والولاية والقضاوة ، بل ينبغي أن يقال : إن المجعولات الشرعية التي هي من القضايا الكلية الحقيقية على أنحاء ثلاثة : منها ما يكون من الحكم التكليفي ، ومنها ما يكون من الحكم الوضعي ، ومنها ما يكون من الماهيات المخترعة ، فتأمل جيدا.

ـ الامر الرابع ـ

المجعولات الشرعية : إما أن تكون تأسيسية وهي التي لا تكون لها عين ولا أثر عند العرف والعقلاء ، كالأحكام الخمسة التكليفية ، وإما أن تكون إمضائية وهي الأمور الاعتبارية العرفية التي يعتبرها العرف والعقلاء ، كالملكية والزوجية والرقية والحرية ونحو ذلك من منشآت العقود والايقاعات ، فان هذه الأمور الاعتبارية كلها ثابتة عند عامة الناس قبل الشرع والشريعة ، وعليها يدور نظامهم ومعاشهم ، والشارع قد أمضاها بمثل قوله ـ تعالى ـ « أحل الله البيع » و « أوفوا بالعقود » و « الصلح جايز بين المسلمين » ونحو ذلك من الأدلة الواردة في الكتاب والسنة ، وليست الملكية المنشأة بالبيع والزوجية المنشأة بالنكاح والتسالم المنشأ بالصلح من المخترعات الشرعية ، بل هي من الأمور الاعتبارية العرفية التي أمضاها الشارع بزيادة بعض القيود والخصوصيات ، وليست من الأمور الانتزاعية.

وقد خالف الشيخ قدس‌سره في ذلك والتزم بأن هذه الأمور كلها منتزعة عن التكاليف التي في موردها ، فالملكية تنتزع من حرمة تصرف الغير في المال ، والزوجية تنتزع من جواز وطي الزوج وحرمة نكاح الغير لها ، والرقية تنتزع من وجوب إطاعة الرق للمولى ، وهكذا سائر الأمور العرفية الاعتبارية التي لها آثار

٣٨٦

خاصة. وقد أتعب نفسه الزكية في كثير من الموارد في تعيين ما هو المنشأ لانتزاع بعض الوضعيات ، كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد والحجية ونحو ذلك ، لأنه ليس في هذه الموارد حكم تكليفي قابل لان يكون منشأ لانتزاعها ، إذ ما من حكم تكليفي إلا ويشترك فيه مورد آخر : فأي حكم تكليفي يمكن انتزاع لزوم العقد منه؟ فان حرمة التصرف فيما انتقل عنه يشترك فيها الغصب أيضا ، فلا يمكن أن تكون حرمة التصرف فيما انتقل عنه منشأ لانتزاع لزوم العقد ، إلا بأن يقيد عدم جواز التصرف بما بعد الفسخ.

وبالجملة : ليس من الأحكام الوضعية ما يختص بحكم تكليفي لا يشاركه غيره فيه ، فكيف يكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟ ودعوى أن الحكم الوضعي ينتزع من جملة من الأحكام التكليفية التي بجملتها تختص به كما ترى! مع أن هذا أيضا في بعض المقامات لا يمكن ، فان الحجية والطريقية من الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجية منه (١) كما أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في حجية الظن ، ولذلك التزم في بعض الوضعيات بأنها من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، كالطهارة والنجاسة.

وليت شعري! أنه ما الداعي إلى تبعيد هذه المسافة وإتعاب النفس بتلك المثابة؟ وما المانع من أن تكون هذه الأمور متأصلة بالجعل في وعاء الاعتبار ويكون وجودها التكويني بعين وجودها الاعتباري؟ والذي يدل على ذلك هو أن مثل هذه الاعتباريات متداولة عند من لم يلتزم بشرع وشريعة كالدهري والطبيعي مع أنه ليس عنده إلزام وتكليف يصح انتزاع هذه الأمور منه.

__________________

١ ـ أقول : ما أفيد كذلك في الحجية بمعنى الوسطية للاثبات ، وإلا فبمعنى المنجزية والمعذرية فلا محيص من انتزاعها من التكليف ، كما حققناه في جعل الطرق بعد توضيح فساد مجرد جعل الوسطية تنزيلا للمنجزية ، وتوضيحه موكول إلى محله.

٣٨٧

فالتحقيق : أن الاعتباريات العرفية ليست من المنتزعات ، بل هي متأصلة بالجعل قد أمضاها الشارع ، والتكليف إنما ينتزع منها ، وقد استقصينا الكلام في ذلك في باب الامارات.

ـ الامر الخامس ـ

قد تقدم منا مرارا : أن المجعولات الشرعية ليست من القضايا الشخصية الخارجية ، بل هي من القضايا الكلية الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها (١) وهذا من غير فرق بين الأحكام التكليفية التأسيسية وبين الأحكام الوضعية الامضائية ، غايته أن موضوعات التكاليف إنما تكون من المخترعات الشرعية كنفس التكاليف ، فان العاقل البالغ المستطيع لا يكاد يكون موضوعا لوجوب الحج ما لم يجعله الشارع موضوعا ليترتب عليه وجوب الحج.

وأما موضوعات الأحكام الوضعية : فقد تكون تأسيسية ، وقد تكون إمضائية كنفس الحكم الوضعي.

فالأول : كأخذ السيادة والفقر موضوعا لتملك السادات والفقراء الخمس والزكاة ، فإنه لو لم يعتبر الشارع ذلك لا تكاد تكون السيادة والفقر موضوعا للتملك.

والثاني : كالعقد والسبق والرماية وحيازة المباحات ونحو ذلك من الموضوعات والأسباب العرفية للملكية ونحوها من الاعتباريات ، فان السبب الشرعي للملكية في هذه الأمور هو السبب العرفي ، غايته أن الشارع تصرف فيه بزيادة قيد أو نقصانه ، وليست ماهية السبب من المخترعات الشرعية. وعلى

__________________

١ ـ أقول : قد مر منا مرارا أيضا أن إدخال القضايا الطلبية والتكليفية في القضايا الحقيقية لا يخلو عن تعسف ، وربما نشير إليه بعد ذلك أيضا ( إن شاء الله تعالى ).

٣٨٨

جميع التقادير : المجعول الشرعي تأسيسا أو إمضاء إنما هو معنى كلي مترتب على موضوعه ، نحو ترتب المعلول على علته والعرض على معروضه ،

ثم لا يخفى عليك : أن مرجع الموضوع والسبب والشرط في باب التكاليف وفي باب الوضعيات إلى معنى واحد ، وهو الامر الذي رتب الحكم الشرعي عليه ، فقد يعبر عنه بالموضوع وأخرى يعبر عنه بالسبب ، كما أنه قد يعبر عنه بالشرط ، فيصح أن يقال : إن العقد الكذائي موضوع للملكية أو سبب أو شرط لها ، وكذا يصح أن يقال : إن الدلوك مثلا موضوع لوجوب الصلاة أو شرط لها أو سبب ، فان مرجع الجميع إلى أن الشارع رتب الملكية ووجوب الصلاة على العقد ودلوك الشمس.

نعم : جرى الاصطلاح على التعبير عن الامر الذي رتب الحكم الوضعي عليه بالسبب فيقال : إن العقد سبب للملكية والزوجية ، والتعبير عن الامر الذي رتب الحكم التكليفي عليه بالموضوع أو الشرط فيقال : إن العاقل البالغ المستطيع موضوع لوجوب الحج أو إن الدلوك شرط لوجوب الصلاة ، وهذا مجرد اصطلاح ، وإلا فبحسب النتيجة كل من الموضوع والشرط والسبب يرجع إلى الآخر ، وذلك واضح.

ـ الامر السادس ـ

قد تقدم منا أيضا في مبحث الأوامر : أن شرائط الجعل غير شرائط المجعول (١) فان شرائط المجعول ـ على ما عرفت ـ عبارة عن موضوعات التكاليف

__________________

١ ـ أقول : ما أفيد في الفرق إنما يتم في الأحكام الوضعية التي قوام حقيقتها بالجعل وأن الجعل واسطة في ثبوتها ، وأما الأحكام التكليفية التي روحها إرادة المولى المبرزة بانشاء أو إخبار فهي آبية عن مرحلة الجعلية الاعتبارية ، لما تقدم سابقا بأن لب الإرادة وإبرازها ليس من الجعليات ، بل أحدهما من مقولة الكيف والآخر من مقولة الفعل ، وهما خارجان عن عالم الاعتبارات الجعلية ، ولم يبق في البين إلا مقام البعث والتحريك والالزام ،

٣٨٩

والوضعيات ، كالعاقل البالغ المستطيع الذي اخذ موضوعا لوجوب الحج وكالعقد المركب من الايجاب والقبول الذي جعل موضوعا للملكية والزوجية.

وأما شرائط الجعل : فهي عبارة عن الدواعي والملاكات النفس الأمرية

__________________

وهذه اعتبارات منتزعة عن مقام إبراز الإرادة الخارجية غير مربوط بعالم الجعل.

نعم : لا بأس بدعوى الجعل بمعنى التكوين والايجاد ، ولو بلحاظ إيجاد المنشأ القهري لا القصدي للاعتبارات المزبورة ، وهذا المقدار غير مرتبط بعالم الجعلية التي عبارة عن ايقاع نفس المعنى بقصد ثبوتها بانشائها اللفظي أو الفعلي ، كما هو الشأن في الأحكام الوضعية ، وحينئذ فكل ما هو يدعوه على إرادته مطلقا أو منوطا هو الداعي على إبراز إرادته ، من دون فرق فيها بين دواعي الجعل والمجعول ، كما لا يخفى ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه ترى أيضا بطلان إناطة لب الإرادة وإبرازها على وجود موضوع خطابه خارجا ، بل في ظرف لحاظ الموضوع خارجيا يكون إرادته فعليا ، ففرض وجود الموضوع في التكليفيات لا يوجب فرض وجود الإرادة ولا فرض إبرازه.

نعم : مرتبة محركيته وفاعليته خارجا ينوط بوجود الموضوع خارجا ، وهذه المرتبة مرتبة تأثير الخطاب بوجوده لا مرتبة نفس الخطاب بمضمونه ، ولذا نقول : بأنه ينوط بالعلم بالخطاب أيضا مع حفظ مضمون الخطاب في ظرف الجهل جزما ، وحينئذ كيف يمكن دعوى فرضية مضمون الخطاب الحاكي عن لب الإرادة بفرضية موضوعه ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، فتدبر.

ثم إن مرتبة المحركية لما كان ناشئا عن مقام انطباق المراد مع المأتي به خارجا ، فهذا الانطباق تابع كيفية دخل فرض وجوده في إرادته تبعا لدخله في الاحتياج إلى مرامه ، فتارة : يكون الشيء بوجوده السابق أو المقارن دخيلا في الاحتياج إليه ، وأخرى : بوجوده لاحقا وفي موطنه كان دخيلا في الاحتياج إلى الشيء فعلا ، نظير دخل مجيء الضيف في يوم الجمعة في الاحتياج إلى شراء اللحم في يوم الخميس ، وفي هذه الصورة ربما يختلف مقام محركية الخطاب من حيث إناطته بوجود الشيء فعلا أم متأخرا.

وتوهم : أن كل ما هو دخيل في الحكم فلابد من الاخذ في موضوعه وحينئذ يستحيل مجيء الحكم بلا موضوع وكلما يرى من هذا القبيل لابد من إرجاعه إلى التعقب ، مدفوع بأنه على فرض التسليم لهذه الكلية نقول : بعدما كان الموضوع للإرادة الفعلية هو فرض وجوده ولو في موطنه فهذا المعنى لا قصور فيه بالنسبة إلى الوجودات المتأخرة ، وإنما الكلام في مقام محركيته ، ففي هذا المقام بعدما كانت المحركية من لوازم تطبيقه من البديهي أن تطبيق كل موضوع يكفيه أخذه ولو لاحقا ، كما هو ظاهر ، فتدبر في المقام ، فإنه من مزال الاقدام من حيث رميهم الشرائط المتأخرة إلى بداهة البطلان ، مع أنهم لا يأتون فيه إلا رعدا وبرقا!!.

٣٩٠

التي تقتضي الجعل والتشريع ، والفرق بينهما مما لا يكاد يخفى ، فان شرائط الجعل إنما تكون من الأمور الخارجية التكوينية التي لا تكاد تنالها يد الجعل والتشريع ، وهي إنما تؤثر في الجعل بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، لان وجودها الواقعي متأخر عن الجعل والمجعول ، فان الدواعي عبارة عن العلل الغائية المترتبة على وجود الشيء خارجا ، فلا يمكن أن يكون وجودها الخارجي علة للجعل ، بل العلة للجعل هي وجودها العلمي ، ومن غير فرق بين إرادة الآمر وإرادة الفاعل ، فان انقداح إرادة الامر أو الفعل تتوقف علين العلم بترتب الغاية على المأمور به وعلى الفعل ، سواء وافق العلم للواقع أولا ، بداهة أن العلم بوجود الأسد في الطريق يوجب الفرار عنه ، كان في الطريق أسد أو لم يكن ، هذا حال شرائط الجعل.

وأما شرائط المجعول : فهي بوجودها الخارجي تؤثر في تحقق المجعول وترتبه عليه ، ولا أثر لوجودها العلمي ، فان نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، وإن لم تكن من العلة والمعلول حقيقة ، وإلا أنه من حيث عدم تخلف الحكم عن موضوعه يلحق بباب العلة والمعلول ، فإنه بعدما رتب الحكم على شيء واخذ مفروض الوجود في ثبوت الحكم وتحققه لا يحاد يمكن تخلف الحكم عن ذلك الشيء ، بأن يوجد الحكم قبل وجوده أو بعد وجوده بزمان ، وإلا يلزم الخلف وأن ما فرض كونه موضوعا لم يكن موضوعا.

ومن هنا يظهر : أن ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره في باب الشرط المتأخر : من أن الشرط هو اللحاظ والوجود العلمي المتقدم على المشروط فلا يلزم انخرام قاعدة تقدم الشرط على المشروط ، إنما هو خلط بين شرائط الجعل وبين شرائط المجعول ، فان اللحاظ والوجود العلمي إنما ينفع في شرط الجعل ، والمبحوث عنه في باب الشرط المتأخر إنما هو تأخر شرط المجعول الذي اخذ شرطا بوجوده الخارجي. وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين شرائط الجعل

٣٩١

وشرائط المجعول ، وقد أشرنا في مبحث الأوامر إلى جملة منها ، وسيأتي في المقام أيضا الإشارة إلى بعضها.

إذا تمهدت هذه الأمور ، فاعلم :

أن الأحكام الوضعية ، منها : ما تكون متأصلة بالجعل ، ومنها : ما تكون منتزعة عن الوضع أو التكليف الشرعي.

أما الأولى : فكالأمور الاعتبارية العرفية ، كالملكية والرقية والزوجية والضمان وغير ذلك منشآت العقود والايقاعات وما يلحق بها ، فإنها ـ على ما تقدمت ـ متأصلة في وعاء الاعتبار وليست منتزعة عن الأحكام التكليفية ، بل في بعضها لا يتصور ما يصلح لان يكون منشأ الانتزاع ، كالحجية والطريقية ، وقد تقدم تفصيل ذلك في جعل الطرق والامارات.

وأما الثانية : فكالجزئية والشرطية والمانعية والسببية (١) فان هذه الأمور

__________________

١ ـ أقول : بعدما كان المراد من انتزاع الوضع عن التكليف كون الوضع بحقيقته نحو خصوصية مترتبة على التكليف بحيث لولا التكليف لا يكون هذه الخصوصية موجودة لا أن المراد من الانتزاع مجرد إضافة شيء إلى التكليف ، كيف! والمكان والزمان والمكلف كلها في إضافتها إلى التكليف منوطة بوجوده ، وحيث عرفت ذلك فنقول :

إن جزئية الشيء عبارة عن نحو ارتباط بين الوجودات الغير الحاصلة حقيقة إلا بالتكليف الحاوي لجميعها. وأما الشرطية والمانعية للمكلف به : فلا ينتزع إلا عن مرحلة التقيد المأخوذ في الموضوع القائمة به التكليف ، وحينئذ فجهة القيدية للشئ إنما هو محفوظ في الرتبة السابقة عن التكليف وأن التكليف قائم به كنفس الذات ، وإنما التكليف منشأ لإضافة القيد إلى الواجب ، فالتكليف في مثله مقوم إضافة القيد إليه بملاحظة تعلق التكليف بتقيده ، ولقد عرفت : أن هذه الإضافة أجنبية عن مقام انتزاعية الشيء بحقيقته عن التكليف ، وإنما هو موجب لصدق إضافة الشيء المحفوظ في نفسه إلى التكليف ، كإضافة الزمان والمكان إليه ، ولذا نقول : إن الشرطية والمانعية ليس إلا كذات المقيد من الأمور الواقعية المضافة الي التكليف ، لا انها بحقايقها منتزعة عن التكليف ، فتدبر.

نعم : في السببيه لنفس الحكم فانما هو منتزع عن اناطة شيء بشيء ، وحينئذ فان كان المنوط به من الامور

٣٩٢

كلها انتزاعية لا تنالها يد الجعل التأسيسي والامضائي ، لا استقلالا كجعل وجوب ذي المقدمة ، ولا تبعا كجعل وجوب المقدمة.

أما الجزئية والشرطية والمانعية : فواضح أنها من الانتزاعيات ، سواء كان منشأ الانتزاع تكليفا أو وضعا.

فالأول : كالتكليف بعدة من الأمور المتباينة التي يجمعها وحدة الغرض ، فإنه من تعلق التكليف بكل واحد منها وانبساطه عليها تنتزع الجزئية والشرطية والمانعية حسب اختلاف كيفية تعلق التكليف بها ، وبعد انبساط التكليف عليها تنتزع الشرطية والجزئية والمانعية قهرا ، ولا يعقل بعد ذلك جعل شيء آخر جزء أو شرطا للمأمور به أو مانعا عنه ، إلا بنسخ التكليف الأول وإنشاء تكليف آخر يتعلق بما يعم ذلك الشئ.

والثاني : كالملكية المترتبة على العقد المركب من الايجاب والقبول بما له من الشرائط والموانع فإنه بعد ترتب الملكية عليه تنتزع جزئية الايجاب والقبول ، وشرطية القبض في المجلس في بيع الصرف والسلم ، ومانعية زيادة أحد العوضين عن الآخر في بيع المكيل والموزون ، وذلك كله واضح مما لا إشكال فيه ولا خلاف.

وإنما الخلاف وقع في جعل السببية ، فعن بعض : أن السببية بنفسها مما

__________________

الواقعية المضافة إلى التكليف ، لا أنها بحقايقها منتزعة عن التكليف ، فتدبر. نعم : في السببية لنفس الحكم فإنما هو منتزع عن إناطة شيء بشيء ، وحينئذ فان كان المنوط به من الأمور الواقعية كالحرارة بالنسبة إلى النار ، فالسببية أيضا من الأمور الواقعية ، وإن كان من الأمور الجعلية ، فالإناطة المزبورة أيضا مجعولة تبع جعل المنوط ، لا أنه مجعول مستقل ولا أنه منتزع عن نفس التكليف ، إذ مع عدم جعل الشيء منوطا يستحيل انتزاع السببية لشيء له ، كما هو ظاهر.

وحيث عرفت أن الإناطة تبع اعتبارية المنوط ، فكما أمكن تعلق الجعل بدوا بالمنوط وكان النظر في مقام الجعل إلى الإناطة تبعا ، كذلك يكون النظر إلى جعل المنوط تبعا ، وبهذه العناية أمكن دعوى جعلية السبب في الاعتباريات ، وفي هذا المقام لا معنى لدعوى واقعية السببية وعدم قابليته للجعل وأن السببية إنما هو من لوازم الذات ، إذ هو أجنبي عن السببية للأمور الاعتبارية ، كما هو ظاهر.

٣٩٣

تنالها يد الجعل ، بل هي المجعولة في باب الوضع والتكاليف وإنما الوضع والتكليف ينتزع عنها ، والمجعول الشرعي تأسيسا أو إمضاء إنما هو سببية العقد للملكية وسببية الدلوك لوجوب الصلاة والاستطاعة لوجوب الحج وغير ذلك من أسباب الوضع وموضوعات التكاليف.

وحكي عن بعض : استقلال كل من السبب والمسبب بالجعل ، فللشارع جعلان : جعل تعلق بسببية العقد والدلوك للملكية ووجوب الصلاة ، وجعل آخر تعلق بالملكية والوجوب عقيب العقد والدلوك. ولا يخفى استحالة ذلك ، فان أحد الجعلين يغني عن الجعل الآخر ، فيلزم لغوية أحدهما.

بل التحقيق استحالة جعل السببية مطلقا سواء قلنا بجعل المسبب معها أو لم نقل ، وإنما المجعول الشرعي هو نفس المسبب وترتبه على سببه سواء كان المجعول من مقولة الوضع أو التكليف ، وإلا يلزم أن لا يكون الوجوب فعلا اختياريا للشارع بل كان الوجوب وغيره من التكاليف والوضعيات يحصل قهرا بلا إنشاء من الشارع ، فان ترتب المسبب على سببه وحصول المعلول عقيب علته أمر قهري لا يعقل فيه التخلف ولا يمكن أن يدخله الاختيار والإرادة ، فلو كان المجعول هو سببية الدلوك للوجوب لزم عدم كون الوجوب من المنشآت الشرعية ، وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به.

هذا ، مضافا إلى أن السببية لا تقبل الجعل لا تكوينا ولا تشريعا لا أصالة ولا تبعا ، بل الذي يقبل الجعل هو ذات السبب ووجوده العيني ، وأما السببية فهي من لوازم ذاته ، كزوجية الأربعة ، فان السببية عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب ، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات لا يمكن أن تنالها يد الجعل التكويني فضلا عن الجعل التشريعي ، بل هي كسائر لوازم الماهية تكوينها إنما يكون بتكوين الماهية وإفاضة الوجود إلى الذات ، فعلية العلة وسببية السبب ـ كوجوب الواجب

٣٩٤

وإمكان الممكن وامتناع ـ الممتنع إنما تكون من خارج المحمول تنتزع عن مقام الذات ليس لها ما بحذاء لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار ، فالعلية لا تقبل الايجاد التكويني ، فضلا عن الانشاء التشريعي.

ودعوى : أن الانشاء خفيف المؤنة يمكن إنشاء الممتنعات ، واضحة الفساد ، فإنه ليس الكلام في الانشاء بمعنى حركة اللسان ، بل الكلام في الانشاء الذي يتعقبه وجود المنشأ خارجا في وعاء الاعتبار والتشريع.

وحاصل الكلام : أن السببية لا يمكن أن تكون مجعولة لا تكوينا ولا تشريعا لا أصالة ولا تبعا ، وإنما هي تنتزع من ذات العلة التكوينية في التكوينات ، ومن ترتب المسبب الشرعي على سببه في التشريعيات ، فمن قول الشارع : « تجب الصلاة عند الدلوك » و « تتحقق الملكية عند العقد » تنتزع سببية الدلوك والعقد للوجوب والملكية.

إزاحة شبهة :

للمحقق الخراساني قدس‌سره كلام في المقام يظهر منه الخلط بين علل التشريع وموضوعات الاحكام ، فإنه قال قدس‌سره ما حاصله : إن السببية لا يمكن انتزاعها عن التكليف أو الوضع ، فإنهما متأخران عن وجود السبب بما له من الاجزاء والشرائط والموانع ، بداهة أنه لولا العقد أو الدلوك لا يكاد يتحقق وجوب الصلاة أو الملكية ، لأن المفروض : أن العقد والدلوك سبب لهما ولا يمكن تقدم المسبب على السبب ، فالتكليف أو الوضع المتأخر عن وجوب السبب لا يعقل أن يكون منشأ لانتزاع السببية ، فسببية العقد للملك والدلوك لوجوب الصلاة إنما تنتزع من ذات العقد والدلوك لخصوصية تكوينية في الذات تقتضي السببية ، لما بين السبب والمسبب من ارتباط خاص وعلقة مخصوصة ، وإلا لزم أن يؤثر كل شيء في كل شيء ، فليست السببية مما تنالها يد التشريع

٣٩٥

لا استقلالا ولا تبعا ، أي لا تكون بنفسها من المجعولات الشرعية ولا منتزعة عن المجعول الشرعي ، بل هي مجعولة تكوينا بتبع جعل الذات ، وكذا جزء السبب وشرطه ومانعه ، فان جزئية شيء للسبب أو شرطيته أو مانعيته تتبع نفس المركب. نعم : جزئية شيء لمتعلق التكليف أو شرطيته أو مانعيته إنما تنتزع من تعلق التكليف بعدة أمور متباينة بالذات يقوم بها غرض واحد ، ففرق بين الجزئية والشرطية والمانعية في باب متعلقات التكاليف وفي باب الأسباب بعد اشتراك الجميع في كونها غير مجعولة بالأصالة ، إلا أنها في الأول تنتزع من تشريع التكليف بالمركب ، وفي الثاني تنتزع من تكوين السبب المركب. هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره في المقام.

ولا يخفى ضعفه ، فإنه لا ننكر أن في الدلوك والعقد خصوصية ذاتية تكوينية اقتضت تشريع الوجوب وإمضاء الملكية ، إلا أن تلك الخصوصية إنما تكون سببا لنفس التشريع والامضاء لان لا يخلو التشريع والامضاء عن الداعي الذي يتوقف عليه كل فعل اختياري ، ولكن هذا ليس محل الكلام في المقام (١) بل

__________________

١ ـ أقول : لو ترى عبارة الكفاية ترى صريحا في أن همه إنكار جعل السببية بمعنى التأثير والتأثر لشيء وأن عنوان الدلوك وعدم جعلية شرطيته بنحو الفرض وأنه لو كان شرطا حقيقيا يستحيل الجعل ، لأنه إما واجد لملاك الشرطية الواقعية أو فاقد وعلى أي تقدير : لا معنى لجعل سببيته ، كما أنه لو كان الغرض من انتزاع السببية بملاحظة إناطة الوجوب به في الخطاب فهو ليس بسبب حقيقي ، فحينئذ من أين استفاد الخلط المزبور من كلامه؟ نعم : لو جعل محط البحث مثل العلم بالمصلحة للإرادة أو لجعل الوجوب صح حينئذ دعوى خلط البحث في شرطية شيء للوجوب الواقع في حيز الخطاب وشرطية شيء لأصل الجعل الذي هو أمر واقعي محض ، بلا تصور جعل أو انتزاع عن المجعول في مثله. ولكن صريح كلامه جعل محط البحث مثل دلوك الشمس الواقع في حيز الخطاب ، غاية الامر أنكر في حقه حقيقة الشرطية والسببية حسب مختاره بأن حقيقة السببية لابد وأن يكون لخصوصية واقعية ، وأتم مدعاه بأنه لو كان كذا لكان كذا ، كما بينا ، وادعى صريحا بأن السببية المنتزعة له من إناطة الوجوب به في حيز الخطاب ادعائي لا حقيقي ، وهذا المقدار أيضا مما التزمت به في الورق السابق ، فراجع. وليست شعري! على م هذا الرد والايراد ، بحيث جعل له عنوان مخصوص مع لسان الجسارة عليه ، وكم له من نظير! اللهم احفظنا!.

٣٩٦

محل الكلام إنما هو في سبب المجعول والممضى وهو نفس الوجوب والملكية ، ومن المعلوم : أن سببية الدلوك والعقد للوجوب والملكية إنما تنتزع من ترتب الوجوب والملكية على الدلوك والعقد ، إذ لولا أخذ الدلوك والعقد موضوعا للوجوب والملكية لم يكن الدلوك والعقد سببا لهما.

وبالجملة : دواعي الجعل غير موضوعات التكاليف ، فان دواعي الجعل متأخرة في الوجود عن المجعول متقدمة عنه في اللحاظ.

وأما موضوعات التكاليف : فهي متقدمة عنها في الوجود ، لان نسبة الموضوع إلى التكليف نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يمكن أن يتقدم الحكم عما اخذ موضوعا له ، وإلا يلزم الخلف والمناقضة ، فالخصوصية التي تكون في موضوع التكليف والوضع إنما تكون من علل التشريع ودواعي الجعل ، وهي كما أفاده من الأمور الواقعية التكوينية التي لا تنالها يد الجعل التشريعي لا استقلالا ولا إمضاء ، لا أصالة ولا تبعا ، ولا يمكن انتزاعها عن التكليف الذي كان انشائه بلحاظها ، إلا أن ذلك كله خارج عن محل الكلام ، لما عرفت : من أن محل الكلام إنما هو في موضوع التكليف والوضع ، وسببيته إنما تنتزع من ترتب التكليف والوضع عليه.

وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين علل التشريع وموضوعات التكاليف وبين كون المجعولات الشرعية من القضايا الخارجية الجزئية أو كونها من القضايا الحقيقة الكلية ، فإنه بناء على أن تكون الاحكام من القضايا الشخصية تخرج عن حريم النزاع في المقام ، فإنه ليس في البين سببية ولا مسببية ، بل المجعول الشرعي إنما يكون حكما خاصا لشخص خاص ، فليس هناك موضوع اخذ مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه حتى ينازع في أن المجعول الشرعي هل هو نفس الحكم أو سببية الموضوع له؟ وقد استقصينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في الجزء الأول من الكتاب عند البحث عن

٣٩٧

الواجب المشروط ، فراجع وتأمل جيدا.

تتمة :

قد عد من الأحكام الوضعية الصحة والفساد ، والطهارة والنجاسة ، والرخصة والعزيمة.

أما الصحة والفساد : فعدهما من الأحكام الوضعية إنما يستقيم على أحد المعنيين للصحة والفساد لا مطلقا. وتوضيح ذلك : هو أنه

تارة : يراد من الصحيح كون الشيء واجدا للخصوصية التي ينبغي أن يكون واجدا لها بحسب طبعه (١) كما يقال : إن هذا البطيخ أو الخل صحيح ، أي كون واجدا للخصوصية التي يقتضيها طبع البطيخ والخل ، ويقابله الفاسد وهو الفاقد لتلك الخصوصية. وكذا يقال : إن هذه الصلاة صحيحة ، أي كونها واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون الصلاة واجدة لها : من الملاك والمصلحة القائمة بها ، ويقابلها الفاسدة وهي كون الصلاة فاقدة لتلك الخصوصية.

والصحة والفساد بهذا المعنى إنما ينتزعان عن مقام الذات قبل تعلق الامر بها ، وتكون تلك الخصوصية منشأ لتعلق الامر بالذات ، كالخصوصية القائمة

__________________

١ ـ أقول : لا نعني من الصحة إلا تمامية الشيء بلحاظ الجهة المرغوبة الشيء ، فهذه الجهة المرغوبة تارة من الأمور الواقعية ، وأخرى من الأمور الجعلية ، فالتمامية بلحاظ الجهة الأولى ليس إلا من الأمور الواقعية. وأما التمامية بلحاظ الجهة الثانية فلا يكون منتزعا إلا من هذه الجهة ، لأنه لو لم يكن تلك لا مجال لانتزاع تمامية الشيء من هذه الجهة.

ثم إن الجهة تارة يراد منه التكليف أو الوضع في أبواب المعاملات ، وأخرى يراد منه جهة مسقطية القضاء والإعادة الذي هو يلازم الاجزاء ، وهذه الجهة أيضا لما كان دائرا مدار الوفاء بالغرض في الجملة أو تفويته ، فلا يكون إلا من الأمور الواقعية ، كما لا يخفى. وبالجملة نقول : إن انتزاعية الصحة وواقعيته تابع جعلية الجهة الملحوظة في التمامية وعدمه ، كما هو ظاهر ، وحينئذ فمنع انتزاعية الصحة مطلقا لا وجه له ، كما هو واضح ، فتدبر.

٣٩٨

بذات السبب ، وعلى هذا تكون الصحة من الدواعي وعلل التشريع غير منتزعة عن التكليف المتأخر عنها. ولعل المراد من الفاسد في قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بكير « فالصلاة في شعره ووبره وصوفه وروثه وألبانه وكل شيء منه فاسدة لا يقبل الله تلك الصلاة » الخبر (١) هو هذا المعنى ، فيكون المراد من فساد الصلاة : هو أن الصلاة في الوبر والصوف ونحوه لا تكون واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون عليها وفاقدة للملاك والمصلحة التي اقتضت الامر بالصلاة. وعلى كل حال : الصحة والفساد بهذا المعنى ليسا من الأحكام الوضعية الشرعية ، بل هما من الأمور المجعولة بتبع جعل الذات تكوينا.

وأخرى : يراد من الصحيح كون الشيء موافقا لما تعلق به التكليف أو الاعتبار ، فيقال : إن هذه الصلاة صحيحة أي كونها موافقة للمأمور به ، وهذا العقد صحيح أي كونه موافقا لما اعتبر في موضوع الملكية ، ويقابله الفاسد وهو عدم كونه موافقا للمأمور به أو لموضوع الامر الاعتباري. وهذا المعنى من الصحة والفساد هو الذي ينبغي البحث عنه في كونه من الأحكام الوضعية الشرعية أولا.

وعلى تقدير أن يكون من الأحكام الوضعية ، فهل هو متأصل بالجعل تأسيسا أو إمضاء؟ أو أنه منتزع عن الوضع والتكليف؟ فقد يقال بل قيل : بالتفصيل بين الصحة والفساد في باب المعاملات وفي باب العبادات ، ففي الأول : تكون الصحة والفساد حكمين مجعولين شرعيين ، وفي الثاني : يكونان منتزعين. بل قد قيل : بالتفصيل في خصوص العبادات أيضا ، فالصحة والفساد اللاحقان للعبادة باعتبار الامر الواقعي ـ أي كونها موافقة للامر الواقعي ومخالفة له ـ يكونان انتزاعيين ، والصحة والفساد اللاحقان لها باعتبار الامر الظاهري

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ٢ من أبواب لباس المصلي الحديث ١.

٣٩٩

ـ من حيث كونه مجزيا عن الواقع أو غير مجز ـ يكونان متأصلين في الجعل.

وهذا التفصيل إنما نشأ من توهم أن إجزاء الامر الظاهري وعدمه عبارة عن الصحة والفساد ، كما أن التفصيل بين العبادات والمعاملات إنما نشأ من توهم أن إمضاء المعاملة عبارة عن الحكم بصحتها.

هذا ، ولكن التحقيق : أن الصحة والفساد ليسا من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ، بل في بعض الموارد يمكن منع كونهما منتزعين عن المجعول الشرعي ، فضلا عن تأصلهما بالجعل.

وتوضيح ذلك : هو أن الصحة والفساد ـ بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به الواقعي أو الظاهري ـ إنما ينتزعان من نفس فعل المكلف ، فان كان مطابقا للمأمور به ينتزع عنه الصحة ، وإن كان مخالفا ينتزع عنه الفساد ، ولا ينتزعان من نفس التكليف بالفعل حتى يكون منشأ الانتزاع مجعولا شرعيا ، وكذا الكلام في الصحة والفساد بمعنى مطابقة المأتي به خارجا لما هو سبب الحكم الوضعي : من العقد والايقاع وما يلحق بهما.

نعم : يصح بنحو من العناية والتوسعة القول بكونهما منتزعين عن المجعول الشرعي ، باعتبار أن المطابقة وعدمها إنما تلاحظان بالنسبة إلى متعلق التكليف والوضع.

وأما الصحة والفساد في الامر الظاهري باعتبار الاجزاء وعدمه : فليس الاجزاء وعدمه عبارة عن الصحة والفساد ، بل قد عرفت في بعض الأمور السابقة : أن الاجزاء في الموارد التي قام الدليل عليه يرجع إما إلى التصرف في الواقع بوجه وإما إلى الاكتفاء بما يقع امتثالا للواقع ، وعلى كلا التقديرين : يلزمه الصحة ، وليست هي عين المجعول الشرعي ، فالصحة والفساد ليسا من المجعولات بالأصالة ، بل إما أن يكونا منتزعين عن المجعول الشرعي ، وإما أن يكونا منتزعين عن غيره ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في مبحث النهي عن

٤٠٠