فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس‌سره في وجه عدم صحة الاستدلال بالرواية على حجية الاستصحاب. ثم ذكر تقريبا آخر للتمسك بالرواية ، ولعله ينطبق على ما سيأتي من المختار في تقريب الاستدلال. ثم قال بعد ذلك ما حاصله : أن الرواية لابد إما من حملها على التقية وهو مخالف للأصل ، وإما من حملها على الاخذ باليقين والاحتياط ، وهو وإن كان بعيدا إلا أنه لا محيص عنه.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلامه من النظر

أما أولا : فان المصطلح عليه في الاخبار هو التعبير عن الوظيفة المقررة للشك في عدد الركعات بالبناء على اليقين أو العمل على اليقين ، وأين هذا من قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك »؟ فإنه ليس في الوظيفة نقض لليقين بالشك ، بل العناية المصححة لاستعمال كلمة « النقض » تنحصر في باب الاستصحاب وفي باب الشك الساري ، فحمل قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » على البناء على الأكثر والعمل بالاحتياط في غاية البعد ، بل كاد أن لا يصح إطلاق « النقض » على ذلك.

وأما ثانيا : فلان حمل الرواية على التقية من حيث تطبيق المورد على الاستصحاب ليس بأبعد من حملها على الوظيفة في الشك في عدد الركعات ، بل حملها على التقية أقرب فإنه ليس فيه تصرف فيما يقتضيه ظاهر قوله عليه‌السلام « الا تنقض اليقين بالشك » بل التصرف إنما يكون في جهة التطبيق ، فان الامام عليه‌السلام استشهد لحكم المورد بالاستصحاب ، حيث كان مذهب العامة على الاتيان بالركعة المشكوكة متصلة ببقية الركعات عملا بالاستصحاب ، فالتقية إنما تكون في الاستشهاد لا في الاستصحاب ، وقد ورد نظير ذلك في بعض الروايات كقوله عليه‌السلام بعد سؤال اللعين عن الافطار في اليوم الذي شهد بعض بأنه يوم العيد : « ذلك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه وإن أفطر

٣٦١

أفطرنا معه » (١) فان الامام عليه‌السلام إنما قال ذلك تقية مخافة ضرب عنقه كما بين عليه‌السلام ذلك بعد خروجه عن مجلس اللعين ، ومع هذا يكون قوله عليه‌السلام « ذلك إلى إمام المسلمين » لبيان حكم الله الواقعي. وقد استدل الفقهاء بقوله : « ذلك إلى إمام المسلمين الخ » على اعتبار حكم الحاكم في الهلال ، مع أن الامام عليه‌السلام قال ذلك تقية ، وليس ذلك إلا لأجل كون تطبيق القول على المورد للتقية لا ينافي صدور القول لبيان حكم الله الواقعي ، فلتكن الصحيحة فيما نحن فيه من هذا القبيل.

وهذا كله كان مماشاة منا للشيخ قدس‌سره وإلا فالذي يقتضيه التدبر في مدلول الرواية هو أن مفادها ليس إلا الاستصحاب بلا مؤنة الحمل على التقية حتى في تطبيق الاستصحاب على المورد.

بيان ذلك : هو أن الموجب لتوهم عدم انطباق الرواية على الاستصحاب ليس إلا تخيل أن الاستصحاب في مورد الرواية يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة ، وذلك ينافي ما عليه المذهب. ولكن هذا اشتباه ، فان اتصال الركعة المشكوكة ببقية الركعات إنما يقتضيه إطلاق الاستصحاب ، لا أن مدلول الاستصحاب ذلك ، بل مدلول الاستصحاب إنما هو البناء العملي على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، فان نقض اليقين بالشك إنما يلزم من البناء على الاتيان بالركعة المشكوكة ، فعدم نقضه بالشك الذي هو مفاد الاستصحاب إنما يكون بالبناء على عدم الاتيان بها ، وأما الوظيفة بعد ذلك : من الاتيان بها موصولة ، فهو مما لا يقتضيه عدم نقض اليقين بالشك.

نعم : إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بها موصولة ، لان الحكم الأولي

__________________

١ ـ الوسائل الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ٥. ولفظ الحديث « ذاك إلى الامام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا ».

٣٦٢

المجعول في الشريعة هو الاتيان بركعات الصلاة موصولة ، فغاية ما يلزم في الرواية هو تقييد قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » بفعل ركعة الاحتياط مفصولة عن سائر الركعات ، وقد أشار الامام عليه‌السلام في الرواية إلى هذا التقييد بقوله : « ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر » فان المراد من عدم إدخال الشك في اليقين وعدم خلط أحدهما بالآخر هو عدم وصل الركعة المشكوكة بالركعات المتيقنة ، فان إدخال المشكوك في المتيقن وخلط أحدهما بالآخر إنما يكون بوصل المشكوك في المتيقن وعدم الفصل بينهما ، فالامام عليه‌السلام أراد أن يبين حكم المسألة لزرارة بنحو الكناية والإشارة حتى لا ينافي ذلك التقية منه ، فعبر ـ صلوات الله عليه ـ أولا بما يكون ظاهرا في الركعة الموصولة ليوافق مذهب العامة ، فقال : « ولا ينقض اليقين بالشك » الذي يقتضي إطلاقه الاتيان بالركعة الموصولة ، ثم عقبه ـ صلوت الله عليه ـ ببيان آخر يستفاد منه الركعة المفصولة على طبق مذهب الخاصة ، فقال : « ولا يدخل الشك في اليقين الخ » ولذا قنع زرارة بما أفاده الامام عليه‌السلام ولم يسئل عن كون الركعة موصولة أو مفصولة.

فظهر : أنه لا يلزم في الرواية أزيد من تقيد الاطلاق. بل يمكن أن يقال : إن هذا أيضا لا يلزم ، فإنه لا نسلم أن إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة ، بل الاستصحاب لا يقتضي أزيد من البناء على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة.

وأما الوظيفة بعد ذلك ما هي؟ فهي تتبع الجعل الشرعي ، والمفروض : أن الوظيفة التي قررها الشارع للشاك في عدد الركعات هي الاتيان بالركعة المفصولة ، فان الحكم يتبدل في حق الشاك واقعا ويكون تكليفه الواقعي هو عدم وصل الركعة.

والحاصل : أن مقتضى الاستصحاب عند الشك في فعل بعض الركعات هو

٣٦٣

الاتيان بالركعة المشكوكة (١) وأما تعيين كيفية الاتيان وأنها موصولة أو مفصولة فهو يدور مدار تعيين الشارع ، والذي عينه الشارع في باب الشك في عدد الركعات هو الاتيان بركعات الاحتياط مفصولة بتكبير وتسليم ، فتأمل.

فتحصل : أن منشأ توهم عدم انطباق الرواية على الاستصحاب هو تخيل أن الشارع أسقط الاستصحاب في باب الشك في عدد الركعات ، وقد ظهر فساده.

فالأقوى : أن الرواية لا تقصر عن بقية الروايات في ظهورها في حجية الاستصحاب ، فتأمل جيدا.

ومنها :

رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فان الشك لا ينقض اليقين (٢).

وقد أورد على الاستدلال بها بما حاصله : أن الظاهر من الرواية هو اختلاف زمان الشك واليقين وسبق زمان اليقين على زمان الشك بقرينة قوله عليه‌السلام « من كان فشك » الظاهر في انقضاء زمان اليقين وتراخي زمان الشك ، فالرواية تكون أظهر في الشك الساري ، ولا تنطبق على الاستصحاب ،

__________________

١ ـ أقول : اليقين السابق إنما تعلق بعدم الاتيان بركعة متصلة ، ولابد وأن يكون الشك أيضا متعلقا بما تعلق به اليقين ، فالمشكوك أيضا هو الاتيان بركعة متصلة ، فقضية عدم نقض اليقين بالشك يقتضي الاتيان بالمشكوك بنحو يكون متيقنا ومشكوكا ، وهو لا يكون إلا باتيانه متصلا لا مطلقا ، وحينئذ إتيان ذات الركعة في ضمن خصوصية أخرى فرع تطبيق الاستصحاب على الذات لا بخصوصيته ، ومرجعه إلى رفع اليد عن تطبيق عموم « لا تنقض » على الخصوصية ، ولا نعني من تقييد الاستصحاب إلا هذا.

٢ ـ الوسائل : الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

٣٦٤

لأنه لا يعتبر في الاستصحاب اختلاف زمان الشك واليقين وسبق أحدهما على الآخر ، بل الذي يعتبر فيه سبق زمان المتيقن على زمان الشك وإن قارن زمان اليقين لزمان الشك ، بل ولو تأخر زمان اليقين عن زمان الشك ، كما تقدم تفصيله.

هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فان الضابط في « قاعدة اليقين » هو اختلاف زمان الشك واليقين مع وحدة متعلقهما ، بأن يتعلق الشك بوجود ما تعلق به اليقين في الزمان الذي تعلق به اليقين ، كما إذا علم بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك في يوم السبت بعدالته في يوم الجمعة على وجه يسري الشك من يوم السبت إلى يوم الجمعة ، من غير فرق في ذلك بين أخذ زمان اليقين قيدا للعدالة أو أخذ الزمان ظرفا لها ، فإنه لا يعتبر في « قاعدة اليقين » لحاظ الزمان على وجه القيدية ـ كما يظهر من الشيخ قدس‌سره في المقام ـ بل الذي يعتبر في القاعدة هو وحدة زمان متعلق الشك واليقين مع اختلاف زمان نفس الشك واليقين. وأما الاستصحاب : فيعتبر فيه اختلاف زمان متعلق الشك واليقين ، سواء اختلف زمان الشك واليقين أولم يختلف.

وبعبارة أخرى : متعلق الشك واليقين في القاعدة هو حدوث الشيء ، وفي الاستصحاب متعلق اليقين هو الحدوث ومتعلق الشك هو البقاء.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر : أن الرواية لا ظهور لها في القاعدة ، فإنه ليس في الرواية ما يستفاد منه وحدة زمان متعلق الشك واليقين ، وظهورها في سبق زمان اليقين على زمان الشك وإن كان غير قابل للانكار ، إلا أن ذلك لمكان كون الغالب في موارد الاستصحاب هو سبق زمان اليقين ، بل يمكن أن يقال بظهور الرواية في خصوص الاستصحاب ، فان قوله عليه‌السلام « فليمض على يقينه » ظاهر في المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل ، وهذا لا ينطبق إلا على الاستصحاب ، فان الذي يكون اليقين بالحدوث فيه محفوظا في زمان العمل هو الاستصحاب. وأما القاعدة : فاليقين فيها ينعدم ، ولذا

٣٦٥

تسمى بالشك الساري.

ومنها :

مكاتبة علي بن محمد القاساني ، قال : « كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (١).

وهذه الرواية قد جعلها الشيخ قدس‌سره أظهر الروايات في دلالتها على حجية الاستصحاب. ولكن يمكن المنع عن ظهورها فضلا عن كونها أظهر ، فان دلالتها على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من « اليقين » هو اليقين بأن اليوم الماضي كان من شعبان أو اليقين بعدم دخول رمضان ، إلا أنه يمكن أن يكون المراد منه اليقين بدخول رمضان ، فيكون المعنى : إن اليقين بدخول رمضان الذي يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك في دخوله ، ومعنى أنه لا يدخله الشك : هو أنه لا يجوز صوم يوم الشك من رمضان ، وقد تواترت الاخبار على اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم ، وعلى هذا تكون الرواية أجنبية عن باب الاستصحاب ، فتأمل.

هذه جملة ما وقفنا عليه من الاخبار الوارد في الباب ، وفيها الكفاية.

دفع وهم :

ربما يتوهم : دلالة قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال وكل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه حرام أو قذر (٢) على اعتبار الاستصحاب ، بل استدل

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١٣.

٢ ـ الوسائل : الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤ المستدرك الباب ٢٩ من أبواب النجاسات الحديث ٤.

٣٦٦

به جملة من الاعلام ، كصاحب الفصول والمحقق الخراساني ، بل يظهر ذلك من الشيخ قدس‌سره لكن في خصوص قوله عليه‌السلام « الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس » (١) مع ما بينهم من الاختلاف في مقدار دلالة هذه الأخبار.

فمنهم من قال بدلالتها على اعتبار قاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما معا وهو المحكي عن صاحب الفصول رحمه‌الله. ومنهم من قال بدلالة الصدر على الحكم الواقعي والقاعدة معا ودلالة الغاية على حجية استصحاب الطهارة والحلية ، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني قدس‌سره.

والأقوى : أن أخبار أصالة الحل والطهارة لا دلالة لها على اعتبار الاستصحاب ، بل ليس مفادها إلا قاعدة الحل والطهارة ، ولا مساس لها بالطهارة والحلية الواقعية ، فضلا عن استصحابهما ، فضلا عن الجمع بين القاعدة والاستصحاب ، أو الجمع بين الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب.

وبالجملة : قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال أو طاهر حتى تعلم أنه حرام أو قذر ، إنما يتكفل من المحتملات السبعة خصوص قاعدة الطهارة والحلية ، ولا يتحمل مجموع الصدور الذيل معنى آخر.

بيان ذلك : هو أن المراد من « الشيء » في قوله عليه‌السلام « كل شيء الخ » أما أن يكون هو ذات الشيء المعروض للحكم الواقعي الأولي سواء كان من الافعال أو من الموضوعات الخارجية كالقيام والقعود والانسان والحيوان والنبات وغير ذلك من متعلقات التكاليف وموضوعاتها ، وإما أن يكون هو الشيء بوصف كونه مشكوك الحلية أو الطهارة.

فان كان المراد منه ذات الشيء بعنوانه الأولي ، فحمل قوله عليه‌السلام « حلال » أو « طاهر » عليه إنما هو لبيان حكمه الواقعي ، فيكون مفاده حينئذ : أن

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ١ من أبواب الماء المطلق الحديث ٥ ، لفظ الحديث « .... حتى يعلم أنه قذر ».

٣٦٧

كل موجود في العالم يكون محكوما بالحلية والطهارة واقعا ، غايته أنه يكون من العمومات المخصصة ، كقوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » (١).

وإن كان المراد منه الذات بوصف كونها مشكوكة الطهارة والحلية ، فحمل قوله عليه‌السلام « حلال » أو « طاهر » عليه إنما هو لبيان حكمه الظاهري ، ولا يمكن حينئذ أن يكون المراد من المحمول الحلية والطهارة الواقعية ، فان موضوعات الاحكام الواقعية إنما هي ذوات الأشياء المرسلة ، ولا يعقل تقييد موضوع الحكم الواقعي بكونه مشكوك الحكم ، فالشئ المقيد بكونه مشكوك الطهارة والحلية لا يمكن أن يحمل عليه إلا الطهارة والحلية الظاهرية ، كما أن الشيء المرسل الغير المقيد بذلك لا يمكن أن يحمل عليه إلا الطهارة والحلية الواقعية ، فان للشك دخلا في موضوع الحكم الظاهري مطلقا. فالموضوع في قوله عليه‌السلام « كل شيء لكل طاهر » أو « حلال » إما أن يكون هو الشيء المرسل ويلزمه أن يكون المحمول حكما واقعيا ، وإما أن يكون هو الشيء المشكوك حليته أو طهارته ويلزمه أن يكون المحمول حكما ظاهريا. ولا يمكن أن يكون المراد منه الأعم من المرسل والمشكوك ، كما لا يمكن أن يكون المراد من المحمول الأعم من الواقعي والظاهري ، فان الشيء المشكوك متأخر في الرتبة عن الشيء المرسل ، كما أن الحكم الظاهري متأخر في الرتبة عن الحكم الواقعي ، فكل من موضوع الحكم الظاهري وحكمه في طول موضوع الحكم الواقعي وحكمه ، ولا يمكن جمعهما في اللحاظ والاستعمال. وذلك كله واضح مما لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

وبعد ذلك نقول : إن ظاهر صدر الروايات مع قطع النظر عن الغاية يعطي أن يكون المحمول فيه حكما واقعيا (٢) فيكون مساقه مساق الأدلة المتكفلة لبيان

__________________

١ ـ لا توجد مثل هذه العبارة في القرآن المجيد.

٢ ـ أقول : الأولى أن يقال في وجه استفادة قاعدة واحدة من هذه الأخبار : هو أن ظاهر الغاية

٣٦٨

الاحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية ، كقوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » ولكن الغاية المذكورة في الذيل توجب هدم ظهور الصدر في ذلك ، فان الحكم الواقعي لا يكون مغيى بالعلم بالخلاف ، بل غاية الحكم الواقعي إنما

__________________

نظير ظاهر أداة الشرط يكون القيد في المقام راجعا إلى النسبة الحكمية ، لا الموضوع ولا المحمول ، فكان مثل هذه القيود مبينة لايقاع نسبة خاصة بين ذات الموضوع والمحمول ، ومثل هذه النسبة حيث إنه في ظرف الجهل كانت نسبة ظاهرية ، فقهرا يصير المحمول أيضا حكما ظاهريا ثابتا للذات المحفوظة في هذه المرتبة ، فيدل اللفظ على أن الطهارة ثابتة للذات بثبوت مستمر في ظرف الشك بالحكم إلى ظرف العلم بخلافه ، ولا يكاد حينئذ إلا استفادة القاعدة ، وإلا ففي الاستصحاب لابد وأن يكون ثبوت الحكم في مرتبة والاستمرار في مرتبة أخرى ، وهو خلاف ظهور الرواية في اتحاد رتبة ثبوت الحكم واستمراره حقيقة ، كما لا يخفى. ولئن اغمض عن ذلك ، فلا قصور في إرادة الجامع مع بين الذاتين في رتبتين موضوعا ومحمولا بنحو الدالين والمدلولين ثم إرادة استمرار هذا المحمول في الرتبة المتأخرة عناية الملازم مع الفراغ عن الثبوت في الرتبة السابقة ، فيستفاد حينئذ منها القواعد الثلاث من الخبر بلا محذور اجتماع اللحاظين في استعمال واحد ، كما أفاده شيخنا الأعظم ، فتدبر.

ومن التأمل فيما ذكرنا ترى في بيان المقرر مع تطويله مواقع النظر : منها : خيال لزوم تقيد الموضوع بعنوان المشكوكية في الحكم الظاهري. وهو كما ترى! لامكان كون الشك المزبور جهة تعليلية غير موجبة لتقيد الذات بالوصف المزبور.

ومنها : خيال أن لازم استفادة الاستصحاب جعل مفاد الغاية جملة مستقلة وقطعها عما قبله. مع أنه ليس كذلك ، إذ يكفي فيه كون لسان استمرار الثابت في الرتبة المتأخرة عن ثبوته ولو بالعناية. وبعبارة أخرى : للمتكلم نظران : نظر إلى ثبوت الطهارة للذات في قوله : « طاهر » ونظر إلى استمراره إلى زمان العلم في قوله : « حتى » مع كون نظره الثاني من تبعات النظر الأول حسب تبعية استمرار الشيء لثبوته ، بلا كونه في مقام استعمال « حتى » إلى استقلال مفاده عن سابقه كي يخرج عن الحرفية إلى الاسمية ، فتدبر.

ومنها : قوله : عدم إمكان إرادة الأعم من الموضوع والمحمول من الحكم الواقعي والظاهري. إذ ذلك إنما يصح في فرض كون الرواية في مقام إنشاء الحكمين بهذا الكلام لموضوع واحد ومحمول فارد ، وأما لو كان الكلام بنحو الدالين حاكيا عن إنشائات متعددة فلا باس فيه ، مع أنه لو كان منشأ بهذا لا بأس بأن ينشأ الفردين من الطبيعة لفردين من الذات بلحاظ الرتبتين بنحو الدالين والمدلولين ، وحينئذ فلا قصور في إطلاق الذات في الموضوع والمحمول للفردين بنحو الدالين والمدلولين ، فتدبر.

٣٦٩

هي انتهاء زمانه بحسب الجعل الشرعي كالغروب الذي اخذ غاية لوجوب الصوم والصلاة ، أو تبدل موضوعه وانقلابه عما كان عليه كغليان العصير الموجب لارتفاع الحلية.

وأما العلم بضد الحكم أو الموضوع فليس غاية للحكم الواقعي ، فقوله عليه‌السلام حتى تعلم أنه قذر أو حرام لا يصلح أن يجعل غاية للحكم الواقعي إلا بنحو من التكلف والتأويل بجعل العلم في الغاية كاشفا وطريقا إلى ما هو الغاية في الحقيقة وجعل القذارة والحرمة أيضا كناية عن انقلاب الموضوع ، فيكون المعنى : كل شيء لك طاهر أو حلال حتى يتنجس أو يصير حراما بالغليان ، فان انقلاب الطاهر والحلال الواقعي إلى النجاسة والحرمة إنما يكون بحدوث النجاسة فيه وانقلاب موضوعه إلى موضوع آخر بغليان العصير أو بصيرورة الخل خمرا أو نحو ذلك مما يطرء على الموضوع عنوان آخر يقتضي حرمته ، وهذا كما ترى تصرف في الروايات بلا موجب.

وهذا بخلاف ما إذا كانت الغاية غاية للحكم الظاهري ، فإنه يستقيم المعنى بلا تصرف فيها ، بداهة أن غاية الحكم الظاهري إنما هي انكشاف الخلاف وتبدل الشك علما ، فيكون مفاد الروايات هو : أن كل مشكوك الطهارة والنجاسة أو كل مشكوك الحلية والحرمة فهو محكوم بالطهارة والحلية ظاهرا إلى أن ينكشف الخلاف ويعلم بالنجاسة والحرمة. وهذا المعني لا ينطبق إلا على قاعدة الطهارة والحل ، ولا مساس له بالحكم الواقعي ، فضلا عن أن يكون له مساس بالاستصحاب.

وحاصل الكلام : أن قوله عليه‌السلام كل شيء لك طاهر أو حلال حتى تعلم أنه قذر أو حرام لا يتحمل إلا معنى واحد ، وذلك المعنى بحسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ من غير تأويل هو قاعدة الطهارة والحل ، ولو أغمضنا عن ظاهر اللفظ وارتكبنا التأويل فلابد من حمله على بيان الحكم الواقعي ، وأما حمله

٣٧٠

على الاستصحاب فهو مما لا سبيل إليه ، فان مفاد الاستصحاب هو الحكم باستمرار ما علم بحدوثه وشك في بقائه ، وأين هذا من مفاد الروايات؟.

ودعوى : أن كلمة « حتى » تدل على استمرار حكم ما قبلها إلى ما بعدها ، فيكون مفاد الروايات هو أن كل شيء طاهر أو حلال واقعا أو ظاهرا وتستمر طهارته وحليته ظاهرا إلى أن ينكشف الخلاف ويعلم بالقذارة والحرمة ، فيدل صدر الروايات على الحكم الواقعي والظاهري للأشياء بعناوينها الأولية وبما أنها مشكوكة الطهارة والحلية ، والغاية تدل على استمرار الحكم السابق إلى أن يعلم بالخلاف ، فيكون مفاد الغاية مفاد قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر » فان معنى عدم نقض اليقين بالشك هو الحكم باستمرار المتيقن إلى زمان العلم بالخلاف ، وكلمة « حتى » في الروايات تدل على هذا المعنى ، فيستفاد من الروايات صدرا وذيلا كل من الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب

واضحة الفساد ، فان قطع الغاية عما قبلها وجعلها جملة مستقلة وتقدير كلمة « ويستمر طهارته أو حرمته ظاهرا » مما لا شاهد عليه ، وكلمة « حتى » لا تدل على ذلك ، فان غاية ما يمكن تسليمه هو دلالة كلمة « حتى » على استمرار تلك الطهارة والحلية المذكورة في الصدر إلى أن يعلم بالخلاف.

وأما جعل تلك الطهارة مفروضة الوجود والحكم باستمرارها إلى زمان العلم بالخلاف ـ كما هو مفاد الاستصحاب ـ فهو ممالا يمكن أن يستفاد من كلمة « حتى » هذا مضافا إلى ما عرفت : من أن الموضوع والمحمول في الصدر لا يمكن أن يكون المراد منه الأعم من الموضوع والحكم الواقعي والظاهري.

فالانصاف : أن الروايات لا تدل إلا على قاعدة الطهارة والحل ، ولا يصح الاستدلال بها على حجية الاستصحاب ، بل روايات الاستصحاب هي

٣٧١

ما تقدمت ، وعمدتها روايات زرارة ودلالتها على حجية الاستصحاب في غاية الوضوح. ولا يمكن حمل قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » على « قاعدة اليقين » فان موردها ينافي ذلك ، كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك

فالكلام يقع في مقدار دلالتها وعمومها للأقسام اللاحقة للاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب : من حيث كونه وجوديا أو عدميا موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا جزئيا أو كليا تكليفيا أو وضعيا ، وباعتبار اختلاف الدليل الدال على ثبوت المستصحب : من حيث كونه إجماعا أو عقلا أو كتابا وسنة ، وباعتبار اختلاف منشأ الشك في بقائه : من حيث رجوع الشك إلى الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود وما يلحق به من الشك في الغاية ، أو رجوع الشك إلى الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية أيضا ، بالبيان المتقدم. ولأجل هذه الاختلافات كثرت الأقوال في المسألة حتى زادت على العشرة ، فذهب إلى حجية الاستصحاب في كل قسم من هذه الأقسام فريق ، وأنكرها فريق آخر. وقد أطال الشيخ قدس‌سره الكلام في الأقوال وبيان أدلتها وردها.

ولكن الانصاف : أن جملة منها لا تستحق البحث عنها وإطالة الكلام فيها ، فإنه لا منشأ لها إلا بعض الوهميات ، فالأولى : الاعراض عنها وعطف عنان الكلام إلى بيان وجه المختار : من حجية الاستصحاب في جميع الأقسام إلا في الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية.

أما حجيته في سائر الأقسام : فلعموم قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وشموله لجميع أقسام المستصحب والدليل الدال على ثبوته ومنشأ الشك في بقائه ، لأنه في جميع ذلك يكون رفع اليد عن المتيقن عند الشك في بقائه من نقض اليقين بالشك ، فلا موجب لتوهم اختصاصه بقسم دون قسم.

٣٧٢

وأما عدم حجيته في الشك في المقتضي ـ بالمعنى المتقدم ـ فلعدم صدق النقض عليه ، فلا يعمه قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وتوضيح ذلك : هو أن إضافة النقض إلى اليقين إنما تكون باعتبار ما يستتبع اليقين من الجري على ما يقتضيه المتيقن والعمل على وفقه (١) وليست إضافة النقض إلى اليقين باعتبار صفة اليقين والحالة المنقدحة في النفس بما هي هي ، بداهة أن اليقين من الأمور التكوينية الخارجية وقد انتقض بنفس الشك ، فلا معنى للنهي عن نقضه. وليس المراد من عدم نقض اليقين عدم نقض الآثار والأحكام الشرعية المترتبة على وصف اليقين ، فإنه لم يترتب حكم شرعي على وصف

__________________

١ ـ أقول : لو كان معنى عدم نقض اليقين عبارة عن ترتيب آثر الواقع المترتبة عليه ببركة اليقين بحيث يكون اليقين سببا للجري على وفق الواقع ـ كما هو الشأن في اليقين الطريقي ـ فكيف يقوم الاستصحاب مقام العلم الجزء الموضوعي؟ كما أن المعرفة المأخوذة غاية للحلية تمام الموضوع في القضية بلا دخل للحرمة الواقعية في النجاسة أبدا ، وفي مثله لا معنى لترتيب آثار الواقع على العلم به. ومع هذا لا مجال لثبوت العلم التنزيلي إلا بترتيب آثار نفس العلم ، لا آثار الواقع المترتب عليه ببركة العلم ، كيف وهذا المقدار لا يفي لقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي رأسا ، إذ هذا القيام فرع تنزيل العلم وهو فرع كون نظر دليل التنزيل إلى آثار نفس العلم لا آثار الواقع المترتب عليه ببركة العلم ، وحينئذ لا محيص من أن يرجع النهي عن النقض إلى الامر بالمعاملة مع اليقين الزائل معاملة الباقي بلا دخل لاقتضاء الواقع فيه أبدا ، كما هو الشأن في العلم الموضوعي ، خصوصا ما كان تمام الموضوع ، كما لا يخفى. وحينئذ لا محيص من كون المصحح لإضافة النقض إلى اليقين هو نفس استحكام اليقين وكونه بنحو لا يزول بتشكيك المشكك ولا ينقضه الشك. فكان السر أيضا في تبديل القطع والعلم في المقام باليقين بملاحظة ما فيه من نحو استحكام وإبرام ليس فيهما ، لا من جهة غلبة استعمال اليقين في مورد ترتيب آثار الواقع دون العلم والقطع ، كما توهم ، وحينئذ مآل [ عدم ] نقض [ اليقين ] عدم صلاحية اليقين للتشكيك وأن العلم في باب الاحكام يقين لا يزول بالتشكيك ولا ينقضه الشك وأن المكلف مأمور بالمعاملة مع اليقين الزائل معاملة الباقي ، من دون فرق بين كون ذلك بلحاظ آثار نفس اليقين أو الآثار المترتبة على الواقع بواسطة اليقين ، كما أن عدم نقضه من جهة أن يقينه غير قابل للتشكيك من دون فرق بين كون وجه التشكيك من ناحية المقتضي أو المانع ، فتدبر واغتنم.

٣٧٣

اليقين بما هو هو ، وعلى فرض أن يكون لليقين أثر شرعي ، فليس المراد من قوله عليه‌السلام في أخبار الباب : « لا تنقض اليقين بالشك » نقض أثر اليقين ، فان ذلك أجنبي عن معنى الاستصحاب ، فإضافة النقض إلى اليقين لا يمكن أن تكون بلحاظ نفس وصف اليقين ، بل إنما تكون بلحاظ ما يستتبع اليقين من الجري على ما يقتضيه المتيقن حكما كان أو موضوعا.

لا أقول : إن المراد من اليقين المتيقن ، بحيث استعير للمتيقن لفظ اليقين ويكون قد أطلق اليقين وأريد منه المتيقن مجازا ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة أنه لا علاقة بين اليقين والمتيقن ، فاستعمال أحدهما في مكان آخر كاد أن يلحق بالأغلاط.

فما يظهر من الشيخ قدس‌سره في المقام : من أن المراد من اليقين نفس المتيقن مما لا يمكن المساعدة عليه ، ولابد من توجيه كلامه بما يرجع إلى ما ذكرنا : من أن المراد من نقض اليقين نقضه بما أنه يستتبع الحركة على وفق المتيقن ، فأخذ اليقين في الاخبار إنما يكون باعتبار كونه كاشفا وطريقا إلى المتيقن لا بما أنه صفة قائمة في النفس ، فعناية النقض إنما تلحق اليقين من ناحية المتيقن. بل يمكن أن يقال : إن شيوع إضافة النقض إلى اليقين دون العلم والقطع إنما يكون بهذا الاعتبار ، فإنه لم يعهد استعمال النقض في العلم والقطع ، فلا يقال : « لا تنقض العلم والقطع » وليس ذلك إلا لأجل أن العلم والقطع غالبا يكون إطلاقهما في مقابل الظن والشك ، وهذا بخلاف اليقين ، فان إطلاقه غالبا يكون بلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقن والعمل على طبقه ، فالنظر إلى اليقين غالبا يكون طريقا إلى ملاحظة المتيقن ، بخلاف النظر إلى العلم والقطع.

وبالجملة : لا إشكال في أن العناية المصححة لورود النقض على اليقين إنما هي باعتبار استتباع اليقين الجري العملي على المتيقن والحركة على ما يقتضيه ،

٣٧٤

فيكون مفاد قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو أن الجري العملي الذي كان يقتضيه الاحزار واليقين لا ينقض بالشك في بقاء المتيقن.

وليس مفاد أخبار الاستصحاب هو « بقاء ما كان ودوام ما ثبت » لما عرفت في أول مبحث الاستصحاب : من أن للاحراز والشك دخلا في الحكم المجعول في باب الاستصحاب ، وبذلك يكون الاستصحاب من الاحكام الظاهرية ، ولو كان مفاد الاخبار « دوام ما ثبت » لكان ذلك حكما واقعيا نظير قوله عليه‌السلام « حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة الخ » (١) كما أنه ليس مفاد أخبار الاستصحاب هو حرمة نقض اليقين بالشك بحيث يكون المجعول فيه حكما تكليفيا ، بداهة أن الحكم الاستصحابي يعم التكاليف الغير الالزامية والوضعيات وغير ذلك ، مع أنه لا يحرم فيها نقض اليقين بالشك ، فلا يمكن أن يكون المراد من النهي في قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » النهي التكليفي ، بل المراد منه عدم الانتقاض ، بمعنى : أن الشارع حكم بعد الانتقاض وبقاء الجري العملي على وفق المتيقن ، ولذلك يجري الاستصحاب في الوضعيات وفي التكاليف الغير الالزامية.

إذا عرفت ذلك ، فقد ظهر لك : أن أخبار الباب إنما تختص بما إذا كان المتيقن مما يقتضي الجري العملي على طبقه ، بحيث لو خلي وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقن ، وهذا المعنى يتوقف على أن يكون للمتيقن اقتضاء البقاء في عمود الزمان ليتحقق الجري العملي على طبقه ، فإنه في مثل ذلك يصح ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن ويصدق عليه نقض اليقين بالشك وعدم نقضه به ، بخلاف ما إذا لم يكن للمتيقن اقتضاء البقاء في سلسلة الزمان فان الجري العملي بنفسة ينتقض ولا يصح ورود

__________________

١ ـ أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس الحديث ١٩.

٣٧٥

النقض على اليقين بعناية المتيقن ، لان المتيقن لا يقتضي الجري العملي حتى يكون رفع اليد عنه نقضا لليقين بالشك ، والشك في اقتضاء المتيقن للبقاء يوجب الشك في صدق النقض عليه ، فلا يندرج في عموم قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».

وبتقريب آخر : يتوقف صدق نض اليقين بالشك على أن يكون زمان الشك مما فد تعلق اليقين به في زمان حدوثه ، بمعنى : أن الزمان اللاحق الذي يشك في بقاء المتيقن فيه كان متعلق اليقين عند حدوثه ، وهذا إنما يكون إذا كان المتيقن مرسلا بحسب الزمان لكي لا يكون اليقين بوجوده من أول الامر محدودا بزمان خاص ومقيدا بوقت مخصوص ، وإلا ففيما بعد ذلك الحد والوقت يكون المتيقن مشكوك الوجود من أول الامر ، فلا يكون رفع اليد عن آثار وجود المتيقن من نقض اليقين بالشك ، لان اليقين ما كان يقتضي ترتيب أثار وجود المتيقن بعد ذلك الحد ، فكيف يكون رفع اليد عن الآثار من نقض اليقين بالشك؟ ألا ترى : أنه لو علم أن المتيقن لا يبقى أزيد من ثلاثة أيام ففي اليوم الرابع لا يقال : انتقض اليقين بالوجود بيقين آخر بالعدم ، فان اليوم الرابع ما كان متعلق اليقين بالوجود من أول الامر حتى يقال : انتقض اليقين بيقين آخر ، وهذا بخلاف ما إذا حدث في اليوم الثالث أمر زماني ـ من مرض وقتل ونحو ذلك ـ أوجب رفع المتيقن ، فإنه يصح أن يقال : إنه انتقض اليقين بالوجود بيقين العدم.

وبالجملة : لا إشكال في أن العناية المصححة لإضافة النقض إلى اليقين إنما هي لكون اليقين يقتضي الجري والحركة نحو المتيقن ، وهذا إنما يكون إذا كان المتيقن مما يقتضي الجري والحركة على ما يستتبعه من الآثار الشرعية والعقلية ، فلابد وأن يكون للمتيقن اقتضاء البقاء في الزمان الذي يشك في وجوده ليقتضي ذلك ، ولابد من إحراز اقتضائه للبقاء ، فالشك في وجود المتيقن لأجل الشك في

٣٧٦

المقتضي لا يندرج في قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».

فان قلت : نعم وإن كانت إضافة النقض إلى اليقين تقتضي اختصاص حجية الاستصحاب بما إذا علم اقتضاء المتيقن للبقاء فلا يشمل الشك في المقتضي ، إلا أن عموم لفظ اليقين لما إذا كان لمتعلقه اقتضاء البقاء أو لم يكن يقتضي عدم اختصاص الاستصحاب بما إذا كان الشك في الرافع بل يعم الشك في المقتضي أيضا ، فلا موجب لتقديم ظهور النقض في خصوص الشك في الرافع على ظهور اليقين في العموم.

قلت : إضافة النقض إلى اليقين تقتضي اختصاص اليقين بما إذا كان لمتعلقه اقتضاء البقاء ، فلا يبقى لليقين إطلاق لما إذا لم يكن لمتعلقه اقتضاء البقاء ليعارض ظهور النقض في ذلك ، وعلى فرض التسليم : فلا أقل من تعارض الظهورين ، فيبقى الاستصحاب عند الشك في المقتضي بلا دليل ، فتأمل (١).

وأما الشك في الرافع فهو بجميع أقسامه يندرج في الاخبار ويكون رفع اليد عن وجود المتيقن فيه من نقض اليقين بالشك ، من غير فرق في ذلك بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود لأجل الشبهة الحكمية أو المفهومية أو الموضوعية.

__________________

١ ـ لا يخفى أن روايات الباب منها : ما ذكر فيها إضافة النقض إلى اليقين كروايات زرارة. ومنها : لم يذكر فيها لفظ النقض كقوله عليه‌السلام في رواية محمد بن مسلم « من كان على يقين فشك فليمض على يقينه » بناء على ما تقدم : من أنه ينبغي عدها من أخبار الاستصحاب ولا ظهور فيها لقاعدة اليقين. فقد يختلج في البال أنه يصح التمسك بهذه الرواية على حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي. إلا أن يقال : إن ظهور الرواية في سبق زمان اليقين يقتضي اختصاصها بالشك في الرافع ، فإنه في الشك في المقتضي غالبا يكون زمان الشك متحدا مع زمان اليقين ، لان زمان الشك في الشك في المقتضي لم يتعلق به اليقين في آن حدوثه. أو يقال : إن المضي على اليقين إنما هو فيما إذا كان لليقين اقتضاء المضي واقتضاء اليقين لذلك إنما يكون باعتبار اقتضاء المتيقن للمضي على طبقه ، فلا يشمل الشك في المقتضي ، فتأمل ( منه ).

٣٧٧

فما ينسب إلى المحقق السبزواري رحمه‌الله من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في رافعية الموجود بتوهم أن اليقين بوجود ما يشك في رافعيته يكون من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشك ، ضعيف غايته ، فان نقض اليقين باليقين إنما يكون إذا كان اليقين الثاني تعلق بضد ما تعلق به الأول أو بنقيضه ، كما إذا حصل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة ، وأما اليقين بوجود ما يشك في رافعيته فليس هذا من نقض اليقين باليقين ، بل هو من نقض اليقين بالشك ، لأن الشك في رافعية الموجود يوجب الشك في ارتفاع المتيقن به ، فيكون كالشك في وجود الرافع ، وذلك واضح.

فالتفصيل بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود مما لا وجه له ، كما لا وجه للتفصيل بين ما إذا كان المستصحب من الأحكام التكليفية أو من الأحكام الوضعية ففي الأول لا يجري الاستصحاب وفي الثاني يجري ، كما هو المحكي عن الفاضل التوني رحمه‌الله.

تذييل :

لم يمر علينا في كتابنا هذا مقام يناسب بيان الأحكام الوضعية وتفصيل أقسامها ، وأردنا أن لا يخلو الكتاب عن ذلك ، فأحببنا التعرض لها في هذ المقام بمناسبة المحكي عن الفاضل التوني رحمه‌الله من التفصيل في حجية الاستصحاب بين الأحكام التكليفية والوضعية.

فنقول : ( وعلى الله الاتكال ) إن استقصاء الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :

ـ الأول ـ

تقسيم الاحكام إلى التكليفية والوضعية إنما يستقيم بعد البناء على أن

٣٧٨

للشارع جعل وإنشاء يتعلق بأفعال العباد يتضمن البعث والتحريك والإرادة والكراهة (١) وأما لو قلنا : بأنه ليس الحكم الشرعي إلا عبارة عن العلم باشتمال الافعال على المصالح والمفاسد من دون أن يكون في البين جعل يقتضي الإرادة والكراهة لا في المبدأ الاعلى ولا في المبادي العالية ـ كما حكي عن بعض احتماله بل الالتزام به ـ فلا يبقى موقع لتقسيم الاحكام إلى التكليفية والوضعية ، كما لا يخفى.

ولكن احتمال أن لا يكون في البين إلا العلم بالصلاح والفساد من دون أن يستتبع العلم بذلك الجعل والتشريع في غاية الوهن والسقوط ، لأنه يلزم على هذا

__________________

١ ـ أقول : حقيقة الإرادة إذا كانت عبارة عن الشوق الأكيد فهو من الكيفيات القائمة بالنفس ولم يكن من الايجاديات بالاختيار بلا واسطة فلا يكون هذه المرتبة نظير المصلحة والعلم بها من الانشائيات أيضا ، كما أن مدار حكم العقل بوجوب الامتثال أيضا ليس إلا العلم بهذه المرتبة من اشتياق المولى ولو لم يحمل نفسه إلى العمل من جهة علمه بعدم امتثاله ، وحينئذ لا يبقى في البين إلا إبراز إرادته لمحض إتمام الحجة على عبده ، وفي هذا الابراز لا يلزم أن ينشأ بكلامه مفهوم الطلب أو الإرادة ـ كما هو الشأن في كلية الانشاء الذي هو مقابل الاخبار من شؤون المفاهيم ـ بل يكفي لتحريك العقل نحو الامتثال إبراز شوقه بإخباره به بقوله : أريد أو أشتاق. نعم : من نفس الابراز ينتزع العقل بعناية عنوان البعث والتحريك وبعناية أخرى عنوان الالزام واللزوم والايجاب والوجوب ، فهذه العناوين ايجادية بايجاد الابراز ، وليس دخلها في حكم العقل دخلا موضوعيا بل طريقيا صرفا. وحينئذ إن أريد من جعلية التكليف جهة الاعلام باشتياقه ، فليس ذلك من الاعتبارات الجعلية ، بل من التكوينيات الخارجية كاحداث سائر الكيفيات الأخرى. وإن أريد به جهة الاعتبارات الأخرى الطارية على الاعلام فهي أجنبية عن جعل الجاعل.

وبعبارة أخرى نقول : إن الجعل في الأحكام الوضعية في الحقيقة راجع إلى إحداث أمر اعتباري في عالم الاعتبار بنفس الجعل ، وفي الأحكام التكليفية راجع إلى تكوين الوصول الخارجي الذي هو أجنبي عن الاعتباريات ، وإنما هو موضوع اعتباريات أخرى قهرية مترتبة على هذا الاعلام والايصال من دون أن يكون قوامها بجعل جاعل ، وحينئذ تقسيم الاحكام الجعلية إلى التكليفية والوضعية ليس بمساق واحد ، كما لا يخفى.

٣٧٩

أن تكون الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة كلها أخبارا عن الصلاح والفساد من دون أن يكون فيها شائبة الانشاء ، وهذا مما لا يرضى به المنصف ، وكيف يرضى أن يكون قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة » الخ إخبارا عن اشتمال الصلاة والزكاة على المصلحة؟.

هذا مع أنه لم يظهر لنا وجه الالتزام بذلك ، فإنه إن كان الوجه هو عدم إمكان قيام الإرادة والكراهة في المبدأ الاعلى وإلا يلزم أن يكون محلا للحوادث ـ تعالى عن ذلك ـ فهذا مع فساده في نفسه لا يلزم منه عدم الجعل والتشريع وإنكار أصل الإرادة والكراهة ، فإنه لا أقل من قيام الإرادة والكراهة في النفس النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدما يوحى أو يلهم إليه اشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة ، فتنقدح في نفس الشريفة إرادة الفعل أو كراهته فيأمر به أو ينهى عنه ، وقد التزم به المحقق الخراساني قدس‌سره فأنكر قيام الإرادة والكراهة في المبدأ الاعلى وقال : إن الإرادة والكراهة إنما تكون في بعض المبادئ العالية ، والالتزام بذلك وإن كان أهون من إنكار الإرادة والكراهة مطلقا والقول بعدم الجعل والتشريع أصلا ، إلا أنه لا داعي إلى الالتزام به أيضا.

وعلى كل حال : تقسيم الاحكام إلى الوضعية والتكليفية يتوقف على القول بثبوت الجعل الشرعي ، ليكون من مقولة التكليف تارة ، ومن مقولة الوضع أخرى ، فتأمل جيدا.

ـ الامر الثاني ـ

قد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين الأمور الاعتبارية والأمور الانتزاعية ، حتى أن الشيخ قدس‌سره قد عبر عن الأمور الاعتبارية بالانتزاعية وجعل الانتزاعيات مرادفة للاعتباريات.

٣٨٠