فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

وأما الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل بقاعدة الملازمة ، فلا يمكن استصحابه أيضا ، لان المناط للحكم الشرعي هو المناط في الحكم العقلي ، فلا يمكن أن يكون دائرة ما يقوم به مناط الحكم الشرعي أوسع من دائرة ما يقوم به مناط الحكم العقلي ، فان الحكم الشرعي إنما استفيد من حكم العقل ، فلابد من أن يكون للخصوصية الزائلة دخل في مناط حكم الشرع أيضا ، لاتحاد ما يقوم به المناط فيهما ، فالعلم بارتفاع مناط الحكم العقلي يلازم العلم بارتفاع مناط الحكم الشرعي ، فكما لا يمكن استصحاب الحكم العقلي عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، كذلك لا يمكن استصحاب الحكم الشرعي المستفاد منه ، فالحكم الشرعي أيضا إما أن يكون مقطوع الارتفاع وإما أن يكون مقطوع البقاء ، ولا يتطرق الشك فيه أبدا. هذا حاصل ما أفاده الشيخ ، بتحرير منا.

ولكن للنظر فيه مجال.

أما أولا : فلان دعوى : كون كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لابد وأن يكون لها دخل في مناط حكمه واقعا ، ممنوعة ، بداهة أنه ربما لا يدرك العقل دخل الخصوصية في مناط الحسن والقبح واقعا ، وإنما أخذها في الموضوع لمكان أن الموضوع الواجد لتلك الخصوصية هو المتيقن في قيام مناط الحسن أو القبح فيه ، مع أنه يحتمل واقعا أن لا يكون لها دخل في المناط ، مثلا يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار الذي لا يترتب عليه نفع للكاذب ولا لغيره إنما هو لأجل أن الكذب المشتمل على هذه الخصوصيات هو القدر المتيقن في قيام مناط القبح فيه ، مع أنه يحتمل أن لا يكون لخصوصية عدم ترتب النفع دخل في القبح ، بل يكفي في القبح مجرد ترتب الضرر عليه وإن لزم منه حصول النفع للكاذب أو لغيره ، والحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل إنما يدور مدار ما يقوم به مناط القبح واقعا ، فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع انتفاء بعض الخصوصيات التي أخذها العقل في الموضوع من باب القدر المتيقن ،

٣٢١

لاحتمال أن لا تكون لتلك الخصوصية دخل فيما يقوم به الملاك واقعا ، فيكون وزان الحكم الشرعي المستفاد من الحكم العقلي وزان الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب والسنة يصح استصحابه عند الشك في بقائه لأجل زوال بعض خصوصيات الموضوع التي لا تضر بصدق بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة عرفا.

وثانيا : سلمنا أن كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لها دخل في مناط الحكم بنظر العقل ويكون بها قوام الموضوع ، إلا أنه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي قائما بالأعم من الواجد لبعض الخصوصيات والفاقد لها ، فان حكم العقل بقبح الواجد لجميع الخصوصيات لا ينحل إلى حكمين : حكم إيجابي وهو قبح الكذب الضار الغير النافع ، وحكم سلبي وهو عدم قبح الكذب الفاقد لوصف الضرر ، فإنه ليس للحكم العقلي مفهوم ينفي الملاك عما عدا ما استقل به ، فيمكن أن تكون لخصوصية الضرر دخل في مناط حكم العقل بقبح الكذب من دون أن يكون لها دخل في مناط الحكم الشرعي بحرمة الكذب ، إذ من الممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أوسع من موضوع الحكم العقلي. ودعوى : أنه لا يمكن ذلك ، مما لا شاهد عليها بعد البناء على أن المتبع في بقاء الموضوع وارتفاعه في باب الاستصحاب إنما هو نظر العرف ولا عبرة بالموضوع العقلي.

والحاصل : أن القيد الذي اخذ في موضوع حكم العقل لا يزيد عن القيد الذي اخذ في موضوع الدليل الشرعي كالكتاب والسنة ، فكما أن اخذ القيد في الدليل كاشف عن دخله في ملاك الحكم الشرعي ومع ذلك يجري الاستصحاب عند انتفاء القيد إذا لم يكن من المقومات للموضوع عرفا ولا يضر بوحدة القضية المتيقنة للمشكوكة بحسب ما يراه العرف من مناسبة الحكم والموضوع ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) كذلك أخذ القيد في حكم

٣٢٢

العقل إنما يكون كاشفا عن دخله في الملاك ثبوتا. ولكن هذا لا يضر بجريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل عند انتفاء القيد إذا لم يكن القيد من مقومات الموضوع عرفا.

نعم : انتفاء بعض القيود التي اعتبرها العقل في موضوع حكمه يوجب رفع الحكم العقلي ، وليس المقصود استصحاب بقاء الحكم العقلي ، بل المقصود استصحاب بقاء الحكم الشرعي المستكشف منه ، وهو بمكان من الامكان. وبالجملة : الموضوع في حكم العقل وإن كان مقيدا بالخصوصية المنتفية ، إلا أن تقييد الموضوع العقلي بالخصوصية كتقييد الموضوع الشرعي في الكتاب والسنة بها ، كقوله : « الماء المتغير نجس » فان وصف التغير الذي اخذ في موضوع الدليل الشرعي كوصف الضرر الذي اخذ في موضوع الحكم العقلي ، فكما أن زوال وصف التغير عن الماء لا يضر بصدق بقاء موضوع النجاسة عرفا ، لان العرف بمناسبة الحكم والموضوع يرى أن موضوع النجاسة هو الماء ووصف التغير علة لعروض النجاسة على الماء غايته أنه يشك في كونه علة لها حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط ، وهو الموجب لجريان الاستصحاب ـ على ما سيأتي بيانه ـ كذلك عدم ترتب وصف الضرر على الكذب لا يضر بصدق بقاء موضوع الحرمة عرفا ، فان موضوع الحرمة بنظر العرف هو نفس الكذب لا بوصف كونه مضرا.

نعم : لو كان المدار في اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة على نظر العقل واعتبرنا في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع عقلا ، لكان للمنع عن جريان الاستصحاب عند انتفاء بعض القيود مجال ، إلا أن ذلك لا يختص بالحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، بل يطرد في جميع الأحكام الشرعية ، كما سيأتي توضيحه. فظهر : أنه لا مجال للفرق بين كون الدليل الدال على ثبوت المستصحب هو العقل أو الكتاب والسنة ، فتأمل جيدا. وسيأتي لذلك مزيد توضيح.

٣٢٣

ـ الامر السادس ـ

قد عرفت في الامر السابق : أن الشك في بقاء المستصحب تارة : يكون لأجل الشك في المقتضي ، وأخرى : يكون لأجل الشك في الرافع أو الغاية. وقد اختار الشيخ قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي ، وحكي ذلك أيضا عن المحقق الخونساري رحمه‌الله. فقد يتوهم : أن المراد من المقتضي هو الملاك والمصلحة التي اقتضت تشريع الحكم على طبقها (١) ويقابله الرافع وهو ما يمنع عن تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بأن فيه ملاك التشريع ، فيكون الشك في المقتضي عبارة عن الشك في ثبوت ملاك الحكم عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية دخل في الملاك. والشك في الرافع عبارة عن الشك في وجود ما يمنع عن تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بثبوته ، لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية المنتفية دخل في تأثير الملاك ، فيكون الشك في بقاء علم زيد مثلا من الشك في

__________________

١ ـ أقول : ما أظن أحدا يريد من المقتضي في المقام ما هو الملاك لاحداث تشريع الحكم ولو لم يكن مقتضيا لبقائه ، بل عمدة نظره إلى المقتضي لبقائه ، وحينئذ ففي الأحكام التكليفية ليس المقتضي لبقائها إلا ما هو المقتضى لثبوتها من المصالح وبذلك أيضا يحرز استعداد الحكم للبقاء ، إذ يستحيل استعداد للتكاليف بقاء بدون بقاء المصلحة في متعلقه ، وطريق إحرازه ربما يكون بكيفية لسان الدليل : من كونه في مقام إثبات حكم لموضوعه مطلقا ، بلا نظر إلى فعلية الحكم من سائر الجهات. وبعبارة أخرى : كان الخطاب بمادتها الكاشفة عن مصلحة الحكم مطلقا وإن لم يكن من حيث الفعلية مثل هذا الاطلاق ـ كما هو الشأن في الاحكام الاقتضائية كحلية الغنم وحرمة الخمر ـ بل ومع فرض إطلاقنا من حيث الفعلية أيضا ، ولكن خصص مرتبة فعليته بما يشك في مصداقه ، هذا كله في التكليفيات. وأما في الأحكام الوضعية : فلا شبهة في أن المقتضي لاحداثها من أسبابها لا يكون مقتضيا لبقائها ، فهي من هذه الجهة نظير كثير من الأمور الخارجية في أن العلية المحدثة كالبناء والبناء لا يكون علة مبقية ، بل بقائه مستند إلى اقتضاء في ذاته المعبر عنه بالاستعداد ، وحينئذ مرجع الشك في المقتضى بقاء إلى الاستعداد المزبور في جميع المقامات ، ولا أظن من أحد يريد غير هذا المعنى ، كما لا يخفى.

٣٢٤

المقتضي ، وفي فسقه من الشك في الرافع.

وقد يتوهم أيضا : أن المراد من المقتضي هو المقتضي لوجود الشيء في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل الشرعي تأسيسا أو إمضاء ، والمراد من الرافع هو ما يرفع المسبب شرعا ، كما يقال : إن الوضوء مقتض للطهارة والبول ورافع لها ، والنكاح مقتض للزوجية والطلاق رافع لها ، والبيع مقتض للملكية والفسخ رافع لها ، فيكون الشك في المقتضي عبارة عن الشك في بقاء اقتضاء السبب للمسبب عند انتفاء بعض الخصوصيات. ويقابله الشك في الرافع ، وهو ما إذا شك في بقاء المسبب بعد العلم ببقاء اقتضاء السبب ، ولكن يحتمل أن يكون في البين ما يرفع اقتضائه ويدفع تأثيره. مثلا تارة : يشك في بقاء اقتضاء النكاح أو الوضوء عند قول الزوج للزوجة : أنت خلية أو برية أو عند خروج المذي أو الوذي عقيب الطهارة. وأخرى : لا يشك في بقاء اقتضاء النكاح والوضوء عقيب قول الزوجة : أنت خلية أو برية أو عقيب خروج المذي والوذي ، بل يقطع ببقاء المقتضى ، إلا أنه يحتمل أن يكون ذلك رافعا لتأثير المقتضي لمكان تدافع المقتضيين ، فالأول يكون من الشك في المقتضي ، والثاني يكون من الشك في الرافع.

هذا ، ولكن التأمل في كلام المحقق والشيخ قدس‌سرهما يعطي عدم إرادة ذلك من المقتضي ، فان القول بعدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي بأحد الوجهين المتقدمين يساوق القول بعدم حجية الاستصحاب مطلقا ، فإنه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك الحكم أو إحراز بقاء المقتضيات الشرعية في باب الأسباب والمسببات عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع أو طرو بعض ما يشك معه في بقاء الأثر ، إذ العلم ببقاء الملاك أو الأثر يستحيل عادة لمن لا يوحى إليه إلا من طريق الأدلة الشرعية ، فإنه لا يمكن إثبات كون الوضوء أو النكاح المتعقب بالمذي أو بقول الزوج : « أنت خلية » مقتضيا لبقاء

٣٢٥

الطهارة وعلقة الزوجية

وبالجملة : لو بنينا على عدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي بأحد الوجهين يلزم سد باب جريان الاستصحاب في جميع المقامات ، إذا ما من مورد إلا ويشك في تحقق المقتضي بمعنى الملاك أو بمعنى اقتضاء السبب.

فالظاهر : أنه ليس مراد الشيخ والمحقق قدس‌سرهما من المقتضي أحد الوجهين ، بل مرادهما من المقتضي في تقسيم الاستصحاب إلى الشك في المقتضي والشك في الرافع هو مقدار قابلية المستصحب للبقاء في الزمان.

وتوضيح ذلك : هو أن كل موجود وحادث في العالم لابد وأن يكون له بحسب طبعه مقدار من القابلية والاستعداد لبقائه في سلسلة الزمان ، بحيث لو خلي الشيء وطبعه ولم تلحقه عارضة زمانية لكان يبقى في عمود الزمان بمقدار ما يقتضيه استعداده بحسب ما جرت عليه مشية الله ( تعالى ) ولا إشكال في اختلاف الموجودات في مقدار القابلية والاستعداد ، كما يشاهد بالوجدان اختلاف استعداد ذوات النفوس في بقائها في سلسلة الزمان ، فان منها ما تبقى مأة سنة ومنها ما يزيد عن ذلك ومنها ما ينقص عنه ، حتى أن بين ذوات النفوس ما يبقى ألف سنة ، كما يقال : إن بعض أقسام الحيتان والطيور يعيش ألف سنة ، وبينها أيضا مالا يعيش إلا ساعة ، وكذا الحال في غير ذوات النفوس من الموضوعات الخارجية ، فان الفواكه والحبوبات لها مقدار من استعداد البقاء على ما بينها من الاختلاف ، وكذا الأبنية ، فان البناء الواقع في ساحل البحر أقل بقاء من البناء الواقع في مكان آخر ولو لأجل ما يلحقه من خصوصية المكان والزمان وغير ذلك ، هذا في الموضوعات الخارجية.

وأما الأحكام الشرعية : فكذلك أيضا ، فان لكل حكم شرعي أمدا وغاية يبقى الحكم إليها مع قطع النظر عن اللواحق والعوارض الطارية ، فيكون مقدار قابلية بقاء الحكم في الزمان على حسب ما ضرب له من الغاية شرعا ، غايته :

٣٢٦

أن الفرق بين الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية هو أن تشخيص مقدار استعداد بقاء الموضوع في الزمان إنما يكون بالامتحان والتجربة ونحو ذلك من الأسباب المشخصة لاستعداد بقاء الموجودات في عمود الزمان ، وأما الأحكام الشرعية فطريق تشخيص مقدار استعداد بقاء الحكم في الزمان إنما يكون من قبل الشارع.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن المستصحب إما أن يكون موضوعا خارجيا وإما أن يكون حكما شرعيا. فان كان موضوعا خارجيا فتارة : يعلم مقدار استعداد بقائه في الزمان ويشك في حدوث زماني أوجب رفع الموضوع وإعدامه عن صفحة الوجود في أثناء عمره واستعداد بقائه ، وأخرى : لا يعلم مقدار عمره واستعداد بقائه ، كما لو شك في أن البق يعيش ثلاثة أيام أو أربعة. فالأول يكون من الشك في الرافع ، والثاني يكون من الشك في المقتضي.

فضابط الشك في المقتضي : هو أن يكون الشك في بقاء الموجود لأجل الشك في مقدار قابليته للوجود واستعداده للبقاء في عمود الزمان.

وضابط الشك في الرافع : هو أن يكون الشك في بقاء الموجود لأجل الشك في حدوث زماني أوجب إعدام الموجود في أثناء استعداده للبقاء ، كما إذا احتمل طرو مرض أو قتل أو تخريب أو نحو ذلك من الأسباب الموجبة لرفع الموضوعات الخارجية.

والظاهر : أن القائل بعدم حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي أراد من المقتضي هذا المعنى ، كما يشهد له التمثيل بالشك في بقاء البلد المبني على ساحل البحر ، فان الشك في بقاء البلد إنما هو لأجل الشك في مقدار استعداده للبقاء ، وهذا المعنى من الشك في المقتضي هو الذي ينبغي النزاع في اعتبار الاستصحاب فيه وعدمه ، فإنه لا يلزم من القول بالتفصيل سد باب الاستصحاب مطلقا ، كما يلزم منه ذلك إن أريد من المقتضي أحد الوجهين

٣٢٧

المتقدمين ، هذا إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجية.

وإن كان المستصحب من الأحكام الشرعية : فقد عرفت أن الشك في المقتضي فها بالمعنى المتقدم إنما يكون لأجل الشك في الغاية على بعض التقادير

وتفصيل ذلك : هو أن الحكم الشرعي إما أن يكون قد ضرب له غاية كقوله تعالى : « وأتموا الصيام إلى الليل » بناء على كون الغاية غاية للحكم لا للصيام ، وإما أن لا يكون له غاية. وعلى الثاني : فاما أن يعلم إرسال الحكم في الزمان بحيث يعم جميع الأزمنة ولو بمعونة مقدمات الحكمة ، وإما أن لا يعلم ذلك بل يحتمل أن يكون امتداد الحكم إلى زمان خاص وينقطع بعده.

فان لم يعلم إرسال الحكم في الزمان : فالشك في بقائه بالنسبة إلى ما عدا القدر المتيقن من امتداده في الزمان يرجع إلى الشك في المقتضي ، لأنه يحتمل أن يكون زمان الشك هو آخر زمان الحكم بحسب ما جعل له من الغاية ، بحيث لا يكون له استعداد البقاء بعد ذلك ، فيكون بعينه كالشك في مقدار استعداد بقاء الموضوع الخارجي في سلسلة الزمان.

وإن علم إرسال الحكم في جميع الأزمنة : فالشك في بقائه دائما يكون من الشك في الرافع ، فان الشك في بقاء الحكم المرسل لا يمكن إلا من جهة الشك في حدوث امر زماني يقتضي رفع الحكم مع اقتضائه للبقاء ، كما لو شك في طرو أحد العناوين الموجبة لرفع الحكم تفضلا وامتنانا ، فتأمل. هذا إذا لم يضرب للحكم غاية في لسان الدليل.

وإن كان له غاية ، فتارة : يشك في مقدار الغاية من جهة الشبهة الحكمية كما إذا شك في أن غاية وجوب صلاة المغرب هل هي ذهاب الحمرة المغربية؟ أو أن غايته انتصاف الليل؟ وأخرى : يشك في مقدار الغاية من جهة الشبهة المفهومية كما إذا شك في أن الغروب الذي اخذ غاية لوجوب صلاة الظهرين هل هو استتار القرص؟ أو ذهاب الحرمة المشرقية؟ وثالثة : يشك في الغاية من

٣٢٨

جهة الشبهة الموضوعية كما إذا شك في طلوع الشمس الذي اخذ غاية لوجوب صلاة الصبح.

فان شك في مقدار الغاية من جهة الشبهة الحكمية : فالشك في بقاء الحكم فيما وراء القدر المتيقن من الغاية يكون من الشك في المقتضي ، وكذا إذا كان الشك في مقدارها من جهة الشبهة المفهومية ، فان الشك في بقاء وجوب صلاة الظهرين إلى ما بعد استتار القرص يرجع إلى الشك في أمد الحكم ومقدار استعداد بقائه في الزمان ، لاحتمال أن يكون الغروب هو استتار القرص ، فيكون قد انتهى عمر الحكم.

وإن كان الشك في حصول الغاية من جهة الشبهة الموضوعية : فالشك في ذلك يرجع إلى الشك في الرافع حكما لا موضوعا ، لأن الشك في الرافع هو ما إذا شك في حدوث أمر زماني ، والشك في المقام يرجع إلى حدوث نفس الزمان الذي جعل غاية للحكم ، فالشك في حصول الغاية ليس من الشك في الرافع حقيقة ، إلا أنه ملحق به حكما (١) فان الشك في طلوع الشمس لا يرجع إلى الشك في مقدار استعداد بقاء الحكم في الزمان ، للعلم بأنه يبقى إلى الطلوع ، وإنما الشك في تحقق الطلوع ، فيكون كالشك في حدوث ما يرفع الحكم ، فتأمل.

فتحصل : أن الشك في المقتضي يباين الشك في الرافع دائما. وأما الشك في الغاية : فقد يلحق بالشك في المقتضي ، وقد يلحق بالشك في الرافع ، بالبيان المتقدم.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الرافع والغاية ، فان الرافع عبارة عن الامر الزماني الموجب لاعدام الموضوع أو الحكم عن وعائه من دون أن يؤخذ عدمه

__________________

١ ـ أقول : لا يخلو ذلك عن مصادرة ، لان لسان الغاية في الأدلة كاشفة عن تحديد الاستعداد ، ومع الشك فيه بأي نحو يشك في استعداد الحكم ، ولعل المشار إليه بأمره بالتأمل ذلك.

٣٢٩

قيدا للحكم أو الموضوع ، والغاية عبارة عن الزمان الذي ينتهي إليه أمد الشيء ، فتكون النسبة بين الرافع والغاية نسبة التباين. ولو كانت الغاية أعم من الزمان والزماني تكون النسبة بينهما بالعموم من وجه ، فقد يجمعان كما إذا كان الحكم مغيى بغاية زمانية ، فان الامر الزماني الذي اخذ غاية للحكم كما يكون غاية له يكون رافعا أيضا ، وقد يفترقان ، فيكون الشيء غاية من دون أن يكون وجوده رافعا كما إذا اخذ الزمان غاية للحكم كالليل والنهار ، وقد يكون الشيء رافعا للحكم من دون أن يكون غاية له كالحدث الرافع للطهارة ، فان الحدث ليس غاية للطهارة لعدم أخذ عدمه قيدا للطهارة وإنما كان وجوده رافعا لها.

وإن ناقشت في بعض ما ذكرناه ، فلا يضر بما هو المدعى في المقام : من أن مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي في قوله : « إن الاستصحاب لا يجري عند الشك فيه » ليس هو المقتضي بمعنى الملاك ، ولا المقتضي الذي يترشح منه وجود المعلول ، بل المراد منه هو مقدار استعداد بقاء الشيء في سلسلة الزمان ، فكلما رجع الشك في بقاء الشيء إلى الشك في مقدار بقائه في الزمان يكون من الشك في المقتضي ، وفيما عدا ذلك يكون من الشك في الرافع ، حتى أن الشك في انتقاض التيمم (١) بزوال العذر أو بوجدان الماء في أثناء الصلاة يرجع إلى

__________________

١ ـ ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره في ذيل استدلال المنكرين لحجية الاستصحاب مطلقا يعطي أن الشك في انتقاض التيمم بوجدان الماء ليس من الشك في الرافع ، بل هو من الشك في الموضوع بتقريب : أن المكلف بالطهارة الترابية هو الفاقد للماء ، فعند وجدان الماء في أثناء الصلاة يشك في بقاء الموضوع ، لاحتمال أن يكون الموضوع هو الفاقد للماء قبل الصلاة لا مطلقا.

هذا ، ولكن التحقيق : أن مثال التيمم ليس من الشك في المقتضي ، ولا من الشك في الموضوع.

أما الأول ، فلان الشك في الانتقاض لا يرجع إلى الشك في مقدار استعداد بقاء أثر التيمم في عمود الزمان.

وأما الثاني : فلان الموضوع هو ذات المكلف لا بوصف كونه فاقدا للماء ، بل فقدان الماء علة لوجوب التيمم على المكلف ، كما هو ظاهر قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » الآية ، فان

٣٣٠

الشك في الرافع ، لأن الشك في بقاء اثر التيمم إنما هو لأجل حدوث أمر زماني ، فيندرج في ضابط الشك في الرافع ، مع أنه من أوضح مصاديق الشك في المقتضي بأحد الوجهين المتقدمين.

وبما ذكرنا يندفع ما يورد على الشيخ قدس‌سره في جملة من الموارد التي بنى على جريان الاستصحاب فيها ، بان الشك فيها يرجع إلى الشك في المقتضي فينبغي أن لا يقول بجريان الاستصحاب فيها (١) فان الايراد عليه بذلك مبني على ما توهم من أن مراد الشيخ من المقتضي هو أحد الوجهين المتقدمين ، وقد عرفت أن ذلك بمراحل عن الواقع.

إذا عرفت ما تلوناه عليك من الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار المستصحب والدليل الدال عليه ومنشأ الشك في بقائه ، فالأقوى عندنا : اعتبار الاستصحاب في جميع أقسام المستصحب والدليل الدال عليه وأقسام الشك في الرافع وما يلحق به من الشك في الغاية ، وعدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية ، ويتضح وجه ذلك بذكر الأدلة التي استدلوا بها على حجية الاستصحاب.

فمنها :

دعوى بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة والعمل على طبقها وعدم

__________________

الخطاب إنما هو لذوات المكلفين لا للفاقدين * فالموضوع باق على ما هو عليه ولو بعد وجدان الماء وإنما الشك لأجل احتمال أن يكون فقدان الماء علة لوجوب التيمم حدوثا وبقاء فلا مانع من جريان الاستصحاب ، فتأمل جيدا ( منه ).

* أقول : بناء على ما سلكتم من إرجاع شرائط التكليف إلى الموضوع يلزمكم في المقام أن تجعلوا عدم الوجدان قيدا لموضوع الخطاب بالتيمم بنص الآية الشريفة من قوله سبحانه : « وإن لم تجدوا الخ ».

١ ـ أقول : ليس بنظري مورد الاشكال حتى الاحظ وأميز الحق من الباطل.

٣٣١

الاعتناء بالشك في انتقاضها.

وهذه الدعوى في الجملة مما لا إشكال فيها ولا سبيل إلى إنكارها ، لأنه قد استقرت الطريقة العقلائية على العمل بالحالة السابقة وعدم الاعتناء بالشك في ارتفاعها ، كما يشاهد ذلك في مراسلاتهم ومعاملاتهم ومحاوراتهم ، بل لولا ذلك يلزم اختلال النظام ، فان النيل إلى المقاصد والوصول إلى الاغراض يتوقف غالبا على البناء على بقاء الحالة السابقة ، ضرورة أن الشك في بقاء الحياة لو أوجب التوقف في ترتيب آثار بقاء الحياة لانسدت أبواب المراسلات والمواصلات والتجارات ، بل لم يقم للعقلاء سوق.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن الطريقة العقلائية قد استقرت على ترتيب آثار البقاء عند الشك في الارتفاع (١) وليس عملهم على ذلك لأجل حصول الاطمينان لهم بالبقاء ، أو لمحض الرجاء ، بداهة أنه لا وجه لحصول الاطمينان مع فرض الشك في البقاء ، والعمل برجاء البقاء إنما يصح فيما إذا لم يترتب على عدم البقاء أغراض مهمة ، وإلا لا يكاد يمكن ترتيب آثار البقاء رجاء ، مع أنه يحتمل فوات المنافع أو الوقوع في المضار المهمة ، فعمل العقلاء على الحالة السابقة ليس لأجل الرجاء ولا لحصول الاطمينان ، بل لكون فطرتهم جرت على ذلك فصار البناء على بقاء المتيقن من المرتكزات في أذهان العقلاء.

فظهر : أنه لا مجال لانكار قيام السيرة العقلائية والطريقة العرفية على الاخذ بالحالة السابقة وعدم الاعتناء بالشك في ارتفاعها ، ولم يردع عنها الشارع.

__________________

١ ـ أقول : ولعمري! أن جميع ذلك من باب الوثوق النوعي الحاصل في نظائره من ظواهر الألفاظ وسائر الموارد التي يجري على طبق الغالب ، لا أنه من باب التعبد والاخذ بأحد طرفي الشك تعبدا ، ولو فرض تماميته وعدم ثبوت الردع عن مثل هذا الوثوق النوعي في الموضوعات للزم حجية الاستصحاب من باب الظن وكان من الامارات ، ولا أظن يلتزم به المستدل ، فتدبر.

٣٣٢

والآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم لا تصلح لان تكون رادعة عنها ، لما تقدم في حجية الظواهر وخبر الواحد : من أن جميع موارد السيرة العقلائية خارجة عن العمل بما وراء العلم بالتخصص.

فما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره في المقام : من أن الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم تصلح لكونها رادعة عن السيرة العقلائية فيما نحن فيه ، ينافي ما تقدم منه في حجية الخبر الواحد : من أن تلك الآيات لا يمكن أن تكون رادعة عن الطريقة العقلائية ، مع أن بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة لو لم يكن أقوى من بنائهم على العمل بالخبر الواحد فلا أقل من التساوي بين المقامين ، فكيف كانت الآيات رادعة عن بناء العقلاء في المقام ولم تكن رادعة عنه في ذلك المقام؟! فالأقوى : أنه لا فرق في اعتبار السيرة العقلائية في كلا المقامين.

ولكن القدر المتيقن من بناء العقلاء هو الاخذ بالحالة السابقة عند الشك في الرافع ، ولم يظهر أن بناء العقلاء على ترتيب آثار وجود المتيقن حتى مع الشك في المقتضي ، بل الظاهر أن بنائهم عند الشك في المقتضي على التوقف والفحص إلى أن يتبين الحال.

ولعل منشأ القول بحجية « قاعدة المقتضي والمانع » هو ما يشاهد من بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة عند إحراز المقتضي ، وقد استدل بعض من قال باعتبار القاعدة بذلك. ولكنه ضعيف ، لان بناء العقلاء على ذلك إنما هو بعد إحراز تأثير المقتضي ووجود المقتضي ( بالفتح ) في الخارج ، وهذا أجنبي عن « قاعدة المقتضي والمانع » فان مورد القاعدة هو مجرد العلم بوجود المقتضي مع عدم العلم بتأثيره في وجود المعلول ، كما عرفت.

فتحصل : أن المقدر الذي يمكن أن يدعى في المقام ، هو قيام السيرة العقلائية على عدم الاعتناء بالشك في ارتفاع الشيء بعد العلم بوجوده خارجا

٣٣٣

واقتضائه للبقاء. ودعوى : قيام السيرة على أزيد من ذلك مما لا شاهد عليها ، وعهدتها على مدعيها.

ومنها :

الاجماع المحكي في جملة من الكلمات.

ولا يخفى وهنه ، فإنه لا يمكن الركون إلى الاجماع المحكي ، خصوصا في مثل المقام الذي كثر الاختلاف والأقوال فيه.

نعم : يمكن دعوى قيام الشهرة أو ما يقرب من الاجماع على اعتبار الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع ، فان السيد رحمه‌الله وإن نسب إليه القول بعدم حجية الاستصحاب مطلقا إلا أن صاحب المعالم اعترف بأن كلام السيد رحمه‌الله يرجع إلى مقالة المحقق صاحب المعارج ، مع أن المحقق رحمه‌الله من القائلين بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، كما يشهد له التمثيل بالنكاح والألفاظ التي يشك في وقوع الطلاق بها ، وإن كان يظهر من ذيل كلامه : أن القول ببقاء عقدة النكاح عقيب ما يشك في وقوع الطلاق بها إنما هو لأجل إطلاق ما دل على حلية النكاح للوطي ، لا لأجل الاستصحاب ، فراجع وتأمل.

ومنها :

الاخبار ، وهي العمدة ، وقد بلغت ما يقرب من الاستفاضة.

فمنها : مضمرة زرارة ، ولا يضر إضمارها بعدما كان الراوي « زرارة » الذي لا يروي إلا عن الامام عليه‌السلام « قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال عليه‌السلام يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء ،

٣٣٤

قلت : فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال عليه‌السلام لا ، حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر » (١).

والاستدلال بالرواية على اعتبار الاستصحاب مطلقا في جميع المسائل يتوقف على إلغاء خصوصية تعلق اليقين بالوضوء ، وأن إضافة اليقين إلى الوضوء في قوله : « وإلا فإنه على يقين من وضوئه » ليس لبيان تقييد اليقين بالوضوء ، بل لمجرد بيان أحد مصاديق ما يتعلق به اليقين (٢) واختيار هذا المصداق بالذكر لكونه مورد السؤال لا لخصوصية فيه ، وعلى هذا يكون المحمول في الصغرى مطلق اليقين مجردا عن خصوصية تعلقه بالوضوء ، وينطبق على ما هو الموضوع في الكبرى ، وهي قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » فيكون « الألف واللام » في اليقين للجنس ، لا للعهد (٣) ليختص الموضوع في الكبرى باليقين المتعلق بالوضوء ، ويتألف من مجموع الجملتين قياس بصورة الشكل الأول ، فتكون النتيجة هي عدم جواز نقض مطلق اليقين بالشك ، سواء تعلق اليقين بالوضوء أو بغيره من الاحكام والموضوعات ، كما لو فرض أنه قدم

__________________

١ ـ الوسائل الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء الحديث ١.

٢ ـ أقول : والأولى أن يقال : إن تطبيق مثل هذا الكبرى على صغريات متعددة : من الوضوء تارة والطهارة الخبثية أخرى والركعات ثالثة يكشف كشفا جزميا بعدم خصوصية في هذه الموارد ، بل كل مورد من باب تطبيق الكبرى الكلية على صغرياتها.

٣ ـ أقول : بعد كون المقدمة كونه على يقين من وضوئه ، فلو كان « اللام » للعهد فلا يقتضي إلا عدم نقض اليقين بشخص وضوئه لا اليقين بمطلق الوضوء ، فإرادة اليقين بمطلق الوضوء من لوازم كون « اللام » للجنس بضميمة عدم تجريد إضافة اليقين الثاني إلى الوضوء الكلي بملاحظة حفظ كلية الكبرى ، بقرينة استتباع إرادة شخص وضوئه في عدم نقض اليقين الظاهر في كونه بمنزلة كبرى القياس ، وحينئذ عمدة وجه استفادة المدعى تجريد اليقين عن طبيعة الوضوء في المقدم وعدمه ، من دون فرق بين كون « اللام » في اليقين الثاني للعهد أو الجنس ، فتدبر.

٣٣٥

الوضوء على اليقين وكان الكلام هكذا « فإنه من وضوئه على يقين ، ولا ينقض اليقين بالشك » إذ لا إشكال حينئذ في أن المحمول في الصغرى والموضوع في الكبرى هو نفس اليقين بلا قيد.

والحاصل : أن المهم هو بيان كون إضافة اليقين إلى الوضوء في قول عليه‌السلام « فإنه على يقين من وضوئه » ليست لأجل كونها دخيلة في الحكم لتكون « الألف واللام » للعهد فيختص الحكم باليقين والشك المتعلق بباب الوضوء بعد إلغاء خصوصية المورد : من كون منشأ الشك في بقاء الوضوء هو خصوص النوم.

ومما ذكرنا ظهر : أن الاستدلال بالرواية على حجية الاستصحاب في غير باب الوضوء لا يتوقف على تعيين جزاء الشرط : من أنه نفس قوله عليه‌السلام « فإنه على يقين من وضوئه » أو أن ذلك علة للجزاء المقدر وهو « فلا يجب عليه الوضوء » أو أن الجزاء هو قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » والتعليل ذكر توطئة للجزاء.

فما أتعب الشيخ قدس‌سره نفسه في تعيين الجزاء لا دخل له في الاستدلال بالرواية لما نحن فيه. مع أنه لا ينبغي الاشكال في كون الجزاء هو نفس قوله : « فإنه على يقين من وضوئه » بتأويل الجملة الخبرية إلى الجملة الانشائية ، فمعنى قوله عليه‌السلام « فإنه على يقين من وضوئه » هو أنه يجب البناء والعمل على طبق اليقين بالوضوء.

وأما احتمال أن يكون ذلك علة للجزاء المقدر وهو « فلا يجب عليه الوضوء » فهو ضعيف غايته وإن قواه الشيخ قدس‌سره بداهة أنه على هذا يلزم التكرار في الجواب وبيان حكم المسؤول عنه مرتين بلا فائدة ، فان معنى قوله عليه‌السلام « لا ، حتى يستيقن » عقيب قول السائل : « فان حرك في جنبه شيء » هو أنه لا يجب عليه الوضوء ، فلو قدر جزاء قوله : « وإلا » بمثل « فلا

٣٣٦

يجب عليه الوضوء » يلزم التكرار في الجواب ، من دون أن يتكرر السؤال ، وهو لا يخلو عن حزازة. فاحتمال أن يكون الجزاء محذوفا ضعيف غايته.

وأضعف منه : احتمال أن يكون الجزاء قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » فإنه بعيد عن سوق الكلام ، مع أنه يلزم منه اختصاص قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » بخصوص باب الوضوء ويتعين أن يكون « الألف واللام » فيه للعهد ، ولا يصلح لان يكون كبرى كلية في جميع المقامات ، كما لا يخفى وجهه ، فيتعين أن يكون قوله عليه‌السلام « فإنه على يقين من وضوئه » هو الجزاء ، بتأويل الجملة الخبرية إلى الجملة الانشائية.

وعلى كل حال : قد عرفت : أن الاستدلال بالرواية لا يتوقف على تشخيص الجزاء ، بل يتوقف على إلغاء خصوصية إضافة اليقين إلى الوضوء.

والظاهر : أنه لا ينبغي التأمل والتوقف في عدم دخل الإضافة في الحكم ، بل ذكر متعلق اليقين في الرواية إنما هو لكون اليقين من الصفات الحقيقية ذات إضافة ، فلابد وأن يكون له إضافة إلى شيء ، وإنما أضيف إلى خصوص الوضوء ، لان الإضافة الخارجية في مورد السؤال كانت في خصوص الوضوء ، فتأخير قوله عليه‌السلام « من وضوئه » عن « اليقين » كتقديمه عليه لا يستفاد منه أزيد من كونه طرف الإضافة ، من دون أن يكون له دخل في الحكم ، فيكون الموضوع في قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين » هو مطلق اليقين ، و « اللام » للجنس ، كما هو الأصل فيها إذا كان المدخول من أسماء الأجناس.

فالانصاف : أنه لا يحتمل أن يكون لذكر متعلق اليقين في الرواية دخل في الحكم ، فلا يقال : إنه يكفي في سقوط الاستدلال بالرواية احتمال أن يكون لتعلق اليقين بالوضوء دخل في الكبرى ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فيوجب إجماله.

هذا ، مضافا إلى أن مناسبة الحكم والموضوع والتعبير بلفظ « النقض »

٣٣٧

يقتضي أن لا تكون لخصوصية إضافة اليقين إلى الوضوء دخل في الحكم ، فان القابل للنقض وعدمه هو اليقين من دون دخل لتعلقه بالوضوء ، مع أن الظاهر من قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » هو أنه ورد لتقرير ما هو المرتكز في أذهان العقلاء واستقرت عليه طريقتهم : من عدم الاعتناء بالشك في بقاء ما هو متيقن الوجود مطلقا في كل ما كان الشك في البقاء لأجل احتمال وجود الرافع.

فظهر : أنه لا ينبغي احتمال اختصاص الرواية بخصوص باب الوضوء ، بل تعم جميع الأبواب ، لكن في خصوص الشك في الرافع ، كما سيأتي بيانه.

دفع وهم :

ربما يتوهم : أن غاية ما تدل عليه الرواية هو سلب العموم لا عموم السلب ، فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كل فرد من أفراد اليقين بالشك ، بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشك ، وهذا لا ينافي جواز نقض بعض الافراد.

وفيه مالا يخفى ، فان سلب العموم يتوقف على لحاظ العموم معنى اسميا ليصح سلبه ، وهذا إنما يمكن فيما إذا كان العموم مستفادا من مثل لفظة « كل » و « أجمع » ونحو ذلك مما يكون له معنى اسمي ، وأما العموم المستفاد من مثل النكرة الواقعة في سياق النفي والنهي والمفرد المحلى باللام بل الجمع المحلى بها فلا يمكن فيه سلب العموم.

أما في النكرة : فواضح ، فان العموم فيها إنما يستفاد من النفي والنهي الوارد على الطبيعة ، حيث إن عدم الطبيعة يتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها ، فالعموم فيها متأخر رتبة عن ورود النهي أو النفي ، فإنه لولا ورود النفي على الطبيعة لا يكاد يتحقق العموم ، فلا يعقل فيها سلب العموم ، لان سلب العموم

٣٣٨

يتوقف على أن يكون العموم سابقا في الرتبة على السلب ليصح سلبه.

وكذا الكلام في المفرد المحلى باللام ، فان العموم فيه أيضا متأخر رتبة عن ورود الحكم ، لأنه إنما يستفاد من مقدمات الحكمة بعد ورود الحكم على المفرد سلبا أو إيجابا ، لان المفرد المحلى باللام ليس موضوعا للعموم حتى يمكن ورود الحكم عليه ، فهي مثل « لا تكرم رجلا » أو « لا تكرم الرجل » و « لا تنقض اليقين » ونحو ذلك لا يمكن فيه سلب العموم ، بل لابد وأن يكون المراد منه عموم السلب.

وأما الجمع المحلى باللام : فهو وإن كان موضوعا للعموم مع قطع النظر عن كونه موضوعا لحكم من الاحكام ، إلا أن أداة العموم فيه إنما تكون مرآة لملاحظة المصاديق والافراد المقدرة وجودها ، فلا يمكن لحاظ العموم فيه معنى اسميا ليصح سلبه ، لما عرفت : من أن سلب العموم يتوقف على لحاظ العموم معنى اسميا ، ولا يمكن ذلك في العموم المستفاد من الأدوات الحرفية ، لان المعنى الحرفي لا يعقل لحاظه معنى اسميا.

نعم : لو كان الجمع المحلى باللام بهيئته التركيبية موضوعا للعموم ـ كما هو أحد الوجهين أو القولين فيه ـ لكان لدعوى سلب العموم فيه مجال وإن كان خلاف الظاهر. فالتحقيق : أنه لا سبيل إلى القول بسلب العموم في كل من النكرة والمفرد المحلى باللام والجمع المحلى بها.

نعم : لو كان العموم مستفادا من لفظة « كل » ونحوها من الأدوات الاسمية ، لكان للقول بسلب العموم فيه مجال ، بل قد يدعى ظهوره في سلب العموم ، كما لا يبعد ذلك في مثل قوله : « لا تأكل كل رمانة في البستان » و « لا تضرب كل أحد » و « لا تكرم كل فاسق » فاستفادة عموم السلب في مثل ذلك يحتاج إلى قرينة تدل عليه ، وإلا فظاهره الأولي يدل على سلب العموم.

فتحصل : أنه لا مجال لتوهم سلب العموم في مثل قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لأنه من المفرد المحلى باللام الذي قد عرفت أنه

٣٣٩

لا يمكن فيه إلا عموم السلب ، فتأمل جيدا.

ومنها :

مضمرة أخرى لزرارة أيضا : « قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني فعلمت أثره إلى أن أصب عليه الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال عليه‌السلام تعيد الصلاة وتغسله ، فلت : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال عليه‌السلام تغسله وتعيد ، قلت : فان ظننت أنه أصابه ولم أتيقن فنظرت ولم أر شيئا فصليت فيه؟ قال عليه‌السلام تغسله ولا تعيد ، قلت : لم ذلك؟ قال عليه‌السلام لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ، قلت : فاني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال عليه‌السلام تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل علي إن شككت أنه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال عليه‌السلام لا ولكنك إنما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال عليه‌السلام تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » الخبر (١).

وهذه الرواية الشريفة التي عليها آثار الصدق قد تضمنت لجملة من الاحكام ، منها : حجية الاستصحاب بناء على أن يكون المراد من « اليقين » في قوله عليه‌السلام « لأنك كنت على يقين من طهارتك » هو اليقين بالطهارة

__________________

١ ـ أورد قطعات منها في الوسائل في الباب ٣٧ ح ١ والباب ٤١ ح ١ والباب ٤٢ ح ٢ مع اختلاف في بعض الكلمات

٣٤٠