فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

الأطراف : لأنه لا يمكن الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في كل من الأطراف مع العلم الوجداني بعدم بقائه في بعضها ، على ما تقدم بيانه.

وإن رجع كلامه إلى مقام الاثبات وأن أدلة الأصول لا تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فيرد عليه :

أولا : ما عرفت من أن الأصول العملية إنما تجري في الأطراف وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فلم يحصل ما اخذ في الأدلة غاية للتعبد بمؤدى الأصول وهو العلم بالخلاف في كل واحد من الأطراف ، ومجرد العلم بالخلاف وانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف على سبيل الاجمال لا يوجب خروج كل واحد من الأطراف عن كونه مجهول الحكم ، وإلا انقلب العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي (١).

__________________

١ ـ أقول : لا يخفى أنه بعد تقريره إشكال شيخنا العلامة بأحسن بيان كيف يتوجه عليه إيراد هذه الوجوه؟ إذ مرجع كلامه قدس‌سره بعدما كان إلى مناقضة حرمة النقض لكل واحد من الشكين مع وجوب النقض باليقين الشامل للاجمالي ، بلا توهم انصرافه إلى اليقين بما تعلق به الشك ، إذ ليس الغرض نقض الشك باليقين كي يتوهم الانصراف إلى ما تعلق به ، بل الغرض نقض اليقين به ، وفيه لا مجال لدعوى الانصراف المزبور ، وحينئذ مع كونهما في رتبة واحدة لا يبقى مجال لترجيح الحرمة على الوجوب ، لا أن مجرد العلم الاجمالي كان غاية للأصل ، كي يرد بأنه ليس على الخلاف في كل واحد من الطرفين ، كما أن ظاهر وجوب النقض يقتضي انحصار مورده بصورة العلم بالتكليف ، وإلا فمع العلم الاجمالي بغيره لا يقتضي ذلك وجوب نقضه ، وذلك هو النكتة الفارقة بين صورة لزوم المخالفة العملية وغيره ، كما أن إطلاق وجوب النقض ربما يزاحم الترخيصات المطلقة الشاملة للطرفين ، خصوصا مع قوله : « بعينه » في بعضها ، فلا أقل من التساقط المانع عن الشمول في مقام الاثبات : فتأمل كي لا يتوهم بأنه بعد ابتلائه بصدر الخبر من حرمة النقض ومعارضته يصير مجملا ولا يصلح أن يزاحم المطلقات المنفصلة عنه ، إذ يمكن أن يقال : إن وجوب النقض بالعلم بالخلاف ارتكازي عقلي غير قابل لاحتمال التصرف فيه ، بخلاف حرمة نقض اليقين بالشك ، فإنه يصلح أن يكون مغيا بما هو موضوع لوجوب النقض ، وحينئذ لا يكون الصدر موجبا لاجماله ، وبعده فكما كان مقدما على صدر الرواية كان مقدما على بقية المطلقات المنفصلة أيضا ، كما لا يخفى. ولعل بهذا البيان أمكن إثبات تساقط الأصول

٢١

نعم : هذا إنما يتم في خصوص الأصل الذي يضاد مؤداه نفس المعلوم بالاجمال ، وذلك منحصر بأصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين كما تقدم بيانه ، وأما ما عدا ذلك فليس شيء من مؤديات الأصول تقابل نفس المعلوم بالاجمال وتضاده ، لان مؤدياتها هي حلية كل واحد من الأطراف أو طهارته أو عدم وجوبه ـ على اختلاف الأصول ـ ولم يحص العلم بالخلاف بالنسبة إلى كل واحد منها وإن حصل العلم بالخلاف بالنسبة إلى واحد منها على سبيل الاجمال والترديد. فلا فرق بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي في شمول الأدلة لهما وكونهما مندرجين تحت العموم على نسق واحد ، ولا يلزم من الشمول مناقضة صدر الدليل لذيله.

وثانيا : أنه لو كان المانع من عدم جريان الأصول في الأطراف هو قصور الأدلة وعدم شمولها لها لأجل حصول الغاية في بعض الأطراف ، على ما زعمه قدس‌سره فأي فرق بين ما يلزم من جريانها مخالفة عملية وما لا يلزم؟ فان شمول الدليل وعدمه لا دخل له بالمخالفة العملية وعدمها ، إذ العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف لا على التعيين إن أوجب حصول ما اخذ في الدليل غاية ففي الجميع يوجب ذلك كانت هناك مخالفة عملية أو لم تكن ، وإن كان العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف لا يوجب حصول ما اخذ غاية ففي الجميع لا يوجب ذلك ، مع أنه قدس‌سره قد صرح في مواضع من الكتاب بجريان الأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منها المخالفة العملية. فراجع كلامه في حجية القطع عند البحث عن المخالفة الالتزامية.

وثالثا : أن مناقضة الصدر للذيل ـ على تقدير تسليمه ـ إنما يختص ببعض

__________________

من الاطلاق ، حتى على اقتضاء العلم بلا انتهاء النوبة إلى التخيير ، فتدبر.

٢٢

اخبار الاستصحاب الذي اشتمل على الذيل ، فإنه هو الذي يمكن أن يتوهم منه أن حصول يقين آخر وإن لم يتعلق بعين ما تعلق به اليقين السابق يوجب عدم شمول الصدر للأطراف وإلا ناقض صدره ذيله.

وأما مالا يشتمل منها على هذا الذيل من أخبار الاستصحاب وغيرها حتى قوله عليه‌السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » أو « منه بعينه » ـ على اختلاف الأخبار الواردة في ذلك ـ فهو سالم عن إشكال مناقضة الصدر للذيل.

أما ما كان من قبيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لايعلمون » مما لم يذكر فيه الغاية ، فواضح.

وأما ما كان من قبيل قوله عليه‌السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » ، وقوله عليه‌السلام » كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » وغير ذلك مما اشتمل على ذكر الغاية فلظهوره أيضا في وحدة متعلق الشك والغاية ، لظهور الضمير في ذلك. وفي الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي لا يتحد متعلق الشك والغاية ، فان متعلق الشك هو كل واحد من الأطراف بعينه ، ومتعلق الغاية هو أحد الأطراف لا بعينه ، فكل واحد من الأطراف يندرج في الصدر بلا أن يعارضه الذيل.

فتحصل : أن دعوى عدم شمول أدلة الأصول للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي خالية عن الشاهد بل ظاهر الأدلة خلافها : ولابد من رفع اليد عن ظاهرها في كل مورد لا يمكن التعبد بالمؤدى لعدم انخفاظ رتبة الحكم الظاهري بأحد الأمور المتقدمة : إما لانتفاء الموضوع من الشك والجهل الذي اخذ موضوعا في الأصول العملية ، وإما لقصور المحمول وما هو المجعول فيها عن شموله لموارد العلم الاجمالي ، وإما للزوم المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، وفيما عدا ذلك فالأصول تجري في الأطراف ويعمها الأدلة بلا معارض.

٢٣

وحينئذ لا يبقى موقع لاتعاب النفس وإطالة الكلام فيما يستفاد من لفظة « بعينه » الواردة في أخبار أصالة الحل بعد فرض كون أخبار أصالة الحل كسائر أدلة الأصول إنما وردت لبيان الحكم الظاهري وجعل الوظيفة للجاهل بالموضوع أو الحكم الواقعي ، أو خصوص الجاهل بالموضوع ولا تشمل الجاهل بنفس الحكم ابتداء ، على اختلاف الوجهين فيما يستفاد من أخبارها من أنها تختص بالشبهات الموضوعية أو تعم الحكمية أيضا.

نعم : لو كانت الاخبار بصدد بيان الحكم الواقعي وتقييده بصورة العلم بالموضوع أو الحكم لكان للبحث عن مقدار دلالتها من حيث إنها تقتضي التقييد بخصوص العلم التفصيلي بالموضوع أو الحكم أو تعم العلم الاجمالي أيضا مجال ، إلا أن ذلك مع كونه خلاف الفرض ـ لان المبحوث عنه في المقام هو جريان الأصول العملية المتكفلة للأحكام الظاهرية ـ يأباه ظاهر الاخبار ، فان الظاهر منها أنها وردت لبيان وظيفة الجاهل بالحكم أو الموضوع بعد الفراغ عن إطلاق الحكم الواقعي.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر الوجه في حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال وعدم جواز الاذن فيها إلا بنسخ الحكم الواقعي أو تقييده بصورة العلم التفصيلي.

وأما الجهة الثانية :

ـ أعني وجوب الموافقة القطعية ـ فالأقوى وجوبها أيضا ، لأنه يجب عقلا الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالاجمال ، وهو لا يحصل إلا بالاجتناب عن جميع الأطراف ، إذ لو لم يجتنب المكلف عن الجميع وارتكب البعض فلا يأمن من مصادفة ما ارتكبه لمتعلق التكليف المعلوم في البين ، فيكون قد ارتكب الحرام بلا مجوز عقلي أو شرعي ، فيستحق العقوبة : وذلك كله واضح بعد البناء على أن

٢٤

العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز.

نعم : للشارع الاذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر كما سيأتي بيانه ، ولكن هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلة العامة المتكفلة لحكم الشبهات ، من قبيل قوله عليه‌السلام « كل شيء لك حلال » أو « كل شيء طاهر » قوله « لا تنقض اليقين بالشك » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله . « رفع ما لايعلمون » وغير ذلك من أدلة الأصول العملية ، لان نسبتها إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء : ولا يمكن أن تجري في الجميع لأنه يلزم المخالفة القطعية ، ولا في الواحد المعين لأنه يلزم الترجيح بلا مرجح ، ولا في الواحد لا بعينه لان الأصول إنما تجري في كل طرف بعينه : ومقتضى ذلك هو سقوط الأصول بالنسبة إلى جميع الأطراف ، من غير فرق بين الأطراف التي يمكن ارتكابها دفعة واحدة وبين الأطراف التي لا يمكن ارتكابها إلا تدريجا ، لاتحاد مناط السقوط في الجميع : ويبقى حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكليف المعلوم على حاله.

فان قلت : نعم وإن كانت نسبة الأصول إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء ، إلا أن ذلك لا يقتضي سقوطها جميعا ، بل غاية ما يقتضيه هو التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين ، لأنه بعد الاعتراف بعموم أدلة الأصول وشمولها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ـ كما تقدم ـ تكون حال الأصول العملية حال الامارات على القول بالسببية فيها. وتوضيح ذلك : هو أن التخيير في باب الامارات المتعارضة على ذلك القول إنما هو لأجل وقوع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال ، لعدم القدرة على الجمع بين الامارات المتضادة في المؤدى : ولابد حينئذ

إما من تقييد إطلاق الامر بالعمل بمؤدى كل من الامارتين المتعارضتين بحال عدم العمل بالأخرى ـ إن لم يكن أحد المؤديين أهم وأولى بالرعاية من الآخر ، وإلا فيقيد إطلاق أمر المهم فقط ويبقى إطلاق أمر الأهم على حاله ـ واما من سقوط الامرين معا واستكشاف العقل حكما تخييريا لأجل وجود

٢٥

الملاك التام في متعلق كل من الامارتين على الوجهين المذكورين في باب التزاحم : من أن التخيير بين المتزاحمين هل هو لأجل تقييد إطلاق الخطاب من الجانبين مع بقاء أصله؟ أو هو لأجل سقوط الخطابين واستكشاف العقل حكما تخييريا؟.

والأقوى : هو الوجه الأول ، لان التزاحم إنما ينشأ من عدم القدرة على الجمع بين المتزاحمين في مقام الامتثال ، والمقتضي لايجاب الجمع إنما هو إطلاق كل من الخطابين لحال امتثال الآخر وعدمه ، إذ لو لم يكن للخطابين هذا الاطلاق وكان كل منهما مشروطا بعدم امتثال الآخر لما كاد يحصل إيجاب الجمع الموجب لوقوع التزاحم بينهما ، ومن المعلوم : أن الذي لابد منه هو سقوط ما أوجب التزاحم وليس هو إلا إطلاق الخطابين : فلا موجب لسقوط أصلهما ، لان الضرورات تتقدر بقدرها. وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في محله : والمقصود في المقام مجرد التنبيه على المختار : من أن التخيير بين المتزاحمين إنما يكون لأجل تقييد إطلاق الامر من الجانبين.

ومن جملة أفراد التزاحم : تزاحم الامارات المتعارضة على القول بالسببية فيها ، لأنه على هذا القول تندرج الامارات المتعارضة في صغرى التزاحم : ولابد من الحكم بالتخيير في الاخذ بإحدى الامارتين لتقييد إطلاق الامر بالعمل بكل منهما بحال عدم العمل بالأخرى ، وحينئذ يستقيم تنظير باب الأصول العملية بباب الامارات ، بتقريب : أن حجية كل أصل عملي إنما تكون مطلقة بالنسبة إلى ما عداه من سائر الأصول لاطلاق دليل اعتباره ، وهذا الاطلاق يكون محفوظا في الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي إذا لم يلزم من جريان الأصول في الأطراف مخالفة عملية لعدم التعارض بينها ، فلا موجب لتقييد إطلاق حجيتها : وأما إذا لزم من جريانها في الأطراف مخالفة عملية فلا يمكن بقاء إطلاق الحجية لكل من الأصول الجارية في الأطراف ، لان بقاء الاطلاق

٢٦

يقتضي صحة جريانها في جميع الأطراف ، والمفروض عدم صحة ذلك ، لأنه يلزم من جريانها في الجميع مخالفة قطعية عملية ، فلابد من رفع اليد عن إطلاق الحجية. ولكن هذا لا يوجب سقوط أصل الحجية من كل أصل في كل واحد من الأطراف ، بل غاية ما يلزم هو تقييد إطلاق حجية كل من الأصلين المتعارضين أو الأصول المتعارضة بحال عدم جريان الأصل الآخر في الطرف المقابل. ونتيجة هذا التقييد هو التخيير في إجراء أحد الأصلين لا سقوطهما رأسا ، فان المانع من إجراء الأصلين معا ليس هو إلا المخالفة العملية ، وهي لم تلزم من نفس حجية الأصلين ، بل من إطلاق حجيتها لحال إجراء الآخر وعدمه ، إذ لو كان حجية كل أصل مشروطا بحال عدم إجراء الأصل الآخر لم تحصل المخالفة العملية ، فالمخالفة العملية انما نشأت من إطلاق الحجية لكل من الأصلين المتعارضين ، فلابد من تقييد حجية كل من الأصلين بحال عدم إجراء الآخر ، كتقييد الامر بالعمل بكل من الامارتين المتعارضتين بحال عدم العمل بالأخرى من غير فرق بينهما ، سوى أن الموجب للتقييد في الامارتين المتعارضتين هو عدم القدرة على العمل بهما جمعا ، وفي الأصلين المتعارضين هو لزوم المخالفة العملية من جرائهما معا.

وحاصل الكلام : أن حجية كل أصل عملي إنما تكون مشروطة بانخفاظ رتبة الأصل كاشتراط كل تكليف بالقدرة على متعلقه ، وكما أنه في باب التكاليف الواقعية تكفي القدرة على امتثال أحد التكليفين المتزاحمين في الحكم بالتخيير بينهما ، فكذلك في باب الأصول العملية يكفي انحفاظ رتبة أحد الأصلين المتعارضين في الحكم بالتخيير بينهما ، ولا إشكال في انحفاظ رتبة كل من الأصلين عند عدم إجراء الآخر ، فلا وجه لسقوطهما معا.

قلت : هذا غاية ما يمكن أن توجه به مقالة التخيير ، وقد ذهب إليه بعض الأعاظم في حاشيته على الفرائد وتبعه بعض أعيان أهل العصر.

٢٧

ولكن الانصاف : أن القول بالتخيير في الأصول المتعارضة في غاية الوهن والسقوط ، لأنه قول بلا دليل ولا يساعد عليه العقل ولا النقل ، فان التخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين لابد وأن يكون لاحد أمرين : إما لكون المجعول في باب الأصول العملية معنى يقتضي التخيير في تطبيق العمل على أحد الأصلين المتعارضين ، وإما لأجل اقتضاء أدلة الحجية ذلك ، ومن الواضح أن المجعول في الأصول ودليل حجيتها لا يقتضي التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين ، وقياس الأصول العملية بالامارات في غير محله ، فان التخيير في الاخذ بإحدى الامارتين المتعارضتين على القول بالسببية فيها إنما هو لأجل كون المجعول في الامارات معنى يقتضي التخيير في الاخذ بإحدى الامارتين المتعارضتين.

وتوضيح ذلك : هو أن الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين :

أحدهما : اقتضاء الكاشف والدليل الدال على الحكم التخيير في العمل.

ثانيهما : اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك وإن كان الدليل يقتضي التعيينية (١).

__________________

١ ـ أقول : إطالة الكلام ربما يوجب اغتشاش ذهن المبتدين وذهاب أصل المطلب من البين ، والأولى تلخيصا في الجواب هو أن عموم دليل الأصل بعدما يقتضي الشمول لكل واحد من الطرفين ، فافرض هذا العموم بمنزلة « أكرم العلماء » في المثال ، ثم افرض المخصص العقلي في المقام بمنزلة العلم بخروج إكرام عمرو وزيد ، فنقول : وإن علمنا بخروج كأس زيد المشكوك وكأس عمرو المشكوك المقرونين بالعلم الاجمالي ، ولكن لا نعلم بخروج كل منهما في جميع الحالات أو خروج كل منهما في حال إتيان الاخر ، بحيث يكون وجود كل منهما تحت عموم الحلية في حال دون حال ، فكما أن بعموم « أكرم العلماء » تعين خروج كل واحد من الفردين في حال دون حال ، وكذلك بعموم دليل الحلية لكل واحد من الشكين أيضا تثبت خروج كل واحد من الشكين في حال دون حال ، فعليك حينئذ بابداء الفرق بين المقامين إلى يوم القيامة!. وأيضا لنا أن نقرر المطلب ببيان آخر ، وهو :

ان العقل في مورد المتزاحمين ليس له وجه لرفع اليد عن إطلاق الدليلين عن الفعلية أو دليل واحد

٢٨

فمن الأول : ما إذا ورد عام ، كقوله : « أكرم العلماء » وعلم بخروج زيد وعمرو عن العام ، ولكن شك في أن خروجهما هل هو على وجه الاطلاق بحيث لا يجب إكرام كل منهما في حال من الأحوال؟ أو أن خروجهما ليس على وجه الاطلاق بل كان خروج كل منهما مشروطا بحال عدم إكرام الآخر؟ بمعنى أن يكون عدم وجوب إكرام كل منهما مقيدا بحال إكرام الآخر بحيث يلزم من خروج أحدهما عن العموم دخول الآخر فيه.

وبعبارة أوضح : يدور أمر المخصص بين أن يكون أفراديا وأحواليا لو كان خروج الفردين على وجه الاطلاق ، أو أحواليا فقط لو كان خروج أحدهما في حال دخول الآخر. والوظيفة في مثل هذا الفرض هو التخيير في إكرام أحد الفردين وترك إكرام الآخر ، ولا يجوز ترك إكرام كل منهما ، لان مرجع الشك في ذلك إلى الشك في مقدار الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء ، ولابد من الاقتصار على المتيقن خروجه وهو التخصيص الأحوالي فقط ، لأنه لو قلنا بخروج الفردين مطلقا في جميع الأحوال يلزم زيادة تخصيص على ما إذا كان الخارج كل منهما مشروطا بدخول الآخر ، فإنه على هذا يدخل أحد الفردين تحت العموم على كل حال ، فلا محيص عن القول بالتخيير في إكرام أحدهما وعدم إكرام الآخر

__________________

مع التزاحم في فرديته ، إلا عدم إمكان الجمع بين الفعلين للتكليف بما لا يطاق ، وإن فرض مقامنا أيضا حكم العقل بامتناع الجمع بين الحليتين لا يقتضي هذا المانع إلا رفع اليد عن أحدهما لا كليهما ، سواء كان ذلك من جهة التزامه بالتقيد الحالي في إطلاق « كل شيء لك حلال » مثلا ، أو من جهة كشف العقل عن الحلية التخييرية بعين كشفه في باب المتزاحمين ، وحينئذ ليس لك أن تقول بعد التطويل الممل : إن التخيير في المقام ممكن ليس له دليل. ونسئل عنك بأن تطبيق ما ذكرت في الأمثلة بعينه في المقام بلا زيادة ونقصان ، ولا تظن سوء بذوي الافهام ، ولا تظن لرفع هذه الغائلة على مذهب إطلاق الاخبار والاقتضاء في منجزية العلم بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وحينئذ فعليك بتنقيح علية العلم حتى في هذا المقام ، أو الالتزام بمعارضة مطلقات أدلة الأصول مع عموم وجوب النقض باليقين في ذيل أخبار الاستصحاب ، كما أشرنا ، فتدبر فإنه دقيق نافع.

٢٩

ولكن الحكم بالتخيير في مثل هذا الفرض إنما نشأ من اجتماع دليل العام وإجمال دليل الخاص بضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقن في التخصيص ، فان اجتماع هذه الأمور أوجب التخيير في العمل ، وليس التخيير فيه لأجل اقتضاء المجعول ذلك ، بل المجعول في كل من العام والخاص هو الحكم التعييني ، والتخيير فيه إنما نشأ من ناحية الدليل لا المدلول ، بالبيان المتقدم.

ومن الثاني : ما إذا تزاحم الواجبان في مقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بينهما ، فان التخيير في باب التزاحم إنما هو لأجل أن المجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيير في امتثال أحد المتزاحمين ، لأنه يعتبر عقلا في المجعولات الشرعية القدرة على امتثالها لقبح تكليف العاجز ، والمفروض حصول القدرة على امتثال كل من المتزاحمين عند ترك امتثال الاخر ، ولا موجب لتعين صرف القدرة في امتثال أحدهما بالخصوص ، لان كلا من المتزاحمين صالح لان يكون معجزا مولويا وشاغلا عن الآخر ، إذ كل تكليف يستدعي نفي الموانع عن وجود متعلقه وحفظ القدرة عليه ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما في الامتثال ، فالعقل يستقل حينئذ بصرف القدرة في أحدهما تخييرا ، إما لأجل تقييد التكليف في كل من المتزاحمين بحال عدم امتثال الآخر ، وإما لأجل سقوط التكليفين معا واستكشاف العقل حكما تخييريا لوجود الملاك التام في كل منهما ، على اختلاف المسلكين في ذلك ، كما تقدمت الإشارة إليهما.

وعلى كل حال : التخيير في باب التزاحم لم ينشأ من ناحية الدليل الدال على وجوب كل من المتزاحمين ، بل نشأ من ناحية المدلول والمنكشف ، لما عرفت : من أن المجعول في باب التكاليف إنما يقتضي التخيير في امتثال أحد التكليفين عند تعذر الجمع ، بالبيان المتقدم. وقد استقصينا الكلام في ذلك في محله. والفرق بين التخيير الجائي من قبل الدليل والتخيير الجائي من قبل المدلول ، هو أن التخيير في الأول ظاهري وفي الثاني واقعي ، كما لا يخفى وجهه.

٣٠

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن القول بالتخيير في باب تعارض الأصول مما لا شاهد عليه ، لا من ناحية الدليل والكاشف ، ولا من ناحية المدلول والمنكشف.

أما انتفاء الشاهد من ناحية الدليل : فهو مما لا يكاد يخفى ، فان دليل اعتبار كل أصل من الأصول العملية إنما يقتضي جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه ، وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين (١)

وأما انتفاء الشاهد من ناحية المدلول : فلان المجعول في باب الأصول العلمية ليس هو إلا الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل ، إما بقيد أنه الواقع ، وإما لا بقيد ذلك ـ على اختلاف المجعول في باب الأصول التنزيلية وغيرها ـ ولكن الحكم بذلك ليس على إطلاقه ، بل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة المتقدمة ، وهي الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العملية ، بالتفصيل المتقدم ، فعند اجتماع هذه القيود الثلاثة يصح جعل الحكم الظاهري بتطبيق العمل على المؤدى ، ومع انتفاء أحدها لا يكاد يمكن جعل ذلك ، وحيث إنه يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جمعا ، وكون المجعول أحدها تخييرا وإن كان بمكان من الامكان ، إلا أنه لا دليل عليه ، لا من ناحية أدلة الأصول ، ولا من ناحية المجعول فيها (٢).

__________________

١ ـ أقول : يكفي دليلا ملاحظة أجمع بين إطلاق دليل الحلية لكل واحد من الفردين على أي حال ، وبين حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين الشكين في هذا الحكم ، فيدور الامر بين تخصيص الفردين ، أو تقيد كل واحد بحال عدم ارتكاب الآخر ، ومعلوم : أن التقيد المزبور أولى من التخصيص ، وذلك أيضا هو الوجه في تقييد إطلاق كل واحد من الخطابين في باب المتزاحمين ، ولا يرى بينهما فرقا بين المقامين ، إذ في الصورتين يستكشف من الاطلاق دخول كل واحد في حال دون حال ، فالمستكشف حكم ملازم مع التخيير واقعا والتعبد بإطلاق الكاشف حكم ظاهري. وتوهم الفرق بين التقريب في المثال وباب المتزاحمين بالواقعية والظاهرية في غير محله.

٢ ـ أقول : فيه ما فيه! ولا يكفيه من التوجيه ، إذ الدليل عليه كالنار على المنار ، ولا يبطله إلا تعلق

٣١

والحاصل : أن مجرد عدم صحة الجمع في إجراء الأصلين المتعارضين لا يوجب الحكم بالتخيير بينهما ، فان الحكم التخييري كسائر الاحكام يحتاج إلى قيام الدليل عليه. وقياس باب الأصول العملية بباب الامارات على القول بالسببية فيها ليس في محله ، لما عرفت من أن التخيير في العمل بإحدى الامارتين المتعارضتين على ذلك القول إنما هو لأجل أن المجعول في الامارات يقتضي التخيير في صورة التعارض لاندراجها في باب التزاحم الذي قد عرفت أن التخيير فيه ينشأ من ناحية المجعول ، بالبيان المتقدم ، وأين هذا من باب الأصول العملية المجعولة وظيفة للشاك في الحكم أو الموضوع؟.

فظهر : أن القول بالتخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين مما لا دليل عليه ، وإنما أطلنا الكلام في ذلك ، لان شبهة التخيير قد غرست في أذهان بعض طلبة العصر ، وبعد البيان المتقدم لا أظن بقاء الشبهة في الأذهان (١) وسيأتي في آخر الاستصحاب مزيد توضيح لذلك.

فتحصل مما ذكرنا : أن القاعدة في مورد تعارض الأصول تقتضي السقوط ، ويبقى التكليف المنجز المعلوم بالاجمال على حاله (٢) والعقل يستقل بوجوب

__________________

الإرادة السببية على خلافه.

١ ـ أقول : ولكن لاكل ما يتمنى المرء يدركه! إذ قد تقدم بطلانه بما لا مزيد عليه.

٢ ـ أقول : بعدما كان العلم الاجمالي في ظرف عدم الانحلال لا قصور في سببيته ، لاشتغال ذمة المكلف بالمعلوم ، وفي هذه المرحلة لا يكون قابلا لمنع المانع بشهادة ارتكاز الذهن من التناقض بين الالزام المعلوم وترخيصه على ترك هذا المعلوم بنحو الاجمال ، بعين التناقض الذي يرى العقل في هذا الترخيص في العلم التفصيلي ، فلا محيص من الالتزام بأن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة للاشتغال. ولئن شئت فعبر بأن حكم العقل بثبوت التكليف في عهدة المكلف حكم تنجيزي غير قابل لورود ترخيص شرعي مانع عن أصل الاشتغال ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي ، وحيث ثبت به الاشتغال المزبور ، ينتهي النوبة إلى مرحلة الفراغ ، وفي هذه المرحلة أيضا نقول : إنه لا شبهة في اكتفاء العقل بالفراغ الجعلي ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي ، وحينئذ فكل أمارة أو أصل يوجب تعيين مصداق التكليف

٣٢

موافقته والخروج عن عهدته ، إما بالوجدان ، وإما بالتعبد من الشارع. ولا ينحصر

__________________

الموجب لكونه مصداقا جعليا يكتفى به ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي أيضا ، فلا إشكال ولا شبهة في هذا المقدار. وإلى مثله يرجع موارد الاكتفاء بجعل البدل في أطراف المعلوم بالاجمال ، ففي الحقيقة مرحلة جعل البدل يرجع إلى التصرف في مرحلة الفراغ ، سواء تحقق بعد العلم أو قبله أو مقارنه ، بخلاف مرحلة الانحلال ، فإنه ـ كما حققناه في محله ـ تصرف في مرحلة الاشتغال ، ولا يوجب منعا عنه ، إلا في ظرف تقارنه مع العلم لا تقدمه أو تأخره ، وتمام الكلام في محله. والغرض في المقام الإشارة الاجمالية بالفرق بين مقام جعل البدل وبين مرحلة الانحلال ، وأن أحدهما غير مرتبط بالآخر. وبالجملة : لا كلام لنا في هذا المقدار ، وإنما الكلام وعمدة الاشكال في صورة عدم اقتضاء أصل أو أمارة لتعين مصداق المأمور به الذي نسميه بالفراغ الجعلي ، وكنا ممحضا بفرض الشك في الفراغ في ظرف تحقق الاشتغال بأن في هذه الصورة هل للشارع أن يرخص بالارتكاب واكتفاء بمحض الشك في الفراغ أم ليس له ذلك؟.

وبعبارة أخرى : تمام الكلام في أن حكم العقل في ظرف الاشتغال بتحصيل القطع بالفراغ هل هو حكم تنجيزي؟ أو تعليقي؟ فعلى الثاني يلزم إمكان مجيء الترخيص بالاكتفاء بالمشكوك حتى في العلم التفصيلي ، وإلا فلو كان حكم العقل المزبور تنجزيا فلا يعقل الترخيص في بعض أطراف العلم الاجمالي ، ولو بلا معارض ، وحينئذ مركز الكلام من حيث إمكان جريان الأصل في أحد الطرفين في هذه الصورة ، وإلا ففي فرض الانحلال أو جعل البدل بالمعنى المزبور فلا إشكال من أحد فيه ، إذ محط البحث بعد ثبوت الاشتغال بالعلم الاجمالي من دون وجود مانع فيه في هذه المرتبة وبعد عدم دليل يدل على تعين مصداق المأمور به الذي يعبر عنه بالفراغ الجعلي وبجعل البدل. يبقى الكلام في أنه هل يجوز للشارع أن يرخص في ارتكاب ما هو مشكوك المصداق؟ كي يكون حكم العقل بتحصيل الجزم به حكما تعليقيا قابلا لمنع المانع ، أو أن هذا الحكم العقلي أيضا تنجيزي غير قابل لورود الترخيص على خلافه؟ كي يلزمه عدم جريان الأصل في أحد الطرفين ولو بلا معارض ، وحيث عرفت محط الاشكال فليس لك الاستشهاد للجريان بمسألة جعل البدل وموارد الانحلال ، إذ تمام الكلام بعد الفراغ عن أصل الاشتغال وعدم العلم بالمصداق ولو جعليا وكان الشك ممحضا بالشك في المصداق والفراغ ، فإذا كان الامر كذلك فنقول : إنه لا يتم جريان الأصل المزبور إلا مع الالتزام بتعليقية حكم العقل بالفراغ اليقيني عند الاشتغال اليقيني بالتكليف ، وإلا فمع فرض تنجيزيته لا يبقى مجال جريان الأصل ولو بلا معارض ، وإن كانت مرتبة الحكم الظاهري فيه محفوظا.

وعليه نقول : لا شبهة ولا ريب في تنجيزية حكم العقل المزبور ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي ، إذ

٣٣

طريق الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالاجمال بالقطع الوجداني ، ضرورة أن التكليف المعلوم بالاجمال لا يزيد على التكليف المعلوم بالتفصيل ، وهو لا ينحصر طريق امتثاله بالقطع الوجداني ، بل يكفي التعبد الشرعي ، كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك من الأصول المجعولة في وادي الفراغ (١) فان كان هذا حال العلم التفصيلي فالعلم الاجمالي أولى منه في ذلك ، لان الواقع لم ينكشف فيه تمام الانكشاف ، فيجوز للشارع الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر ، سواء كان الترخيص واقعيا كما إذا اضطر إلى ارتكاب

__________________

لم يكتف أحد باتيان العمل مع الشك في تحققه؟ مع كونه معنا بسيطا ، فضلا عما لو كان مقيدا أو مركبا مع الشك في تحقق شرطه أو جزئه ، بعد الفراغ عن أصل الشرطية والجزئية حكما.

وتوهم أن الأصل لا يقتضي الاكتفاء به لعدم عموم يجري فيه بخلاف العلم الاجمالي ، مدفوع : بأنه يكفي فيه عموم « حديث الرفع » الشامل لرفع استحقاق المؤاخذة على ترك الموافقة المشكوكة أو المخالفة الغير المعلومة المستتبع إنا للترخيص على تركه المانع عن حكم العقل الملزم بعدم الاكتفاء بالمشكوك ، وهكذا بقية الأصول الجارية في الترخيص على ترك مشكوك الوجوب.

ولعمري! انه لا يرفع هذه الغائلة إلا تنجيزية حكم العقل بالفراغ وعدم الاكتفاء بالمشكوك على وجه لا يبقى محال الجريان لهذه الأصول ، وإذا كان كذلك ، فنقول : بعين هذا الوجه الذي لا يجري الأصول في فرض الشك في الفراغ في العلم التفصيلي لا يجري هذه الأصول في فرض الشك في الفراغ بعد ثبوت الاشتغال في العلم الاجمالي أيضا ، لان تنجيزية حكم العقل في تحصيل الجزم بالفراغ لا يفرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي ، كما هو واضح.

١ ـ أقول : الظاهر بقرينة ذيل كلامه أن غرضه من الفراغ هو تحصيل المؤمن ، ولو أنه كان كذلك فلم لا يكتفي بالشك بالموافقة بحديث الرفع ـ بالتقريب المتقدم في العلم التفصيلي أيضا ـ وأي فرق بينه وبين قاعدة التجاوز والفراغ؟ فلا محيص حينئذ إلا أن يقول بالفرق بين ما كان لسانه لسان تعين مصداق المعلوم وبين غيره ، فيجوز في الأول الاكتفاء ، لان موضوع الفراغ الذي راجع إلى تحصيل الامتثال أعم من الحقيقي والجعلي ، وأن الغرض من تحصيل الفراغ ذلك ، لا مطلق الترخيص المؤمن بخياله ، ولو مع الشك بالمصداق والامتثال ، وحينئذ فما قرع سمعك : من تحصيل الفراغ ، هو ما ذكرنا الراجع إلى تحصيل الامتثال.

٣٤

بعض الأطراف ، أو ظاهريا كما إذا كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله ، على ما سيأتي تفصيله.

والحاصل : أن الذي لابد منه عقلا هو القطع بالخروج عن عهدة التكليف ، والعلم بحصول المؤمن من تبعات مخالفته ، وهذا كما يحصل بالموافقة القطعية الوجدانية بترك الاقتحام في جميع الأطراف ، كذلك يحصل بالموافقة القطعية التعبدية بترك الاقتحام في بعض الأطراف مع الاذن الشرعي في ارتكاب البعض الآخر (١) ولو بمثل أصالة الإباحة والبرائة إذا فرض جريانهما في بعض الأطراف بالخصوص ولم يجريا في الطرف الآخر ليقع المعارضة بينهما.

نعم : لا يجوز الاذن في جميع الأطراف ، لأنه إذن بالمعصية ، والعقل يستقل بقبحها ، وأما الاذن في البعض فهو هما لا مانع عنه ، فان ذلك يرجع في الحقيقة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيه بدلا عن الواقع (٢) والاكتفاء بتركه عنه لو فرض أنه صادف المأذون فيه للواقع وكان هو الحرام المعلوم في البين.

ودعوى : أنه ليس للشارع الاكتفاء عن الواقع ببدله مما لا شاهد عليها ، وإلى ذلك يرجع ما تكرر في كلمات الشيخ قدس‌سره من إمكان جعل بعض الأطراف بدلا عن الواقع ، فإنه ليس المراد منه تنصيص الشارع بالبدلية ، بل نفس الاذن في البعض يستلزم بدلية الآخر قهرا.

__________________

١ ـ أقول : مجرد ترك الاقتحام في البعض لا يكون إلا موافقة احتمالية ، إذ لا معنى للموافقة إلا إتيان مصداق المعلوم ، ولا يكون إلا بجعل الشارع مصداقيته ، لا بصرف تركه مع الاذن بارتكاب الطرف ، إذ لا يكون ذلك إلا الاذن بالاكتفاء بمحتمل المصداقية وهو الذي نمنعه أشد المنع.

٢ ـ أقول : الغرض من البدلية إن كان جعله مصداقا للمعلوم فهو متين لو كان له طريق آخر غير هذا الترخيص ، وإلا فلو كان الطريق منحصرا بعموم دليل الترخيص فيدور ، لان شمول دليل الترخيص فرع العلم بالمصداقية ، فكيف يحصل العلم من عموم دليل الترخيص؟ وإن كان الغرض من البدلية الاكتفاء بتركه مع احتمال كونه مصداقا ، فليكن دليل الترخيص يثبت ذلك في العلم التفصيلي أيضا.

٣٥

ومما ذكرنا ظهر الوجه فيما أفاده الشيخ قدس‌سره من أن العلم الاجمالي يكون علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتضيا لوجوب الموافقة القطعية فان عليته لحرمة المخالفة القطعية إنما هي لأجل عدم جواز الاذن فيها ، بخلاف الموافقة القطعية ، فإنه يجوز الاذن بتركها بالترخيص في البعض ، فدعوى التلازم بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وأن العلم الاجمالي إما أن يكون علة لهما معا وإما أن لا يكون علة لهما ، في غاية الضعف (١) لما عرفت : من أن العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ، فكيف يكون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب موافقته القطعية مع أن العلم التفصيلي لا يكون علة تامة له؟!

نعم يصح أن يقال : إن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي يكون علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بتعميم الموافقة القطعية إلى الوجدانية والتعبدية لا خصوص الوجدانية. وذلك كله واضح لا يهمنا إطالة الكلام فيه ، وإنما المهم بيان ما يوجب الترخيص الواقعي أو الظاهري في بعض الأطراف دون الآخر. أما الترخيص الواقعي : فموجبه حدوث أحد الأسباب الرافعة للتكليف واقعا من اضطرار ونحوه ، وسيأتي البحث عنه في بعض التنبيهات.

وأما الترخيص الظاهري : فينحصر موجبه بما إذا كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله : وذلك إنما يكون بقيام ما يوجب ثبوت

__________________

١ ـ أقول : الانصاف أن لنا مجال دعوى عدم وصولك إلى الغرض من علية العلم للتنجز تفصيليا أم إجماليا ، إذ نقول بأنه ليس المقصود من علية العلم عدم انفكاكه عن العقوبة ، بل المقصود هو عليته لوجوب الامتثال في ظرف الاشتغال ، ولا نعني من التنجز إلا هذا ، لا استحقاق العقوبة على مطلق المخالفة ، وتمام الخلط من هنا. ومن العجب أنه صرح في قوله : « نعم يصح أن يقال الخ » بكون العلمين علة تامة للموافقة القطعية! ومع هذا التصريح يلتزم بجريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض ، حتى مع عدم قيام دليل على كون الطرف مصداقا للمعلوم بالاجمال وإطاعة له ، وذلك هو الذي نحن نقول به ، ولا نلتزم بجريان الأصل بهذا المعنى في واحد من الأطراف ولو بلا معارض ، كما هو ظاهر.

٣٦

التكليف في بعض الأطراف المعين : من علم أو أمارة أو أصل شرعي أو عقلي ، لكن يبقى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر بلا معارض ، من غير فرق بين أن يكون الموجب لثبوت التكليف في البعض حاصلا قبل العلم الاجمالي أو بعده ، غايته : أنه في الأول يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي ، وفي الثاني يوجب انحلاله (١).

وتفصيل ذلك : هو أن المثبت للتكليف في بعض الأطراف المعين قد يكون هو العلم ، وقد يكون أمارة ، وقد يكون أصلا شرعيا تنزيليا أو غير تنزيلي ، وقد يكون أصلا عقليا ، وعلى جميع التقادير قد يكون ذلك حاصلا قبل العلم الاجمالي ، وقد يكون حاصلا بعده ، وأمثلة الكل وإن كانت لا تخفى على المتأمل ، إلا أنه لا بأس بذكرها تشريحا للذهن.

أما أمثلة ما إذا كان المثبت للتكليف في البعض حاصلا قبل العلم الاجمالي ، فيجمعها ما إذا علم تفصيلا بحرمة شيء معين لنجاسته أو غصبيته أو غير ذلك من أسباب الحرمة ، أو قامت أمارة على حرمته ، أو كان مستصحب الحرمة ، أو كان مما تجري فيه أصالة الحرمة لكونه من الدماء والفروج والأموال ، أو كان مما يجب الاجتناب عنه عقلا لكونه من أطراف العلم الاجمالي ، ثم بعد ذلك حدث موجب آخر للحرمة من سنخ السبب السابق وتردد متعلقها بين أن يكون هو ذلك الشيء المعين الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقا أو شيئا آخر ، ففي جميع هذه الصور العلم الاجمالي الحادث مما لا أثر له ، لسبق التكليف بوجوب

__________________

١ ـ أقول : ولا يخفى ما فيه من الخلط ، حيث إنه جعل باب جعل البدل والانحلال من واد واحد ، مع أنك قد عرفت أن الأول تصرف في مرتبة الفراغ بعد تأثير العلم في الاشتغال ، والثاني تصرف في مرتبة تأثير العلم في الاشتغال ، بل وقد ذكرنا أن ذلك لا يكون منتجا لاقتضاء العلم الاجمالي في التنجيز ، وإنما المنتج فيه جواز الترخيص في أحد الطرفين بلا جعل بدل أو انحلال ، كما لا يخفى. وتوهم عدم مورد له ، مدفوع بما سيجيء من وجود المورد له ( إن شاء الله تعالى ).

٣٧

الاجتناب عن بعض أطرافه ، ويحتمل أن يكون متعلق الحادث هو الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقا ، ومعه لا يعلم بحدوث تكليف فعلي آخر : والعلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب الاجتناب عن أطرافه إذا كان علما بالتكليف (١).

وبتقريب آخر : العلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب الموافقة القطعية إذا كانت الأصول النافية للتكليف الجارية في الأطراف متعارضة ، وفي جميع الفروض المتقدمة لا تكون الأصول متعارضة ، لان أحد طرفي العلم الاجمالي لا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لوجوب الاجتناب عنه على كل حال ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل النافي بلا معارض ، فلا موجب للاجتناب عنه (٢).

نعم : لو كان الموجب الحادث يقتضي أثرا زائدا عما كان يقتضيه السبب السابق ، كما إذا كان السبب لوجوب الاجتناب عن الشيء المعين هي النجاسة التي لا يجب التعدد في غسلها كالدم وكان الموجب الحادث مما يجب فيه التعدد كالبول ، فالعلم الاجمالي يؤثر بمقدار الأثر الزائد ، والأصول بالنسبة إليه متعارضة ، وسيأتي توضيحه.

هذا كله لو علم بحدوث سبب آخر للتكليف غير ما كان سابقا. وقس عليه ما إذا احتمل ذلك ، كما إذا قامت البينة على نجاسة أحد الانائين بلا ذكر

__________________

١ ـ أقول : ولو لم يعلم بحدوث التكليف حينه ، بشهادة أنه لو حدث مثل هذا العلم مع احتمال سبق التكليف بلا علم به فإنه يتنجز بلا شبهة ، مع أنه يصدق بعدم العلم بحدوث تكليف جديد ، فعنوان العلم بحدوث التكليف لغو في المقام ، وتمام المدار على العلم بوجود تكليف حين وجوده ، وهو حاصل في المقام ، فلابد من منع تنجزه من بيان آخر ، لا بهذا البيان.

٢ ـ أقول : وأوهن من التقريب السابق هذا التقريب ، لان جريان الأصل في ظرف عدم جعل الموافقة والمصداق تعبدا فرع إسقاط العلم عن تأثيره في الاشتغال ، وإلا فبعد ثبوت الاشتغال العقل يحكم حكما جزميا بلزوم تحصيل الجزم بالامتثال وعدم القناعة بالشك فيه ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي أيضا ، كما تقدم. وحينئذ جريان الأصل من توابع العلم بالانحلال لا العكس ، والفرض أن هذا العلم أيضا لا يحصل باطلاق أدلة الترخيص للدور ، كما هو الشأن في جعل البدل أيضا.

٣٨

السبب بعد العلم بنجاسة أحدهما المعين أو ما يلحق بالعلم واحتمل أن يكون سبب النجاسة التي قامت عليه البينة غير النجاسة التي علم بها سابقا ، فإنه أيضا لا يكون العلم الاجمالي الحاصل من قول البينة علما بتكليف زائد عما علم به أولا ، كما لا يخفى وجهه.

وأما أمثلة ما إذا حصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف بعد العلم الاجمالي ، فيجمعها أيضا ما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الشيئين لا على التعيين ثم بعد ذلك علم تفصيلا بحرمة أحدهما المعين ، أو قامت أمارة على حرمته ، أو شك في بقاء حرمته السابقة لكي يجري فيه استصحاب الحرمة التي كانت ثابتة فيه قبل العلم الاجمالي ، أو تبين أن أحد الشيئين المعين كان من الدماء والأموال والفروج لكلي تجري فيه أصالة الحرمة ، أو ظهر أن أحدهما المعين كان طرفا لعلم إجمالي سابق على العلم الاجمالي بحرمة أحدهما.

ففي جميع هذه الصور ينحل العلم الاجمالي ولا يجب الاجتناب عن غير ما ثبت التكليف به ، لان الأصل النافي للتكليف يجري فيه بلا معارض (١) كما في صورة ثبوت التكليف به قبل العلم الاجمالي.

فان قلت : كيف ينحل العلم الاجمالي بذلك مع سبق تأثيره في وجوب الاجتناب عن أطرافه؟ نعم : لو ثبت أن متعلق التكليف المعلوم بالاجمال هو ذلك المعين لكان للانحلال وجه ، وأما لو لم يثبت ذلك فالعلم الاجمالي لا ينحل ، ومجرد ثبوت التكليف في المعين لا يقتضي انحلاله ، فان ذلك لا يزيد على العلم التفصيلي بحدوث سبب التكليف في البعض المعين بعد العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين أن يكون متعلقا بذلك المعين أو بغيره ، كما لو وقعت قطرة من الدم في أحد الانائين المعين بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، ولا إشكال في عدم

__________________

١ ـ أقول : هذا التعليل عليل ، كما أشرنا.

٣٩

انحلال العلم الاجمالي في هذا الفرض ، وليس وجهه إلا سبق تأثير العلم الاجمالي ، وهذا الوجه يجري فيما إذا ثبت نجاسة أحد الانائين المعين بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما لا على التعيين ، فان العلم الاجمالي أيضا قد سبق في التأثير ، فلا أثر لثبوت نجاسة المعين بعد ذلك ما لم يثبت أنها هي المعلومة بالاجمال ، كما هو مفروض الكلام.

قلت : مجرد حدوث العلم الاجمالي بالتكليف في زمان لا يكفي في التأثير في وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف ، بل يعتبر أيضا بقائه على صفة حدوثه ، وإذا تبدل العلم وانقلب عن كونه علما بالتكليف لاحتمال سبق التكليف عليه ـ كما في الأمثلة المتقدمة ـ فلا محالة ينحل ويسقط عن التأثير قهرا ، إذ لم يعتبر العلم الاجمالي بما أنه صفة قائمة في نفس العالم لعدم أخذه موضوعا في أدلة التكاليف ، بل إنما اعتبر لأجل كونه طريقا إلى متعلقه وكاشفا عنه ، فلابد من ملاحظة المعلوم والمنكشف به ، فان كان هو من التكاليف فالعلم الاجمالي به يوجب تنجزه والخروج عن عهدته بالاجتناب عن جميع أطرافه ، وإن لم يكن المعلوم والمنكشف من التكاليف فالعلم الاجمالي به لا يقتضي شيئا ولا يؤثر أثرا ، ومع سبق التكليف في بعض الأطراف على العلم الاجمالي ـ وإن تأخر العلم به عن العلم الاجمالي ـ يخرج العلم الاجمالي عن كونه طريقا وكاشفا عن التكليف ، لاحتمال أن يكون المنكشف به قد تعلق بما سبق التكليف به.

وحاصل الكلام : أنه إذا وجب الاجتناب عن بعض الأطراف المعين في الزمان السابق على العلم الاجمالي وثبت ذلك بأحد الوجوه المتقدمة بعد العلم الاجمالي فالعلم الاجمالي يتبدل ويتغير عما كان عليه ويخرج عن كونه علما بالتكليف وهذا بخلاف ما إذا حدث سبب وجوب الاجتناب عن المعين بعد العلم الاجمالي ، كما إذا أصاب أحد الانائين المعين نجاسة بعد العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة الاناء الآخر ، فإن العلم الاجمالي في المثال لم يتبدل عما كان عليه ، لان

٤٠