فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

هو التمام ، ولا يصح منه القصر ولو تمشى منه قصد القربة ، واستظهر تسالم الفقهاء على ذلك بعدما استظهر خلافه سابقا ، ومنع عن أصل العقاب ـ كما تقدم ـ وعلى هذا يرتفع الاشكال في جميع المسائل الثلاث ، وعليك بالمراجعة في كلمات الأصحاب والتأمل فيها.

ـ الامر الثالث ـ

قد تقدم أن وجوب الفحص إنما يختص بالشبهات الحكمية. وأما الشبهات الموضوعية : ففي التحريمية منها لا يجب الفحص إجماعا ـ على ما حكاه الشيخ قدس‌سره ـ وإن كان يمكن منع إطلاق معقد الاجماع ، فان في بعض فروع النكاح يجب فيه الفحص مع كون الشبهة تحريمية.

وأما الشبهات الوجوبية : فالظاهر عدم وجوب الفحص فيها أيضا ، إلا إذا توقف امتثال التكليف غالبا على الفحص ، كما إذا كان موضوع التكليف من الموضوعات التي لا يحصل العلم بها إلا بالفحص عنه ، كالاستطاعة في الحج والنصاب في الزكاة ، فان العلم بحصول أول مرتبة الاستطاعة لمن كان فاقدا لها أو العلم ببلوغ المال حد النصاب يتوقف غالبا بل دائما على الفحص والحساب ، وفي مثل هذا يبعد القول بعدم وجوب الفحص ، إذ لولا الفحص يلزم الوقع في مخالفة التكليف كثيرا ومن البعيد تشريع الحكم على هذا الوجه ، فيمكن دعوى الملازمة العرفية بين تشريع مثل هذا الحكم وبين إيجاب الفحص عن موضوعه ، فاطلاق القول بعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية لا يستقيم ، بل الأقوى : وجوب الفحص عن الموضوعات التي يتوقف العلم بها غالبا على الفحص.

__________________

للعقاب على ترك واجبه الواقعي الشامل للمقام بعد اشتراك الحكم بين العالم والجاهل ، كما هو لازم إطلاق كلماتهم أيضا.

٣٠١

ثم لا يخفى : أن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من النظر في تلك المقدمات ، فان في مثل هذا يجب النظر ولا يجوز الاقتحام في الشبهة ـ وجوبية كانت أو تحريمية ـ إلا بعد النظر في المقدمات الحاصلة ، لعدم صدق الفحص على مجرد النظر فيها (١) إذ الفحص إنما يكون بتمهيد مقدمات العلم التي هي غير حاصلة ، فلا يجوز الأكل والشرب اعتمادا على استصحاب الليل إذا توقف العلم بطلوع الفجر على مجرد النظر إلى الأفق ، وكذا لا يجوز الاقتحام في المايع المردد بين كونه خلا أو خمرا إذا توقف العلم به على مجرد النظر في الاناء أو السؤال عن الذي في جنبه.

نعم : لا يبعد القول بعدم وجوب ذلك أيضا في خصوص باب الطهارة والنجاسة لما علم من التوسعة فيها. هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص واحكامه.

وأما مقدار الفحص : فالظاهر أن حده اليأس عن الظفر بالدليل فيما بأيدينا من الكتب المعتبرة ، إذ لا خصوصية للفحص عن الاحكام ، بل حاله حال الفحص عن الموضوعات الخارجية ، والمقدار اللازم من الفحص فيها هو حصول اليأس عن الظفر بها ، فإن العطشان يتفحص عن الماء حتى يحصل اليأس عنه ، والخائف يتفحص عما يخاف عنه إلى أن يحصل اليأس ، وهكذا سائر الموضوعات.

تذييل :

قد ذكر لأصل البراءة شرطان آخران :

__________________

١ ـ أقول : ولقد أجاد فيما أفاد ، وأشرنا إليه أيضا سابقا في مسألة الطومار.

٣٠٢

أحدهما : أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر.

ثانيهما : أن لا يلزم من جريانها ضرر على الغير.

أما الشرط الأول : فيحتاج إلى توضيح المراد منه ، فإنه إن كان المراد منه : أن أصالة البراءة لا تثبت اللوازم والاحكام المترتبة على نفي الحكم بالبراءة العقلية والشرعية ، فهذا يرجع إلى عدم اعتبار الأصل المثبت ، ولا اختصاص لذلك بأصل البراءة ، بل يعتبر ذلك في كل أصل ، حتى الاستصحاب الذي هو أقوى الأصول ، فما ظنك بالبراءة التي هي أضعف الأصول!.

وإن كان المراد منه أن الحكم الشرعي المترتب على عدم الحكم لا يترتب بمجرد نفي الحكم بالبراءة ، فهذا في الجملة حق ، ولكن ليس على إطلاقه ، فان ترتب حكم على عدم حكم آخر تارة : يكون لأجل المزاحمة بين الحكمين من حيث عدم القدرة على الجمع بين الحكمين في الامتثال ، كترتب وجوب الإزالة على عدم وجوب الصلاة وبالعكس في صورة وقوع المزاحمة بينهما ، ففي مثل هذا لا ينبغي الاشكال في كفاية نفي أحد الحكمين بالبراءة لاثبات الحكم الآخر ، فان المزاحمة إنما يقع بين الاحكام في مرتبة تنجزها ، والتنجيز يتوقف على الاحراز والوجود العلمي أو ما يقوم مقامه ، وأصالة البراءة تمنع عن تنجز الحكم الثابت في موردها ، فيترتب الحكم الآخر لا محالة ، فيكفي في وجوب الصلاة نفي وجوب الإزالة بأصالة البراءة ، لأن المفروض : أنه لا مانع من وجوب الصلاة إلا تنجز وجوب الإزالة ، وأصالة البراءة تمنع عن تنجزه ، فيثبت وجوب الصلاة لا محالة.

وأخرى : يكون لأجل أخذ عدم أحد الحكمين قيدا في ثبوت الحكم الآخر ، وهذا أيضا يختلف

فإنه تارة : يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع أن القيد هو عدم الحكم المنجز لا عدم الحكم النفس الأمري وإن كان ظاهر الدليل ذلك ، كما لو

٣٠٣

قلنا بحرمة التطوع لمن عليه فريضة ، فان استحباب التطوع وإن رتب في ظاهر الأدلة على أن لا تكون في ذمة المكلف صلاة واجبة في نفس الامر ، إلا أن مناسبة الحكم والموضوع يقتضي ترتب استحباب التطوع على من لم يتنجز في حقه وجوب الصلاة ، إذ من المستبعد جدا عدم استحباب التطوع لمن لم يتنجز عليه وجوب الصلاة ، بحيث يجوز له الأكل والشرب والنوم ولا يجوز له التطوع في الصلاة ، فلو شك في وجوب الصلاة عليه فبأصالة البراءة يثبت استحباب التطوع ، وإن فرض مخالفة البراءة للواقع.

وأخرى : لا يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع ذلك ، بل رتب أحد الحكمين على عدم الآخر واقعا ، كترتب وجوب الحج على عدم اشتغال ذمة المكلف بمال الناس (١) فان الظاهر : عدم وجوب الحج على من كانت ذمته مشغولة بحق الناس واقعا وإن لم يعلم به ، وفي مثل ذلك يستقيم مقالة الفاضل التوني رحمه‌الله من أنه لا يثبت أحد الحكمين بمجرد نفي الحكم الآخر بالبراءة ، إذ أصالة البراءة لا تقتضي نفي الحكم واقعا ولا يثبت عدمه النفس الأمري ، والمفروض : أن أحد الحكمين إنما رتب على عدم الآخر واقعا.

نعم : لو كان عدم أحد الحكمين الذي اخذ قيدا لوجود الآخر مجرى للاستصحاب كان استصحاب عدمه مثبتا للحكم الآخر ، لان الاستصحاب ينفي الحكم الواقعي ، فإنه من الأصول المحرزة ، فلا مانع من ترتب أحد الحكمين على عدم الآخر المحرز بالاستصحاب ، فتأمل جيدا. هذا كله في الشرط الأول.

وأما الشرط الثاني : فهو من أصله فاسد ، لان المورد الذي تجري فيه البراءة إن كان مما يندرج في قاعدة « لا ضرر » فلا محل لجريان البراءة ولا غيرها من الأصول ، بل ولا الأدلة الاجتهادية ، لحكومة القاعدة على جميع ذلك. وإن لم

__________________

١ ـ أقول : ما أفيد جيد إلا أن في كون الحج مترتبا على عدم الاشتغال واقعا بلا لزوم أدائه ظاهرا نظر جد ، وتوضيحه في قوله.

٣٠٤

يكن المورد مندرجا في القاعدة فلا وجه لهذا الاشتراط.

وللتكلم فيما يندرج في القاعدة ومقدار دلالتها محل آخر ، أفردناه في رسالة مستقلة. هذا تمام الكلام في قاعدة الاشتغال.

والحمد لله أولا وآخرا

والصلاة والسلام على أشرف بريته محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة السبت ، سابع شوال المكرم ١٣٤٣.

* * *

٣٠٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

الفصل الثالث من المقام الثالث

في الاستصحاب

وتحقيق الكلام فيه يستدعي تقديم أمور :

ـ الأول ـ

في حقيقة الاستصحاب. وأسد ما قيل في تعريفه : « هو الحكم ببقاء ما كان » ولا يخفى ما فيه ، فان الاستصحاب ليس معناه « الحكم ببقاء ما كان » لان ذلك عبارة أخرى عن « الحكم بدوام ما ثبت » وهذا ليس من الاستصحاب قطعا ، فإنه لا إشكال في أن لليقين والاحراز السابق دخل في حقيقة الاستصحاب ولو لكونه طريقا إلى المتيقن ، كما أن للشك بالبقاء دخل

٣٠٦

فيه ، فليس الاستصحاب عبارة عن « الحكم بدوام ما ثبت » بل لو كان حقيقة الاستصحاب ذلك لكان الاستصحاب من الاحكام الواقعية ، وعلى فرض أن يكون من الاحكام الظاهرية باعتبار أخذ الشك في الحكم بالبقاء فيه ـ مع أنه لم يذكر في التعريف ـ فليس مفاد الأخبار الواردة في الباب ذلك.

فالأولى في تعريفه هو أن يقال : إن الاستصحاب عبارة عن عدم (١) انتقاض اليقين السابق المتعلق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر والجري العملي بالشك في بقاء متعلق اليقين (٢) وهذا المعنى ينطبق على ما هو مفاد الاخبار ، وليس حقيقة الاستصحاب إلا ذلك ، وسيتضح أن الوجه في أخذ بعض القيود في التعريف إنما هو لاخراج « قاعدة اليقين » و « قاعدة المقتضي والمانع » بل ولاخراج « الشك في المقتضي » أيضا الذي لا نقول باعتبار الاستصحاب فيه ، وسيظهر أيضا انطباق التعريف على ما يستفاد من الأخبار الواردة في الاستصحاب.

ـ الامر الثاني ـ

يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس‌سره أن الاستصحاب إنما يكون من القواعد الفقهية وليس من المسائل الأصولية. ويظهر من بعض آخر : أنه من المسائل الأصولية. والحق هو التفصيل بين الاستصحابات الجارية في الشبهات

__________________

١ ـ لا يخفى : أن الاستصحاب لو كان عبارة عن حكم الشارع بعدم انتقاض اليقين السابق بالشك اللاحق لكان حمل الحجية عليه من قبيل حمل الحجية على المفهوم ، وليس كحمل الحجية على الخبر الواحد ، فتأمل جيدا ( منه ).

٢ ـ أقول : الأولى أن يقال : إن حقيقة الاستصحاب عند القوم برمتهم التصديق ببقاء ما كان ظنا أم يقينا تعبدا ، إذ ربما أمكن إرجاع تعريف الشيخ إليه ، لان المستفاد من هيئة « الابقاء » هو الحكم به الراجع إلى التصديق به بأحد الوجهين ، بقرينة إشعار وصف « ما كان » بالعلية ، فيخرج الابقاء للدليل ، فتأمل.

٣٠٧

الحكمية والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعية ، ففي الأول : يكون الاستصحاب من المسائل الأصولية ، وفي الثاني : يكون من القواعد الفقهية.

وتوضيح ذلك : هو أن المسائل الأصولية عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق استنباط الاحكام الكلية الشرعية وبذلك تمتاز عن مسائل سائر العلوم وعن القواعد الفقهية ، فبقولنا : « الكبريات » تخرج مسائل سائر العلوم ، وبقولنا : « الاحكام الكلية » تخرج القواعد الفقهية.

أما الأول : فلان مسائل سائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط أيضا ، إلا أنها لا تقع في كبرى القياس ، بل إنما تلتئم منها صغرى القياس ، حتى « علم الرجال » الذي هو أقرب العلوم إلى الاستنباط بعد علم الأصول ، فان « علم الرجال » إنما يتكفل تشخيص الخبر الثقة عن غيره ، والواقع في صغرى قياس الاستنباط هو خصوص الخبر الثقة لا مطلق الخبر ، فان نتيجة المسألة الأصولية هي حجية الخبر الثقة ، كما يقال : وجوب صلاة الظهر مما أخبر به الثقة وكلما أخبر به الثقة حجة أو يجب اتباعه ، فينتج وجوب صلاة الظهر ، وكذا مسائل سائر العلوم ، فان علم اللغة والصرف والنحو إنما يتكفل تشخيص الظاهر عن غيره ، والمبحوث عنه في المسألة الأصولية هو حجية الظواهر.

وبذلك يظهر : أن البحث عن ظهور الأمر والنهي في الوجوب والحرمة لا يرجع إلى علم الأصول ، بل هو من المبادي ، كالبحث عن أن « الصعيد » ظاهر في مطلق وجه الأرض ، وإنما ذكر في علم الأصول استطرادا ، حيث لم يبحث عنه في علم آخر.

وبالجملة : المايز بين علم الأصول وسائر العلوم ، هو أن مسائل سائر العلوم إنما تكون من المبادي والمعدات لاستنتاج الأحكام الشرعية ، ولا تقع إلا في صغرى قياس الاستنباط. وأما المسألة الأصولية فهي تكون الجزء الأخير لعلة الاستنباط وتصلح لان تقع كبرى القياس.

٣٠٨

وبما ذكرنا ظهر : أنه لا موجب لقصر المسائل الأصولية بخصوص ما كان البحث فيه عن أحوال الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها ، لكي يلزم الاستطراد في جملة من مهمات المسائل المبحوث عنها في علم الأصول أو يتكلف في دخولها فيه بما لا يخلو عن تعسف ، بل ينبغي تعميم المسائل الأصولية إلى كل ما يقع كبرى لقياس استنباط الحكم الشرعي الكلي ، سواء كان واقعيا أو ظاهريا ، على ما أوضحناه في أول الكتاب.

وأما الثاني : فلان القاعدة الفقهية وإن كانت تقع كبرى لقياس الاستنباط ، إلا أن النتيجة فيها إنما تكون حكما جزئيا يتعلق بعمل آحاد المكلفين بلا واسطة ، أي لا يحتاج في تعلقه بالعمل إلى مؤنة أخرى كما هو الشأن في نتيجة المسألة الأصولية ، فإنها لا تعلق لها بعمل الآحاد ابتداء إلا بعد تطبيق النتيجة على الموارد الخاصة الجزئية ، فان الحكم الكلي بما هو كلي لا يرتبط بكل مكلف ولا يتعلق بعمله إلا بتوسط انطباقه عليه خارجا.

والحاصل : أن النتيجة في المسألة الأصولية إنما تكون كلية ولا يمكن أن تكون جزئية ، وهذا بخلاف النتيجة في القاعدة الفقهية فإنها تكون جزئية ، ولو فرض أنه في مورد كانت النتيجة كلية ففي مورد آخر تكون جزئية. فالمايز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية ، هو أن النتيجة في المسألة الأصولية دائما تكون حكما كليا لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين إلا بعد التطبيق الخارجي ، وأما النتيجة في القاعدة الفقهية فقد تكون جزئية لا تحتاج في تعلقها بعمل الآحاد إلى التطبيق ، بل غالبا تكون كذلك.

وبتقريب آخر : نتيجة المسألة الأصولية إنما تنفع المجتهد ولا حظ للمقلد فيها ، ومن هنا ليس للمجتهد الفتوى بمضمون النتيجة ، ولا يجوز له أن يفتي في الرسائل العملية بحجية الخبر الواحد القائم على الأحكام الشرعية مثلا ، لان تطبيق النتيجة على الخارجيات ليس بيد المقلد بل هو من وظيفة المجتهد. وأما النتيجة

٣٠٩

في القاعدة الفقهية فهي تنفع المقلد ، ويجوز للمجتهد الفتوى بها ، ويكون أمر تطبيقها بيد المقلد ، كما يفتي بقاعدة التجاوز والفراغ والضرر والحرج ومالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وبالعكس ، وغير ذلك من القواعد الفقهية.

فالقاعدة الفقهية تشترك مع المسألة الفقهية في كون النتيجة فيها حكما جزئيا عمليا يتعلق بفعل المكلف بلا واسطة ، غايته أنه جرى الاصطلاح على اختصاص المسألة الفقهية بما إذا كان المحمول فيها حكما أوليا كان له تعلق بفعل أو بموضوع خاص ـ كمسألة وجوب الصلاة أو حرمة شرب الخمر ـ واختصاص القاعدة الفقهية بما إذا لم يكن للمحمول تعلق بفعل أو موضوع خاص ، بل كان حاويا لعدة من الافعال والموضوعات المتفرقة التي يجمعها عنوان الحكم الحاوي لها ، من غير فرق بين أن يكون المحمول فيها حكما واقعيا أوليا كقاعدة مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده الشاملة لجميع أنواع المعاوضات المتفرقة ، أو حكما واقعيا ثانويا كقاعدة لا ضرر ولا حرج الجارية في جميع أبواب الفقه ، أو حكما ظاهريا كقاعدة التجاوز والفراغ.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك : أن البحث عن حجية الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية يكون بحثا عن مسألة أصولية (١) فان النتيجة فيه حكم كلي لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين إلا بعد تطبيقها على الافعال أو الموضوعات الخارجية الجزئية ، ولا عبرة بيقين المقلد وشكه في ذلك ، بل العبرة بيقين المجتهد وشكه ، وهو الذي يجري الاستصحاب ويكون بوحدته بمنزلة كل المكلفين ، ولا يتوقف إعمال الاستصحاب على تحقق الموضوع خارجا ، بل يكفي فيه فرض

__________________

١ ـ أقول : لازم كلامه إدخال قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية وكذا غيرها من القواعد الجارية في الشبهة الحكمية في المسائل الأصولية ، مع أنه ليس كذلك ، بل ظاهرهم جعلها من القواعد الفقهية ، فتدبر. ولئن قيل : بأن القواعد ربما تنتج حكما جزئيا وأخرى كليا ، نقول : فالاستصحاب أيضا منها.

٣١٠

الوجود ، كما إذا شك في بقاء نجاسة الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، فإنه يجري استصحاب النجاسة فيه ولو لم يوجد في العالم ماء متغير.

والسر في ذلك : هو أن متعلق الشك في الاستصحابات الحكمية إنما هو الحكم الكلي المترتب على موضوعه المقدر وجوده مع تبدل بعض حالات الموضوع ، وبذلك يمتاز عن استصحاب عدم النسخ عند الشك فيه ، فإنه في استصحاب عدم النسخ لا يحتاج إلى فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، وأما استصحاب الحكم الكلي في الشبهات الحكمية فيحتاج إلى فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، ولا يحتاج إلى تحقق الموضوع خارجا ، كما هو الشأن في الاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعية ، ومن هنا كان إعمال الاستصحاب في الشبهات الحكمية من وظيفة المجتهد ولا حظ للمقلد فيه ، ولا يجوز للمجتهد الفتوى بحجية الاستصحاب في الشبهة الحكمية لان تطبيقها ليس بيد المقلد ، بل لابد للمجتهد من الفتوى بالحكم المستخرج من إعمال الاستصحاب ، فينطبق على ما تقدم من ضابط المسألة الأصولية ، فان حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية يقع كبرى لقياس استنباط الحكم الكلي ، وذلك واضح.

وأما البحث عن حجية الاستصحاب في الشبهات الموضوعية : فهو إنما يكون بحثا عن قاعدة فقهية ، لان النتيجة فيه حكم عملي له تعلق بعمل الآحاد ابتداء ، فان اليقين والشك من كل مكلف ـ مقلدا كان أو مجتهدا ـ يكون موضوعا مستقلا لجريان الاستصحاب ، كالشك المعتبر في قاعدة التجاوز والفراغ ، فالذي يجري الاستصحاب في الموضوعات الخارجية إنما هو آحاد المكلفين على حسب ما يعرض لهم من الشك واليقين ، وليس للمجتهد إلا الفتوى بحجية الاستصحاب في الموضوعات ، وأما إعماله فهو يدور مدار شك المقلد ويقينه ، والنتيجة لا تكون إلا الحكم الجزئي المتعلق بعمله الخاص الذي

٣١١

لا يتعداه ، كطهارة ثوبه ونجاسة بدنه وغير ذلك ، فالبحث عن حجية الاستصحاب في الموضوعات الخارجية كالبحث عن حجية قاعدة الفراغ والتجاوز يرجع إلى البحث عن قاعدة فقهية.

فظهر : أنه لابد من القول بالتفصيل بين حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية وبين حجيته في الشبهات الموضوعية ، فالأول يكون من المسائل الأصولية ، والثاني من القواعد الفقهية.

وتوهم : أنه لا يمكن ذلك مع وحدة الدليل الدال على حجية الاستصحاب وهو قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فان نتيجة الدليل الواحد لا يمكن أن تختلف وتكون تارة مسألة أصولية وأخرى قاعدة فقهية.

فاسد ، فان قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد اليقين والشك ، فلا محذور في اختلاف النتيجة حسب اختلاف مقامات الشك واليقين ، وأنه في مقام الشبهة الحكمية تكون النتيجة مسألة أصولية وفي مقام الشبهة الموضوعية تكون النتيجة قاعدة فقهية ، ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في معنيين.

وهذا من غير فرق بين القول باعتبار الاستصحاب من باب التعبد أو من باب إفادته الظن النوعي وبناء العقلاء ، فان اليقين السابق والشك اللاحق المفيد للظن في نوعه إن تعلق بالأحكام يكون من المسائل الأصولية وإن تعلق بالموضوعات يكون من القواعد الفقهية.

بل ما ذكرناه من اختلاف النتيجة لا يختص بالاستصحاب ، بل يطرد في جميع الامارات والأصول ، فالبحث عن حجية الظواهر في باب الأوقاف والأقارير والوصايا يرجع إلى البحث وعن قاعدة فقهية ، والبحث عن حجيتها في باب الاحكام يرجع إلى البحث عن مسألة أصولية ، وقس على ذلك سائر الطرق والأصول.

٣١٢

ومما ذكرنا ظهر : موقع النظر في كلام الشيخ قدس‌سره من أن الاستصحاب في الاحكام عبارة عن نفس الحكم ، والدليل عليه قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فيكون الاستصحاب قاعدة فقهية.

وجه النظر : هو أن الاستصحاب إنما يكون مدركا للحكم الشرعي ، لا أنه بنفسه حكم شرعي ، فان عدم نقض اليقين بالشك الذي هو مفاد الاستصحاب يكون دليلا على نجاسة الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، فتأمل جيدا.

ـ الامر الثالث ـ

لا إشكال في مباينة الاستصحاب لكل من « قاعدة اليقين » و « قاعدة المقتضي والمانع » كما أن كلا من القاعدتين تباين الأخرى ، وليس ما يكون بمفهومه جامعا بين العناوين الثلاث.

وتوضيح ذلك : هو أنه يعتبر اختلاف متعلق الشك واليقين في « قاعدة المقتضي والمانع » ولا يمكن أن يتحد ، فان اليقين فيها إنما يتعلق بوجود المقتضي والشك يتعلق بوجود المانع ، فيختلف متعلق الشك واليقين ، ولا يمكن أن يتعلق أحدهما بعين ما تعلق به الآخر ، وهذا بخلاف الشك واليقين في باب الاستصحاب و « قاعدة اليقين » فان الشك في كل منهما يتعلق بعين ما يتعلق به اليقين ولا يختلف مورد الشك واليقين فيهما ، كما سيأتي بيانه.

وبقريب آخر : مورد « قاعدة المقتضي والمانع » هو ما إذا اجتمع كل من الشك واليقين والمشكوك والمتيقن في الزمان ، فإنه في ظرف اليقين بوجود المقتضي يشك في وجود المانع ، فلا يختلف زمان الشك واليقين بمالهما من المتعلق.

وأما « قاعدة اليقين » فيعتبر فيها اختلاف زمان الشك واليقين مع اتحاد زمان المشكوك والمتيقن ، كما إذا تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك

٣١٣

يوم السبت بعدالته في يوم الجمعة ، فيختلف زمان اليقين مع زمان الشك ، فان ظرف حصول اليقين كان هو يوم الجمعة وظرف حصول الشك كان هو يوم السبت ، ويتحد زمان المتيقن والمشكوك ، فان المتيقن والمشكوك فيه هو عدالة زيد في يوم الجمعة ، ولذلك يعبر عن « قاعدة اليقين » بالشك الساري ، لأن الشك الحاصل في الزمان المتأخر عن زمان اليقين يسري ويرجع بطريق القهقرى إلى زمان اليقين ، ويوجب تبدل اليقين وانقلابه إلى الشك.

وأما الاستصحاب : فيعتبر فيه اختلاف زمان المتيقن والمشكوك ، سواء اختلف زمان الشك واليقين أيضا ( كما إذا حصل اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة بحيث كان يوم الجمعة ظرفا لكل من العدالة واليقين وشك في يوم السبت بعدالته فيه ) أو اتحد زمان الشك واليقين ( كما إذا حصل اليقين في يوم السبت بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك في يوم السبت أيضا بعدالة زيد فيه ) فالذي يعتبر في الاستصحاب هو اختلاف زمان المتيقن والمشكوك ، ولا يعتبر فيه اختلاف زمان الشك واليقين ، على عكس « قاعدة اليقين »

فظهر : انه لا يمكن ان يجتمع الاستصحاب مع « قلعدة المقتضي والمانع » و « قاعدة اليقين » كما لايجتمع احدي القاعدتين مع الاخري ، بل لكل من هذه العناوين الثلاثة قيد يوجب التبانين بينها ، فلا يمكن ان يتفكل لاعتبارها دليل واحد ، بل لابد من ان يكون اعتبار كل واحد منها بدليل يخصه.

ومن ذلك يظهر : انه لو كان المراد من اليقين والشك في قوله عليه‌السلام « لا تنقص اليقين بالشك » هو اليقين والشك الاستصحابي ، فلا يمكن ان يشمل اليقين والشك في « قاعدة اليقين » او « قاعدة المقتضي والمانع ».

إيقاظ :

ما سيأتي من الشيخ قدس‌سره من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك

٣١٤

في المقتضي لا يراد به « المقتضي » في باب « قاعدة المقتضي والمانع » فان المراد من المقتضي والمانع في القاعدة لا يخلو عن أحد وجوه ثلاث :

الأول : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي وجود الأثر التكويني في عالم التكوين كاقتضاء النار للاحراق ، ومن المانع ما يمنع عن تأثير المقتضي كمانعية الرطوبة الغالبة عن تأثير النار في الثوب المجاور لها. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق المقتضى ( بالفتح ) عند العلم بوجود المقتضي ( بالكسر ) مع الشك في وجود المانع.

الثاني : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي الأثر الشرعي بحسب جعل الشارع ، ومن المانع ما يمنع عن ترتب الأثر الشرعي بجعل من الشارع ، فيكون كل من المقتضي والمانع شرعيا ، كما يقال : إن المستفاد من أدلة النجاسات أن الشارع جعل ملاقاة الماء للنجاسة مقتضية لنجاسته وكرية الماء مانعة عنها. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق الأثر الشرعي كنجاسة الماء عند العلم بوجود ما جعله الشارع مقتضيا له ـ كالملاقاة في المثال ـ إلى أن يثبت المانع وهو كرية الماء.

الثالث : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي تشريع الحكم من الملاكات التي تبتني عليها الاحكام كما يقال : إن العلم مقتض لوجوب الاكرام ، ومن المانع ما يمنع عن تأثير المقتضي في الجعل كمانعية الفسق عن تشريع وجوب الاكرام. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق الحكم الشرعي عند العلم بوجود الملاك والشك في وجود المانع.

ولم يعلم : أن من يدعي حجية « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أي من هذه الوجوه الثلاثة ترجع دعواه؟ ويمكن أن يقول بحجية القاعدة في الجميع ، وسيأتي ( إن شاء الله تعالى ) أنه لا دليل على اعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » مطلقا ،

٣١٥

سواء أريد من « المقتضي » المقتضي التكويني أو الشرعي أو الملاكي ، خصوصا لو أريد منه الأخير ، فإنه لا طريق إلى إحراز المقتضي الملاكي.

وعلى كل حال : المراد من « المقتضي » الذي ذهب الشيخ قدس‌سره إلى عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك فيه معنى آخر أجنبي عن هذه الوجوه الثلاثة المذكورة في القاعدة ، وسيتضح المراد منه ( إن شاء الله تعالى ).

ـ الامر الرابع ـ

يعتبر في الاستصحاب أمور ثلاثة :

أحدها : اجتماع اليقين والشك في الزمان ، سواء كان مبدء حدوث اليقين قبل حدوث الشك ، أو تقارن حدوثهما في الزمان ، أو تأخر حدوث اليقين عن حدوث الشك ، كما لو شك في عدالة زيد في يوم السبت واستمر الشك إلى يوم الأحد وفي يوم الأحد حدث اليقين بعدالته في يوم الجمعة ، فالذي يعتبر في الاستصحاب هو اجتماع اليقين والشك في الزمان ، من غير فرق بين تقارن حدوثهما زمانا أو سبق حدوث أحدهما على الآخر ، فإنه مع عدم اجتماع اليقين والشك يلزم تبدل اليقين وسراية الشك إليه ، فيخرج عن موضوع الاستصحاب ، لأنه يعتبر فيه استقرار اليقين بوجود المتيقن في وقت ما ، وبذلك يمتاز الاستصحاب عن « قاعدة اليقين » كما تقدم.

ثانيها : سبق زمان المتيقن على زمان الشك ، بأن يتعلق الشك ببقاء ما هو متيقن الوجود سابقا ، فلو انعكس الامر وكان زمان المتيقن متأخرا عن زمان الشك ـ كما إذا شك في مبدء حدوث ما هو متيقن الوجود في الزمان الحاضر ـ يرجع ذلك إلى الاستصحاب القهقرى الذي لا دليل على اعتباره ، فان الظاهر من قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو عدم نقض المتيقن بما له من الآثار بالشك في بقائه ، وهذا المعنى يتوقف على سبق زمان المتيقن ، إذ مع

٣١٦

سبق زمان الشك لا يرتبط الشك في مبدء حدوثه باليقين الحاصل في الزمان الحاضر ، فان عدم البناء على حدوث المتيقن في الزمان السابق على زمان اليقين بوجوده لا يعد نقضا لليقين بالشك ، بل الامر في الاستصحاب القهقرى بالعكس يكون من نقض الشك باليقين ، لا نقض اليقين بالشك.

وبالجملة : لا إشكال في أن لمفاد الأخبار الواردة في الباب يقتضي سبق زمان المتيقن والشك في بقائه ، وهذا المعنى أجنبي عن استصحاب القهقرى ، فالقائل بحجيته لابد له من أن يلتمس دليلا آخر غير روايات الباب.

ثالثها : فعلية الشك واليقين ، ولا يكفي الشك واليقين التقديري ، فإنه مضافا إلى ظهور لفظ الشك واليقين بل مطلق الألفاظ في فعلية الوصف العنواني وقيام مبدأ الاشتقاق الحقيقي أو الجعلي بالذات فعلا وتلبسها به حال الاطلاق ـ ولذا وقع الاتفاق على عدم حصة إطلاق الانسان والحجر وغير ذلك من الجوامد على ما انقضى عنه الانسانية والحجرية أو لم يتلبس بعد وإن وقع الخلاف في خصوص المشتقات في صحة إطلاقها على وجه الحقيقة بالنسبة إلى من انقضى عنه المبدء ـ أن الحكم المجعول في الاستصحاب بل في مطلق الأصول لا يكاد يتحقق إلا مع فعلية الشك الذي اخذ موضوعا فيها ، بداهة أن الجري العملي على أحد طرفي الشك أو البناء على بقاء الحالة السابقة وترتب آثار ثبوت المتيقن لا يمكن إلا مع فعلية الشك ، بل قد تقدم منا في مبحث الظن أن نتيجة الحكم الظاهري لا يكاد أن تتحقق إلا بعد العلم بالحكم والموضوع ، من غير فرق في ذلك بين الطرق والامارات وبين الأصول العملية. وبذلك تمتاز الاحكام الواقعية عن الاحكام الظاهرية بعد اشتراكهما في عدم توقف الجعل والانشاء على العلم به ، لأنه يلزم الدور ، إلا أن فعلية الاحكام الواقعية لا تتوقف على العلم بالحكم أو الموضوع ، بل فعليتها تدور مدار وجود الموضوع خارجا ولو مع جهل المكلف به ، وربما تكون بوجوداتها الواقعية منشأ للآثار الخاصة وإن لم يكن

٣١٧

لها وجود علمي. وهذا بخلاف الاحكام الظاهرية ، فإنها بوجوداتها الواقعية لا أثر لها ولا يترتب عليها الآثار المرغوبة منها ـ من كونها منجزة للواقع عند الإصابة والمعذورية عند المخالفة ـ إلا بعد الالتفات إليها والعلم بها حكما وموضوعا ، لوضوح أن مجرد جعل حجية الخبر الثقة أو الاستصحاب لا يقتضي التنجيز والمعذورية إلا بعد العلم بقيام الخبر أو الاستصحاب على وجوب الشيء ومقدار دلالته وما يستفاد منه.

وبالجملة : لا إشكال في أن نتيجة جعل الطرق والامارات والأصول العملية لا يمكن أن تتحقق إلا بعد العلم بالحكم والموضوع ، لا معنى للمؤاخذة على ترك العمل بخبر لم يعلم به. وكذا الاستصحاب ، فيتوقف جريان الاستصحاب على الالتفات إليه حكما وموضوعا ، وذلك يتوقف على فعلية الشك الذي اخذ موضوعا فيه ، فلا ينبغي التأمل في اعتبار فعلية الشك في الاستصحاب. ويترتب على ذلك فروع مهمة :

منها : ما إذا تيقن المكلف بالحدث ثم غفل عن حاله وصلى غافلا وبعد الفراغ من الصلاة شك في تطهره قبل الصلاة (١) فبناء على اعتبار فعلية الشك في جريان الاستصحاب ينبغي القول بصحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها ، لأنه يكون من الشك بعد الفراغ ، فتجري في الصلاة « قاعدة الفراغ » ولا أثر لاستصحاب بقاء الحدث الجاري بعد الصلاة عند الالتفات إلى حاله ، لان قاعدة الفراغ حاكمة عليه. نعم : استصحاب بقاء الحدث إنما ينفع بالنسبة

__________________

١ ـ أقول : لا إشكال في أن الطرق المنجزة للواقع والمعذرة لها أو أصولها تكون منجزة ومعذرة ما دام موجودا لا بعد انعدامها ، وحينئذ ففي الزمان السابق لو فرض استصحاب الحدث فلا يقتضي ذلك إلا بطلان الصلاة سابقا. وأما في الحال : فلا مرجع فعلا إلا قاعدة التجاوز أو الفراغ الحاكم بالصحة ، فمن هذا الحين لا معنى للحكم ببطلان الصلاة السابقة ، وإنما يحكم به سابقا ، ولا أثر له عملي فعلا ، فما أفيد من الأساس لا نتيجة له عملا في المقام ، كما لا يخفى.

٣١٨

إلى الصلوات المستقبلة. هذا بناء على اعتبار فعلية الشك.

وأما بناء على كفاية الشك التقديري ، فينبغي القول ببطلان الصلاة في الفرض المذكور ، لأنه بمجرد تيقن الحدث كان الحكم المجعول في حقه هو البناء على بقاء الحدث إلى أن يعلم بالرافع ولا أثر لغفلته بعد ذلك ، لأنه يكون بمنزلة من صلى محدثا بحكم الاستصحاب ، فهو كمن دخل في الصلاة مع الشك في الطهارة ، فتأمل جيدا.

ـ الامر الخامس ـ

الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب والدليل الدال عليه ومنشأ الشك في بقائه كثيرة.

أما أقسامه باعتبار المستصحب : فهي أن المستصحب إما أن يكون أمرا وجوديا وإما أن يكون عدميا. وعلى كلا التقديرين : فاما أن يكون حكما شرعيا وإما أن يكون موضوعا ذا حكم. وعلى الأول : فاما أن يكون حكما كليا وإما ان يكون حكما جزئيا. وعلى كلا التقديرين : فإما أن يكون من الأحكام التكليفية وإما أن يكون من الأحكام الوضعية.

وأما أقسامه باعتبار الدليل : فهي أن الدليل الدال على ثبوت المستصحب إما أن يكون هو الكتاب والسنة ، وإما أن يكون هو الاجماع ، وإما أن يكون هو العقل.

وأما أقسامه باعتبار منشأ الشك : فهي أن الشك في بقاء المستصحب إما أن يكون لأجل الشك في المقتضي بالبيان الآتي ، وإما أن يكون لأجل الشك في وجود الرافع أو الغاية ـ على ما سيأتي من الفرق بينهما ـ وإما أن يكون لأجل الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

فهذا جملة الأقسام المتصورة في الاستصحاب بالاعتبارات الثلاثة. وقد وقع

٣١٩

الخلاف في حجية الاستصحاب في كل واحد من هذه الأقسام. والأقوى : حجية الاستصحاب في جميع الأقسام اللاحقة له باعتبار المستصحب والدليل الدال على ثبوته. وأما أقسامه اللاحقة له باعتبار منشأ الشك : فسيأتي الكلام فيه.

ويظهر من الشيخ قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الدليل الدال على ثبوت المستصحب هو العقل ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك هو : أن الاحكام العقلية لا يكاد يتطرق الاهمال والاجمال فيها ، فان العقل لا يستقل بقبح شيء أو حسنه إلا بعد الالتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من القيود والخصوصيات ، فكل قيد اعتبره العقل في حكمه فلابد وأن يكون له دخل في الموضوع ، ومعه لا يمكن الشك في بقاء الحكم العقلي وما يستتبعه من الحكم الشرعي ـ بقاعدة الملازمة ـ مع بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة الذي لابد منه في الاستصحاب ـ كما سيأتي بيانه ـ فإنه لا يمكن الشك في بقاء الشيء إلا بعد انتفاء بعض الخصوصيات والعوارض المكتنفة به ، بداهة أنه مع بقاء الموضوع على ما هو عليه يقطع ببقاء الحكم ولا يتطرق إليه الشك ، فالشك في بقاء الحكم العقلي لا يكون إلا بعد انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، ومعه يقطع بارتفاع الحكم ، لأن المفروض أن للخصوصية الزائلة دخلا في موضوع حكم العقل.

وبتقريب آخر : العقل لا يستقل بحسن الشيء أو قبحه إلا بعد الإحاطة بجميع ما له دخل في الحسن والقبح ، فلابد وأن يكون لكل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه مما لها دخل في مناط حكمه ، فعند انتقاء بعض الخصوصيات لا يجري استصحاب بقاء الحكم العقلي ، للعلم بارتفاع المناط. فالحكم العقلي إما أن يكون مقطوع البقاء وإما أن يكون مقطوع الارتفاع ، ولا يتطرق فيه الشك لكي يجري فيه الاستصحاب.

٣٢٠