فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

الاكرام الواجب ، فكلما كثرت أفراد العلماء خارجا اتسعت دائرة الاكرام.

ومن المعلوم : أن الشك في عالمية بعض الافراد يستتبع الشك في وجوب إكرامه ، فلو علم بمقدار من أفراد العلماء خارجا وشك في عالمية بعض ، فالاكرام الواجب يتردد بين الأقل والأكثر ، لأنه يعلم بوجوب مقدار من الاكرام على حسب مقدار ما علم من أفراد العلماء ويشك في وجوب الاكرام الزائد ، للشك في موضوعه.

وهذا من غير فرق بين لحاظ العلماء في قوله : « أكرم العلماء » مجموعيا أو استغراقيا ، فإنه على كلا التقديرين يتردد الاكرام الواجب بين الأقل والأكثر عند العلم بمقدار من أفراد العلماء والشك في عالمية بعض (١).

__________________

١ ـ أقول : إن الشبهة في المصداق تارة : من جهة الشك في اتصاف الموجود بعنوان الكبرى ، وأخرى : من جهة الشك في وجود ما اتصف به ، فعلى الأول ـ فتارة : يكون دليل الكبرى معينة من حيث الحدود المأخوذ في موضوع الكبرى نظير عنوان عشرة عالم وأمثاله ، وأخرى : مبهمة قابلة للانطباق على الأقل والأكثر ، فعلى الثاني ـ لا شبهة في أن الشبهة لمصداقية موجب للترديد في مقدار إرادة المولى من الكبرى ، لان إبهامه موجب للشك في أن مقدار إرادة المولى قائم بالأقل أو الأكثر ، ففي هذه الصورة صدق الترديد في سعة الحكم وضيقه من جهة نفس الخطاب وإبهامه ، غايته هذه الجهة من الترديد جاء من الخارج لا من ناحية المولى ، بل ربما لا يدري المولى أيضا مقدار إرادته في خطابه ، ولعمري! ان مثل هذه الجهة من الشبهة المصداقية أجنبية عن محل كلام شيخنا العلامة ، إذ محط كلامه إنما هو في صورة تمحض الشك في مقدار الإرادة من غير جهة الخطاب وإبهامه ، فلابد من فرضه في صورة تعين مقدار الإرادة من ناحية الخطاب ، وإنما كان الشك في وجوب الأقل والأكثر في عالم التطبيق محضا فيحمل بين الهلالين أو الشك في المحقق ، وإلا فالصورة المقرر في المثال كالنار على المنار. وجفاء نسبة الغفلة فيه إلى خريط هذه الصنعة.

وبعد ذا نقول : لا مجال لهذين المثالين أيضا ، إذ بين الهلالين أيضا من حيث الحد مبهمة ككلي عالم. وأما الشك في المحقق : ففي السبب شبهة حكمية وفي المسبب شبهة موضوعية لأمر بسيط لا الأقل والأكثر ، كما أن في الشبهة المصداقية للعشرة مع انحصار الامر بالمشكوك فالأقل غير معلوم الوجوب ، ومع عدم انحصاره وإن يتصور الشك في الأقل والأكثر ، إلا أن الأكثر طرف الشك في الايجاب تخييرا ،

٢٠١

غايته أنه إن لوحظ العلماء على نحو العام الاستغراقي يرجع الشك في ذلك إلى الشك بين الأقل والأكثر الغير الارتباطي ، لان وجوب إكرام ما شك في كونه من أفراد العلماء واقعا لا ربط له بوجوب إكرام ما علم من أفراد العلماء خارجا ، لانحلال التكليف إلى تكاليف متعددة حسب تعدد أفراد العلماء ، ويكون لكل تكليف إطاعة وعصيان يخصه ، كما هو الشأن في كل عام استغراقي ، فلا دخل لاكرام أحد الافراد بإكرام الفرد الآخر.

وإن لوحظ على نحو العام المجموعي يرجع الشك في عالمية بعض إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، فإنه لم يتعلق التكليف الاستقلالي بإكرام ما يشك في كونه من أفراد العلماء على تقدير أن يكون من أفراد العلماء واقعا ، لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد تعلق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع ، فيكون إكرام كل فرد من العلماء بمنزلة الجزء لاكرام ساير العلماء ـ كجزئية السورة للصلاة ـ فان الاخلال بإكرام أحد الافراد يوجب الاخلال بإكرام الجميع ، ويتحقق عصيان التكليف بذلك ، لان معنى العام المجموعي هو لحاظ الافراد المتباينة مرتبطة بعضها ببعض يقوم بها ملاك واحد ، فيكون كل فرد من أفراد العلماء بمنزلة الجزء لساير الافراد يتوقف امتثال التكليف على إكرام الجميع ، فالشك في وجوب إكرام بعض الافراد يكون كالشك في وجوب السورة يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، غايته أن التكليف

__________________

وهو خارج عن محل الفرض ، كما أن في الشبهة الموضوعية من جهة الشك في الوجود ، فمع الشك في أصل الوجود لا يكون أقل معلوم الوجوب وأكثر مشكوك ، ومع الاتيان بمقدار منه والشك في وجود البقية لا يكون الأقل معلوم الوجوب ، بل يقطع بسقوطه ، فلا يتصور في هذه المقامات الشك في وجوب الأقل أو الأكثر في مقام المصداق زائدا عن مرحلة الكبرى ، إلا في موارد دوران الامر في تحصيل الفراغ عما هو الواجب بين وجوب تمام الصلاة أو إتمامه من جهة الشك في فوت ركن أو غيره مع عدم أصل يحرز أيهما ، فتدبر في مباحث الخلل.

٢٠٢

بالسورة ليس له تعلق بالموضوع الخارجي ، فلا يمكن أن تتحقق الشبهة الموضوعية فيها ، بل لابد وأن تكون حكمية ، بخلاف الشك في وجوب إكرام من يشك في كونه من أفراد العلماء ، فان الشبهة فيه موضوعية.

فظهر : أن تردد نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية أمر بمكان من الامكان ، وأمثلته في الفقه كثيرة :

منها : ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره ، فان مانعية غير المأكول تختلف سعة وضيقا على حسب ما لغير المأكول من الافراد خارجا ويكون كل فرد منه مانعا برأسه ، فان الأصل في باب النواهي النفسية والغيرية هي الانحلالية ، فكما أن النواهي النفسية كقوله : « لا تشرب الخمر » ينحل إلى النواهي المتعددة بعدد ما للخمر من الافراد خارجا ، كذلك النواهي الغيرية كقوله : « لا تصل فيما لا يؤكل » ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من الافراد خارجا ، ويكون عدم كل فرد قيدا للصلاة فتتكثر القيود العدمية بمقدار ما للغير المأكول من الافراد ، ويكون قوله : « لا تصل فيما لا يؤكل » بمنزلة قوله : « لا تصل في هذا الفرد ولا تصل في ذلك الفرد » وهكذا.

فلو شك في اتخاذ اللباس من غير المأكول يرجع الشك إلى الشك في مانعية ذلك اللباس وأخذ عدمه قيدا في الصلاة ، فيؤول الامر إلى الشك بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية ، للعلم بمانعية ما علم اتخاذه من غير المأكول وتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه والشك في مانعية ما يشك في اتخاذه من غير المأكول وتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه.

والكلام فيه عين الكلام في الاجزاء والشرائط ، من حيث جريان البراءة الشرعية في القيدية الزائدة المشكوكة وعدم جريان البراءة العقلية فيها ، إذ لا فرق بين الاجزاء والشرائط والموانع في مناط جريان البراءة.

نعم : في الاجزاء لا يمكن أن تتحقق الشبهة الموضوعية ، لان التكليف بها

٢٠٣

ليس له تعلق بالموضوع الخارجي ، وفي الشرائط وإن كان يمكن تحقق الشبهة الموضوعية فيها ، إلا أنه لا يرجع الشك فيها إلى الشك بين الأقل والأكثر ، لان الشرطية لا تنحل إلى شروط متعددة بمقدار ما للموضوع من الافراد خارجا ، فان التكليف في باب الشروط إنما يتعلق بالوجود ، ولا يمكن التكليف بايجاد المتعلق في كل ما يفرض من أفراد الموضوع خارجا ، فلو فرض أن كون اللباس من مأكول اللحم شرط في الصلاة لا أن غير المأكول مانع ، فلا يمكن التكليف بايجاد الصلاة في كل فرد من أفراد اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، بل ليس هناك إلا تكليف واحد تعلق بإيجاد الصلاة في فرد ما من اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، ولابد من إحراز وقوع الصلاة في ذلك ـ كما هو الشأن في كل شرط حيث إنه يلزم إحرازه ـ فلا تجوز الصلاة فيما شك في كونه من مأكول اللحم بناء على شرطية اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، ولا تجري في ذلك البراءة ، لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد يجب الخروج عن عهدته ، فالشبهة الموضوعية في باب الشروط لا ترجع إلى الأقل والأكثر.

وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية في باب الموانع فإنها ترجع إلى الأقل والأكثر ، لان التكليف فيها إنما يتعلق بالعدم ، ويمكن أن يكون عدم كل فرد من أفراد اللباس المتخذ من غير المأكول قيدا في الصلاة وأخذ وجوده مانعا عنها ، فتجوز الصلاة في ما شك في أخذه من غير المأكول.

وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في رسالة مفردة ، ولهذا طوينا البحث في هذا المقام اعتمادا عليها ، ومن أراد تفصيل ذلك فليرجع إليها ، فإنها قد تضمنت من التحقيقات مالا تصل إليها ذوي الافهام السامية ، فشكر الله مساعي شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ فلقد أودع في أذهاننا من نفائس الآراء ما تحير في دركه الأفكار! وتقف دونه الأنظار.

* * *

٢٠٤

الفصل السابع

في دوران الامر بين الأقل والأكثر في المركبات التحليلية

والمراد من المركب التحليلي : هو ما إذا لم يتوقف اعتبار الخصوصية الزائدة المشكوكة على مؤنة زائدة ثبوتا واثباتا. ويقابله المركب الخارجي : وهو ما إذا توقف اعتبار الخصوصية المشكوكة على مؤنة زائدة ثبوتا وإثباتا.

وتوضيح ذلك : هو أن الخصوصية الزائدة المشكوكة

تارة : تحتاج في مقام اعتبارها وأخذها في متعلق التكليف أو في موضوعه إلى لحاظ يخصها في عالم الجعل والثبوت ، وإلى بيان زائد في عالم الايصال والاثبات ، سواء كان اعتبارها على وجه الجزئية أو الشرطية ، وسواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا مباينا للمشروط خارجا غير متحد معه وجودا ـ كاشتراط الطهارة في الصلاة ـ أو كان منشأ الانتزاع أمرا داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود ـ كاشتراط الايمان في الرقبة ـ ففي جميع هذه الوجوه تحتاج الخصوصية الزائدة إلى لحاظها ثبوتا وإلى بيان زائد يخصها إثباتا.

بداهة أن أخذ السورة جزء في الصلاة والطهارة شرطا لها والايمان قيدا في الرقبة يتوقف على تصور السورة والطهارة والايمان في مقام الامر بالمركب وتأليف أجزائه ، ولا يمكن أن تكون السورة والطهارة والايمان جزء أو قيدا للمركب بلا لحاظها مستقلا ، هذا في عالم الجعل والثبوت. وكذا في عالم الاثبات يتوقف بيان اعتبارها في المأمور به على تأديتها بمؤنة زائدة ، ولو بمثل قوله : « صل مع السورة » أو « مع الطهارة » أو « أعتق رقبة مؤمنة ».

٢٠٥

وأخرى : لا تحتاج الخصوصية المشكوكة في مقام اعتبارها وأخذها في المتعلق أو الموضوع إلى لحاظ يختص بها ثبوتا ، وإلى بيان زائد إثباتا ، وذلك كما لو تردد متعلق التكليف أو موضوعه بين الجنس والنوع ـ كالحيوان والانسان ـ فان النوع وإن اشتمل على خصوصية زائدة يكون الجنس فاقدا لها وهي الصورة النوعية التي تقوم بها حقيقة الشيء ، إلا أنه في عالم الثبوت لا يحتاج إلى لحاظين : لحاظ الجنس ولحاظ الصورة النوعية بلحاظ مستقل مغاير ، بل يكفي لحاظ النوع بماله من المعنى البسيط ، وكذا في مقام الاثبات لا يحتاج إلى بيان كل من الجنس والصورة ببيان على حدة ، بمثل قوله : « أكرم حيوانا ناطقا » بل يمكن تأدية المأمور به ببيان واحد ، بقوله : « أكرم إنسانا » (١) وتركب الانسان من

__________________

١ ـ أقول : لازم ما أفيد أنه لو فرض كون لسان الدليل وجوب إكرام حيوان الناطق مع احتمال كون ذكر الناطقية من باب كونه أكمل أفراده بلا خصوصية فيه أو أنه من باب دخل الناطقية في مطلوبيته ، لابد وأن يلحق مثل هذه الصورة أيضا بالشرط والمشروط ، غاية الامر كان المقيد متحدا مع قيده في الوجود ، ومجرد التمكن من أداء غرضه بعنوان آخر لا يخرج المثال عن الأقل والأكثر ، بل لابد وأن يفصل بين صورة كون لسان الدليل عنوانا مركبا كما ذكرنا ، أو عنوانا بسيطا مثل الانسان والحيوان ، ولا أظن أحدا يفصل بين الصورتين ، وذلك يكشف عن أن وجه الاحتياط ليس مجرد تباين العنوانين عرفا ، كيف؟ والعرف لا يرى بين الحيوان والحيوان الناطق إلا من باب الأقل والأكثر بل عمدة النكتة في وجه الاحتياط في الفرضين هو أن من المعلوم : أن النوع سواء كان بعنوانه البسيط أو بعنوانه المركب التحليلي ليس نسبته من الجنس المطلق القابل للانطباق على فرد آخر من قبيل الأقل والأكثر ، إذ ميزان الأقل والأكثر كون الأقل بجميع حدوده غير حد القلة في ضمن الأكثر ، ومن البديهي أن ما هو في ضمن النوع ليس الحيوان على الاطلاق ، بل ليس في ضمنه إلا حصة منه المبائن مع الحصة في ضمن فرد آخر ، وما هو من قبيل الأقل والأكثر هو النوع مع هذه الحصة لا مع الطبيعة القابلة للانطباق على حصص متباينة ، فلا جرم ينتهي الامر في مثل المقام بحسب الدقة العقلية إلى العلم الاجمالي بين حرمة ترك الفرد الآخر مقرونا بترك النوع أو حرمة تفويت خصوصية النوع ، ومثله يكون العلم بالدقة من العلم بين المتبائنين ، لا الأقل والأكثر ، وحينئذ لا يلزم على مثل الشيخ القائل بالبرائة العقلية أن يقول بالبرائة في المقام.

٢٠٦

الجنس والفصل إنما يكون عقليا من باب أن كل ما به الاشتراك يحتاج إلى ما به الامتياز ، وليس الانسان مركبا خارجيا نظير التركب من العرض والمعروض.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه كان الأنسب في مقام تحرير الأقسام هو أن يبحث عن الشرط والمشروط في ضمن البحث عن الجزء والكل ، ويعمم المركب الخارجي إلى ما يشمل الشرط والمشروط لاتحادهما في الحكم ، ويختص البحث في المركب التحليلي بما إذا كان من قبيل الجنس والنوع ، ولكن الشيخ قدس‌سره حيث أهمل هذا القسم ولم يتعرض لحكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع جعل المركب الخارجي مختصا بما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وأما الشرط والمشروط فقد جعله من المركب التحليلي ، وقد أطال الكلام في كون الشرط والمشروط ملحقا بالجزء والكل في الحكم وأنه تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك فيه ، سواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا مباينا للمشروط في الوجود أو متحدا معه وإن كان جريان البراءة في الأول أوضح.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا حاجة إلى تطويل الكلام في إلحاق الشرط بالجزء ، فإنه لا موجب لتوهم الفرق بينهما بعدما كان نسبة حديث الرفع إلى كل منهما على حد سواء ، لان كلا من الشرط والجزء مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، على ما تقدم توضيحه.

__________________

ثم إن ما أفيد في وجه عدم جريان البراءة النقلية بحكم العرف بالتباين بين العنوانين أن يلزم علاوة عما أوردنا : من أن لازمه المصير في المقام بين كون لسان الدليل إنسانا أو حيوانا ناطقا ـ إذ العرف لا يرى بين الحيوان والحيوان الناطق فرقا ـ يرد عليه أيضا ان لازمه التفصيل بين كون العنوان الآخر في قبال الرقبة « الرقبة المؤمنة » أو « المؤمنة » محضا ، فان العرف بين الرقبة والمؤمنة يرى مثل ما يرى بين الحيوان والانسان ، فتدبر.

٢٠٧

فالأولى : عطف عنان الكلام إلى بيان حكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع. والأقوى : أنه يجب فيه الاحتياط ولا تجري البراءة عن الأكثر ، فان الترديد بين الجنس والنوع وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقل والأكثر ، إلا أنه خارجا بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين ، لان الانسان بماله من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفا ، فلو علم إجمالا بوجوب إطعام الانسان أو الحيوان ، فاللازم هو الاحتياط باطعام خصوص الانسان ، لان نسبة حديث الرفع إلى كل من وجوب إطعام الانسان والحيوان على حد سواء ، وأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الأخرى ، فيبقى العلم الاجمالي على حاله ولابد من العلم بالخروج عن عهدة التكليف ، ولا يحصل ذلك إلا بإطعام خصوص الانسان ، لأنه جمع بين الأمرين ، فان إطعام الانسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا.

نعم : بناء على مختار الشيخ قدس‌سره من جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر وانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، ينبغي أن لا يفرق في ذلك بين ما كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل أو من قبيل الجنس والنوع ، لان النوع في التحليل العقلي مركب من الجنس والفصل فينحل العلم الاجمالي في نظر العقل ، لان نظره هو المتبع في الانحلال ، فتأمل. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث الأقل والأكثر.

بقي التنبيه على أمور :

ـ الأول ـ

لو شك في ركنية جزء للعمل ، فهل الأصل يقتضي الركنية؟ فيبطل العمل بالاخلال به أو بزيادته ولو نسيانا ، أو لا؟.

٢٠٨

وتحقيق ذلك يستدعي تمهيد مقدمة وهي : أنه قد اختلفت كلمات الأصحاب في معنى الجزء الركني وما هو المايز بينه وبين غيره.

فقيل : إن الجزء الركني هو ما أوجب الاخلال به سهوا بطلان العمل من دون أن توجب زيادته ذلك.

وقيل : إن الجزء الركني هو ما أوجب كل من الاخلال به وزيادته سهوا بطلان العمل.

فعلى التفسير الأول : يختص الفرق بين الجزء الركني وغيره في طرف النقيصة فقط ، فان نقص الجزء الركني ولو سهوا يقتضي البطلان ونقص غيره سهوا لا يقتضي البطلان. وأما في طرف الزيادة فلا فرق يبنهما ، لان زيادة كل من الجزء الركني وغيره لا يوجب البطلان.

وعلى التفسير الثاني : يحصل الفرق بينهما في كل من طرف الزيادة والنقيصة ، كما لا يخفى.

وهذا بعد الاتفاق منهم على أن الاخلال بالجزء عمدا يوجب البطلان ، وليس ذلك من لوازم ركنية الجزء ، بل هو من لوازم نفس الجزئية ، فان الاخلال العمدي بالجزء لو لم يقتض البطلان يلزم عدم كونه جزء ، فبطلان العمل بالاخلال العمدي بالجزء لا يلازم ركنيته.

وأما بطلان العمل بزيادة الجزء عمدا فهو مما لا تقتضيه الجزئية ، بل الزيادة العمدية كالزيادة السهوية تجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، إلا إذا اعتبر الجزء بشرط لا ، فزيادته أيضا تقتضي البطلان ، إلا أن ذلك في الحقيقة يرجع إلى الاخلال بالجزء ، لا إلى الزيادة ، كما سيأتي ( إن شاء الله تعالى ) بيانه.

فتحصل مما ذكرنا : أن نقصان الجزء عمدا لا يجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، وأما نقصان الجزء سهوا فهو يجتمع مع الصحة. كما أن زيادة الجزء عمدا أو سهوا تجتمع مع الصحة.

٢٠٩

فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في اقتضاء نقص الجزء سهوا للبطلان وعدمه.

المقام الثاني : في اقتضاء زيادة الجزء عمدا أو سهوا للبطلان وعدمه.

أما المقام الأول

فالكلام فيه يقع من جهات ثلاث :

الأولى : في أنه هل يمكن ثبوتا التكليف بما عدا الجزء المنسي من سائر الأجزاء؟ أو لا يمكن؟.

الثانية : في أنه لو فرض إمكان ذلك في مقام الثبوت ، فهل يكون في مقام الاثبات ما يقتضي التكليف بالمأتي به في حال نسيان الجزء : من دليل اجتهادي أو أصل عملي؟ أو أنه ليس في مقام الاثبات ما يقتضي ذلك؟.

الثالثة : في أنه لو فرض عدم صحة التكليف بما عدا الجزء المنسي ثبوتا أو عدم قيام الدليل على ذلك إثباتا ، فهل هناك دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي الاجتزاء بالمأتي به في حال النسيان وكونه مجزيا عن الواقع وإن لم يكن مأمورا به؟ أو أنه ليس في البين ما يدل على ذلك؟.

أما الجهة الأولى :

فمجمل الكلام فيها : هو أنه لا إشكال في سقوط التكليف بالجزء المنسي في حال النسيان ، لعدم القدرة عليه في ذلك الحال ، فلا يعقل التكليف به ، كما لا يعقل التكليف بما عدا الجزء المنسي على وجه يؤخذ « الناسي » عنوانا للمكلف ويخاطب بذلك العنوان ، بداهة أن الناسي لا يرى نفسه واجدا لهذا العنوان ولا يلتفت إلى نسيانه ، فإنه بمجرد الالتفات إلى نسيانه يخرج عن عنوان

٢١٠

الناسي ويدخل في عنوان الذاكر ، فلا يمكن أن يكون هذا الخاطب محركا لعضلات المكلف ، لان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف مما لابد منه في الانبعاث وانقداح الإرادة ، فالمستطيع لو لم يجد نفسه مستطيعا لا يكاد يمكن أن يكون الخطاب بالحج محركا لإرادته نحوه ، وحينئذ يقع البحث في أنه كيف يتصور ثبوتا تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي؟.

وما قيل أو يمكن أن يقال في تصوير ذلك أحد وجوه ثلاثة :

الأول : ما حكاه شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس‌سره في مسائل الخلل ، وهو إلى الآن لم يطبع ، وحاصله : يرجع إلى إمكان أخذ الناسي عنوانا للمكلف وتكليفه بما عدا الجزء المنسي ، بتقريب : أن المانع من ذلك ليس إلا توهم كون الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في ذلك الحال فلا يمكنه امتثال الامر المتوجه إليه ، لان امتثال الامر فرع الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف. ولكن يضعف ذلك : بأن امتثال الامر لا يتوقف على أن يكون المكلف ملتفتا إلى ما اخذ عنوانا له بخصوصه ، بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه من العنوان ولو كان من باب الخطأ في التطبيق ، فيقصد الامر المتوجه إليه بالعنوان الذي يعتقد أنه واجد له وإن أخطأ في اعتقاده ، والناسي للجزء حيث لم يلتفت إلى نسيانه بل يرى نفسه ذاكرا فيقصد الامر المتوجه إليه بتخيل أنه أمر الذاكر ، فيؤول إلى الخطأ في التطبيق ، نظير قصد الامر بالأداء والقضاء في مكان الآخر ، فأخذ « الناسي » عنوانا للمكلف أمر بمكان من الامكان ولا مانع عنه لا في عالم الجعل والثبوت ولا في عالم الطاعة والامتثال.

هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه (١) فإنه يعتبر في صحة البعث والطلب أن يكون

__________________

١ ـ أقول : ما أفيد تمام لو كان عنوان « الناسي » من شرائط توجيه التكليف إلى نفسه بأن يكون

٢١١

قابلا للانبعاث عنه بحيث يمكن أن يصير داعيا لانقداح الإرادة وحركة العضلات نحو المأمور به ولو في الجملة ، وأما التكليف الذي لا يصلح لان يصير داعيا ومحركا للإرادة في وقت من الأوقات ، فهو قبيح مستهجن.

ومن المعلوم : أن التكليف بعنوان « الناسي » غير قابل لان يصير داعيا لانقداح الإرادة ، لان الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد ، فيلزم أن يكون التكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق ، وهو كما لا ترى مما لا يمكن الالتزام به ، وهذا بخلاف الامر بالأداء والقضاء ، فان الامر بهما قابل لان يصير داعيا ومحركا للإرادة بعنوان الأداء أو القضاء ، لامكان الالتفات إلى كون الامر أداء أو قضاء ويمكن امتثالهما بما لهما من العنوان.

نعم : قد يتفق الخطأ في التطبيق فيهما ، وأين هذا من التكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق؟ كما فما نحن فيه ، فقياس المقام بالامر بالأداء أو القضاء ليس على ما ينبغي.

الوجه الثاني : هو ما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره من أن اختصاص الناسي بخطاب يخصه بالنسبة إلى ما عدا الجزء المنسي لا يلازم ثبوتا أخذ « الناسي » عنوانا للمكلف حتى يرد عليه المحذور المتقدم ، بل يمكن أن يؤخذ عنوانا آخر يلازم عنوان الناسي مما يمكن الالتفات إليه ، كما لو فرض أن « بلغمي المزاج » يلازم في الواقع نسيان السورة في الصلاة ، فيؤخذ « بلغمي المزاج » عنوانا

__________________

بنفسه موضوع الخطاب المستقل ، كما هو ظاهر مقالته.

ولنا بيان آخر ، وهو أن موضوع الخطاب يمكن كونه هو المكلف وأن النسيان مأخوذ في خصوصية فرده المتقوم به فردية صلاته بالناقص وأن الامر متعلق بالجامع بين الزائد والناقص ، غايته كل طائفة مختص بصدور فرد خاص من الزائد في الذاكر والناقص في الساهي ، ففي مثل هذه الصورة كل من الذاكر والناسي لا يقصد إلا الامر بالجامع ، فلا قصور حينئذ لدعوة الامر بالجامع للناسي مع غفلته عن نسيانه المأخوذ في لسان الخطاب لبيان أفراد المكلفين بالامر بالطبيعة ، كما لا يخفى.

٢١٢

للمكلف ويخاطب بهذا العنوان ، والمفروض : أن المكلف يمكن أن يلتفت إلى كونه بلغمي المزاج وإن لم يلتفت إلى ما يلازمه من نسيان السورة ، فان التفكيك في الالتفات بين المتلازمين بمكان من الامكان. فيقصد الناسي للسورة الامر المتوجه إلى ما يلازم نسيان السورة من العنوان الذي يرى نفسه واجدا له.

هذا ، ولكن يرد عليه :

أولا : أن ذلك مجرد فرض لا واقع له ، بداهة أنه ليس في البين عنوان يلازم نسيان الجزء دائما بحيث لا يقع التفكيك بينهما ، خصوصا مع تبادل النسيان في الاجزاء (١) فتارة : يعرض للمكلف نسيان السورة ، وأخرى : يعرض له نسيان التشهد ، وثالثة : يعرض له نسيان الذكر الواجب ، وهكذا بقية الاجزاء ، فدعوى : أن هناك عنوان يلازم نسيان الجزء بما له من التبدل بعيدة جدا. وأبعد من ذلك دعوى : أن هناك عناوين متعددة كل عنوان منها يلازم نسيان جزء خاص.

وثانيا : أن العنوان الملازم للنسيان إنما اخذ معرفا لما هو العنوان حقيقة فالعنوان الحقيقي إنما هو عنوان « الناسي » والذي لابد منه في صحة التكليف هو إمكان الالتفات إلى ما هو العنوان حقيقة ، ولا يكفي الالتفات إلى المعرف ، فيعود الاشكال المتقدم : من عدم إمكان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف واقعا ، فتأمل.

الوجه الثالث : هو ما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره أيضا ، وارتضاه

__________________

١ ـ أقول : كون « بلغمي المزاج » ملازما مع نسيان الجزء الواحد أو أكثر ثم لا يلزم أخذ عنوان ملازم ، بل من الممكن اخذ عنوان ملائم مع النسيان ، بجعل العنوان « المتذكر لمقدار من الاجزاء الجامع بين البعض والتمام » ولا بأس أيضا بجعل مثل هذا العنوان مرآة إلى الناسي ، ولا يحتاج حينئذ إلى الالتفات بكونه ناسيا ، بل يحتاج إلى الالتفات إلى أن المرئي بهذا العنوان كان « الناسي » أيضا ، وهذا بمكان من الامكان.

٢١٣

شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ وحاصله : أنه يمكن أن يكون المكلف به في الواقع أولا في حق الذاكر والناسي هو خصوص بقية الاجزاء ما عدا الجزء المنسي (١) ثم يختص الذاكر بتكليف يخصه بالنسبة إلى الجزء الذاكر له ، ويكون المكلف به في حقه هو العمل المشتمل على الجزء الزائد المتذكر له ، ولا محذور في تخصيص الذاكر بخطاب يخصه ، وإنما المحذور كان في تخصيص الناسي بخطاب يخصه ـ كما في الوجهين الأولين ـ فلا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على الوجهين المتقدمين.

نعم : يختص هذا الوجه باشكال ، وهو أن التكليف بالجزء الزائد لو كان بخطاب يخصه ، فأقصى ما يقتضيه الخطاب المختص بالذاكر هو وجوب ذلك الجزء في حقه ، وأما كونه مرتبطا ببقية الاجزاء بحيث يوجب الاخلال به عمدا بطلان سائر الأجزاء فهو مما لا يقتضيه ذلك الخطاب ، فليكن التكليف بالجزء الزائد من قبيل الواجب في ضمن واجب آخر ، بمعنى أن يكون ظرف امتثاله ظرف امتثال سائر الأجزاء من دون أن يكون بينه وبينها ما يقتضي الارتباطية.

__________________

١ ـ أقول : ما المراد من الامر ببقية الاجزاء بعد اختلافها حسب اختلاف نسيانه؟ فان كان عنوان المأمور به عنوان « بقية الاجزاء » فالناسي غير ملتفت إلى هذا العنوان ، وإن كان المراد الامر بأجزاء معينة بمقدار منه للجميع بأي جزء يوجد فالمأمور به يمكن ان يكون هو المنسي ، فتدبر.

ثم إن هذا الاشكال لا يرد على استاذنا الأعظم ، فإنه ما جعل عنوان المأمور به المشترك بين العامد والناسي كما أفيد في المتن ، بل جعل المأمور به الاجزاء التي يكون لدليله إطلاق لحال النسيان أيضا ، وأن الامر متعلق بالخالي عما شك بحسب دليله للشمول لحال النسيان ، فان في الالتفات إلى مثل هذا العنوان لا يحتاج إلى الالتفات إلى نسيان نفسه ، بخلاف ما ذكر من العنوان ، وأظن أن الاختلاف نشأ من سوء التعبير.

نعم : الذي يرد على استاذنا هو أن تصحيح الامر بالناسي لا يكون مخصوصا بما شك في إطلاق دليله لحال النسيان ، بل ربما يجيء في صورة إطلاق دليله أيضا ، غاية الامر بمثل هذا الدليل يخصص الاطلاق أيضا بحال الذكر ، فتدبر.

٢١٤

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان وحدة الخطاب وتعدده لا دخل له بالارتباطية وعدمها ، بل الارتباطية بين الاجزاء إنما تنشأ من وحدة الملاك القائم بمجموع الاجزاء ، فرب ملاك لا يمكن أن يستوفى بخطاب واحد ، بل يحتاج إلى خطابين.

بل الذي يظهر من جملة من الروايات : أن التكليف بالصلاة إنما كان بخطابين : خطاب من الله ( تعالى ) وخطاب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ويعبر عن الأول بفرض الله ( تعالى ) وعن الثاني بفرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سنته ، والمراد من فرض الله ( تعالى ) هو الأركان التي لا تدخلها النسيان ، ومن فرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو سائر الأجزاء التي تدخلها النسيان ، فتعدد الخطاب لا يوجب تعدد التكليف والاستقلالية ، بل لابد من ملاحظة منشأ الخطابين ، فان كان هو ملاكا واحدا قائما بمجموع المتعلقين فلا محالة تقع الارتباطية بين المتعلقين ويكون المكلف به هو المجموع من حيث المجموع ، وإن تعدد الملاك واختص كل خطاب بملاك يخصه فيتعدد المكلف به ويستقل كل من المتعلقين بالتكليف ، واستفادة أحد الوجهين إنما يكون من الخارج : من إجماع ونحوه.

نعم : لا يبعد أن يكون الأصل في تعدد الخطاب هو تعدد المكلف به على وجه الاستقلالية ، ولكن هذا في غير الخطابات الواردة في باب المركبات ، فان الظاهر منها أن تكون الخطابات المتعددة مسوقة لبيان أجزاء المركب وشرائطه.

فدعوى : أن التكليف بالجزء الزائد لو كان بخطاب يختص بالذاكر يلزم أن يكون الجزء الزائد واجبا مستقلا غير مرتبط بسائر الاجزاء ، ضعيفة لا تقبل الالتفات إليها.

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث ١ و ٢.

٢١٥

فظهر : أن الوجه الثالث هو أسلم ما قيل في وجه إمكان تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي ، فهو الذي ينبغي المصير إليه. هذا كله في الجهة الأولى.

الجهة الثانية :

في قيام الدليل على كون الناسي مكلفا ببقية الاجزاء وسقوط التكليف عن خصوص الجزء المنسي.

ونخبة الكلام فيها : هو أنه إن كان لدليل الجزء المنسي إطلاق يشمل صوره النسيان فمقتضى إطلاقه هو عدم التكليف ببقية الاجزاء ، فإنه ليس في البين إلا تكليف واحد تعلق بجملة الاجزاء ومنها الجزء المنسي ، وهذا التكليف الواحد سقط بنسيان بعض الاجزاء ، لأنه لا يمكن بقاء ذلك التكليف بالنسبة إلى جملة الاجزاء مع نسيان بعضها ، فلابد من سقوط التكليف المتعلق بجملة العمل ، فلو ثبت التكليف ببقية الاجزاء فهو تكليف آخر غير التكليف الذي كان متعلقا بجملة الاجزاء ، ولابد من قيام دليل بالخصوص على ذلك ، فالتكليف بما عدا الجزء المنسي يحتاج إلى دليل أخر غير الأدلة المتكفلة لبيان الاجزاء ، هذا إذا كان لدليل الجزء إطلاق يعم حال النسيان.

وإن لم يكن لدليل الجزء إطلاق واحتمل أن تكون جزئيته مقصورة بحال الذكر ، فالمرجع عند الشك في الجزئية وعدمها في حال النسيان هو أصالة البراءة أو الاشتغال ، على الخلاف في باب دوران الامر بين الأقل والأكثر ، لأن الشك في ذلك يندرج في الشك بين الأقل والأكثر ، كما لا يخفى.

ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره الشيخ قدس‌سره بقوله : إن قلت : عموم جزئية الجزء لحال النسيان يتم فيما لو ثبت الجزئية بمثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب الخ ».

وحاصل ما أفاده المستشكل هو : أن دليل اعتبار الجزء تارة : يكون هو قوله

٢١٦

عليه‌السلام « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » وأخرى : يكون هو الاجماع ، وثالثة : يكون هو الحكم التكليفي المتعلق بالجزء ، كقوله : « اركع في الصلاة » أو « تشهد فيها » ونحو ذلك من الأوامر المتعلقة بأجزاء المركب.

والقول بثبوت الجزئية وعدم سقوطها في حال النسيان إنما يستقيم لو كان دليل الجزء هو قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » ونحو ذلك مما يفيد نفي الصلاة عن الفاقد للجزء.

وأما لو كان دليل الجزء هو الاجماع أو الحكم التكليفي ، فلا يتم القول بثبوت الجزئية في حال النسيان ، لان المتيقن من الاجماع هو حال الذكر ، والحكم التكليفي لا يمكن أن يعم حال النسيان والغفلة ، بل يختص بحال الذكر ، فالجزئية المنتزعة منه تتبعه وتختص بحال الذكر أيضا ، وفي حال النسيان يختص التكليف ببقية الاجزاء وتجري البراءة في الجزء المنسي على تقدير الشك في جزئيته حال النسيان.

ثم لا يخفى عليك : أن المراد من الحكم التكليفي في كلام المستشكل ليس هو الحكم التكليفي النفسي وإن كان يوهمه ظاهر العبارة ، لوضوح أن التكليف الاستقلالي لا يمكن أن ينتزع منه الجزئية والشرطية ، فان أقصى ما يقتضيه التكليف النفسي هو وجوب المتعلق ، وأما كونه جزءا أو شرطا فهو مما لا يكاد أن يدل عليه الحكم النفسي.

نعم : قد تنتزع المانعية من النهي النفسي ، كما في باب النهي عن العبادة ، وفي باب اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي وأما الجزئية والشرطية فلا يمكن انتزاعهما من الامر النفسي.

وتصريح الشيخ قدس‌سره في المقام بصحة انتزاع الشرطية من التكليف النفسي ليس على ما ينبغي ، ولا يبعد أن يكون مراده من الشرطية عدم المانع ، كما ربما يشهد لذلك التمثيل بالحرير ، وإلا فالشرطية الوجودية مما لا مجال لتوهم

٢١٧

صحة انتزاعها من التكليف النفسي.

وبالجملة : ظاهر كلام المستشكل وإن كان يعطي أن يكون المراد من التكليف المنتزع عنه الجزئية هو التكليفي النفسي ، إلا أنه لابد من توجيهه بإرادة التكليف الغيري المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها (١) فيكون مبنى الاشكال على اختصاص التكاليف الغيرية بالذاكر كاختصاص التكاليف النفسية به ، فالجزئية المنتزعة من التكليف الغيري لا تعم حال النسيان ، كما أن القدر المتيقن من الاجماع القائم على جزئية الشيء الفلاني هو اختصاص الجزئية بحال الذكر.

وكأن المستشكل في ما نحن فيه اقتبس كلامه من المحكي عن الوحيد البهبهاني قدس‌سره من التفصيل بين الاجزاء والشرائط المستفادة من مثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » و « لا صلاة إلا بطهور » وبين الاجزاء والشرائط المستفادة من الأوامر الغيرية ، كالأمر بالركوع والاستقبال.

ففي الأول : لا تختص الجزئية والشرطية بصورة التمكن من الجزء والشرط ، بل تعم صورة العجز عنهما ، ويلزمه سقوط التكليف بالصلاة عند العجز وعدم القدرة عليهما.

وفي الثاني : تختص الجزئية والشرطية بصورة التمكن منهما ، ويلزمه سقوط خصوص التكليف المتعلق بالجزء أو الشرط الغير المتمكن منه ، ولا يسقط

__________________

١ ـ أقول : منشأ انتزاع الشرطية والجزئية يستحيل أن يكون هو التكليف الغيري ، كيف! وهو متعلق بما هو فارغ جزئيته وشرطيته ، فكيف يكون هو منشأ انتزاعه؟ بل لا يكون منشأ انتزاع جزئية الشيء أو شرطيته إلا الامر المتعلق بالمجموع أو المقيد مع تقيده ، وهذا ليس إلا الامر النفسي القائم بالمجموع ، غاية الامر قد يستقل هذا الامر في مقام البيان قائما بموضوعه ، ولكنه ليس أمرا مقدميا ، بل هو إما قطعة من الامر النفسي القائم بالجميع أو أمر إرشادي ، وعلى فرض المقدمية فلا يكون هو المنشأ ، بل كاشف عن وجود المنشأ ، كما لا يخفى.

٢١٨

التكليف ببقية الاجزاء المتمكن منها.

هذا ، وقد حكي عن المحقق القمي رحمه‌الله التعدي في هذا التفصيل عن باب القدرة والعجز إلى باب العلم والجهل ، وقال باختصاص الشرطية المنتزعة من الأوامر الغيرية بصورة العلم بالموضوع تفصيلا ولا تعم حال الجهل به ، بخلاف الشرطية المنتزعة من مثل قوله : « لا صلاة إلا بطهور » فإنها لا تختص بصورة العلم بموضوع الشرط ، بل تعم حال الجهل به أيضا.

وكلام المستشكل فيما نحن فيه يعطي التعدي في هذا التفصيل عن باب القدرة والعجز وباب العلم والجهل إلى باب الذكر والنسيان.

هذا ، ولكن التحقيق : فساد هذا التفصيل في الأبواب الثلاثة ، خصوصا في باب العلم والجهل ، فان التكاليف النفسية لا تختص بصورة العلم ، فضلا عن التكاليف الغيرية ، وسيأتي توضيح ذلك في رد مقالة الوحيد البهبهاني رحمه‌الله.

فالأقوى : أنه لا فرق في الجزئية المستفادة من مثل قوله عليه‌السلام « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » ، والجزئية المستفادة من مثل قوله : « اركع في الصلاة » ونحو ذلك من الأوامر الغيرية ، فإنه لا موجب لتوهم اختصاص الأوامر الغيرية بالمتمكن من الجزء أو الذاكر له (١) بل تعم العاجز والناسي وتثبت الجزئية في حقهما إذا كان لدليل الجزء إطلاق يشمل حال العجز

__________________

١ ـ أقول : لو كان المراد من الامر الغيري الامر المقدمي أي موجب للتقييد أعظم من فتح توجيه الايجاب ولو غيريا إلى مالا يطاق؟ نعم : لو كان الامر إرشاديا لا بأس بإطلاقه وشمول الامر لما لا يطاق ، فالأولى أن يقال : بان تقيد الخطاب بما يطاق من قبيل التقيد بقرينة عقلية منفصلة ، ولازمه بقاء ظهوره على إطلاقه في دخله في الغرض برفع اليد عن فعلية أمره ، ولئن اغمض عن انفصال مثل هذا الحكم العقلي عن الخطاب ، فلنا التمسك باطلاق المادة في الدخل في المصلحة ، حتى في حال العجز ، غاية الامر ظهور الامر مختص بصورة القدرة.

٢١٩

والنسيان ، ومع عدم الاطلاق يرجع إلى الأصول العملية ، وهي تقتضي اختصاص الجزئية بحال القدرة والذكر ، لأن الشك في ثبوت الجزئية في حال العجز والنسيان يرجع إلى الشك في أن المكلف به في حق الناسي هل هو الطبيعة الواجدة للجزء المنسي؟ أو الطبيعة الخالية عنه؟ فيكون من صغريات الشك بين الأقل والأكثر ، وقد تقدم أن الأقوى : جريان البراءة من الخصوصية الزائدة المشكوكة ، وهي فيما نحن فيه جزئية المنسي في حال النسيان ، فالأصل يقتضي عدم جزئية المنسي ، ويلزمه أن يكون الجزء من الاجزاء الغير الركنية ، لاختصاص جزئيته بحال الذكر ، فلا يلزم من الاخلال به نسيانا بطلان العمل ، وذلك من خواص الجزء الغير الركني ، كما تقدم.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك : أن أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المنسي هو رفع الجزئية في حال النسيان فقط (١) ولا تقتضي رفعها في تمام الوقت إلا مع استيعاب النسيان لتمام الوقت ، فلو تذكر المكلف في أثناء الوقت بمقدار يمكنه إيجاد الطبيعة بتمام مالها من الاجزاء ، فأصالة البراءة عن الجزء المنسي في حال النسيان لا تقتضي عدم وجوب الفرد التام في ظرف التذكر ، بل مقتضى إطلاق الأدلة وجوبه ، لان المأمور به هو صرف وجود الطبيعة التامة الاجزاء والشرائط في مجموع الوقت ، ويكفي في وجوب ذلك التمكن من إيجادها

__________________

١ ـ أقول : معنى رفع جزئية المشكوكة بعنوان المشكوكية بقاء رفعه ما دام مشكوكا ، فإذا شك في جزئية المنسي لفرض عدم إطلاق دليله ، فلازمه أنه مهما اتى المأمور به بدون هذا الجزء نسيانا يشك في جزئيته في حال النسيان ، فلا شبهة في أن هذا الشك باق حتى في حال الالتفات إليه ، فحديث رفع الجزء المشكوك لا قصور في جريانه بالنسبة إلى المأتي به الفاقد لها ، لبقاء الشك في جزئيته حتى في حال تذكره ، فكأن المقرر اشتبه عليه المقام بمسألة رفع جزئية المنسي بعنوان النسيان مع العلم بجزئيته واقعا ، فان في هذه الصورة كان لتخصيص حديث الرفع بحال النسيان وجه ، وأين هذا من مسألتنا؟ وليس هذا الذهول إلا من شدة الغرور ، فتدبر.

٢٢٠