فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

فإنه يرد عليه : مضافا إلى ما تقدم ـ من عدم كون الملاك سببا توليديا لمتعلق التكليف فلا يلزم العلم بحصوله ـ أنه ينبغي على هذا عدم جريان البراءة الشرعية أيضا في الاجزاء والشرائط التي يمكن أخذها في المتعلق (١) فان الجزء والشرط وإن كان مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، إلا أن رفع الجزء المشكوك فيه لا يثبت كون الأقل الفاقد له قائما به الملاك ومحصلا للغرض ، إلا على القول باعتبار الأصل المثبت. وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، إلا أنه لا بأس به ، لان شبهة لزوم إحراز تحقق الملاك والمنع عن جريان البراءة في موارد الشك في حصول تأتي في كثير من المواضع ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

دفع وهم :

ربما يتمسك لاثبات وجوب الأكثر باستصحاب الاشتغال وبقاء التكليف ، وفي مقابله التمسك لاثبات وجوب الأقل فقط بإطالة عدم وجوب الأكثر.

والتحقيق : عدم جريان الاستصحاب لاثبات التكليف في كل من طرف الأقل والأكثر.

أما عدم جريان استصحاب الاشتغال : فقد تقدم في باب المتباينين من

__________________

١ ـ أقول : إن بنينا على كون العلم الاجمالي علة تامة للموافقة القطعية ، فلازمه عدم جريان البراءة الشرعية عند كل من التزم بالاحتياط عقلا ، بعد فرض عدم اقتضاء حديث الرفع وأمثاله تعين الواجب المعلوم في الأقل ، لكونه حسب اعترافه مثبتا. وإن قلنا بأن العلم الاجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية ، فلا بأس بجريان الأصل المجوز الشرعي في ترك المسبب المستند إلى ترك المشكوك من محققه وسببه ، وإن لم يثبت به وجوب الأقل ، وحينئذ التفكيك بينهما ـ كما هو مختاره أيضا ـ لا يخلو عن محذور ، وإن كان ما أورده على استاذنا الأعظم في غاية المتانة ، ونحن أيضا أشكلنا عليه بمثل هذا البيان.

١٨١

أنه لا يجري في شيء من موارد العلم الاجمالي.

وأما عدم جريان استصحاب عدم وجوب الأكثر : فيحتاج إلى بسط من الكلام ، إذ لعله ينفع في غير المقام.

فنقول : المستصحب تارة : يكون هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه ، وأخرى : يكون هو عدم جوب الأكثر المشتمل على المشكوك فيه ، وعلى كلا التقديرين : المراد من العدم إما أن يكون هو العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام ، وإما أن يكون هو العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات كقبل الزوال والمغرب والفجر بالنسبة إلى الصلوات اليومية ، وإما أن يكون هو العدم السابق على البلوغ ، وفي جميع هذه التقادير لا يجري استصحاب العدم. ولكن ينبغي إفراد كل من هذه الأقسام بالبحث ، إذ منها : ما لايكون له متيقن سابق يمكن الحكم ببقائه ، ومنها : ما لايكون لبقائه أثر شرعي ، ومنها : ما يجتمع فيه الأمران.

وتوضيح ذلك : هو أنه إن كان المستصحب عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه وأريد من العدم العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام ، بتقريب أن يقال : إن لحاظ جزئية السورة وتعلق الجعل بها أمر حادث مسبوق بالعدم ، ومقتضى الأصل هو عدم تعلق الجعل واللحاظ بها.

فيرد عليه : أنه إن أريد من العدم العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، وهو عدم تعلق الجعل واللحاظ بالمشكوك فيه في ظرف تشريع المركب ولحاظ أجزائه (١) فهذا العدم لم يكن متيقنا في زمان لكي يستصحب ، فإنه في ظرف تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بأجزاء المركب إما أن يكون قد شملته عناية الجعل وتعلق اللحاظ به أولا : وليس تعلق الجعل به متأخرا رتبة أو زمانا عن

__________________

١ ـ أقول : بحيث يصدق مجعول مركب لم يلحظ فيه الأكثر.

١٨٢

تعلق الجعل بالمركب ليحكم ببقائه وعدم انتقاضه.

وإن أريد من العدم العدم المحمولي بمفاد ليس التامة ، وهو العدم السابق على لحاظ أجزاء المركب وتعلق الجعل به ، فهو وإن كان متيقنا قبل ذلك ـ لان أصل الجعل واللحاظ أمر حادث مسبوق بالعدم ـ إلا أن بقاء ذلك العدم إلى ظرف تعلق الجعل بالمركب غير مفيد (١) إلا إذا أريد إثبات تعلق الجعل واللحاظ بخصوص أجزاء الأقل ، ولا يمكن إثبات ذلك إلا على القول بالأصل المثبت.

هذا كله ، مضافا إلى أن مجرد عدم تعلق اللحاظ والجعل بالجزء أو الشرط المشكوك فيه لا أثر له ، لان الآثار الشرعية بل العقلية ـ من الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك من الآثار المترتبة على الأحكام الشرعية ـ إنما تترتب وجودا وعدما على المجعول ، لا على نفس الجعل ، فان الحكم الشرعي المتعلق بفعل المكلف إنما هو المجعول ، ولا أثر لنفس الجعل بما هو قول إلا باعتبار أنه يستتبع المجعول ، بحيث لو فرض محالا انفكاك الجعل عن المجعول وكان هناك جعل بلا أن يستتبع وجود المجعول لم يترتب على ذلك الجعل أثر عقلي أو شرعي ، وبالعكس لو فرض محالا وجود المجعول بلا أن يسبقه

__________________

١ ـ أقول : مرجع الجعل بعدما كان إلى تعلق لحاظه بشيء وجعله واجبا أم جزءا ، فلا شبهة في أن تعدد المجعول ووحدته تختلف مراتب الجعل ، وحينئذ فإذا علم بمرتبة منه وشك في تحقق مرتبة أخرى ، فالأصل إذا نفي هذه المرتبة ، فهو وإن لم يثبت مرتبة الجعل بخصوص الأقل ، إلا أنه يكفي في عدم الالتزام به مجرد عدم وجوبه الباقي من الأزل بضميمة اكتفاء العقل أيضا بوجوب تحصيل ما علم وجوبه وإن لم يعلم بأنه تمام الواجب ، وحينئذ فلا قصور في استصحاب عدم الوجوب الذي هو محط كلامه أو عدم جعله ، إذ عدم جعل الوجوب مستتبع لعدم الوجوب واقعيا كان أو ظاهريا. فلا ربط للمقام بالأصول المثبتة ، لان عدم الوجوب الظاهري من لوازم عدم الجعل الظاهري الذي هو الاستصحاب ، لا نفس المستصحب ، والمفروض أيضا أن نفس الجعل أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ، ولا نعني من الأثر الشرعي في باب الاستصحاب إلا هذا.

١٨٣

الجعل لترتب عليه تمام الآثار الشرعية والعقلية ، فأصالة عدم تعلق الجعل بالمشكوك فيه لا أثر لها إلا إذا أريد إثبات عدم وجود المجعول ، وذلك مبني على حجية الأصل المثبت أو دعوى خفاء الواسطة ، وسيأتي في مبحث الاستصحاب فساد ذلك.

وإن كان المستصحب هو عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه ، بتقريب أن يقال : إن تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بالصلاة مع السورة أمر حادث والأصل عدمه.

فيرد عليه ـ مضافا إلى ما تقدم أخيرا في الوجه الأول من أنه لا أثر لمجرد عدم الجعل إلا باعتبار ترتب عدم المجعول عليه ـ أن أصالة عدم تعلق الجعل بالأكثر لا تجري ، لمعارضتها بأصالة عدم تعلق الجعل بالأقل الفاقد للجزء المشكوك ، فان لحاظ الأقل لا بشرط يباين لحاظه بشرط شيء ، وكل من اللحاظين مسبوق بالعدم. وهذا لا ينافي ما تقدم منا في رد ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية : من أن الماهية لا بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فان ذلك كان باعتبار نفس الماهية الملحوظة ، وأما باعتبار اللحاظ فهما متباينتان ، وكل منهما أمر حادث تجري فيه أصالة العدم ، فتأمل (١).

هذا كله إذا كان المراد من العدم العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام.

وإن أريد منه العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات ، فالكلام

__________________

١ ـ وجهه : هو أنه قد يختلج في البال عدم جريان الأصل في طرف الأقل ، للعلم بتعلق الجعل به على كل تقدير ، سواء كان لحاظه لا بشرط أو بشرط شيء بناء على المختار : من أن وجوب الأقل لا يكون إلا نفسيا.

نعم : لو قلنا : بأن الأقل لا يكون واجبا نفسيا على تقدير أن يكون الواجب هو الأكثر ، فأصالة عدم وجوبه النفسي تجري وتعارض أصالة عدم وجوب الأكثر ، فتأمل جيدا ( منه ).

١٨٤

فيه عين الكلام في العدم الأزلي ، فإنه إن كان المستصحب عدم وجوب الجزء المشكوك فيه ، فعدم وجوبه النعتي لم يتعلق اليقين به في وقت ، فانه حين تحقق المجعول وثبوت وجوب الصلاة عند الزول ، اما ان يكون قد انبسط الوجوب علي الجزء الزائد متاخرا عن انبساطه علي الاقل ، لكي يجري استصحاب عدم انبساطه عليه.

وعدم وجوبه المحمولي وان كان قد تعلق اليقين به قبل الزوال لعدم وجوب الجزء قبل الزوال ولو لعدم ثبوت وجوب سائر الأجزاء إلا أن بقاء العدم المحمولي إلى حين الزوال لا ينفع إلا إذا أريد من ذلك انبساط الوجوب على خصوص أجزاء الأقل ، وذلك يكون من الأصل المثبت ، هذا إذا كان المستصحب عدم وجوب الجزء.

وإن كان المستصحب عدم وجوب الأكثر ، فأصالة عدم وجوبه الثابت قبل الزوال معارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ، فان الثابت قبل الزوال هو عدم الوجوب رأسا ، لا وجوب الأقل ولا وجوب الأكثر ، وهذا العدم انتقض قطعا عند الزوال ولم يعلم أن انتقاضه كان في طرف الأقل أو الأكثر ، وأصالة العدم تجري في الطرفين وتسقط بالمعارضة ، فتأمل.

نعم : استصحاب العدم الثابت قبل الزوال سالم عن الاشكال الأخير المتقدم في الوجه السابق ، فان المستصحب في العدم الأزلي إنما كان هو عدم الجعل الأزلي ، فكان يرد عليه : أن الجعل وعدمه لا يترتب عليه أثر إلا باعتبار ما يستتبعه من المجعول ، وأما في العدم السابق على حضور وقت العمل فالمستصحب إنما هو عدم وجود المجعول.

والسر في ذلك : هو أن ظرف وجود المجعول الشرعي إنما هو ظرف تحقق الموضوع خارجا ، وهو الانسان بجميع ما اعتبر فيه من القيود : من البلوغ والعقل والقدرة ، وغير ذلك من الشرائط والأوصاف المعتبرة في المكلف ، بناء على

١٨٥

ما أوضحناه في محله : من أن القضايا الشرعية إنما تكون على نهج القضايا الحقيقة التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها ، فقبل وجود الموضوع خارجا لا مجال لجريان استصحاب عدم المجعول ، لأنه ليس رتبة وجوده ، بل الاستصحاب الجاري هو استصحاب عدم الجعل الأزلي ، وأما بعد وجود الموضوع وتحقق شرائط التكليف ، فالاستصحاب إنما يجري بالنسبة إلى نفس المجعول الشرعي وجودا وعدما ، فإنه إذا زال الزوال وشك المكلف في وجوب الصلاة عليه ، فالعدم الذي كان قبل الزوال هو عدم المجعول وهو المستصحب ، ولا معنى لاستصحاب عدم الجعل ، لأنه قبل الزوال ليس رتبة الجعل والانشاء فإنه أزلي رتبته سابقة على خلق العالم.

ومن المعلوم : أن عدم كل شيء إنما يكون في مرتبة وجود الشيء ، فقبل وجود الموضوع لا يجري إلا استصحاب عدم الجعل ، وبعد وجود الموضوع لا يجري إلا استصحاب عدم المجعول.

وإذا كان المستصحب هو العدم في حال الصغر السابق على البلوغ ، وهو الذي يعبر عنه باستصحاب البراءة الأصلية ، وذلك إنما يكون في التكاليف التي لم يعتبر في موضوعاتها قيد زائد على الشرائط العامة ، كما في أغلب المحرمات وبعض الواجبات.

فيرد عليه (١) : أن الثابت في حق الصغير ليس إلا عدم وضع قلم التكليف

__________________

١ ـ لا يخفى : أن هذا البيان إنما يتم في العدم السابق على رشد الصبي وتمييزه ، فإنه بعد الرشد والتمييز يمكن وضع قلم التكليف عليه ، كما وضع في حقه قلم التكليف الاستحبابي بناء على شرعية عبادات الصبي ، فعدم التكليف في حال التميز يمكن إسناده إلى الشارع ، ولذا لو شك في استحباب شيء عليه بعد البلوغ يصح استصحاب عدم الاستحباب الثابت في حال الصغر ، فهذا البيان لا يتم إلا ان يدعى القطع بتساوي الحالين وأن عدم التكليف الثابت في حال التمييز هو العدم الثابت في حال عدم التمييز من دون أن يكون هناك تصرف من قبل الشارع ، فتأمل جيدا ( منه ).

١٨٦

عليه بمعنى كونه مرخى العنان ولا حرج عليه في كل من الفعل والترك ، من دون أن يكون الشارع أطلق عنانه ورفع قلم التكليف والحرج عنه ، فان اللاحرجية الشرعية انما تكون في الموضوع القابل لوضع قلم التكليف ، وذلك انما يكون بعد البلوغ ، ولذا كان عدم التكليف قبل حضور وقت العمل في الوجه المتقدم يستند إلى الشارع ، بحيث لو بنينا على حجية الأصل المثبت لأثبتنا الإباحة الشرعية من استصحاب عدم التكليف قبل الوقت ، وهذا بخلاف عدم التكليف الثابت قبل البلوغ ، فإنه لا يستند إلى الشارع ، لان الصغير ليس في حال يمكن وضع قلم التكليف عليه ، بل هو كالبهائم ليس في حقه جعل شرعي لا وجودا ولا عدما ، لقصوره عن ذلك بنفسه.

فالعدم الثابت قبل البلوغ مما لا يمكن استصحابه ، للعلم بانتقاضه حين البلوغ ، إما بالوجود وإما بعدم آخر مغاير بالنسخ للعدم الثابت قبل البلوغ ولو باعتبار حكم الشارع ببقائه وعدم نقضه بالوجود ، فان اللاحرجية الشرعية مغايرة للاحرجية القهرية التكوينية.

وبالجملة : لا مجال لاستصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر ، فإنه ـ مضافا إلى العلم بانتقاضه حين البلوغ ـ يرد عليه : أن عدم التكليف قبل البلوغ لا يترتب عليه أثر سوى عدم استحقاق الصغير للعقاب في كل من طرف الفعل والترك ، وأثر استحقاق العقاب لم يترتب على ثبوت التكليف واقعا ، بل يتوقف على تنجز التكليف.

فنفس الشك في التكليف يكون تمام الموضوع لعدم استحقاق العقاب ، ولا يحتاج إلى إثبات عدم التكليف بالاستصحاب.

وتوهم : صحة استصحاب الكلي والقدر المشترك بين اللاحرجية القهرية الثابتة في حق الصغير واللاحرجية الشرعية الثابتة في حق البالغ ، فاسد ، فإنه مضافا إلى أنه يكون من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي الذي

١٨٧

لا عبرة به ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ أن القدر المشترك ليس بنفسه من المجعولات الشرعية ولا يترتب على بقائه أثر سوى عدم استحقاق العقاب ، وهو محرز بالوجدان بنفس الشك في التكليف ، فاستصحاب البراءة الأصلية الثابتة في حال الصغر لا يجري في جميع المقامات ، ومنها ما نحن فيه : من استصحاب عدم وجوب الأكثر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : فساد التمسك لاثبات وجوب الأقل فقط بأصالة عدم وجوب الأكثر ، فان أصالة العدم لا تجري على جميع التقادير ، سواء أريد من العدم العدم السابق على لحاظ المأمور به ، أو أريد منه العدم السابق على جعل الاحكام وإنشائها ، أو أريد منه العدم السابق على الوقت المضروب شرعا للعمل ، أو أريد منه العدم السابق على البلوغ.

أما الوجه الأول : فلان علم لحاظ الأكثر لا أثر له ، إلا إذا أريد من ذلك عدم مجعولية وجوب الأكثر ، وذلك مثبت بواسطتين : واسطة اللحاظ السابق على الجعل ، وواسطة الجعل السابق على المجعول ، مضافا إلى أنه معارض بأصالة عدم لحاظ الأقل بحده.

وأما الوجه الثاني : فإنه يرد عليه ما يرد على الوجه الأول ، سوى أن مثبتيته تكون بواسطة واحدة.

وأما الوجه الثالث : فإنه يرد عليه إشكال المعارضة ولا يرد عليه شيء آخر.

وأما الوجه الرابع : فلانه وإن لم يرد عليه إشكال المعارضة أيضا ، للعلم بانتقاض اللاحرجية في طرف الأقل فلا يجري فيه الأصل حتى يعارض بالأصل الجاري في طرف الأكثر ، إلا أنه يرد عليه : أن عدم التكليف بالأكثر قبل البلوغ ليس بنفسه من المجعولات الشرعية ولا يترتب عليه أثر شرعي (١) وأثر

__________________

١ ـ أقول : يكفي في شرعية الأثر في المستصحب كونه ببقائه قابلا للرفع والوضع ، ولا يلزم كونه

١٨٨

عدم استحقاق العقاب على ترك الأكثر محرز بالوجدان بنفس الشك في وجوب الأكثر.

هذا كله إذا كان المستصحب عدم وجوب جملة الأكثر ، وإن كان المستصحب عدم وجوب الجزء الزائد المشكوك فيه فقد عرفت : أن عدمه النعتي لم يتعلق اليقين به في وقت ، وعدمه المحمولي يكون من الأصل المثبت. فظهر : أن نفي وجوب الأكثر لا يمكن إلا بمثل حديث الرفع ونحوه من أدلة البراءة الشرعية ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

الفصل الخامس

في دوران الامر بين الأقل والأكثر في باب الشروط والموانع

كما إذا شك في شرطية شيء لمتعلق التكليف كالطهارة في الصلاة ، أو لموضوع التكليف كالايمان في الرقبة (١) أو شك في مانعية شيء لهما ، والكلام

__________________

بحدوثه كذلك ، فتدبر.

١ ـ أقول : في كلية الخصوصيات العرضية الغير المشخصة المقرونة ، مثل الايمان في الرقبة وقيامه وأمثالهما : فتارة : يكون كل فرد من الطبيعة قابلا حين التكليف لطرو الخصوصية عليه واتحاده فيه ، وأخرى : لا يكون كذلك.

فان كان من قبيل الأول ، فلا محيص من كونه من باب الأقل والأكثر ، وذلك : لان التكليف بالجامع الصرف ملازم بنظر العقل مع تعلقه بأول وجوده ، والمفروض أن كلما يتصور من أفراد هذه الطبيعة ويفرض كونه أول وجوده قابل لطرو الخصوصية عليه ، وحينئذ يصدق بالنسبة إلى هذه الحصة من أول الوجودات أنه هو الواجب أو هو وغيره من الخصوصية الزائدة القابلة لطروه عليه ، فلا جرم ينتهي أمره إلى التردد بين الحدين لا الوجودين ، كما هو الشأن في ميزان الأقلية والأكثرية ، على ما شرحناه.

١٨٩

فيه عين الكلام في الاجزاء في جريان البراءة الشرعية وعدم جريان البراءة العقلية ، سواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا متحدا مع المشروط في الوجود كالايمان في الرقبة ، أو مباينا له في الوجود كالطهارة في الصلاة ، فان المناط في جريان البراءة : هو أن يكون المشكوك فيه مما تناله يد الوضع والرفع الشرعي ولو بوضح منشأ الانتزاع ورفعه ، وأن يكون في رفعه منة وتوسعة على المكلفين ، وهذا المناط يعم الشك في الاجزاء والشروط على نسق واحد ، فالبحث عن الاجزاء يغني عن البحث في الشروط والموانع ولا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه ، ونحن إنما أفردنا البحث عن الشروط للتنبيه على أمر ، وهو أن منشأ انتزاع الشرطية

تارة : يكون هو التكليف الغيري المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها ، كقوله : « لا تصل في الحرير وفيما لا يؤكل ». وأخرى : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي ، وهذا إنما يكون في الشرائط التي كان منشأ اعتبارها هو وقوع التزاحم بين التكاليف النفسية ، كشرطية إباحة المكان في الصلاة ، فان منشأ انتزاع الشرطية هو النهي النفسي المتعلق بالغصب بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتغليب جانب النهي على ما أوضحناه في محله.

فإن كان منشأ انتزاع الشرطية هو التكليف الغيري ، فحكمه ما تقدم : من جريان البراءة الشرعية عند الشك في الشرطية (١) من غير

__________________

واما لو كان من قبيل الثاني ، فلا شبهة في أن للأول وجود لو كان هو الفاقد فلا نعلم بوجوب الحصة من الطبيعي المحفوظ فيه ، لاحتمال كون الواجب حصة أخرى الواجدة للقيد أو القابل لايجاده فيه ، ولازمه حينئذ تردد الواجب بين الجامع وبين الوجودين أو خصوص الواجد ، من دون يقين بمرتبة محفوظة في ضمن مرتبة أخرى ، وبهذا المعيار يسلك في مقام التميز بين باب الأقل والأكثر من المشروطات بالأمور العرضية والمقيدات وبين باب التعيين والتخيير ، ونأخذ بمسلك البراءة في الأول والاحتياط في الثاني ، فافهم واغتنم.

١ ـ أقول : بعد فرض الوجوب الغيري بما هو مقدمة فارغا عن المقدمية ، فجهة مقدميته لابد أن يكون

١٩٠

فرق في ذلك بين ما إذا لم يكن في البين تكليف نفسي أصلا ـ كما في لبس مالا يؤكل فإنه لم يتعلق به نهي نفسي مطلقا لا في الصلاة ولا في غير الصلاة لعدم حرمة لبسه في جميع الأحوال ـ وبين ما إذا كان في البين تكليف نفسي أيضا ـ كما في لبس الحرير ـ فإنه قد اجتمع فيه كل من الخطاب الغيري والخطاب النفسي ، لحرمة لبس الحرير على الرجال مطلقا في الصلاة وغيرها ، ولكن منشأ انتزاع شرطية عدم لبس الحرير في الصلاة ليس هو النهي النفسي ، بل هو النهي الغيري ، فكل من الشرطية والحرمة مستقلة في الجعل ، وليس جعل الشرطية بتبع جعل الحرمة ، بل كل منهما مجعول في عرض الآخر ، فالشك في جعل أحدهما لا يكون مسببا عن الشك في جعل الآخر ، وحينئذ يكون كل منهما مجرى لأصالة البراءة عند الشك فيهما ، ولا يغني جريان الأصل في أحدهما عن جريانه في الآخر ، فلو فرض أنه مورد شك في حرمة لبس الحرير وشرطية عدمه في الصلاة ، فأصالة البراءة تجري في كل من الشرطية وحرمة اللبس على حدة ، كما إذا انحصر الشك في أحدهما فقط ، لاستقلال كل منهما بالوضع والرفع الشرعي ، وذلك واضح ، هذا كله إذا كان منشأ انتزاع الشرطية هو التكليف الغيري.

وإن كان منشأ انتزاعها هو التكليف النفسي :

فتارة : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف الواصل إلى المكلف ، كما هو أقوى الوجهين في باب الغصب ، فان اشتراط عدمه في الصلاة إنما هو لأجل وقوع

__________________

يكون في رتبة سابقة عن وجوبه ، ولا نعنى من حيثية مقدميته إلا شرطيته ، وحينئذ كيف انتزاع الشرطية التي بها قوام المقدمية عن وجوبه غيريا؟ وحينئذ ليس منشأه إلا بدخل تقيد موضوع تكليفه النفسي بهذا الشيء ، وهذا التقيد أيضا مأخوذ في رتبة سابقة عن وجوبه نفسيا ، فلا يعقل انتزاع الشرطية عن الحكم النفسي المتعلق بالمقيد ، ولذا حققنا بأن شرطية شيء للواجب يستحيل أن يكون منتزعا عن التكليف ، بخلاف الجزئية أو الشرطية للتكليف كما لا يخفى ، فتدبر.

١٩١

المزاحمة بين حرمة الغصب ووجوب الصلاة وتغليب جانب النهي ، ومن المعلوم : أن تقديم أحد المتزاحمين على الآخر إنما هو في صورة تنجز التكليف بالمتزاحمين ، وإلا لم يقع التزاحم بينهما (١) كما أوضحناه في محله.

وأخرى : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي بوجوده الواقعي وإن لم يتنجز ولم يصل إلى المكلف.

فعلى الوجه الأول : تدور الشرطية مدار تنجز التكليف ووصوله إلى المكلف بالعلم وما يقوم مقامه ، ومع عدم العلم به لا شرطية واقعا ، لعدم تحقق منشأ انتزاعها ، فعند الشك في التكليف النفسي يرتفع موضوع الشرط ويقطع بعدمه وجدانا ، ولا تصل النوبة إلى جريان البراءة عن الشرطية ، لأنه يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، كما لا يخفى

وأما على الوجه الثاني : ( وهو ما إذا كان منشأ انتزاع الشرطية نفس التكليف بوجوده الواقعي ) فالشك في التكليف النفسي يلازم الشك في الشرطية ، لأنه يحتمل ثبوت التكليف واقعا ، والمفروض : كون الشرطية تتبع وجوده الواقعي ، وحينئذ لابد من علاج الشك في الشرطية.

فقد يكون الأصل الجاري في طرف التكليف بنفسه رافعا للشك في الشرطية ، وذلك فيما إذا كان الأصل الجاري لنفي التكليف من الأصول التنزيلية المحرزة كالاستصحاب ، فان شأن الأصل المحرز هو رفع التكليف الواقعي ظاهرا ، والمفروض : أن الشرطية مترتبة على وجود التكليف الواقعي ،

__________________

١ ـ أقول : قد تقدم منا بأن التكليفين بشيء مثل باب الصلاة والغصب إنما يكون تضادهما بنفس ذاتهما مع قطع النظر عن مقام تنجزهما. نعم : في المتضادين أمكن دعوى تضادهما في عالم المحركية المساوق للوصول إلى مرتبة التنجز ، وأين هذا بباب اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع؟ وعلى الجواز فلا مضادة بينهما حتى في مرحلة التنجز ، إلا بتوهم بعيد ، من عدم صلاحية المأمور به للمقربية مع اقترانه مع المبعد ، وهو فاسد أيضا ، كما لا يخفى.

١٩٢

فبرفعه ترتفع الشرطية أيضا لا محالة ، ولا يبقى مجال لجريان الأصل في طرف الشرطية ، لان الأصل الجاري في الشك السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، هذا إذا كان الأصل الجاري لنفي التكليف من الأصول المحرزة.

وإن كان من الأصول الغير المحرزة ـ كأصالة الحل والبراءة ـ فالأصل الجاري في طرف التكليف لا يغني عن جريان الأصل في طرف الشرطية ، بل لابد من جريان الأصل فيها مستقلا ، كما إذا لم تكن الشرطية منتزعة عن التكليف النفسي ، فان أصالة الحل والبراءة لا تتكفل رفع التكليف الواقعي ليلزمه رفع الشرطية ، بل أقصى ما تقتضيه أصالة الحل والبراءة هو الترخيص في الفعل والترك ، فيبقى الشك في الشرطية على حاله ، وعلاجه منحصر بجريان الأصل فيها.

فظهر مما ذكرنا : أن ما أفاده الشيخ قدس‌سره قبل تنبيهات الأقل والأكثر بأسطر : من أن الأصل الجاري لنفي التكليف يغني عن جريانه في طرف الشرطية ، على إطلاقه ممنوع ، بل ينبغي التفصيل بين ما إذا كان الأصل الجاري في طرف التكليف من الأصول المحرزة أو من غيرها ـ بالبيان المتقدم ـ فتأمل جيدا.

تتمة :

لا فرق في جريان البراءة الشرعية في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في باب الاجزاء والشروط والموانع بين أن يكون منشأ الشك في وجوب الأكثر فقد النص أو إجماله ، فان وجود النص المجمل في المسألة لا يمنع عن الرجوع إلى الأصول العملية واللفظية ، إلا في المخصص المجمل المتصل بالعام ، فان إجماله يسري إلى العام ويوجب عدم انعقاد الظهور له.

وأما فيما عدا ذلك من موارد إجمال النص ، فلا مانع من الرجوع فيها إلى

١٩٣

أصالة العموم أو الاطلاق ، فضلا عن الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال ، فقيام النص المجل على وجوب الأقل والأكثر لا يمنع عن جريان البراءة ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون الاجمال في نفس متعلق التكليف ـ كما لو تردد مفهوم الاكرام الواجب بقوله : « أكرم العلماء » أو المحرم بقوله : « لا تكرم الفساق » بين أن يكون هو خصوص الضيافة أو مع زيادة التحية ـ أو يكون الاجمال في متعلق المتعلق ، كما لو تردد مفهوم العالم بين من كان له ملكة الفقه فقط أو بزيادة ملكة النحو ، وكما لو تردد مفهوم الفاسق بين من كان مرتكب الصغيرة أو بزيادة ارتكاب الكبيرة ، ففي جميع ذلك يؤخذ بالمتيقن ويرجع في المشكوك إلى أصالة البراءة ، سواء كان المتيقن هو الأقل ـ كما في متعلقات التكاليف الوجوبية فان المتيقن من تعلق التكليف به في قوله : « أكرم العلماء » هو الضيافة وأما التحية فيشك في تعلق التكليف بها ـ أو كان المتيقن هو الأكثر ، كما في متعلقات التكاليف التحريمية ، وكما في موضوعات التكاليف مطلقا وجوبية كانت أو تحريمية ، فان المتيقن من تعلق النهي به في قوله : « لا تكرم الفساق » هو الضيافة بضميمة التحية ، وأما الضيافة فقط فيشك في تعلق النهي بها ، وكذا المتيقن من الموضوع في قوله : « أكرم العلماء » هو من كان له ملكة الفقه والنحو ، والمتيقن من الموضوع في قوله : « لا تكرم الفساق » هو من كان مرتكب الكبيرة والصغيرة معا ، وأما من كان له ملكة الفقه فقط ومن كان مرتكب الصغيرة فقط ، فيشك في وجوب إكرامه أو حرمة إكرامه ، لعدم العلم باندراجه في عموم « أكرم العلماء » أو في عموم « لا تكرم الفساق » والأصل البراءة عن وجوب إكرام الأول وحرمة إكرام الثاني.

ففي مثل قوله : « لا تكرم الفساق » يجوز الضيافة مع التحية لمرتكب الصغيرة فقط ، فإنه وإن علم بتحقق الاكرام ، إلا أنه يشك في تعلقه بالفاسق ، لاحتمال أن يكون لارتكاب الكبيرة دخل في صدق الفاسق ، وكذا يجوز الضيافة فقط

١٩٤

لمرتكب الصغيرة والكبيرة ، فإنه وإن علم بضيافة الفاسق ، إلا أنه يشك في تحقق الاكرام المنهي عنه ، لاحتمال أن يكون للتحية دخل في الاكرام.

والسر في ذلك : هو أن متعلقات التكاليف وموضوعاتها إنما هي المسميات والمعنونات الخارجية لا المفاهيم والعناوين (١) فان المفهوم والعنوان غير قابل لتعلق الامر أو النهي به ، بل المأمور به والمنهي عنه في قوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفساق » هو واقع الاكرام وحقيقته المتعلق بواقع العالم ، وكذا المأمور به في قوله تعالى : « أقيموا الصلاة » هو حقيقة الصلاة وما هو الصادر عن المكلف خارجا : من القراءة والركوع والسجود وغير ذلك من الاجزاء التي تحمل عليها الصلاة عند اجتماعها ، وليس المأمور به مفهوم الصلاة وعنوانها.

فما ربما يتوهم : من أنه لابد من إحراز انطباق مفهوم الصلاة مثلا على المأتي به خارجا ، فلا يجوز الاقتصار على الأقل المتيقن ، للشك في صدق الصلاة عليه

واضح الفساد ، فان الذي لابد منه هو الاتيان بمتعلق الامر وما هو المطالب به خارجا ، وليس هو إلا الافعال الخارجية (٢) والمقدار المتيقن من تعلق الطلب

__________________

١ ـ أقول : ما هو الصادر خارجا ليس إلا معلول الإرادة ، فكيف يعقل أن يكون موضوعه السابق عنها رتبة؟ نعم : في متعلقات التكليف ـ كالعالم وغيره ـ والعناوين المأخوذة في المكلف مثل « من استطاع » مثلا كون المتعلق والموضوع نفس المعنون خارجيا أو العنوان فرع الكلام في فعلية الإرادة ، فان كان المدار على المرتبة المحركية الفعلية ، فلا محيص من كون الموضوع هو المعنون بوجوده خارجا ، ولكن هذا المعنى غير مأخوذ في مدلول الخطاب الواقعي المحفوظ قبل مرتبة التنجيز ، إذ قبل قيام الطريق إليه لا يبلغ الخطاب إلى مرتبة المحركية بحكم قبح العقاب بلا بيان ، ولا يبقى حينئذ إلا مرتبة فعلية الاشتياق القابلة للتحريك ، ومثل هذا المعنى لا يحتاج فعلية وجوده إلى وجود الموضوع خارجا ، بل يكفي في مثله وجودها في لحاظ الآمر ، ومن هذه الجهة أنكرنا القضية الحقيقية في الخطابات التكليفية الواقعية المحفوظة قبل رتبة التنجيز كما لا يخفى ، فتدبر.

٢ ـ أقول : بناء على ارتباطية حقيقة الصلاة وأن المأمور به هو هذا المعنون المتقوم بالاتيان المزبور

١٩٥

به هو الأقل ، وأما الأكثر فيشك في تعلق الطلب به ، والأصل البراءة عن وجوبه ، ومجرد الشك في صدق المفهوم على المأتي به لا يقتضي المنع عن جريان البراءة ، لما عرفت : من أن المأمور به ليس هو العنوان المفهوم لكي يلزم إحراز انطباق المفهوم والعنوان على المأتي به ، ولا فرق في ذلك بين أن نقول : بوضع ألفاظ العبادات للصحيح أو للأعم ، فإنه في الرجوع إلى الأصول العملية لا يتفاوت الحال بين الوضع للصحيح (١) أو للأعم.

وإنما تظهر الثمرة بين القولين في الرجوع إلى الأصول اللفظية : من أصالة العموم والاطلاق ، فإنه على القول بالوضع للصحيح يحصل الاجمال في المعني ، لاحتمال أن يكون لما شك في اعتباره دخل في الصحة ، فلم يحرز موضوع العام لكي يرجع إليه ، وأما على القول بالوضع للأعم فيصح التمسك بالعام لنفي ما شك في اعتباره إذا لم يكن له دخل في التسمية عرفا وكان المتكلم في مقام البيان ، على ما أوضحناه في محله.

فتحصل : أن إجمال النص في باب الأقل والأكثر الارتباطي كإجماله في ساير الأبواب لا يمنع عن الرجوع إلى البراءة ، بل لولا إطلاق أدلة التخيير في

__________________

بتمامه يجيء الاشكال المزبور بأن المأتي به يشك في كونه مأمورا به ، وحينئذ لابد من علاج هذا الاشكال على المسلكين. وحله بان القطع بتعلق الامر بواقع الصلاة أو بعنوانه لا يقتضي إلا الخروج عن تبعات إضافة الامر إليه ، لا تحصيل الجزم بكون المأتي به هو الصلاة المأمور به بعنوانها أو معنونها ، كما لا يخفى.

١ ـ لا يخفى أن جريان البراءة عن الأكثر إنما يتوقف على أن يكون بين الافراد الصحيحة جامع خطابي ، ويكون ذلك الجامع من الافعال الصادرة عن المكلف ابتداء من دون أن يكون الفعل الصادر سببا توليديا له ، وإلا كان مجرى الاشتغال لا البراءة ، ولا يكفي الجامع الملاكي ، فان الملاك غير قابل لان يتعلق التكليف به ، كما تقدم. وفي تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة على وجه لا يرجع إلى الملاك ولا إلى المسبب التوليدي إشكال * وتفصيله موكول إلى محله ( منه ).

* أقول : لا قصور فيه لو كان الجامع قابلا لان يشار إليه بتوسط الملاك.

١٩٦

باب تعارض الاخبار كان الحكم عند تعارض النصين في وجوب الأكثر هو التساقط والرجوع إلى البراءة ، إلا أن إطلاق أدلة التخيير تعم مورد تعارض النصين في وجوب الأكثر ، فللمجتهد الفتوى على طبق أحدهما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الأصولية ، وللمقلد العمل على طبق أحدهما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الفقهية ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) في محله.

نعم : هنا بحث آخر قد تعرض له الشيخ قدس‌سره في المقام وفي باب التعادل والتراجيح ، وهو أن التخيير في الاخذ بأحد المتعارضين هل يختص بما إذا لم يكن في البين إطلاق أو عموم موافق لأحدهما؟ بحيث كان المرجع بعد التساقط لولا أدلة التخيير هو الأصول العملية ، فلو كان هناك عام موافق فالعمل لابد وأن يكون على طبق العام لا التخيير (١) أو أن التخيير في الاخذ

__________________

١ ـ أقول : بعدما كان مفاد أدلة التخيير في المتعارضين الوجوب التخييري لا صرف الارشاد إلى التخيير في العمل ، كيف! وهو خلاف ظاهر أمره بالتخيير بقوله : « إذن فتخير » فلا محيص حينئذ من تطبيقه على مورد يمكن مخالفة هذا الامر ، وهو لا يكون إلا في صورة التمكن عن مخالفة مفاد المتعارضين ، وبعد فرض انتهاء الامر في تعارض الخبرين إلى النفي والاثبات اللتين هما من النقيضين يستحيل تصور الوجوب التخييري في مثله ، كي ينتهي الامر إلى التخيير في المسألة الفرعية ، بل التخيير المتصور فيه هو مجرد التخيير العملي الذي هو مفاد البراءة ، أو التخيير في المسألة الأصولية الراجع إلى الامر بأخذ كل واحد في استطراقه إلى الواقع ، كي ينتج بعد الاخذ تعين الحجة والطريق له ، فإذا كان كذلك ، فنقول ، إن المتعين بظاهر الامر في المولوية هو الأخير ، لا الأوليين ، وبعد ذلك نقول :

إن من المعلوم : أن حجية كل واحد قبل الاخذ به محال ، ولازمه تحير المكلف قبل الاخذ بواحد منهما ، غاية الامر أمكن للمكلف رفع تحيره بواحد منهما بعد أخذه ، وحينئذ لو بنينا على قصر اقتضاء حجية العام على طرف لم يرد على خلافه حجة أقوى صدق هذا المعنى قبل الاخذ بواحد منهما ، وعليه فلو كان الامر بالتخيير مختصا بالمتحير العقلي فلا يشمل المقام ، لوجود العام في رفع تحيره ، وإن قلنا بعدم اختصاصه يشمل المقام ، فيسقط العام بعد الاخذ بالمخالف عن الحجية لوجود الحجة الأقوى على خلافه ، ولا معنى حينئذ لمرجحية العام.

نعم : لو بنينا على اقتضاء العموم للحجية وأن الحجة الأقوى من باب وجود الأقوى في المتزاحمين

١٩٧

بأحدهما لا يختص بذلك؟ بل يعم صورة وجود المطلق أو العام الموافق لأحدهما ـ كما إذا تعارض الخبران في وجوب إكرام زيد العالم مع قيام الدليل على وجوب إكرام مطلق العالم ـ أو يفصل بين أن يكون التخيير في المسألة الفقهية فالمرجع هو العام الموافق لأحدهما وبين أن يكون التخيير في المسألة الأصولية فالمرجع هو إطلاق أدلة التخيير؟ ولا يرجع إلى العام الموافق إلا إذا قلنا : بأن العام يصلح لان يكون مرجحا لما وافقه من الدليلين المتعارضين فيرجع إلى العام ، لكن لا لكونه مرجعا كما في الوجه الأول ، بل لكونه مرجحا للدليل الموافق له كسائر المرجحات الاخر.

فقد يتوهم : أن إطلاق أدلة التخيير يعم صورة وجود العام أو المطلق الموافق لاحد المتعارضين. ولكن يضعف : بأن الموضوع في أدلة التخيير هو « المكلف المتحير الذي لم يقم عنده دليل اجتهادي يصح التعويل عليه » والعام الموافق لأحدهما صالح لان يعول عليه ، فان قوله : « أكرم العلماء » يعم زيد العالم ولم يثبت تخصيصه بقوله : « لا تكرم زيدا العالم » لأنه معارض بقوله : « أكرم زيدا العالم » والمخصص المبتلى بالمعارض وجوده كعدمه غير قابل لان يمنع عن أصالة العموم ، بل أصالة العموم تبقى سليمة عن المانع ويصح التعويل عليها ، فلا يبقى موضوع لأدلة التخيير.

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس‌سره في وجه المنع عن إطلاق أدلة التخيير وعدم شمولها لمورد وجود العام الموافق لاحد المتعارضين.

وقد عدل عنه بعد ذلك بقول : « ولكن الانصاف » واختار (١) التفصيل

__________________

أمكن أن يقال : مع إمكان الاخذ بظهور العام ـ ولو بالأخذ بما يوافقه العقل ـ يحكم بالأخذ بظهور العام وترجيح ما يوافق في الاخذ على وجود الاخذ المخالف للعام ، لاقوائيته ، وهذا هو الأقوى.

١ ـ لا يخفى : أن عبارة الشيخ قدس‌سره في المقام لا تخلو عن اضطراب فان صدر كلامه يعطي عدم الفرق بين القول بالتخيير في المسألة الأصولية أو الفقهية ، لان الظاهر من قوله : « ولكن الانصاف أن

١٩٨

بين القول بالتخيير في المسألة الفقهية والقول بالتخيير في المسألة الأصولية.

وحاصل ما أفاده في وجه التفصيل ـ بتحرير منا ـ هو أن القول بالتخيير في المسألة الفقهية يرجع إلى سقوط كل من المتعارضين عن الحجية رأسا وفرض المسألة خالية عن الحجة ، فيكون التخيير في تطبيق العمل على أحدهما من جهة عدم قيام الدليل على تعيين كيفية العمل وما هو وظيفة المكلف ، ومع وجود العام الموافق لاحد المتعارضين لا يبقى مجال للتخيير في العمل ، لان المسألة لم تخلو عن الحجة ، لان العام حجة معين لكيفية العمل من دون أن يكون له مزاحم ، لسقوط مزاحمه بالمعارضة ، فلا محيص عن الرجوع إلى العام.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الأصولية ، فان التخيير في المسألة الأصولية يرجع إلى التخيير في أخذ أحد المتعارضين حجة وجعله طريقا ووسطا لاثبات الواقع ، كما إذا كان وحده ولم يكن له معارض ، فالمسألة لم تخلو عن الحجة رأسا ، بل لكل من المتعارضين حظ من الحجية ولو في صورة اختياره والاخذ به ، فالمخصص يزاحم العام في الحجية ولو في الجملة (١) ولم يسقط عن الحجية رأسا ، ومعه لا يبقى مجال للرجوع إلى العام ، بل لابد من التخيير في الاخذ بأحد المتعارضين ، لسقوط أصالة العموم عن الحجية ، فتأمل ، ولتفصيل الكلام محل آخر.

__________________

أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الأصولية » هو الاطلاق بقرينة « إن » الوصلية ، وظاهر ذيل كلامه يعطي التفصيل بين القولين ، فراجع العبارة وتأمل فيها ( منه )

١ ـ أقول : قد تقدم أنه لو بنينا على اختصاص أدلة التخيير بالتخيير العقلي ، فقبل الاخذ بواحد منهما كان العام حجة ، فلا تحير في البين ، فلا تخيير. نعم : لو لم يكن دليل التخيير مختصا بالمتحير كان لما أفيد وجه ، ولكن ذلك أيضا على فرض قصر اقتضاء حجية العام بعدم وجود الأقوى ، وإلا فعلى فرض فعلية حجيته لا اقتضائه فلا يبقى مجال لسقوط العام عن الحجية ، بل كان موجبا للقوة ومرجحا للموافق ، كما لا يخفى.

١٩٩

الفصل السادس

في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الموضوعية

وقد تقدم : أن الشيخ قدس‌سره أرجع الشبهة الموضوعة في باب الأقل والأكثر الارتباطي إلى ما يرجع إلى الشك في المحصل ، كما يظهر من تمثيله للشبهة الموضوعية بالشك في جزئية شيء للطهور الرافع للحدث ، ومن التزامه بأصالة الاشتغال فيها على خلاف ما التزم به في المسائل الثلاث المتقدمة في الشبهة الحكمية ، فإنه قال فيها بأصالة البراءة.

ولكن كان الأنسب بترتيب المباحث إفراد كل من الشك في المحصل والشبهة الموضوعية بالبحث ، لتكون مسائل الشك في باب الأقل والأكثر على طبق مسائل الشك في باب المتباينين ، ويبحث في المسألة الرابعة عن حكم تردد متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الاشتباه في الموضوع الخارجي ، وكأنه قدس‌سره غفل عن ذلك أو تخيل عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية.

والتحقيق : أنه يمكن فرض الشبهة الموضوعية في باب الأقل والأكثر الارتباطي ، وذلك إنما يكون في التكاليف التي لها تعلق بالموضوعات الخارجية.

وتوضيح ذلك : هو أن التكليف بما يكون له تعلق بالموضوع الخارجي ـ كالتكليف بإكرام العالم وإهانة الفاسق ـ يختلف متعلقه سعة وضيقا على حسب ما يفرض من أفراد الموضوع خارجا ، فان دائرة الاكرام تتسع بمقدار ما للعلماء من الافراد خارجا ، لان زيادة أفراد العلماء في الخارج توجب زيادة في

٢٠٠