فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

بالأكثر ، للعلم بوجوب أحدهما ، والمفروض : أن العلم الاجمالي كالتفصيلي في اقتضائه التنجيز ، وقد عرفت ما في دعوى انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، فان العلم التفصيلي بوجوب الأقل وإن كان غير قابل للانكار ، إلا أنه في الحقيقة تفصيله عين إجماله ، لتردد وجوبه بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء (١) والعلم التفصيلي المردد بين ذلك يرجع إلى العلم الاجمالي بين الأقل والأكثر بل هو عينه ، فلا سبيل إلى دعوى الانحلال.

وبتقريب آخر : الشك في تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط وإن كان عقلا لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ، للجهل بتعلق التكليف به فالعقاب على ترك الخصوصية يكون بلا بيان ، إلا أن هناك جهة أخرى تقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية على تقدير تعلق التكليف بها ، وهي احتمال الارتباطية وقيدية الزائد للأقل ، فان هذا الاحتمال بضميمة العلم الاجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلا ، فإنه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضح القيدية أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة ، فيبقى حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم والقطع بامتثاله على حاله ، فلابد من ضم الخصوصية الزائدة.

فان قلت : الشك في الارتباطية والقيدية إنما يكون مسببا عن الشك في تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة ، وبعد حكم العقل بقبح العقاب على مخالفة التكليف بالخصوصية الزائدة ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى مجال للقول بالاشتغال العقلي من حيث الشك في الارتباطية والقيدية ، لأن الشك السببي رافع للشك المسببي ، فالقول بقبح العقاب من حيث الشك في تعلق التكليف

__________________

١ ـ أقول : الذي هو مردد هو حد الوجوب لا نفسه ، وهو خارج عن مصب حكم العقل بوجوب الامتثال ، كما عرفت.

١٦١

بالخصوصية الزائدة المشكوكة يساوق القول بجريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطي.

قلت : قيدية الزائد للأقل إنما تتولد من تعلق التكليف بالمجموع من الأقل والزائد ، وليست مسببة عن تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة فقط ، فإنه ليست الارتباطية إلا عبارة عن ملاحظة الأمور المتباينة أمرا واحدا يجمعها ملاك واحد ، فالارتباطية إنما تنتزع من وحدة الملاك والامر المتعلق بالمجموع.

هذا ، مضافا إلى أن الأصل الجاري في الشك السببي إنما يكون رافعا للشك المسببي إذا كان من الأصول الشرعية ، وأما البراءة العقلية فهي لا ترفع الشك المسببي ولا تمنع من جريان الأصل فيه ، على ما سيأتي وجهه ( إن شاء الله تعالى ) في خاتمة الاستصحاب.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا محل للبراءة العقلية في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي (١).

وأما البراءة الشرعية : فلا محذور في جريانها (٢) لان رفع القيدية إنما هو من

__________________

١ ـ أقول : بعد التأمل فيما ذكرنا ، لا يبقى لك بد من البراءة العقلية.

٢ ـ أقول : بعدما كان مفاد أدلة البراءة هو الرفع الظاهري الثابت في المرتبة المتأخرة عن الشك بالواقع لا يصلح مثله لتحديد الامر الواقعي بالأقل بخصوص الفاقد ، لاختلاف رتبتهما ، والمفروض أن ما هو معلوم تعلقه بالأقل ليس إلا الامر الواقعي ، لعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري فيه ، فحينئذ أين أمر يصلح حديث الرفع لاثباته للأقل بنحو يكون الامر به مطلقا ولا بشرط من حيث الانضمام بغيره وعدمه؟ ولئن اغمض عن ذلك نقول :

إن رفع القيد إنما يثبت الاطلاق من حيث الانطباق على مورد القيد وعدمه بنحو التشكيك ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، إذ على فرض وجوب الأقل كان الوجوب متعلقا بأمر محدود ولو بحد وجوبه ، فحينئذ تمامية الاطلاق لا يقتضي هذا التحديد ، وإنما يقتضي انطباق الواجب تشكيكا على الأقل بتمامه وعلى الأكثر كذلك ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، بل من قبيل دوران الوجوب بين حدين متبائنين ، وحينئذ كان مجال دعوى أن رفع الزائد لا يثبت الحد الناقص إلا بالأصل المثبت.

١٦٢

وظيفة الشارع كجعلها ، غايته أن وضعها ورفعها إنما يكون بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، وهو التكليف بالأكثر وبسطه على الجزء المشكوك فيه ، فكما أن للشارع الامر بالمركب على وجه يعم الجزء الزائد ، كذلك للشارع رفعه بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما لايعلمون » ونحو ذلك من الأدلة الشرعية المتقدمة في مبحث البراءة ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي ويرتفع الاجمال عن الأقل ، ويثبت إطلاق الامر به وكون وجوبه لا بشرط عن انضمام الزائد إليه.

ولا يتوهم : أن رفع التكليف عن الأكثر لا يثبت به إطلاق الامر بالأقل إلا على القول بالأصل المثبت.

فإنه قد تقدمت الإشارة إلى أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل التضاد لكي يكون إثبات أحد الضدين برفع الآخر من الأصل المثبت ، بل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وليس الاطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ القيد ، فحديث الرفع بمدلوله المطابقي يدل على إطلاق الامر بالأقل وعدم قيدية الزائد ، وبذلك يتحقق الامتثال القطعي للتكليف المعلوم بالاجمال ، لما تقدم في المباحث السابقة : من أن الامتثال القطعي الذي يلزم العقل به هو الأعم من الوجداني والتعبدي ، إذ العلم الاجمالي بالتكليف لا يزيد عن العلم التفصيلي به ، ولا إشكال في كفاية الامتثال التعبدي في موارد العلم التفصيلي بالتكليف.

__________________

ثم إن من العجب! تشبث الماتن بهذا التقريبات في أدلة البراءة ، وصار همه إثبات وجوب الأقل ، مع أنه في فسحة من ذلك بعد بنائه على جريان الأصل في أحد أطراف العلم بلا معارض ، إذ حينئذ له إجراء أدلة الترخيص على ترك الأكثر ، وإن لم يثبت به وجوب الأقل ظاهرا ، وإنما يحتاج إلى مثل هذا البيان من قال بعلية العلم الاجمالي للتنجز وانتهاء الامر فيه بعد الاشتغال إلى تحصيل الفراغ الأعم من الجعلي والحقيقي ، إذ مثل هذا المشرب لا محيص له من إثبات هذه الجهة في جريان البراءة ، كي يصير الاتيان بالأقل فراغا جعليا ، وحيث نحن قائلين بالعلية وأن مثل أدلة البراءة في باب الأقل والأكثر غير صالحة لاثبات وجوب الأقل ، لا محيص لنا من عدم التفكيك بين البراءة والاحتياط عقليها ونقليها ، وعليك بالتأمل في أطراف الكلام ترى ما فيها من مواقع النظر.

١٦٣

والسر في ذلك : هو أن حكم العقل بلزوم الامتثال إنما هو لرعاية حكم الشارع ، وبعد رفع الشارع التكليف عن الأكثر ولو رفعا ظاهريا يتعين كون المكلف به هو الأقل ، فيحصل الامتثال التعبدي بفعل الأقل ، ولا يجب الزائد عليه.

وبالجملة : دائرة الامتثال تختلف سعة وضيقا حسب سعة متعلق التكليف وضيقه ، ولا إشكال في أنه للشارع رفع التكليف عن الأكثر ، إما واقعا بالنسخ ، وإما ظاهرا بمقتضى الأصول العملية لانحفاظ رتبة الحكم الظاهري في الأكثر ، لعدم العلم بتعلق التكليف به ، فلا مانع من جريان أصالة البراءة الشرعية عن التكليف بالأكثر ، ولا يعارضها أصالة البراءة عن الأقل ، للعلم بوجوبه على كل تقدير ، فلا تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة فيه ، وبعد رفع التكليف عن الأكثر يكون متعلق التكليف بحسب الظاهر هو الأقل ، فيدور الامتثال مدار فعله ، ويتحقق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف بالاتيان به ، وليس اشتغال الذمة بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر بأقوى من اشتغال الذمة بالتكليف بأصل الصلاة وأركانها ، فكما أن للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بالنسبة إلى ذلك ، كموارد الشك بعد الوقت وبعد تجاوز المحل ، كذلك للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للتكليف المردد بين الأقل والأكثر.

والغرض من إطالة الكلام : بيان فساد ما أفاده المحقق الخراساني ـ في حاشية الكفاية ـ من منع جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر الارتباطي بعد ما اختار جريانها في متنها ، وكأنه جرى على مسلكه : من الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية (١) وقد تقدم منع الملازمة في أول

__________________

١ ـ أقول : إنما جرى استاذنا الأعظم في الحاشية المزبورة الحاضرة عندنا ـ وسمعناه منه ـ على مبناه : من التضاد بين الحكم الفعلي التبعي الواقعي مع الترخيص الظاهري ، ولذا فصل بين العلم بفعلية الخطاب الواقعي على تقدير وجوب الأكثر فلا يجري أدله البراءة ولو في الشبهة البدوية وبين ما علم

١٦٤

مبحث الاشتغال.

ومن الغريب! ما زعمه : من حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على أدلة البراءة الشرعية ، فان ذلك بمكان من الفساد ، ضرورة أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل يرتفع موضوعه بأدلة البراءة ، لان احتمال الضرر فرع بقاء التكليف بالأكثر ، وبعد رفع الشارع التكليف عنه لا يحتمل الضرر حتى يلزم دفعه ، سواء أريد من الضرر العقاب أو الملاك ، فالبراءة الشرعية تكون ورادة على حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، بل البراءة العقلية أيضا تكون ورادة على هذا الحكم العقلي فضلا عن البراءة الشرعية ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الدليل الأول من الأدلة الأربعة التي أقيمت على حجية مطلق الظن وفي مبحث البراءة ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

تذييل :

قد استثنى الشيخ قدس‌سره من موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر مورد الشك في حصول العنوان ومورد الشك في حصول الغرض ، فذهب إلى أصالة الاشتغال وعدم جريان البراءة العقلية والشرعية فيهما ، وقد تقدم ما يتعلق بشرح مرامه في هذا المقام ، ولا بأس بإعادته تتميما لمباحث الأقل والأكثر.

فنقول : إن الافعال تختلف بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليها ، فان الفعل :

تارة : يكون سببا توليديا للأثر من دون أن يتوسط بين الفعل والأثر مقدمة أخرى ، وهذا إنما يكون إذا كان الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لحصول

__________________

بثبوت الخطاب الواقعي القابل للحمل على مرتبة الانشاء وإن كان ظاهرا في الفعلية فلا مانع من جريان البراءة ، وبها يكشف شأنيته الواقعي وليس في كلامه الذي عندنا تعرض لقاعدة دفع الضرر المحتمل وتقديمه على البراءة ، كي يرد عليه ما أفيد ، وحينئذ حق الاشكال منع التضاد بين فعلية الاحكام الواقعية والظاهرية ، لا منع الملازمة بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، فتدبر في أطراف كلامه.

١٦٥

الأثر بحيث لم يشاركه في ذلك فعل فاعل آخر ، أو الجزء الأخير من العلة لحصوله وإن سبقه فعل فاعل آخر.

والظاهر : أن يكون الأول مجرد فرض لا واقع له خارجا في الآثار التكوينية المترتبة على الافعال الخارجية (١) فإنه ما من أثر إلا ويشترك فيه جملة من الافعال الصادرة عن عدة من الأشخاص ، فالذي يمكن وقوعه في الخارج هو أن يكون الفعل جزء الأخير من العلة لترتب الأثر ، كالالقاء في النار لحصول الاحراق والضرب بالسيف لحصول القتل ، فان الالقاء بالنار والضرب بالسيف يكون هو الجزء الأخير لعلة الاحراق والقتل ، ولابد من سبق الاجزاء الاخر : من حيازة الحطب وجمعه وإضرام النار فيه (٢) وإخراج الحديد من معدنه وصناعة السيف ، وغير ذلك من المقدمات التي لا يحصيها إلا الله تعالى.

وأخرى : يكون الفعل مقدمة اعدادية لحصول الأثر ، فيتوسط بين الفعل والأثر أمور اخر خارجة عن قدرة الفاعل وإرادته ، كما في صيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا والعنب زبيبا ، فان الفعل الصادر عن الفاعل ليس إلا حرث الأرض ونثر البذر ونحو ذلك من مقدمات الزرع ، وهذا بنفسه لا يكفي في حصول السنبل ، بل يحتاج إلى مقدمات اخر : من إشراق الشمس ونزول المطر وغير ذلك من الأسباب التي جرت عليها العادة بحسب الإرادة الإلهية في تحقق هذه الآثار ، فمثل هذه الآثار لا تصلح لان تتعلق بها إرادة الفاعل ، بل هي تكون من الدواعي والعلل الغائية لانقداح إرادة الفعل في نفس الفاعل ، لعدم القدرة عليها ، وهذا بخلاف المسببات التوليدية ، فإنها بنفسها تتعلق بها إرادة الفاعل لكونها مقدورة له ولو بتوسط القدرة على الأسباب.

__________________

١ ـ أقول : لو كان الغرض من العلية كونه معطي الوجود بلا دخل لشيء آخر فيه وإن كان في البين أيضا علل طولية بنحو يحسب مقدمة لوجود العلة وجوده في التكوينيات إلى ما شاء الله.

٢ ـ أقول : لا يخفى أن هذه مقدمات العلة لا أجزائها.

١٦٦

والفرق بين ما إذا كان الفعل سببا توليديا للأثر وبين ما إذا كان مقدمة إعدادية له مما لا يكاد يخفى ، فان الأثر في الأول مما يصح أن يستند إلى الفاعل حقيقة ، لأنه هو الموجد له بإرادته واختياره. وأما الثاني فلا يصح أن يستند الأثر إلى الفاعل ولا يكون هو الموجد له ، لخروجه عن قدرته واختياره ، ولا يمكن أن تتعلق به إرادته ، وهذا هو السر في بطلان اشتراط صيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا في ضمن العقد ـ كما صرح به الفقهاء ـ لأنه شرط غير مقدور للمشروط عليه.

وبما ذكرنا من الفرق بين المسببات التوليدية والعلل الغائية ظهر : أنه يصح أن يتعلق التكليف بنفس المسبب التوليدي ، لأنه يمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل ، وكلما أمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل صح أن تتعلق به إرادة الآمر ، لان الإرادة الآمرية هي المحركة للإرادة الفاعلية في عالم التشريع ، فلا يمكن أن تتعلق الإرادة الآمرية فيما لا يمكن أن تتعلق به الإرادة الفاعلية ، وفي المسببات التوليدية يمكن أن تتعلق بها الإرادة الفاعلية كتعلقها بالأسباب ، فكما يصح التكليف بالالقاء في النار والضرب بالسيف ، كذلك يصح التكليف بالاحراق والقتل لتعلق القدرة بكل منهما ، غايته أنه في السبب بلا واسطة وفي المسبب مع الواسطة ، وهذا بخلاف العلل الغائية ، فإنها لا يمكن أن تتعلق بها الإرادة الآمرية ولا يصح التكليف بها (١) لكونها خارجة عن تحت القدرة. والاختيار ، ولا يمكن أن تتعلق بها الإرادة الفاعلية ، بل إنما تتعلق الإرادة الآمرية

__________________

١ ـ أقول : الذي لا يمكن تعلق الإرادة به هو إيجاده المساوق لطرد أعدامه من جميع الجهات ، لخروج ذلك عن حيز قدرته كما أفيد ، وأما حفظ وجوده من ناحيته بمعنى سد باب عدمه وطرده من قبل ما يتمشى منه ، فهو في غاية المقدورية له ولو بالواسطة ، وحينئذ لا يلزم في هذه المقامات أيضا بالالتزام بتوجيه الإرادة نحو المقدمة ، بل له توجيه الإرادة نحو حفظ وجوده من جهة دون جهة ، ولقد حققنا شرح هذه المقالة في باب المقدمة ، فراجع وتدبر فيه.

١٦٧

والفاعلية بنفس المقدمة الاعدادية من الفعل الصادر عن الفاعل ، وإنما تكون الآثار من الدواعي لحركة عضلات الفاعل والعلل التشريعية لإرادة الآمر ، وسيأتي ( إن شاء الله تعالى ) أن الملاكات ومناطات الاحكام كلها تكون من الدواعي والعلل التشريعية ، ولا يصلح شيء منها لان يتعلق به إرادة الفاعل والآمر.

ثم إنه قد يكون المسبب التوليدي عنوانا ثانويا للسبب بحيث يكتسب السبب عنوان المسبب ويحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ، فيكون للسبب عنوانين : عنوان أولي وعنوان ثانوي ، كضرب اليتيم ، فإنه بعنوانه الأولي ضرب وبعنوانه الثاني تأديب.

بل قد يدعى (١) أن المسببات التوليدية كلها تكون من العناوين الثانوية لأسبابها ، كالالقاء في النار والضرب بالسيف وفري الأوداج بالسكين ، فان الاحراق والقتل والذبح تكون من العناوين الثانوية للالقاء والضرب والفري ، ويصح حمل كل منها على السبب المولد له.

وعلى كل حال : المراد من العنوان الواقع في كلام الشيخ قدس‌سره الذي ذهب إلى عدم جريان البراءة العقلية والشرعية فيه إنما هو السبب التوليدي الذي يكون الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لتولده أو الجزء الأخير منها ، وحينئذ تصح دعوى عدم جريان البراءة العقلية والشرعية عند الشك في حصوله مطلقا ، سواء تعلق التكليف بالمسبب ابتداء أو تعلق بالسبب ، لان التكليف بالسبب إنما هو من حيث تولد المسبب منه وتعنونه بعنوانه ، لا بما هو هو ، من غير فرق بين الأسباب العادية والعقلية كالالقاء في

__________________

١ ـ اختلفت كلمات شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ في ذلك ، ففي مبحث البراءة جعل المسببات التوليدية على قسمين : منها ما تكون عنوانا ثانويا للسبب ، ومنها مالا تكون كذلك ، وفي هذا المقام جعل جميع المسببات التوليدية من العناوين الثانوية لأسبابها ، ولعل ما ذكره في البراءة أولى ، فتأمل جيدا ( منه )

١٦٨

النار والضرب بالسيف وبين الأسباب الشرعية كالغسل بالنسبة إلى الطهارة الخبثية والحدثية ـ على أحد الوجهين في ذلك ـ لوضوح أن الامر بالالقاء والضرب بالسيف والغسل بالماء إنما هو لأجل حصول الاحراق والقتل والطهارة ، فالمأمور به في الحقيقة إنما هو هذه العناوين ، فلابد من القطع بحصولها والخروج عن عهدتها ، ولا تجري البراءة في المحصلات والأسباب مع الشك في حصول المسببات وتولد العناوين منها (١) لوجوه :

الأول : عدم تعلق الجعل الشرعي بالأسباب والمحصلات.

الثاني : أنه ينتج عكس المقصود.

الثالث : أنه لا يثبت سببية الأقل ومحصليته إلا على القول بالأصل المثبت (٢) وقد تقدم تفصيل ذلك في الفصل الأول ، هذا كله في معنى العنوان.

وأما معنى « الغرض » المعطوف على العنوان في كلام الشيخ قدس‌سره فقد يتوهم : أنه عبارة عن المصالح والملاكات التي تبتني عليها الاحكام على ما ذهب إليه العدلية ، وربما يؤيد كون المراد من « الغرض » ذلك قوله : « إن قلت : إن الأوامر الشرعية كلها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به ، الخ ».

ولكن التأمل في كلامه يعطي عدم إرادة ذلك منه ، فإنه لو كان المراد من « الغرض » ملاكات الاحكام فيلزم سد جريان البراءة في جميع موارد تردد

__________________

١ ـ أقول : قد تقدم هنا أيضا الكلام فيه بما لا مزيد عليه ، فراجع.

٢ ـ أقول : بناء على جعلية السبب لا قصور في جريان حديث الرفع بالنسبة إلى تعلق الجعل بالامر المشكوك ، وبه يثبت تعلق الجعل بالأقل ظاهرا بعين ما أفيد في رفع الامر المتعلق بالمشكوك في الأقل والأكثر وإثبات كون الأقل مأمورا به ، ولا نرى ما يرى بين المقامين من هذه الجهة وإن كان فيه ما فيه في كلا المقامين ، كما تقدم شرح ذلك مفصلا ، فتدبر وافهم.

١٦٩

المكلف به بين الأقل والأكثر ، لأنه ما من مورد إلا ويشك في قيام الملاك بالأقل فيشك في حصول الملاك عند ترك الأكثر ، وهذا مع أنه خلاف ما صرح به في مبحث التعبدي والتوصلي يقتضي تصديق الاشكال المذكور في قوله : « إن قلت : إن الأوامر الشرعية كلها من هذا القبيل ، الخ ». وما أجاب به عن الاشكال من الوجهين لا محصل لها ، كما سيأتي بيانه.

هذا ، مضافا إلى أن المصالح والملاكات التي تبتني عليها الاحكام لا تدخل تحت دائرة الطلب ، لعدم القدرة على تحصيلها ـ على ما سيأتي توضيحه ـ فلا يمكن أن يكون المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان ملاكات الاحكام ، كما لا يمكن أن يكون المراد منه نفس العنوان المعطوف عليه ، بتوهم : أن عطف الغرض عليه يكون من عطف البيان ، فان العبارة تأبى عن ذلك ، كما يظهر بالتأمل فيها ، فلابد من أن يكون المراد من « الغرض » معنى آخر يمكن أن يتعلق الامر به (١) ويكون من القيود والخصوصيات اللاحقة للمأمور به التي يتوقف الامتثال عليها.

__________________

١ ـ أقول : لا يخفى أن « الغرض » الذي عبارة عن قصد الامتثال في التعبديات إنما هو من أغراض النفس ، ولا يكاد يترتب على المأمور به ، وبذلك يمتاز عن ملاكات الاحكام ، فإنها مترتبة على المأمور به ، وهذه الداعية على إرادتها ، وحينئذ فمع تصريح كلمات الشيخ في الرسائل بقوله : « وعلم أنه الغرض من المأمور به » بعد قوله : « وعلم أن المقصود إسهال الصفراء » كيف يحمل هذا الكلام على الغرض الناشي من الامر من قصد الامتثال؟ خصوصا بعد قوله : « إن قلت الخ » و « علم أنه » ان ذلك توجيه بما لا يرضى صاحبه.

والعجب! إنه جعل الاشكال الوارد على شيخنا الأعظم بخياله في جواب « إن قلت » قرينة على رفع اليد عن صريح كلامه في المقام ، وأعجب من ذلك!! تأييده بالتعبير منه بلفظ « الغرض » في باب التعبدي والتوصلي ، إذ لا إشكال في صدق « الغرض » على قصد الامتثال ، إلا أنه من الاغراض المترتبة على الامر لا المأمور به ، وفي المقام صرح بالثاني ، فكيف يصير تعبيره بالغرض مع كون المراد منه « الغرض من الامر » شاهدا للمقام ، كما لا يخفى.

١٧٠

وتوضيح ذلك : هو أن « الغرض » قد يطلق ويراد منه مصلحة الحكم وملاكه وهو الشايع في الاستعمال ، وقد يطلق ويراد منه التعبد بالامر وقصد امتثاله ، فان الغرض من الامر قد يكون مجرد حصول المأمور به خارجا ، وقد يكون الغرض منه التعبد به ، ولا إشكال في انقسام الامر إلى هذين القسمين ووقوعهما خارجا ، كما لا إشكال في أنه لا يمكن أخذ قصد الامتثال والتعبد في متعلق الامر ، لأنه من القيود اللاحقة للامر بعد وجوده.

وإنما الاشكال في أن عروض وصف التعبدية للامر هل هو بالجعل الثانوي المصطلح عليه بمتمم الجعل؟ أو باقتضاء ذات الامر (١)؟ بأن يكون الامر التعبدي بهوية ذاته يقتضي قصد الامتثال ويمتاز عن الامر التوصلي بنفسه بلا حاجة إلى متمم الجعل ، بل الطلب بذاته يحدث كيفية التعبد في المأمور به ويقتضي إيجابها ، فيكون انقسام الامر إلى التعبدي والتوصلي لا لأمر خارج عنهما ، بل لتباينهما ذاتا ، وعلى هذا يكون قصد الامتثال من العوارض

__________________

١ ـ أقول : بعد كون قوام تعبدية الامر بعدم سقوطه إلا باتيان المأمور به بداعي الامر قبال التوصلي الساقط باتيان ذات العمل ، فهذا المعنى ذاتي له غير مرتبط بعالم الجعل ، إذ مثل هذا المعنى في الحقيقة من تبعات دخل المصلحة لبقاء أمره الداعية له ثبوتا ، كدخل حصوله في سقوطه ، والاحتياج إلى متمم الجعل في عالم بيان كيفية الغرض الملازم لكيفية سقوطه أو عدم احتياجه ـ بخيال اقتضاء العقل عند الجزم بالامر القطع بالفراغ منه ، ولا يحصل إلا بضم القصد المزبور ومع هذا الحكم العقلي لا يبقى مجال جريان البراءة عن القصد المشكوك ، فلا يحتاج حينئذ إلى تتميم الجعل ـ أجنبي عن مرحلة اقتضاء الامر التعبدي في عالم الثبوت مثل هذا القصد ، وحينئذ لا أرى لمثل هذا التشقيق مفهوما محصلا ، فالعمدة في المسألة في أن مثل هذا القيد الخارج عن المأمور به يحتاج إلى بيان مستقل نسميه تتميم الجعل ، أم لا يحتاج ، بل يكفي له بيانا قاعدة الاشتغال في نفس ما امر به ، وحينئذ مرجع هذه الجهة إلى المغالطة الواقعة في الأقل والأكثر : من تقريب الاشتغال من ناحية الامر بالأقل ، ولقد بينا شرح المغالطة والجواب عنه مفصلا ، وملخص الجواب : ان العقل إنما يحكم بلزوم الفراغ عما اشتغلت الذمة به لا واقعا ، وما اشتغلت الذمة على فرض الأكثر وجوده من طرف الأقل لا مطلقا ، فمرجع الكلام إلى التوسط في التنجيز ، كما لا يخفى.

١٧١

والكيفيات اللاحقة للمأمور به بنفس الامر بلا لحاظ سابق ولا جعل لاحق.

وهذا الوجه وإن كان خلاف التحقيق عندنا ، لما بينا في محله : من أن الامر التعبدي لا يباين الامر التوصلي بهوية ذاته ، بل وصف التعبدية إنما يلحق المأمور به بالجعل الثانوي المتمم للجعل الأولي ، فإنه للآمر التوصل إلى بيان تمام غرضه بجعلين إذا لم يمكن استيفائه بجعل واحد ، كما إذا كان لقصد الامتثال دخل في غرضه ، فإنه لا يمكن أخذه في متعلق الامر ، لكونه من الانقسامات اللاحقة للمأمور به بعد تعلق الامر به ، فيتوصل المولى إلى بيان تمام غرضه بجعلين : جعل يتكفل الاجزاء والشرائط التي يمكن أخذها في المتعلق ، وجعل يتكفل اعتبار قصد الامتثال والتعبد ، فيكون الجعل الثانوي متمما للجعل الأولي ويقوم بهما ملاك واحد ، كما أوضحناه في محله.

ومن هنا كان الأقوى عندنا جريان البراءة عن وجوب قصد الامتثال عند الشك في التعبدية والتوصلية ، ولا موقع للرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، لأنه يكون من صغريات تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، وقد تقدم أن الأقوى جريان البراءة الشرعية فيه.

ولكن لو بنينا على أن لحوق وصف التعبدية للمأمور به من مقتضيات ذات الامر بلا حاجة إلى متمم الجعل لكان للمنع عن جريان أصالة البراءة عند الشك في اعتبار قصد الامتثال وجه ، فإنه بعد البناء على تباين الامر التعبدي والتوصلي يكون الدوران بين التعبدية والتوصلية من أقسام الدوران بين المتباينين ، فلا يجوز إهمال قصد الامتثال ، لاحتمال أن يكون الغرض من الامر التعبد به وقصد امتثاله ، ولا دافع لهذا الاحتمال عقلا وشرعا ، لأنه ليس اعتباره بالجعل الثانوي حتى يدفع احتمال اعتباره بأصالة عدم تعلق الجعل به ، بل المفروض : أن ذات الامر يقتضي إيجاب التعبد وقصد الامتثال ، فلا أصل ينفي احتمال كون الغرض من الامر التعبد به ، فلابد من قصد الامتثال عند الشك في اعتباره لكي يعلم بتحقق

١٧٢

الغرض من الامر.

وهذا هو المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان في كلام الشيخ ، لا الغرض بمعنى الملاك ، فإنه لا ينبغي أن يتوهم أحد وجوب تحصيل القطع بتحقق الملاك الذي لا يكاد يمكن الامر بتحصيله ، فالغرض الذي يمكن أن يقال بوجوب تحصيل العلم بتحققه هو الغرض بمعنى قصد التعبد والامتثال ، فإنه بهذا المعنى يكون من كيفيات المأمور وخصوصياته اللاحقة له بنفس تعلق الامر به.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه يمكن القول بالبراءة حتى على القول بتباين الامر التعبدي والتوصلي (١) فان تباين الأمرين لا دخل له بتباين المتعلقين ، ولا إشكال في أن قصد الامتثال يكون قيدا زائدا في المأمور به ، والامر التوصلي فاقد لهذا القيد ، فبالأخرة يرجع الشك في اعتبار قصد الامتثال إلى الشك بين الأقل والأكثر ، سواء قلنا بالجعل الثانوي أو لم نقل ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال : فقد ظهر مما ذكرنا في معنى « الغرض » المعطوف على العنوان أنه لا موقع للاشكال على ذلك (٢) بقوله : « إن قلت إن الأوامر الشرعية

__________________

١ ـ أقول : قد أشرنا سابقا بأن وجه اقتضاء الامر التعبدي للقصد المزبور إنما هو بتوسيط حكم العقل بالاشتغال في تحصيل الفراغ عن الامر المعلوم ، ومع هذا الحكم لا يبقى مجال لمتمم الجعل ، فلا يبقى حينئذ ما هو قابل للرفع : من الامر الجعلي ، كي يجري فيه البراءة الشرعية ، فما أفيد : من رجوع المسألة إلى الشك في القيد الزائد في المأمور به على اي حال غلط ، إذ على فرض جريان قاعدة الاشتغال يكون المسألة من صغريات الشك في دخل قيد زائد في الامتثال ، لا في المأمور به ، وأدلة رفع الامر المجعول أجنبية عن الشمول لمثل هذا القيد ، كما أن « كل شيء لك حلال » أيضا لا تشمل إلا ما احتمل حرمته شرعا لا عقلا ، فتدبر.

٢ ـ أقول : إن كان هذا الاشكال من شخص آخر على كلام من أشكل على « الغرض » المزبور كان لما أفيد وجه ، وأما بعدما كان كلها من كلام واحد ، فلا محيص من حمل « الغرض » على مفاد كلامه الآخر علاوة على صريح كلامه : من إضافة « الغرض » إلى المأمور به الذي هو أجنبي عن قصد

١٧٣

كلها من هذا القبيل الخ ».

فإنه إن كان الاشكال راجعا إلى العنوان ، بدعوى : أن المصالح وملاكات الاحكام كلها تكون من العناوين والمسببات التوليدية لمتعلقات التكاليف ، فيلزم سد باب البراءة في جميع موارد الشك في حصول الملاك.

ففيه : أن الملاكات لا تكون من المسببات التوليدية للأفعال (١) لما عرفت : من أن المسبب التوليدي هو الذي يكون الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لتولده أو الجزء الأخير منها حتى يمكن أن تتعلق بايجاده إرادة الفاعل لكلي يمكن أن تتعلق به إرادة الآمر ، وباب المصالح والملاكات ليس بهذه المثابة ، فإنه لا تتعلق بها الإرادة الفاعلية ، لعدم القدرة عليها (٢) فلا تدخل تحت دائرة الطلب ، ولا يكون الفعل الصادر عن الفاعل إلا مقدمة إعدادية لحصولها ، فهي لا تصلح إلا لان تكون من الدواعي لحركة عضلات الفاعل والعلل التشريعية لأمر الآمر ، فالمصالح والملاكات المترتبة على متعلقات التكاليف الشرعية نظير الخواص والآثار المترتبة على الأمور التكوينية ـ كصيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا ـ لا يمكن أن تكون عنوانا للفعل ومسببا توليديا له.

والذي يدلك على ذلك ، هو عدم وقوع الامر بتحصيل الملاك وإيجاد المصلحة في مورد (٣) ولو كان الملاك من العناوين والمسببات التوليدية لتعلق

__________________

الامتثال الذي هو الغرض من الامر ، كما لا يخفى ، وقد أشرنا إليه سابقا أيضا.

١ ـ أقول : لا يخفى ان المصلحة عبارة عما يدعو الآمر للامر به بها ، وهذا المعنى يستحيل أن لا يترتب على المراد ولو بحفظ نحو من أنحاء وجوده في ظرف تحقق سائر جهاته ، ومن المعلوم : أن هذا المقدار تحت الإرادة الموجبة لامره نحو محققه المردد بين الأقل والأكثر ، وحينئذ عدم ترتب تمام وجودها على المأمور به لا يجدي شيئا في رفع الاشكال ، فتأمل.

٢ ـ قد عرفت ما فيه سابقا ، فراجع.

٣ ـ أقول : الذي لا يقع تحت الامر هو وجوده الطارد لجميع أعدامه ، لا حفظ وجوده من قبل المأمور به في ظرف انحفاظ سائر جهاته ، فإنه لا محيص من وقوعه تحت الإرادة جدا ، كما هو الشأن في كل

١٧٤

الطلب به في غير مقام ، لان المأمور به في باب الأسباب والمسببات التوليدية إنما هو المسبب ، وتعلق الامر بالسبب أحيانا إنما يكون بلحاظ تولد المسبب منه وكونه آلة لايجاده ، ولا يصح إطلاق الامر بالمعنون والسبب مع إرادة العنوان والمسبب إلا إذا كان تعنون السبب بالعنوان وتولد المسبب منه من الأمور العرفية المرتكزة في الأذهان ، بحيث يكون الامر بالسبب أمرا بالمسبب عرفا ، على وجه يعلم أن تعلق الطلب بالسبب لا بما هو فعل صادر عن الفاعل بل بما أنه يتولد منه المسبب ويتعنون بعنوانه ، كما يستفاد من الامر بالالقاء في النار والضرب بالسيف كون الامر بهما لأجل تولد الاحراق والقتل منهما ، فلو لم يكن السبب والمسبب بهذه المثابة لم يصح إطلاق الامر بالسبب مع إرادة المسبب ، بل لابد من تقييد الامر بالسبب بما يوجب تولد المسبب منه ، وإلا كان ذلك إغراء بالجهل ونقضا للغرض.

ومن المعلوم بالضرورة : أن تولد الملاكات من متعلقات التكاليف وتعنونها بالمصالح ليس بمثابة يستفاد من الامر بالفعل أنه أمر بالملاك ، إذ ليس تعنون الافعال بالملاكات من المرتكزات العرفية لكي يصح إطلاق الامر بالفعل مع إرادة الملاك ، فاطلاق الامر بالفعل وعدم تقييده بما يوجب تولد الملاك منه يكون كاشفا قطعيا عن أن الملاكات ليست من المسببات التوليدية لمتعلقات

__________________

غرض مترتب على المأمور به ، ولقد عرفت : أن هذا المقدار في منع جريان البراءة كاف ، لولا دعوى : ان العقل لا طريق له إلى فعلية الإرادة بالنسبة إلى الغرض البسيط بأي مرتبة منه ، إلا من جهة فعلية الامر بالمفصل المحصل له ، وحينئذ في مقدار من المفصل المعلوم إرادته يستكشف فعلية حفظ الغرض من قبله ، وليس نفس الغرض أو حفظه بأي مرتبة تحت خطاب مستقل كي يكشف إرادته بهذا العنوان البسيط ، كي يكون الشك في المحقق ، بل من الأول لا يعلم بفعلية الغرض إلا [ من ] علم بفعلية التكليف ، وحيث لا يعلم إلا بالأقل فلم يعلم بفعلية الغرض أزيد مما يلزم حفظه من قبل ما علم إرادته من العمل ، كما لا يخفى ، فتدبر تعرف.

١٧٥

التكاليف.

وإن أبيت عن ذلك ، فلا أقل من أن يشك في كونها من المسببات التوليدية ، فإنه لا سبيل إلى دعوى القطع بذلك ، فيشك في وجوب الاتيان بالفعل على وجه يكون محصلا للملاك ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف نفس الفعل الصادر عن الفاعل من حيث هو لا من حيث تعنونه بالملاك ، فيؤول الامر إلى تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، للعلم بتعلق الطلب بالفعل الصادر عن الفاعل والشك في وجوب القيد : من إتيان الفعل على وجه يكون محصلا للملاك ، والأصل البراءة عن وجوبه ، فتأمل (١).

هذا كله إذا كان الاشكال راجعا إلى العنوان.

وإن كان راجعا إلى الغرض ـ كما هو ظاهر العبارة ـ بدعوى : أن الغرض من تعلق الطلب بالافعال إنما هو حصول الملاكات والمصالح التي تبتني عليها الاحكام ، فيجب الاتيان بكل ما يحتمل دخله في حصول الملاك ، ولازم ذلك عدم جريان البراءة في جميع موارد الشك بين الأقل والأكثر ، لاحتمال أن تكون للخصوصية الزائدة دخل في حصول الملاك. ففيه : ما عرفت : من أن المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان ليس هو الملاك ليرد عليه ذلك (٢) بل المراد من « الغرض » هو التعبد بالمأمور به

__________________

١ ـ وجهه : هو أنه لو وصلت النوبة إلى الشك واحتمل أن يكون الامر بالفعل لأجل تعنونه بالملاك ، فمقتضى العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين أن يكون متعلقا بالفعل الصادر عن الفاعل من حيث هو وبين أن يكون متعلقا به من حيث كونه محصلا للملاك هو وجوب الاتيان بكل ما يحتمل أن يكون له دخل في حصول الملاك ، ولا تجري البراءة فيه ، والعلم التفصيلي بتعلق التكليف بالفعل على كل تقدير لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، لان التكليف بالفعل مردد بين كونه نفسيا أو غيريا ، نظير العلم التفصيلي بوجوب نصب السلم المردد بين كونه لنفسه أو لكونه مقدمة للكون على السطح ، وقد تقدم أن مثل هذا العلم التفصيلي لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، فتأمل جيدا.

٢ ـ أقول : قد عرفت ان مراد الشيخ رحمه‌الله صريح في كونه الملاك لا التعبد الذي هو الغرض

١٧٦

وقصد امتثال الامر ـ بالبيان المتقدم ـ.

وبذلك يظهر ضعف ما أفاده الشيخ قدس‌سره الوجهين في دفع الاشكال.

أما الوجه الأول : ففيه : أنه ليس المقام مقام المجادلة لكي يتكلم على مذاق الأشاعرة المنكرين للمصالح والمفاسد ، بل لابد من دفع الاشكال على ما يقتضيه مسلك العدلية : من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات الأوامر.

وأما الوجه الثاني : وهو قوله : « وثانيا أن نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا الخ ».

ففيه : أولا : أن قصد الوجه ليس له دخل في تحقق الامتثال قطعا ، وإن ذهب إلى اعتباره بعض المتكلمين.

وثانيا : أن الكلام ليس في خصوص العبادات ، فان الأوامر التوصلية أيضا تشتمل على المصالح ، وقصد الوجه على تقدير اعتباره إنما يختص بالعبادات.

وثالثا : أن توقف حصول المصلحة على إيقاع الفعل على وجهه ، إما أن يكون مطلقا غير مقيد بصورة التمكن ، وإما أن يكون مقيدا بذلك. فعلى الأول : يلزم سقوط التكليف رأسا في جميع موارد تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، لعدم التمكن من قصد الوجه ، فلو بقي الواجب على وجوبه يلزم أن يكون بلا مصلحة ، ومع سقوط التكليف لا عقاب حتى يجب التخلص عنه والامن منه.

وعلى الثاني : يلزم سقوط اعتبار إيقاع الفعل على وجهه عند الشك في المكلف به وتردده بين الأقل والأكثر ، لعدم التمكن منه ، ولكن سقوط قصد الوجه لا ينافي وجوب الاحتياط والآتيان بكل ما له دخل في حصول الملاك

__________________

المترتب على الامر به ، فلا مجال لشرح مرامه بما ذكر ، إذ هو قريب بالاجتهاد في قبال النص ، فتدبر.

١٧٧

فالانصاف : أن ما أجاب به الشيخ قدس‌سره عن الاشكال لا يحسم مادته ، بل لا محصل له. فالحق في الجواب عن الاشكال هو ما تقدم : من أن الملاكات غير لازمة التحصيل ، لأنه ليست من العناوين والمسببات التوليدية.

فان قلت : هب إن الملاكات ليست من المسببات التوليدية لمتعلقات التكاليف ، إلا أنه يجب على المكلف سد باب احتمال عدم حصول الملاك من ناحيته ، بأن يأتي بالمقدمات الاعدادية على وجه يمكن انطباق الملاك عليها ، بحيث لو انضم إليها الأمور الخارجة عن قدرة المكلف واختياره لحصل الملاك ، وذلك لا يكون إلا بفعل كل ما يحتمل دخله في الاعداد ، بحيث لو لم يحصل الملاك لكان ذلك لأجل عدم انضمام المقدمات الاخر الخارجة عن القدرة والاختيار ، نظير الزارع الذي يفعل كل ما يحتمل أن يكون له دخل في حصول السنبل من المقدمات الاعدادية الراجعة إليه ، بحيث لو لم يحصل السنبل لكن ذلك لأجل عدم إشراق الشمس أو نزول المطر وغير ذلك من الأسباب السماوية والأرضية.

قلت : وظيفة المكلف هو الاتيان بما تعلق الطلب به وما هو الواصل إليه من قبل المولى ، وأما تطبيق العمل على الوجه المحصل للملاك فليس هو من وظيفة المكلف (١) بل ذلك من وظيفة المولى ، حيث إنه يجب على المولى الامر بما

__________________

١ ـ أقول : بعدما كانت الإرادة المترشحة إلى الفعل ناشئة عن فعلية الإرادة بسد باب عدم الملاك ، فقهرا حفظ وجود الملاك من قبله تكون تحت الإرادة قهرا ، والعقل أيضا حاكم بتحصيل مرام المولى ، ولو لم يكن بنفسه في حيز خطابه بل كان لازمه ، وحينئذ لا مجال لمقايسة المقام بباب ملازمة حكم العقل والشرع المحتمل عدم كون حفظ الملاك ـ ولو من قبل الفعل المزبور ـ تحت الإرادة ، كما هو نظر من أنكر الملازمة ، وحينئذ لا محيص من الجواب إلا بما ذكرنا : من أن الطريق إلى إرادة حفظ الغرض من قبل العقل ليس إلا الخطاب إلى الفعل فبمقدار يعلم إرادته يعلم بإرادة حفظ الغرض من قبله ، وهو ليس إلا الأقل ، ومن هنا ظهر : أن العمل على الوجه المحصل من قبله تحت الإرادة ، لكن هذا المقدار حسب تردد المحصل ـ كما في الأقل والأكثر ـ يصير هو أيضا مرددا بين الأقل والأكثر.

١٧٨

ينطبق على الملاك ، لقبح تفويته على العبد.

وبالجملة : الواجب على المكلف عقلا هو امتثال أمر المولى والآتيان بكل ما وصل إليه من قبله ، ولا يجب عليه فعل كل ما يحتمل أن يكون له دخل في حصول الملاك من دون أن يصل من المولى بيان ، بل لا يجب على المكلف عقلا الاتيان بما يعلم دخله في الملاك من دون أن يدخل تحت دائرة الطلب ويتعلق الامر المولوي به ، ولذا أتعب الاعلام أنفسهم في إثبات الملازمة بين حكم العقل والشرع.

فلو كانت المصالح والملاكات لازمة التحصيل ولو مع عدم الامر بالفعل القائم به الملاك لم يكن وجه لاتعاب النفس في إثبات الملازمة ، بل كان الحكم العقلي بثبوت الملاك في فعل يكفي في وجوبه ولو لم تثبت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فتأمل.

فإذا كان العلم بقيام الملاك في فعل لا يؤثر في وجوب ذلك الفعل مع عدم الامر به شرعا ، فالشك في قيام الملاك بفعل أولى بأن لا يؤثر في وجوب الفعل.

نعم : ربما يكون الملاك المقتضي لتشريع الحكم لازم الاستيفاء في عالم الثبوت ، بحيث لا يرضى الشارع أن يفوت من المكلف على أي وجه اتفق.

ولكن إذا كان الملاك ثبوتا بهذه المثابة فيجب على المولى جعل المتمم وإيجاب الاحتياط في موارد الشك كإيجابه في باب الدماء والفروج والأموال ، لأنه لا طريق إلى إحراز كون الملاك بهذه المثابة إلا بإيجاب الاحتياط ، فان نفس الحكم الأولي قاصر عن الشمول لحال الشك فيه أو في موضوعه ، فلابد من جعل المتمم لئلا يقع المكلف في مخالفة الواقع ، ولابد أيضا من أن يكون إيجاب الاحتياط واصلا إلى المكلف ، إذ هو لا يزيد عن أصل الحكم الأولي الذي وجب الاحتياط لمراعاته ، فكما أنه تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك في الحكم الأولي في غير دوران الامر بين الأقل والأكثر ـ حيث تقدم أنه لا مساس

١٧٩

للبراءة العقلية فيه ـ فكذلك تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك في جعل المتمم وإيجاب الاحتياط.

وتوهم : عدم جريان البراءة العقلية عند الشك في وجوب الاحتياط لان مخالفته لا يستتبع العقاب (١) فلا يكون موردا لقبح العقاب بلا بيان فاسد ، فان إيجاب الاحتياط إنما يكون لأجل مراعاة الواقع وعدم وقوع المكلف في مفسدة مخالفة الحكم الواقعي ، فلو صادف كون المشكوك فيه هو متعلق التكليف الواقعي ، فوجوب الاحتياط يتحد مع الحكم الواقعي ويصح العقاب على ترك الاحتياط ، لاتحاده مع الواقع ، وبهذا الاعتبار يمكن جريان البراءة العقلية عند الشك في وجوب الاحتياط. وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث الظن عند الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

وعلى كل حال : فقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أنه ينبغي عزل باب المصالح وملاكات الاحكام عن البحث في جريان البراءة والاشتغال ، ولا يمنع الشك في حصولها عن جريان البراءة العقلية والشرعية في شيء من المقامات.

فما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره في غير موضع : من أن الملاك يكون مسببا توليديا لمتعلق التكليف وعليه بنى عدم جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطي ، ضعيف غايته.

وأضعف من ذلك ما ذكره في مبحث التعبدي والتوصلي : من التفصيل بين القيود التي يمكن أخذها في متعلق التكليف ـ كالاجزاء والشرائط ـ فتجري فيها البراءة الشرعية دون العقلية ، وبين القيود التي لا يمكن أخذها في المتعلق ـ كقصد الامتثال والقربة ـ فلا تجري فيها البراءة العقلية أيضا.

__________________

١ ـ أقول : ذلك عين الاعتراف بأن إيجاب الاحتياط حكم طريقي قابل لتنجز الواقع عند الموافقة ، لا أنه حكم نفسي موجب للعقوبة على مخالفة نفسه وافق الواقع أو خالف ، خلافا لشيخنا الأعظم في باب البراءة ، فراجع وتدبر ، ولم أر في كلام المقرر شيئا في تلك المسألة كي أوازنه مع المقام.

١٨٠