فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

لا ، ومن المعلوم : أن تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي على القول به إنما هو فيما إذا لزم من الامتثال الاجمالي تكرار في العمل ، لا مطلقا ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) فلا موجب لرفع الجهل عن قيدية الترتيب بعدما لم يلزم منه زيادة في المحتملات.

قلت : تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي هو الذي أوجب المنع عن التكرار ، لا أن المنع عن التكرار أوجب تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي ، فالمانع إنما هو لزوم الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي وإن لم يلزم منه زيادة في المحتملات.

فتحصل مما ذكرنا : أن وجوب تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر مبني على اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاجمالي ، وسيأتي ( إن شاء الله تعالى ) أن الأقوى : اعتبار الامتثال التفصيلي مع التمكن منه ، وعليه يجب تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر ، فتأمل جيدا.

الامر الرابع :

قد تقدم في الشبهة التحريمية عدم تأثير العلم الاجمالي إذا كانت الأطراف غير محصورة ، لعدم التمكن من المخالفة القطعية فيها عادة ، بالبيان المتقدم (١)

__________________

١ ـ أقول : قد تقدم بما لا مزيد عليه أن مجرد عدم التمكن عن تحصيل بصدور المخالفة منه خارجا لا يستلزم جريان النافية من الأصول ولا جواز الارتكاب وترك الموافقة ، وإنما المانع عن جريان الأصول نفس منجزية العلم بنحو العلية ولو لم يكن معارضا ، وذلك حاصل في ظرف ترك المحتملات ، إذ في هذا الظرف يقطع بالقدرة على المخالفة الواقعية فيحرم ، فجريان الأصل حينئذ لا مجال له ولو لم تكن يتعارض لمكان وجود العلم المنجز في هذا الظرف ، فيجب حينئذ بحكم العقل الموافقة القطعية ، وحينئذ فلو بنينا على عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور حتى في التحريمية ، فلابد وأن يكون من إجماع على الترخيص الكاشف عن جعل البدل ، بناء على ما هو التحقيق : من علية العلم ، ولا رمه

١٤١

وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإن المخالفة القطعية بترك جميع المحتملات بمكان من الامكان ، فلابد من تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية وعدم جواز ترك جميع المحتملات.

نعم : لا يمكن الموافقة القطعية بفعل جميع المحتملات لكثرة الأطراف ، فلابد من التبعيض في الاحتياط والآتيان بالمقدار الممكن من المحتملات.

ولا وجه للاكتفاء بفعل أحد المحتملات وترك الباقي ، بدعوى : أن تعذر الموافقة القطعية يوجب التنزيل إلى الموافقة الاحتمالية ، وهي تحصل بفعل أحد المحتملات ، لان المانع من وجوب الموافقة القطعية ليس هو إلا لزوم العسر والحرج من الجمع بين المحتملات ، والضرورات إنما تتقدر بقدرها ، فلابد من سقوط ما يلزم منه العسر والحرج ، ولا موجب لسقوط الزائد عن ذلك ، فلا محيص من وجوب الاتيان بالمقدار الممكن من المحتملات.

هذا تمام الكلام في الشك في المكلف به عند دورانه بين المتباينين ، وقد بقي منه بعض التنبيهات لم يتعرض لها شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ لأنها قليلة الجدوى

* * *

__________________

الالتزام في الشبهة الوجوبية أيضا بمناط واحد ، نظرا إلى إطلاق معاقد الاجماعات ، وإلى هذا البيان نظر شيخنا الأعظم : من الاكتفاء بفعل واحد وترك الباقي. وبمثل هذا البيان ينبغي أن يفهم كلمات شيخنا الأعظم ، فتدبر.

١٤٢

المقام الثاني

في دوران الامر بين الأقل والأكثر

وأقسامه كثيرة ، فان الترديد بين الأقل والأكثر

تارة : يكون في نفس متعلق التكليف من الفعل أو الترك المطالب به.

وأخرى : يكون في موضوع التكليف فيما إذا كان للتكليف تعلق بالموضوع الخارجي.

وثالثة : يكون في السبب والمحصل الشرعي والعقلي أو العادي.

وعلى جميع التقادير ، تارة : يكون الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وأخرى : يكون من قبيل الشرط والمشروط ، وثالثة : يكون من قبيل الجنس والنوع.

ثم ما كان من قبيل الشرط والمشروط ، تارة : يكون منشأ انتزاع الشرطية أمرا خارجا عن المشروط مباينا له في الوجود ، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وأخرى : يكون داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود ، كالايمان بالنسبة إلى الرقبة.

وفي جميع هذه الأقسام ، تارة : يكون الأقل والأكثر ارتباطيين ، وأخرى : يكون غير ارتباطيين

وعلى التقديرين : تارة : تكون الشبهة وجوبية ، وأخرى : تكون تحريمية.

ومنشأ الشبهة : إما فقد النص ، وإما إجمال النص ، وإما تعارض النصين ، وإما الاشتباه في الموضوع الخارجي.

فهذه جملة الأقسام المتصورة في باب الأقل والأكثر ، وسيأتي مثال كل قسم عند البحث عن حكمه.

وكأن الشيخ قدس‌سره غفل عن إمكان تردد نفس متعلق التكليف بين

١٤٣

الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية ، وأبدل هذا القسم بما يرجع إلى الشك في المحصل ، ولكن سيأتي ( إن شاء الله تعالى ) أن ذلك بمكان من الامكان ، ومنه تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره.

وعلى كل حال : ينبغي إفراد كل واحد من هذه الأقسام بفصل يخصه ـ إلا ما كان منها متحد الحكم مع الآخر ـ لاختلاف أحكامها ، فان منها ما تجري فيه البراءة بلا كلام ، ومنها مالا تجري فيه البراءة بلا كلام ، ومنها ما هو مختلف فيه.

الفصل الأول

في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الأسباب والمحصلات

والأقوى : عدم جريان البراءة عن الأكثر مطلقا في الأسباب العادية والعقلية والشرعية.

أما في الأسباب العادية والعقلية : فواضح (١) فان المجعول الشرعي فيها ليس إلا المسبب ولا شك فيه ، والمشكوك فيه ليس من المجعولات الشرعية

__________________

١ ـ أقول : بعدما كان الامر البسيط معلوما بجميع حدوده ، فلا يكون الشك فيه راجعا إلى الشك في متعلق التكليف ، وحينئذ لا قصور فيه من ناحية الاشتغال ، ولازمه استلزام الشك في دخل شيء في المحقق الشك في حصول الفراغ منه بدونه ، وحينئذ فعلى التحقيق : من كون حكم العقل بالفراغ تنجيزيا ، لا شبهة في عدم جريان الأصول النافية فيه ، ولو كانت حرمة شيء في المسبب مجعولا بجعل مستقل. وإن قلنا بأن حكم العقل المزبور تعليقي ، فلا قصور في جريان البراءة عن حرمة مخالفة التكليف بالبسيط من قبل ترك مشكوك الحرمة ، وإن كانت سببيته عادية أم عقلية. فما أفيد من التفصيل في المقام بين المجعولات وغيرها غير تام ، إلا على القول بالأصول المثبتة ، بدعوى أن رفع جزئية المشكوك يثبت مؤثرية الأقل ، فيتحقق المسبب ، فيصير الأصل المزبور مثبتا للفراغ الجعلي الظاهري ، ولكن أنى لنا بذلك! كما لا يخفى.

١٤٤

ولا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، فلا يعمه أدلة البراءة (١) فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في حصول متعلق التكليف وتحقق الامتثال عند عدم الاتيان بالأكثر ، والعقل يستقل بوجوب إحراز الامتثال والقطع بالخروج عن عهدة التكليف ، ولا يحصل ذلك إلا بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في السبب ، وذلك واضح.

وأما في الأسباب الشرعية : كالغسلات في باب الطهارة الحدثية والخبثية ، بناء على أن يكون المأمور به هو التطهير والغسلات محصلة له ، لا أنها هي المأمور بها ـ كما ربما يدل عليه الامر بالتطهير في جملة من الأدلة الواردة في باب الطهارة الحدثية والخبثية ـ فقد يتوهم : جريان البراءة عن الأكثر ، لأن الشك فيها يرجع إلى الشك في المجعول الشرعي ، فيعمه أدلة البراءة.

هذا ، ولكن قد تقدم في مبحث البراءة فساد التوهم ، ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول : إن شمول أدلة البراءة للمحصلات الشرعية يتوقف على أن تكون المجعولات الشرعية هي الأسباب لا المسببات ، وأن تكون أجزاء السبب وشرائطه أيضا مجعولة بجعل مستقل مضافا إلى جعل الأسباب ، وقد بينا في محله استحالة ذلك.

بيان الملازمة : هو أنه لو كانت المجعولات الشرعية نفس المسببات وترتبها على أسبابها ـ كترتب الطهارة على الغسلات الثلاث ، والنقل والانتقال على البيع والشراء ـ فالأسباب تكون خارجة عن دائرة الجعل ، ولا تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ، إذ لا تعقل أن تتعلق الجعل الشرعي بكل من السبب والمسبب ، لان جعل أحدهما يغني عن جعل الآخر ، فبناء على تعلق الجعل

__________________

١ ـ أقول : لو كان المراد من المجعول الأعم من الأصلي والتبعي قد يشكل أمر التفكيك بين جعلية المسبب وعدم جعلية السبب ولو تبعا ، إذ لا معنى لجعل المسبب إلا منوطا بالامر العقلي أو العادي ، وإلا لو لم يلحظ في مقام جعله هذه الإناطة لا يتصور سببية الامر العادي للامر الجعلي ، ومع تصوره فيرجع إلى جعل السببية ولو تبعا ، لجعل المسبب منوطا بالمطلق أو المقيد ، كما لا يخفى.

١٤٥

بالمسببات تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية والعادية غير قابلة للوضع والرفع ، وإطلاق السبب الشرعي عليها إنما هو باعتبار أن الشارع حكم بترتب المسبب عليه من دون أن يكون في البين ترتب عادي أو عقلي ، فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في ترتب المسبب على الفاقد لذلك الجزء أو الشرط (١) وبالآخرة يشك في حصول المكلف به في باب التكاليف وفي حصول المسبب في باب الوضعيات عند عدم الاتيان بما يشك في جزئيته أو شرطيته ، ولا يكاد يحصل العلم بذلك إلا بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في السبب. هذا إذا لم نقل بجعل السببية.

وإن قلنا بجعل السببية ولكن لم نقل بجعل الجزئية والشرطية بجعل مغاير لجعل السببية ، فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في جعل الشارع سببية الأقل ، للقطع بسببية الأكثر ، ورفع السببية عن الناقص يقتضي عدم تعلق الجعل الشرعي به ، ولازم ذلك عدم ترتب المكلف به على الناقص ، وهذا ينتج عكس المقصود ، لان المقصود من إجراء البراءة هو ترتب المكلف به على الناقص.

فمجرد القول بجعل السببية لا يكفي في شمول أدلة البراءة لموارد الشك في المحصل ما لم ينضم إليه القول بجعل الجزئية والشرطية مستقلا ، فإنه حينئذ يصح أن يقال : إن أدلة البراءة تقتضي رفع ما يشك في جزئيته أو شرطيته.

فإن قلت : يكفي في شمول أدلة البراءة لموارد الشك في المحصل كون الجزء

__________________

١ ـ أقول : ويمكن القول بأنه يرجع إلى الشك في تعلق الجعل بالزائد الذي هو منشأ انتزاع الجزئية في المجعولات الوضعية ، فمن حيث كون أمر وضع الجزئية ورفعه بيد الشارع بتوسيط المنشأ لا فرق بين التكليفيات والوضعيات. نعم : الذي يسهل الخطب في المقام هو أن أصالة عدم الجزئية لا يثبت سببية الأقل ومؤثريته في البسيط ، فلا يثمر مثل هذا الأصل على فرض تنجيزية حكم العقل بالفراغ. نعم : على تعليقيته يكفي هذا الأصل ، بل ويكفي البراءة عن حرمة المخالفة من قبل المشكوك ، من دون فرق في الفرضين بين كون الجزئية مجعولة بجعل مستقل أم لا ، فتدبر.

١٤٦

والشرط مجعولا بتبع جعل السبب المركب منه ومن غيره ، كما هو الشأن في جزء متعلق التكليف وشرطه ، فإن جزئية السورة مثلا للصلاة ليست مما تنالها يد الجعل مستقلا بل هي منتزعة عن الامر بالصلاة المركبة منها ومن غيرها ، ومع ذلك تجري فيها البراءة ويعمها حديث الرفع عند الشك فيها ، وبعد البناء على جعل السببية تكون أجزاء السبب وشرائطه كأجزاء الصلاة وشرائطها منتزعة عن نفس تعلق الجعل بالسبب المركب ، فيعمها حديث الرفع وتجري فيها البراءة عند الشك فيها ، ولا يتوقف على أن تكون الجزئية مجعولة بجعل مغاير لجعل السبب.

قلت : فرق بين الأسباب وبين متعلقات التكاليف ، فإن المشكوك فيه في متعلقات التكاليف إنما هو تعلق الامر بالأكثر الواجد للجزء أو الشرط المشكوك فيه ، ورفع الجزئية أو الشرطية إنما يكون برفع الامر عن الأكثر ، فان رفع الانتزاعيات إنما يكون برفع منشأ انتزاعها ، ومنشأ انتزاع الجزئية في متعلقات التكاليف ليس هو إلا تعلق الامر بالأكثر ، وهذا بخلاف الأسباب ، فإن منشأ انتزاع الجزئية المشكوك فيها إنما هو سببية الأكثر ، وسببيته وترتب المسبب عليه مما لا شك فيها ، وإنما الشك في سببية الناقص وترتب المسبب عليه ، ورفع سببية الناقص ينتج عدم سببيته وعدم ترتب المسبب عليه.

والحاصل : أن حديث الرفع إنما يرفع المشكوك فيه ، والمشكوك فيه في متعلقات التكاليف هو تعلق التكليف بالأكثر ، وفي الأسباب هو جعل سببية الأقل ورفع سببيته يوجب عدم ترتب المسبب عليه ، فالقائل بالبراءة في باب الأسباب والمحصلات يلزمه القول باستقلال الجزئية والشرطية في الجعل ، ليكون الجزء المشكوك فيه مما تناله يد الرفع بنفسه ، ولا يكفي في إثبات مدعاه مجرد جعل السببية ، فتأمل (١).

__________________

١ ـ وجهه : هو أنه قد يختلج في البال عدم الفرق بين متعلقات التكاليف وبين الأسباب بعد البناء على جعل

١٤٧

بل هذا أيضا لا يثبت المدعى إلا على القول بالأصل المثبت ، فإن مجرد رفع المشكوك لا أثر له ما لم تثبت سببية الناقص وترتب المسبب عليه ، وذلك مبني على الأصل المثبت.

فتحصل : أنه في موارد الشك في المحصل وتردده بين الأقل والأكثر لابد من الاحتياط ، ولا تجري البراءة مطلقا وإن كان المحصل شرعيا (١).

الفصل الثاني

في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الشبهات التحريمية

كتردد الغناء بين أن يكون هو مطلق ترجيع الصوت ، أو بقيد كونه مطربا.

والظاهر : أن تكون الشبهات التحريمية على عكس الشبهات الوجوبية ، فإنه في الشبهات الوجوبية يكون الأقل متيقن الوجوب والأكثر مشكوكا ، وفي

__________________

السببية ، فإن تعلق التكليف بالأكثر في باب متعلقات التكاليف وإن كان مشكوكا ، إلا أن تحقق الامتثال وحصول البراءة عن التكليف عند الاتيان بالأكثر يكون معلوما ، وفي باب الأسباب يكون الامر كذلك ، فان جعل الأكثر سببا وإن كان مشكوكا إلا أن ترتب المسبب عليه يكون معلوما ، وكذا الحال في طرف الأقل ، فإنه كما يكون متعلق التكليف بالأقل في باب متعلقات التكاليف يكون معلوما ، كذلك دخل الأقل في ترتب المسبب في باب الأسباب يكون معلوما ، فلا فرق بينهما في كل من طرفي الأقل والأكثر ، وحينئذ يصح أن يقال : إنه يمكن رفع الجزئية المشكوك فيها برفع منشأ انتزاعها وهو جعل الأكثر سببا كما في متعلقات التكاليف ، ولا يحتاج إلى جعل الجزئية بجعل مغاير لجعل المسبب ، فتأمل ( منه )

١ ـ أقول : على مختاره : من كون حكم العقل بالفراغ تعليقيا ـ كما هو أساس بنائه على اقتضاء العلم بالنسبة إلى الموافقة القطعية وأن الأصول إنما يتساقط من أطراف العلم بالتعارض ـ لا وجه لالتزامه في المقام بالاحتياط ، لما مر من عدم قصور في جريان أدلة الترخيصات الظاهرية بالنسبة إلى الفراغ المشكوك من ناحية المشكوك الدخل في السبب ، فتدبر بعين الدقة.

١٤٨

الشبهات التحريمية الأكثر متيقن الحرمة والأقل مشكوكا.

والأقوى : جريان البراءة عن حرمة الأقل مطلقا ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، وسواء تردد الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف أو في موضوعه ، وسواء كان الأقل والأكثر من الارتباطيين أو غيره.

والذي خالف في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية ينبغي أن لا يقول بجريانها في الشبهات التحريمية أيضا ، لاتحاد ملاك النزاع في المقامين (١) ولكن الأكثر لم يتعرضوا لحكم الشبهات التحريمية.

ثم إن الارتباطية في المحرمات إنما هي على حذو الارتباطية في الواجبات لابد وأن تكون حرمة الأقل في ضمن حرمة الأكثر على تقدير أن يكون الأكثر هو متعلق الحرمة من دون أن تكون للأقل حرمة تخصه ، وهذا إنما يكون بانبساط الحرمة النفسية على الاجزاء بحيث يكون لكل جزء حظ من تلك الحرمة ليصدق الشروع في فعل الحرام بالاتيان بأول جزء منه ، والأمثلة التي تخطر بالبال لا تنطبق على هذا المعنى.

نعم : يمكن أن يكون حرمة تصوير ذوات الأرواح مثالا لذلك على بعض المحتملات ، بأن يشك في أن المحرم هو تصوير الصورة التامة أو بعضها ، وعلى فرض أن يكون متعلق الحرمة هو التصوير التام يكون الشروع في التصوير محرما

__________________

١ ـ أقول : لا يخفى أن عصيان الحرام المركب لا يكاد يتحقق إلا بايجاد مجموع الاجزاء ، فالعقل ملزم بترك واحد منها ولو كان آخر وجودها ، فمع الشك في دخل شيء آخر يمكن كونه آخر الوجودات ، فمع تركه يجتزي به العقل من جهة شكة في حرمة البقية ، وهذا بخلاف الواجب المركب ، فان ترك أول وجود منه يوجب عصيانه ، فالقائل بالاحتياط فيه له أن يدعي بأن الاشتغال بوجوب الأقل يقتضي تحصيل الفراغ عنه ، ولا يحصل إلا بالاتيان بالأكثر ، وهذا بخلاف الحرمة ، فان الاشتغال بالحرام لا يقتضي إلا الفراغ عن المجموع ، ومع الشك في دخل شيء آخر يشك في الاشتغال بالأقل ، وحينئذ كيف للقائل بالاحتياط في الواجبات أن يقول به في المحرمات؟ ولابد له من بيان واف بما أفيد كي نفهم مقصوده.

١٤٩

بشرط تعقبه بسائر الاجزاء. وعلى كل حال : الامر في المثال سهل بعد وضوح المقصود.

الفصل الثالث

في دوران الامر بين الأقل والأكثر الغير الارتباطيين

في الشبهة الوجوبية

ولا إشكال ولا كلام في جريان البراءة في الأكثر ، للشك في وجوب الزائد عن الأقل ، فتعمه أدلة البراءة.

وتوهم : أن الزائد من أطراف العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر فيجب الاحتياط فيه واضح الفساد ، فإن الضابط في تأثير العلم الاجمالي : هو أن تكون نسبة المعلوم بالاجمال إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء ، بحيث تتولد من العلم الاجمالي قضية منفصلة على سبيل منع الخلو ، والمقام ليس من هذا القبيل ، فإن القضية المعلومة بالاجمال تنحل إلى قضيتين : قضية معلومة بالتفصيل وهي وجوب الأقل ، وقضية مشكوكة وهي وجوب الأكثر ، بل لا يصح إطلاق العلم الاجمالي على مثل ذلك ، كما لا يخفى.

الفصل الرابع

في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي

في الشبهة الوجوبية الحكمية في باب الاجزاء

كالشك في جزئية السورة للصلاة. وكان ينبغي أن يبحث في هذا الفصل

١٥٠

عما يعم الشروط ، لاتحاد حكم الاجزاء والشروط ، ولكن أفردنا البحث عن الشروط بفصل يخصها لنكتة يأتي التنبيه عليها ( إن شاء الله تعالى ).

وعلى كل حال : فقد اختلفت كلمات الأصحاب في جريان البراءة من وجوب الأكثر على أقوال ثلاثة ، فقيل : بعدم جريان البراءة مطلقا ، وقيل : بجريان البراءة مطلقا ، وقيل : بالتفصيل بين البراءة العقلية والشرعية ، وهو الأقوى.

وأضعف الأقوال : هو الأول ، فإنه لا وجه له إلا توهم : أن العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر يقتضي عدم جريان الأصول الشرعية والعقلية النافية للتكليف في كل من طرف الأقل أو الأكثر ، فلابد من الاحتياط بفعل الأكثر تحصيلا للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به ، هذا ولكن سيأتي ما يظهر منه ضعف هذا الوجه.

وأما وجه القول الثاني : فليس هو أيضا إلا تخيل انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في وجوب الأكثر ، وهذا هو الذي اختاره الشيخ قدس‌سره. وحاصل ما أفاده في وجه ذلك : هو أن المقتضي لجريان البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر موجود والمانع عنه مفقود.

أما وجود المقتضي : فلان الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو إلا الشك في التكليف النفسي المولوي الذي يستتبع مخالفته العقاب ، وفيما نحن فيه يشك في تعلق التكليف بالأكثر ، فالعقاب على تركه يكون بلا بيان ، وكذا الموضوع في أدلة البراءة الشرعية هو الجهل بالحكم الواقعي ، والمفروض في المقام هو الجهل بوجوب الأكثر ، فيعمه حديث الرفع ونحوه من الأدلة الشرعية.

وأما فقد المانع : فلان المانع المتوهم في جريان البراءة في الأكثر ليس هو إلا العلم الاجمالي بتعلق التكليف بالأقل أو الأكثر ، ولن ينحل العلم الاجمالي إلى

١٥١

العلم التفصيلي بتعلق التكليف بالأقل والشك البدوي في الأكثر ، فإن المعلوم بالاجمال ليس هو إلا خطابا واحدا نفسيا ، وتعلق هذا الخطاب بالأقل معلوم تفصيلا للعلم بوجوبه على كل حال ، سواء تعلق التكليف بالأكثر أو لم يتعلق.

وما تكرر في كلمات الشيخ قدس‌سره من أنه يعلم بتعلق التكليف بالأقل على كل تقدير سواء كان نفسيا أو مقدميا ، فليس ظاهره بمراد ، لان وجوب الأقل لا يكون مقدميا على كل حال ولو كان وجوبه في ضمن وجوب الأكثر وبتبع التكليف به ، لان الاجزاء لا تجب بالوجوب المقدمي الغيري ، بل إنما هي تجب بالوجوب النفسي المتعلق بالمركب المنبسط على كل واحد من الاجزاء ، لان المركب ليس إلا الاجزاء بأسرها ، فهي واجبة بعين وجوب الكل ، ومن هنا تصح دعوى العلم التفصيلي بتعلق التكليف النفسي بالأقل والشك في تعلقه بالأكثر ، فينحل العلم الاجمالي لا محالة.

هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره في وجه جريان البراءة العقلية والشرعية عن الأكثر ، بتحرير منا.

وقد أورد عليه بوجوه :

منها : ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية قدس‌سره من أن العلم بوجوب الأقل لا ينحل به العلم الاجمالي ، لتردد وجوبه بين المتباينين ، فإنه لا إشكال في مباينة الماهية بشرط شيء للماهية لا بشرط (١) لان أحدهما قسيم

__________________

١ ـ أقول : مرجع الشك في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر إلى أن شخص الوجوب المنبسط على الاجزاء محدود بنحو لا يشمل الزائد أو يشمل ، وعلى التقديرين لا يكون الواجب المعروض لهذا الوجوب محدودا في رتبة سابقه عن تعلق وجوبه ، كيف! وهذه القلة إنما طرء من جهة قصور الوجوب عن الشمول للزائد ، ومثل هذا الحد يستحيل أن يؤخذ في معروض الوجوب. نعم : يمتنع عن إطلاقه في المعروضية حتى مع الزائد ، لان معروض الوجوب هو المحدود بحد القلة ، كما أن اعتبار عدم الانضمام بالزائد خارجا أيضا لم يلحظ فيه ، وإلا فيخرج عن البحث ويدخل في المتبائنين ، كالقصر والاتمام ، فمن هذه

١٥٢

الآخر ، فلو كان متعلق التكليف هو الأقل فالتكليف به إنما يكون لا بشرط عن الزيادة ، ولو كان متعلق التكليف هو الأكثر فالتكليف بالأقل إنما يكون بشرط انضمامه مع الزيادة ، فوجوب الأقل يكون مرددا بين المتباينين باعتبار اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط أو بشرط شيء ، كما أن امتثال التكليف المتعلق بالأقل يختلف حسب اختلاف الوجوب المتعلق به ، فان امتثاله إنما يكون بانضمام الزائد إليه إذا كان التكليف به ملحوظا بشرط شيء ، بخلاف ما إذا كان ملحوظا لا بشرط ، فإنه لا يتوقف امتثاله على انضمام الزائد إليه ، فيرجع الشك في الأقل والأكثر الارتباطي إلى الشك بين المتباينين تكليفا

__________________

الجهة يكون المعروض لا بشرط محض ، ولكن معنى لا بشرطيته ليس إلا عدم إضرار انضمام الغير بوجوبه ، وإلا فالواجب في ظرف الانضمام وعدمه ليس إلا معنى واحدا ، وهو الذات المهملة المحفوظة في ضمن الانضمام بالغير تارة وعدمه أخرى ، وفي كل تقدير ليس المعروض إلا الذات الملازم لحد القلة لا المقيد به ، لما عرفت : من أن هذا الحد جاء من قبل الحكم والوجوب ، ولا يكون مثل هذا الحد مأخوذا في معروضه ، كما أن حد الكثرة أيضا لا يوجب تقيد الأقل المعروض للوجوب في ضمن الأكثر واشتراطه بكونه منضما بالأكثر ، إذ مثل هذه الضمنية التي هي منشأ ارتباط الاجزاء بالاجزاء إنما جاء من قبل وحدة الامر المتعلق بالجميع ، فيستحيل أخذ مثل هذه الحيثيات الناشئة من قبل الامر في معروض الامر ، فمعروض الامر أيضا ليس إلا ذوات الاجزاء عارية عن التقيد بالانضمام بالغير. نعم : عار عن الاطلاق أيضا ، فالمعروض للوجوب عند وجوب الأكثر أيضا ليس إلا ذات الأقل بنحو الاهمال ، لا المقيد بقيد الانضمام ، وحينئذ فالأقل بقصور الوجوب عن الشمول لغيره وعدم قصوره لا يكاد يختلف معروضيته للوجوب بحد من حدوده ، بل المعروض للوجوب على التقديرين هو الذات المهملة العارية عن الاطلاق والتقييد ، وحينئذ فعند الشك في حد الوجوب بين الأقل والأكثر لا يوجب اختلافا في حد الأقل الواجب مستقلا أم ضمنا ، فما هو واجب ضمنا بعينه هو واجب مستقلا ، وإنما الاختلاف في حد وجوبه من حيث انبساطه على الزائد منه أم لا ، وهذه الجهة غير مربوطة بواجبية الأقل ، فالواجب من الأقل ليس إلا مرتبة واحدة بحد واحد ، ضم إليه غيره في الوجوب أم لا ، وعليه فيستحيل تردد الأقل الواجب بين المتبائنين ، كما أن سعة انبساط الوجوب على الأكثر وعدمه أيضا لا يقتضي إلا اختلافا في حد الوجوب بلا اشتراطه بشيء ولا اختلافا في حقيقته ، كما لا يخفى.

١٥٣

وامتثالا. هذا حاصل ما أفاده المحقق (١) قدس‌سره بتحرير منا.

ولا يخفى فساده ، فان اختلاف سنخي الطلب لا دخل له في انحلال العلم الاجمالي وعدمه ، بل الانحلال يدور مدار العلم التفصيلي بوجوب أحد الأطراف (٢) بحيث يكون هو المتيقن في تعلق الطلب به ولو فرض الشك في كيفية التعلق وأنه طورا يكون لا بشرط وطورا يكون بشرط شئ.

وإن شئت قلت : إن الماهية لا بشرط والماهية بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لا جامع بينهما ، فان التقابل بينهما ليس من تقابل التضاد ، بل من تقابل العدم والملكة ، فان الماهية لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيدا في الماهية ، وإلا رجعت إلى الماهية بشرط لا ، ويلزم تداخل أقسام الماهية ، بل الماهية لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها لا لحاظ العدم ، ومن هنا قلنا : إن الاطلاق ليس أمرا وجوديا بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد ، خلافا لما ينسب إلى المشهور ـ كما ذكرنا تفصيله في مبحث المطلق والمقيد ـ فالماهية لا بشرط ليست مباينة بالهوية والحقيقة للماهية بشرط شيء بحيث لا يوجد بينهما جامع (٣) بل يجمعهما نفسا الماهية ، والتقابل بينهما إنما

__________________

١ ـ والعبارة التي وقفت عليها في الحاشية لا تنطبق على ذلك ، بل انطباقها على ما سيأتي من الوجه المختار أولى من انطباقها على المحكي ، فراجع ( منه ).

٢ ـ أقول : لو التزمت في المقام باختلاف سنخ الطلب وأن المعلوم بالاجمال هو اللابشرط الجامع بين الوجودين أو المشروط بالخصوصية الزائدة ، فلا محيص لك من الاحتياط ولا يفيدك الانحلال ، لان العلم بوجوب الأقل عين العلم الاجمالي بالجامع [ بين ] الوجوبين ، كما يعترف به بعد ذلك ، ولكن عمدة الكلام في المقام في ذلك من أنه من هذا الباب أو من باب العلم بشخص الوجوب المردد بين الحدين الوارد عليه تبادلا؟ فإنه حينئذ ليس الجامع اللابشرط جامعا بين الوجودين ، بل هو مجمع بين الحدين ، وفي مثله العلم الاجمالي قائم بين حدي الوجوب لا نفسه ، وهذا العلم لا اعتبار به كما شرحناه في الحاشية الآتية ، فراجع وتدبر.

٣ ـ أقول : وببيان أوضح نقول : إن مرجع اللابشرطية في المقام ليس إلى الجامع بين الواجد والفاقد

١٥٤

يكون بمجرد الاعتبار واللحاظ (١).

ففي ما نحن فيه ، الأقل يكون متيقن الاعتبار على كل حال ، سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء ، فان التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقل عن كونه متيقن الاعتبار ، هذا كله بحسب البرهان. وأما بحسب الوجدان فلا يكاد يمكن إنكار ثبوت العلم الوجداني بوجوب الأقل على كل حال ، كانت الماهيتان. متباينتين أو لم تكن ، فتأمل جيدا.

ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره من أن وجوب الأقل على كل تقدير يتوقف على تنجز التكليف على كل تقدير ، سواء كان متعلقا بالأقل أو بالأكثر ، فإنه لو لم يتنجز التكليف بالأكثر على تقدير أن يكون هو

__________________

بنحو كان قابلا للانطباق على كل منهما فعلا ، كما هو الشأن في بقية الجوامع بالنسبة إلى أفرادها ، بل المراد كون الواجب معنا محفوظا في أحد الحدين بنحو التبادل ، بمعنى كونه في مرتبة مخصوصة مجتمعة مع وجود شيء زائد عنها منضم بها وعدمه ، بحيث بضم الزائد به وعدمه لا يكاد ينقلب ما هو معروض الوجوب لا بذاته ولا بحده ، ومعلوم : أن هذه المرتبة محفوظة بنفس ذاته في ضمن الأكثر ، كما أنها محفوظة أيضا في ضمن حد القلة بلا دخل لهذا الحد على أي تقدير في عروض الوجوب على القليل ، بل الواجب ليس إلا المحفوظ بين الحدين. نعم : على تقدير كون الواجب هو الكثير ليس امتيازه عن القليل إلا بوجوب الزيادة لا يدخل شيء في معروضية الأقل للوجوب ، وحينئذ من أين يصير الأقل مرددا بين الحدين المتبائنين؟ كي يجيء في البين العلم الاجمالي في معروض الوجوب ، بل لا يكون في البين إلا علم تفصيلي بمرتبة من الواجب وشك بدوي بمرتبة أخرى.

نعم : العلم الاجمالي في المقام ليس إلا بين حدي الوجوب الطاري بالعرض على معروضه أيضا ، ومثل هذا المعنى خارج عن مصب حكم العقل بالامتثال ، كما لا يخفى.

ثم العجب من المقرر! حيث إنه بعين هذا الوجه الذي استشكل على المحقق المحشي في تقريب عدم الانحلال اختار هو في تقريبه ، وأظن أن ذلك من قصور العلم ، فياليت يوضح الفارق بين وجهه وكلام صاحب الحاشية بأزيد من ذلك! حتى نفهم! وإن كان ما شرحناه في شرح التردد بين الأقل والأكثر كافيا في الجزم ببطلان تقرير الاحتياط من قبل العلم الاجمالي وعدم الانحلال بأي نحو كان ، كما هو واضح.

١ ـ أقول : بل التقابل بينهما بسعة الوجود وضيقه ، وهو ليس اعتباريا محضا.

١٥٥

متعلق الطلب لم يجب الاتيان بالأقل ، لان وجوبه إنما يكون بتبع وجوب الأكثر ومقدمة لحصوله (١) فلو لم يتنجز الامر بذي المقدمة لا يلزم الاتيان بالمقدمة ، فوجوب الاتيان بالأقل على كل تقدير يتوقف على وجوب الاتيان بالأكثر على كل تقدير ، لأنه بعد فرض عدم تنجز التكليف بالأكثر على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف لا يلزم الاتيان بالأقل ، لاحتمال أن يكون وجوبه لأجل كونه مقدمة لوجود الأكثر ، ولا يجب الاتيان بالمقدمة عند عدم وجوب الاتيان بذي المقدمة ، فيلزم من وجوب الأقل على كل تقدير عدم وجوبه على كل تقدير ، وما يلزم من وجوبه عدمه محال. هذا حاصل ما أفاده في الكفاية على طبق ما ذكره في حاشية الفرائد.

ولا يخفى ما فيه ، فإنه يرد عليه :

أولا : أن ذلك مبني على أن يكون وجوب الأقل مقدميا على تقدير أن يكون متعلق التكليف هو الأكثر (٢) فيستقيم حينئذ ما أفاده : من أن العلم التفصيلي بوجوب أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع تردد وجوبه بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الطرف الآخر ـ على تقدير أن يكون هو الواجب المعلوم بالاجمال ـ لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، ألا ترى : أنه لو علم إجمالا بوجوب

__________________

١ ـ أقول : ليس نظره من التبعية إلى جهة المقدمية ، كيف! وهو ملتزم بوجوب الأقل نفسا ، بل نظره إلى تبعية الوجوب الضمني للوجوب المستقل في الفعلية والتنجز ، ومرجع كلامه إلى ملازمه تنجز الأقل لتنجز الأكثر على تقدير الضمنية ، فتدبر.

٢ ـ أقول : مجرد نفسية وجوب الأقل في المقام لا يجدي في الانحلال ، إلا على فرض تصور الاستقلال في تنجز الواجب الضمني وانفكاكه مع الأكثر في التنجز ، ونظر استاذنا الأعظم إلى هذه الجهة : من تبعية تنجز الواجب الضمني من الأقل للواجب المستقل من الأكثر ، كان وجوب الأقل نفسيا ضمنيا أو غيريا ، وحينئذ العمدة رفع هذه الشبهة والالتزام بامكان التفكيك بينهما في التنجز ، وهذا الالتزام على مبناه في غاية البعد ، لان التفكيك المزبور فرع صلاحية مجيء الواجب الضمني في العهدة مستقلا ، وهو مناف لضمنية الأقل وارتباطه بالأكثر ، فتدبر.

١٥٦

نصب السلم أو الصعود على السطح وتردد وجوب نصب السلم بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الصعود على السطح من باب الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها ، فالعلم التفصيلي بوجوب نصب السلم لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجوب النصب أو الصعود ، فان العلم التفصيلي بوجوبه يتوقف على وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلا بوجوب النصب ، لاحتمال أن يكون وجوبه غيريا متولدا من وجوب الصعود ، وذلك كله واضح.

إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما تقدم : من أن وجوب الأقل لا يكون إلا نفسيا على كل تقدير ، سواء كان متعلق التكليف هو الأقل أو الأكثر ، فان الاجزاء إنما تجب بعين وجوب الكل ، ولا يمكن أن يجتمع في الاجزاء كل من الوجوب النفسي والغيري.

وكلام الشيخ قدس‌سره في المقام وإن أوهم تعلق الوجوب الغيري بالأقل على تقدير وجوب الأكثر ، إلا أنه لابد من تأويل كلامه ، فإن ذلك خلاف ما بنى عليه في مبحث مقدمة الواجب.

فدعوى : أن وجوب الأقل على كل تقدير يتوقف على وجوب الأكثر على كل تقدير لاحتمال أن يكون وجوبه مقدميا واضحة الفساد ، لأنه لا يحتمل الوجوب المقدمي في طرف الأقل ، بل يعلم تفصيلا بوجوبه النفسي على كل تقدير ، كان التكليف متعلقا بالأكثر أو لم يكن ، فلا يلزم من انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل المحذور المتقدم ، لان المعلوم بالاجمال ليس إلا تكليفا نفسيا ، وهذا التكليف النفسي ممكن الانطباق على الأقل مع العلم التفصيلي بوجوبه (١) ولا يعتبر في انحلال العلم

__________________

١ ـ أقول : الغرض من وجوب الأقل وجوبه عقلا لا شرعا ، فلا يرد عليه ذلك الاشكال.

١٥٧

الاجمالي أزيد من ذلك.

وثانيا : أن دعوى توقف وجوب الأقل على تنجز التكليف بالأكثر لا تستقيم ولو فرض كون وجوبه مقدميا ، سواء أريد من وجوب الأقل تعلق (١) التكليف به أو تنجزه ، فإن وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر إنما يتوقف على تعلق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجز التكليف به ، لان وجوب المقدمة يتبع وجوب ذي المقدمة واقعا وإن لم يبلغ مرتبة التنجز ، وكذا تنجز التكليف بالأقل لا يتوقف على تنجز التكليف بالأكثر ، بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه (٢) فان تنجز كل تكليف إنما يتوقف على العلم بذلك التكليف ،

__________________

١ ـ في حاشية الفرائد ما يدفع هذا الاحتمال ، فإنه صرح فيها بعدم توقف تعلق نفس الطلب بالأقل على تنجز التكليف بالأكثر ، بل في الكفاية أيضا ما يدفع هذا الاحتمال ، فراجع وتأمل ( منه ).

٢ ـ أقول : وذلك هو العمدة في الاشكال عليه ، ومرجعه إلى منع الملازمة بين التنجيزين ، بشهادة جريان البراءة العقلية في البين ، ولكن نقول : بأنك لو التزمت بأخذ الارتباط في الاجزاء الواجبة في المرتبة السابقة عن الوجوب ، بحيث يكون مأخوذا في الواجب ـ كما هو صريح جملة من كلماتك ـ كيف مجيء الأقل مستقلا في عهدة المكلف بمحض العلم به؟ مع فرض الواجب هو الأكثر ، إذ اعتبار استقلال وجوده في العهدة بلا ضم غيره به ينافي ارتباطه بغيره ، وحينئذ كيف يعقل تنجز الأقل مستقلا بلا تنجز الأكثر؟ مع أنه لا نعني من تنجز إلا مجيئه في العهدة واعتبار وجوده فيه ، ولقد عرفت في الحاشية السابقة إرجاع كلمات أستاذنا إلى هذا البيان ، وحينئذ لا يصلح رده إلا ما أشرنا سابقا : بأن جهة الارتباط غير مأخوذ في موضوع الوجوب. وإنما جاء ذلك من قبل وحدة وجوبه الطاري على الاجزاء بأسرها ، فما هو مأخوذ في موضوع الوجوب في الرتبة السابقة عنه ليس إلا نفس الاجزاء بلا ارتباط لأحدهما بالآخر ، وإنما الوحدة والارتباط طاريتان عليها من قبل وحدة حكمه ومصلحته ، وحينئذ لا قصور في مجيء نفس المعروض في العهدة مستقلا بمحض العلم بوجوبه ولو ضمنيا ، ومن المعلوم حينئذ : أن هم العقل أيضا تحصيل الفراغ عما كان في العهدة بايجاده وإن يشك في سقوط وجوبه لقصور في نفس الوجوب عن السقوط ، لا لقصور في وجود متعلقه ، وأن ما قرع سمعك : من أن العقل عند اليقين بالاشتغال لا يكتفي بالشك بالفراغ ، مرجعه إلى عدم قناعته على الشك في إتيان ما جاء في العهدة بملاحظة قصور فيه نفسه ، لا من جهة قصور في سقوط حكمه : من احتمال ملازمة سقوطه مع مالا يتنجز

١٥٨

ولا دخل لتنجز تكليف آخر في ذلك ، فتأمل.

وعلى كل حال : لا يمكن الخدشة في جريان البراءة العقلية وفي انحلال العلم الاجمالي من هذه الجهة بعد البناء على كون الأقل واجبا نفسيا على كل تقدير.

وقد أورد على الانحلال بوجوه اخر ، ذكرها الشيخ مع الجواب عنها.

فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان المختار في وجه عدم جريان البراءة العقلية ، وعدم كفاية العلم التفصيلي بوجوب الأقل في انحلال العلم الاجمالي عقلا.

فنقول : إنه لا إشكال في أن العقل يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ، ضرورة أن الامتثال الاحتمالي إنما يقتضيه التكليف الاحتمالي ، وأما التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي ، لان العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلا ، ولا يكفي احتمال الفراغ ، فإنه يتنجز التكليف بالعلم به ولو إجمالا ، ويتم البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحة العقاب عليه ، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به لا يكون العقاب على تركه بلا بيان ، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.

ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقل عقلا ، لأنه يشك في الامتثال

__________________

من القطعة المشكوكة.

ومن هذا البيان ارتفع شبهة أخرى يتوهم ورودها ، وهي توهم أن الاشتغال بالأقل يقتضي الفراغ اليقيني عن الأقل بعد التسليم الانحلال وعدم المنجزية للعلم الاجمالي ، ومرجع هذا الكلام إلى أن العلم التفصيلي بوجوب الأقل يقتضي الفراغ عنه ، ولا يحصل ذلك إلا بالاتيان بالأكثر. والمقرر لو جعل نظره في وجه لزوم الأكثر إلى هذا الوجه ـ كما كان المترائي من بدو كلامه ذلك ـ لكان أولى ، وكان وجهه حينئذ ممتازا عن كلام المحقق صاحب الحاشية ، فيصلح رده طريقه الاحتياط واختيار ذلك ، ولكن ما قنع بذلك ووجهه بعين ما يرجع إلى كلام المحقق ، وأظن أن ذلك خلط من المقرر ، فتدبر.

١٥٩

والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.

والعلم التفصيلي (١) بوجوب الأقل المردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر (٢) ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ، لأنه يلزم أن يكون العلم الاجمالي موجبا لانحلال نفسه.

ومما ذكرنا يظهر ما في دعوى الشيخ قدس‌سره من أن التكليف المردد بين الأقل والأكثر يكون من التوسط في التنجيز عقلا ، بمعنى : أن متعلق التكليف إن كان هو الأقل فالتكليف به يكون منجزا عند العقل ، وإن كان هو الأكثر فالتكليف به لا يكون منجزا ، فان هذه الدعوى بمكان من الفساد (٣) ضرورة أن التنجيز يدور مدار العلم بالتكليف ولو إجمالا ، والمفروض : أنه قد علم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ، فما هو شرط التنجيز عند العقل قد تحقق في كل من الأقل والأكثر.

نعم : تصح دعوى التوسط في التنجيز بعد البناء على جريان البراءة الشرعية ورفع التكليف عن الأكثر بأدلة البراءة ـ على ما سيأتي بيانه ـ.

وأما لو منعنا عن جريان البراءة الشرعية وكان الامر موكولا إلى نظر العقل فقط ، فالتكليف عند العقل قد تنجز على كل تقدير ، سواء تعلق بالأقل أو

__________________

١ ـ أقول : لو لم يكن هذه الضميمة وقنع بالبيان السابق لكان ممتازا عن وجه المحقق ، ومع هذه الضميمة فياليت نفهم الفارق بين مختاره ومختار المحقق الذي كان مردودا ومختاره معقولا.

٢ ـ أقول : قد تكرر منا أن ما هو طرف العلم الاجمالي في المقام هو حد التكليف لا نفسه ، وهذا الاحتمال خارج عن مصب حكم العقل ، إذ ليس مصبه إلا ذات التكليف المعلوم تفصيلا المشكوك حدا.

٣ ـ أقول : لو تأملت فيما ذكرنا في شرح الأقل والأكثر ترى فساد تلك الكلمات ، لا كلام شيخنا الأعظم.

١٦٠