فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

١
٢

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. وبعد ، فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا الموسوم ب‍ « فوائد الأصول » وهو يشتمل على مهمات مباحث الاشتغال والاستصحاب والتعادل والتراجيح ، وهي نتيجة ما تلقيته من بحث شيخنا الأستاذ ، الامام الفقيه ، علم العلم وبدر سمائه ومشكاة نوره ، مفصل الصواب وفصل الخطاب ، من قد استبطن أسرار العلوم واستجلى غوامضها ومحص حقائقها وأحصى مسائلها وأحاط بفروعها وأصولها ومعقولها ومنقولها ، صدر العلماء وعين الفقهاء ، قبلة المشتغلين وخاتمة المجتهدين آية الله في العالمين ، من قد ألقت له الرياسة الدينية أزمتها في أواسط القرن الرابع عشر ، حضرة « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » متع الله الاسلام بشريف وجوده ، آمين.

٣

الفصل الثاني

من المقام الثالث

في الشك في المكلف به

والكلام فيه يقع في مقامين :

المقام الأول : في تردد المكلف به بين المتباينين.

المقام الثاني : في تردده بين الأقل والأكثر.

أما المقام الأول

ففيه مباحث. وقبل الخوض فيها ينبغي تقديم أمور :

الأول :

في ضابط الشك في المكلف به.

وحاصله : أن رجوع الشك إلى المكلف به لا يكون إلا بعد العلم بالتكليف في الجملة ، وإلا كان من الشك في التكليف لا المكلف به.

وتوضيح ذلك : هو أنه قد تكرر منا أن القضايا المتضمنة للأحكام الشرعية

٤

ليست من القضايا الشخصية الخارجية (١) بل هي من القضايا الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها (٢) وهي بمنزلة

__________________

بسم الله الرحمن الرحيم

١ ـ أقول : لا يخفى أن مفاد القضايا الحقيقية على فرض تسليمها في القضايا الطلبية والخطابات التكليفية يس إلا فعلية الحكم واقعا بوجود موضوعه واقعا ، من دون اقتضاء هذا المقدار العلم به وجدانا ، فترتب لعلم بوجود الموضوع لابد من مقدمة أخرى غير مرتبطة بلوازم القضية ، خارجية كانت أم حقيقية ، فجعل هذه الجهة مقدمة لتوضيح المرام لا يخلو عن غضاضة. ثم إن ما ذكر إنما في التكاليف المنوطة بوجود الشيء خارجا ، وأما التكاليف المطلقة مثل « أقيموا الصلاة » وأمثاله ، فلا يكون تنجز التكليف إلا بالعلم بالكبرى محضا بلا احتياج إلى العلم بشيء آخر ، كما لا يخفى.

٢ ـ أقول : قد تقدم منا في مباحث الألفاظ بأن القضية الحقيقية بعدما لا يكون إلا إنشاء الحكم على موضوع أعم من الفعلية والفرضية ، فلا محيص من كونه بفعلية وجود موضوعه فعليا ، وبفرضه فرضيا ، نظير « النار حارة » وبعد ذلك نقول أيضا : إن هذه القضية غير متكفل لمقام العلم بالصغرى أو الكبرى ، بل لابد وأن يكون العلم المزبور من أسباب خارجة عن مفاد هذه القضية ، فهذه القضية داخلة في الخطابات الواقعية المشتركة بين العالم والجاهل ، وبعد ذلك نسئل بأنه في ظرف وجود موضوعه واقعا مع جهل المكلف به ، فأي مرتبة من الحكم يصير فعليا؟ فان أريد مرتبة محركية العبد نحو العمل فهو غلط واضح مع وجود قبح العقاب بلا بيان ، وإن أريد مرتبة محركية اشتياقه بالعمل للمولى ـ لصيرورته بصدد إبراز اشتياقه وتهيئة أسباب تحريك عبده في ظرف تحقق شرائط التنجز على عبده ـ فهو فعلا قبل وجود موضوعه حاصل ، وحينئذ فأي شيء أريد من الحكم الذي بفعلية موضوعه يصير فعليا؟ وبفرضه يكون فرضيا ، الذي هو شأن القضايا الحقيقية. وتوهم الجعل في حقيقة الحكم التكليفي كالوضعي أيضا من الأغلاط ، إذ بعد إبراز المولى إرادته واشتياقه يكفي ذلك ، لحكم العقل بالامتثال ولو لم تكن في البين جعل أصلا ، مع أن مرتبة محركية الاشتياق في ظرف وجود الموضوع الذي هو المسمى بالإرادة فرع وجود الاشتياق عند وجود الموضوع ، والحال ان كثيرا ما يكون المولى في هذا الحين في حال لا يتمشى منه الإرادة والاشتياق ، بل ربما يكون اميتا ، كما في الوصية بنحو القضية الحقيقية ، كقوله : « كل من دخل داري فأكرموه » فأنشدكم بالله! اي حكم يصير فعليا بفعلية موضوعه بعد موته؟ فلا محيص إلا ان تقول حينئذ بان الحكم هو الايجاب المجعول بلا إرادة حين وجوده ، وهذا المعنى مما يضحك به الثكلى! فهل بذلك حينئذ إلا من الالتزام بعدم جريان القضايا الحقيقية في الطلبيات ، وان مثل هذا التقسيم إنما هو في محمولات تكون ظرف عروضها

٥

الكبريات لأقيسة الاستنباط ولابد في تحقق الحكم وفعليته من وجود الموضوع خارجا ، ويكون ذلك بمنزلة الصغرى لتلك الكبرى المجعولة الشرعية ، والنتيجة هي الحكم الفعلي الشرعي الذي يستتبع عصيانه وإطاعته العقاب والثواب. فقول الشارع : « الخمر حرام » إنما هو كبرى كلية لا يستتبع العلم بها شيئا من الثواب والعقاب ما لم ينضم إليها صغرى وجدانية ليتألف قياس الاستنباط من تلك الصغرى الوجدانية والكبرى المجعولة الشرعية ، فيقال : « هذا خمر ، وكل خمر يحرم شربه » والنتيجة هي الحكم الشرعي المستتبع موافقته ومخالفته للثواب والعقاب : فيتوقف العلم بالحكم الشرعي الفعلي على العلم بكل من الصغرى والكبرى ، ولا يكاد يحصل العلم بالحكم مع الشك في إحديهما ولو مع العلم بالأخرى ، بل يكون ذلك من الشك في التكليف لا المكلف به.

فضابط الشك في التكليف : هو رجوع الشك ، إما إلى تحقق الصغرى خارجا ، وإما إلى جعل الكبرى شرعا (١) غايته : أنه إن كان الشك في تحقق الصغرى تكون الشبهة موضوعية ، وإن كان في جعل الكبرى تكون الشبهة حكمية. ومنشأ الشك في الصغرى أحد موجبات الجهل بوجود الموضوع ، وفي الكبرى فقد النص أو إجماله أو تعارضه. وقد تقدم الكلام فيها.

وضابط الشك في المكلف به : هو رجوع الشك ، إما إلى نفس متعلق التكليف وهو الفعل أو الترك المطالب به أو بنقيضه ، وإما إلى متعلق المتعلق وهو الموضوع الخارجي لأجل تردده بين أمور بعد العلم بتحققه خارجا أو ما هو بمنزلة العلم من الامارات والأصول الشرعية.

* * *

__________________

واتصافها خارجيا ، ولا يشمل الأمورات التي لا تكون ظرف عروضها إلا ذهنا بلا تبعيتها لوجوداتها خارجا.

١ ـ ولا فرق في ذلك بين الشك في أصل جعل الكبرى أو الشك في قيدية شيء لها بناء على المختار من جريان البراءة في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( منه ).

٦

الثاني :

في أقسام الشك في المكلف به : وهي كثيرة ، لأن الشك إما أن يكون في متعلق التكليف ، وإما أن يكون في متعلق المتعلق.

فعلى الأول : إما أن يكون الشك في تحقق المتعلق خارجا بعد العلم بجنس التكليف وفصله ، وجنس المتعلق وفصله (١) وينحصر ذلك ظاهرا بموارد الشك في المحصل والفراغ (٢) على ما يأتي تفصيله.

وإما أن يكون الشك في فصل المتعلق مع العلم بجنسه وجنس التكليف وفصله ، كما إذا علم بوجوب الصلاة في يوم الجمعة وشك في أنها الظهر أو الجمعة

وإما أن يكون في جنس المتعلق مع العلم بجنس التكليف وفصله ، كما إذا شك في وجوب الصلاة أو الزكاة مع العلم بوجوب أحدهما إجمالا.

وإما أن يكون في فصل التكليف ، وهذا قد يكون مع العلم بجنس المتعلق وفصله ، كما إذا علم بتعلق الالزام بالفعل الخاص وشك في أنه الوجوب أو الحرمة.

وقد يكون مع الشك في فصل المتعلق مع العلم بجنسه أو مع الشك في جنسه أيضا ، كما إذا شك في وجوب صلاة الظهر أو حرمة الجمعة مع العلم بإحديهما إجمالا ، أو شك في وجوب الصلاة أو حرمة الغناء كذلك.

وأما الشك في جنس التكليف فهو ليس من أقسام الشك في المكلف به ، فإنه يعتبر في جميع أقسام الشك في المكلف به العلم بجنس التكليف.

وعلى الثاني : فإما أن تكون الشبهة وجوبية ، وإما أن تكون تحريمية. وعلى

__________________

١ ـ أقول : هذا التشقيق أجنبي عن المقام ، ولا مجال لتصحيحه حتى بالعناية.

٢ ـ لا يخفى أن الشك في المحصل لا يرجع إلى الشك في متعلق التكليف إلا بنحو من العناية ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ( منه ).

٧

كلا التقديرين : إما أن يتردد متعلق المتعلق بين أمور محصورة ، وإما أن يتردد بين أمور غير محصورة ، على ما سيأتي من الضابط لهما.

فهذه جملة الأقسام المتصورة في الشك في المكلف به المردد بين المتباينين.

وأما المردد بين الأقل والأكثر : فأقسامه أيضا كثيرة يأتي تفصيلها في المقام الثاني

والأقوى في جميع الأقسام المذكورة للشك في المكلف به المردد بين المتباينين هو وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، إلا إذا كان هناك مانع عقلي كما في موارد دوران الامر بين المحذورين على ما تقدم بيانه ، أو مانع شرعي كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز أو غير ذلك : وسيأتي بيانه.

الثالث :

البحث عن وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية في موارد الشك في المكلف به إنما يقع بعد الفراغ عن ثبوت التكاليف الواقعية وإطلاق أدلتها وعدم تقييدها بصورة العلم (١) حكما وموضوعا وبعد كون الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الامرية من غير دخل للعلم في ذلك (٢) بداهة أن مسألة دخل العلم في معاني الألفاظ إنما هي من المسائل اللغوية ، ومسألة إطلاق الأدلة من المسائل الفقهية ، والبحث عنهما لا يناسب الأصولي ، مع أن كلا من المسألتين من المسائل الواضحة المتسالم عليها ، فالمبحوث عنه في المقام إنما هو ثبوت الرخصة الظاهرية التي اقتضتها الأصول العملية وعدم ثبوتها مع بقاء الواقع على ما هو عليه من غير تقييد ولا نسخ ولا تصويب.

__________________

١ ـ أقول : أي التفصيلي ، وإلا فالعلم الاجمالي غير مانع عن الجريان في المقام.

٢ ـ أقول : مع أن محط الكلام بعد الفراغ عن العلم بأي وجه بلا احتياج إلى النزاع في مسألة أخرى ، كما هو واضح.

٨

إذا انمهدت هذه الأمور فالكلام يقع في المباحث

المبحث الأول

في الشك في المكلف به في الشبهة الموضوعية التحريمية

وإنما قدمناها على الشبهة الوجوبية لقوة المخالف فيها ، حيث ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعية في الشبهة التحريمية بعض من قال : بأن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، لتوهم شمول مثل قوله عليه‌السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (١) لموارد العلم الاجمالي في الشبهة التحريمية الموضوعية ، وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإنه لم يخالف في حرمة المخالفة القطعية فيها كل من قال : بأن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، إلا بعض من لا يعتد بخلافه.

نعم : من قال : بأن العلم الاجمالي لا يقتضي التنجيز كما نسب إلى المحقق الخونساري رحمه‌الله لابد له من الالتزام بعدم حرمة المخالفة القطعية مطلقا في الشبهة الوجوبية والتحريمية. وعلى كل حال. البحث عن الشبهة التحريمية الموضوعية في الشك في المكلف به يقع في مقامين :

المقام الأول : في الشبهة المحصورة.

المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة.

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١ ولفظ الحديث « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ».

٩

أما المقام الأول :

فالكلام فيه يقع من جهتين :

الأولى : في حرمة المخالفة القطعية.

الثانية : في وجوب الموافقة القطعية.

أما الجهة الأولى :

فالأقوى فيها حرمة المخالفة القطعية ، ويتضح وجهه بالتنبيه على أمر قد تقدم بيانه في مبحث القطع والظن ، وهو أن الاحكام الظاهرية المجعولة في باب الطرق والامارات والأصول بعد اشتراكها في أخذ الشك في مؤدياتها إما موضوعا كما في الأصول وإما موردا كما في الامارات ، تمتاز بعضها عن بعض باعتبار اختلاف ما هو المجعول فيها ، فان المجعول في باب الامارات هو نفس الطريقية والوسطية في الاثبات ، والمجعول في باب الأصول التنزيلية هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر ، والمجعول في باب الأصول الغير التنزيلية هو مجرد الجري العملي وتطبيق العمل على أحد طرفي الشك لا على أنه هو الواقع.

وقد تقدم تفصيل ذلك كله في مبحث الظن عند الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي. والغرض من إعادته جرد التنبيه عليه لتكون على ذكر منه حيث إنه ينفعك في المقام.

وبعد ذلك نقول : إن الأصول العملية تختلف من حيث الجريان وعدم الجريان في أطراف العلم الاجمالي حسب اختلاف المجعول فيها وحسب اختلاف المعلوم بالاجمال.

وتوضيح ذلك : هو أن العلم الاجمالي عبارة عن خلط علم بجهل ، وتنحل القضية المعلومة بالاجمال إلى قضية معلومة بالتفصيل على سبيل منع الخلو في

١٠

ضمن جميع الأطراف وقضيتين مشكوكتين في كل طرف بالخصوص (١) فلو

__________________

١ ـ أقول : مقتضى التحقيق أن يقال : إن العلم تارة يتعلق بعنوان إجمالي بشيء ، وأخرى يتعلق بعنوان تفصيلي له ، والأول هو المسمى بالعلم الاجمالي ، والثاني بالعلم التفصيلي ، ومرجع الفرق بينهما إلى التفصيل والاجمال في معروض العلم ومتعلقه ، وإلا ففي نفس العلم لا فرق بينهما ، وحينئذ لا مجال لاتصاف العلم بالتفصيلي إلا مع كون متعلقه عنوانا تفصيليا لشيء ، وإلا فمع إجمال متعلقه لا محيص إلا من كونه إجماليا ، والتعبير عنه حينئذ بالعلم التفصيلي في غير محله.

ثم إن من لوازم العلم بالعنوان الاجمالي محضا الشك بعنوان كل واحد من طرفيه تفصيلا ، ولذلك يكون العلم الاجمالي توأما مع الشكين تفصيليين أو أزيد ، حسب ازدياد طرف العلم عن الاثنين ، وحيث إن قوام العلم والشك في عالم العروض بنفس العنوان من دون سرايته منه إلى المعنون ـ ولذا يكون الخارج ظرف اتصافه بالمعلومية أو المشكوكية ، وإلا فظرف عروضه ليس إلا الذهن ، بشهادة أنه ربما لا يكون موجودا في الخارج ، مع أن العلم والشك وأمثالهما من الصفات المتقومة بوجود المعروض موجود فلا محيص من أن يكون معروضها المقوم بوجودها ما هو المخزون في الذهن ، غاية الامر في عالم عروضها عليه لابد وأن يلحظ الموجود الذهني بنحو الفناء في الخارجيات ، بمعنى كونه ملحوظا خارجيا بلا نظر إلى حيث ذهنيته. وبعدما كان كذلك ، فنقول : من البديهي أن العنوان الاجمالي في عالم العنوانية مبائن مع العنوان التفصيلي وإن اتحدا وجودا ولازمه عدم سراية العلم الاجمالي القائم بعنوانه إلى المعنون التفصيلي ، إذ في عالم العروض كل واحد من العناوين الاجمالية والتفصيلية غير الآخر ، فالعارض لاحد العنوانين غير عارض للآخر ، ومن ذلك يجتمع الشك بالعنوان التفصيلي مع العلم بالعنوان الاجمالي مع اتحادهما وجودا وخارجا ، ولولا تباين المعروضين للزم اجتماع اليقين والشك في شيء واحد ، مع أن التضاد بين اليقين والشك كالنار على المنار ، وذلك أيضا شاهد صدق على عدم سراية هذه الصفات إلى الوجود الخارجي ، بل وقوفها بنفس العنوان ، فان العنوانين حينئذ لما كانا متباينان لا يبقى جهة تضاد بينهما ، لعروض كل منهما بعنوان غير معروض الآخر. وحيث عرفت ذلك نقول : في فرض دوران الامر بين المعروضين ما هو معروض العلم هو عنوان « أحد الامرين » لا خصوص الفعل ولا خصوص الترك ، فكل واحد من الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي لهما تحت الشك ، وحينئذ فلو كان موضوع الإباحة التعبدية الشك في لزوم الفعل أو الترك ، فكل واحد بعنوان الفعل أو الترك مشكوك ، وإن كان بعنوان أحدهما معلوم الالزام ، وعليه فلو ورد في البين ترخيص في فعله وتركه ، لا يكاد يشمل هذا الترخيص التعبدي أزيد من الفعل المشكوك والترك المشكوك ، ولا يكاد يشمل العنوان الاجمالي المعلوم ، كي لا يصح التعبد بالنسبة إليه ، ولكن ذلك المقدار لا يفيد ولا يقتضي

١١

علم بوجوب أحد الشيئين أو الأشياء ، فهنا قضية معلومة تفصيلا وهي وجوب أحدهما على سبيل منع الخلو ، وقضيتان مشكوكتان إحداهما : وجوب هذا الطرف بالخصوص ، والأخرى : وجوب الطرف الآخر كذلك. ولو كانت الأطراف متعددة فالقضايا المشكوكة تزيد بمقدار عدد الأطراف.

ومن المعلوم : أن رتبة الحكم الظاهري ليست محفوظة بالنسبة إلى نفس القضية المعلومة بالتفصيل : لان الجهل مما لابد منه في كل حكم ظاهري ، أمارة كان أو أصلا تنزيليا أو غير تنزيلي ، فلا مجال للتعبد بكل أمارة أو أصل كان مؤداه مماثلا أو مضادا لنفس المعلوم بالاجمال : فلو فرض أن هناك أصلا كان مؤداه مضادا لنفس المعلوم بالاجمال ، فهذا الأصل لا يجري ، وينحصر ذلك (١) ظاهرا في أصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين : لما تقدم في تلك المسألة من أن أصالة الإباحة تقابل نفس المعلوم ، فلو علم إجمالا بوجوب فعل شيء أو تركه ، فأصالة الإباحة من الفعل تقتضي الرخصة في كل من الفعل والترك وكذا أصالة الإباحة من الترك تقتضي ذلك ، وهذا ينافي العلم

__________________

في منع شموله للطرفين تفصيلا من عنوان الفعل والترك ، والمفروض أن أصل الإباحة التعبدية أيضا لا يقتضي أزيد من الترخيص في طرفي الفعل والترك ، ولا يشمل لعنوان أحدهما المبائن مع عنواني الفعل والترك ، كي يلزم عدم صحة التعبد بالإباحة في مورد العلم بالمحذورين.

وتوهم عدم جريان أصالة الإباحة في المحذورين دون سائر الأصول الجارية في الطرفين في غاية الدفع ، وحينئذ لا يبقى في البين إلا شبهة مضادة الترخيصين مع الالزام الواقع ، وبعد إمكان الجمع بين الإباحة الظاهرية مع اللزوم الواقعي لا يبقى مانع عن الجريان إلا حيث تنجيز الواقع ، ومع عدم تنجزه أيضا بحكم العقل لا يبقى مجال لرفع اليد عن إطلاق أصالة الحلية في مثل المورد ـ كاطلاق أدلة سائر الأصول للطرفين ولو لدفع احتمال ايجاب الاحتياط الشرعي في البين ـ كي يتوهم بأن مع حكم العقل تنجزيا بالتخيير لا مجال لجريان الترخيص الشرعي ، كما لا يخفى.

١ ـ سيأتي في بعض المباحث أن قاعدة الفراغ في بعض موارد الشك في أفعال الصلاة يكون مؤداها مضادا للمعلوم بالاجمال أيضا ( منه ).

١٢

بوجوب الفعل أو الترك ، فأصالة الإباحة لا تجري في كل من طرفي الفعل والترك ، لأن مفادها يضاد المعلوم بالاجمال ، فلا موضوع لها ، لما عرفت : من أن الشك قد اخذ موضوعا في الأصول العملية مطلقا.

وأما ما عدا أصالة الإباحة من البراءة والاستصحاب في مسألة دوران الامر بين المحذورين ومطلق الأصول حتى أصالة الإباحة في غير تلك المسألة ، فلا يقابل شيء منها نفس المعلوم بالاجمال ، ولا تكون مؤدياتها مضادة لما هو المحرز بالوجدان ، لأنها إنما تجري في الأطراف وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فان كل واحد من الشيئين اللذين علم بوجوب أحدهما أو الانائين اللذين علم بنجاسة أحدهما مشكوك الوجوب والطهارة ، وأصالة البراءة أو الطهارة إنما تجري في كل واحد من الشيئين أو الانائين بخصوصه ، وليس مؤداها عدم وجوب أحدهما إجمالا أو عدم نجاسة أحدهما كذلك لينافي العلم الاجمالي بوجوب أحدهما أو نجاسة أحدهما ، بل مؤداها عدم وجوب هذا الشيء بخصوصه وعدم وجوب الشيء الآخر بخصوصه ، وكل من الشيئين بخصوصه لم يتعلق العلم بوجوبه ، فلا يكون مؤدى الأصلين في كل واحد من الطرفين مضادا لنفس المعلوم بالاجمال.

نعم : قد تقدم منا الاشكال في جريان البراءة والاستصحاب في دوران الامر بين المحذورين ، إلا أن الاشكال ليس من جهة انتفاء الموضوع بل من جهة أخرى : لأنه لا يعتبر في موضوع الأصل أزيد من الجهل بالحكم ، وكل من الفعل أو الترك بخصوصه عند العلم بوجوب أحدهما مشكوك الوجوب والبرائة والاستصحاب إنما يجري في كل من الفعل والترك بخصوصه ، فلا يضاد مفاد البراءة والاستصحاب نفس المعلوم بالاجمال ، وهذا بخلاف أصالة الإباحة ، فان مفادها يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، لما عرفت من أن معنى أصالة الإباحة في الفعل هو الرخصة في الفعل والترك وعدم وجوب أحدهما ، وهو ينافي العلم

١٣

بوجوب أحدهما ، فالفرق بين أصالة الإباحة وسائر الأصول مما لا يكاد يخفى.

فتحصل مما ذكرنا : أن إشكال انتفاء الموضوع ينحصر بأصالة الإباحة في خصوص مقام دوران الامر بين المحذورين ، دون ساير الأصول في ذلك المقام ، ودون مطلق الأصول في غير ذلك المقام.

نعم : في خصوص الأصول التنزيلية المحرزة كالاستصحاب جهة أخرى غير انتفاء الموضوع تمنع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي ، وهي قصور المجعول فيها عن شموله لأطراف العلم الاجمالي.

وتوضيح ذلك : هو أن المجعول في الأصول التنزيلية ـ على ما عرفت ـ إنما هو البناء العملي والاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر وجعل الشك كالعدم في عالم التشريع ، فان الظاهر من قوله عليه‌السلام ـ في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك » هو البناء العملي على بقاء المتيقن وتنزيل حال الشك منزلة حال اليقين والاحراز ، على ما سيأتي توضيحه في محله.

وهذا المعنى من الحكم الظاهري في الشبهات البدوية الغير المقرونة بالعلم الاجمالي يمكن جعله ، وكذا المقرونة بالعلم الاجمالي لكن بالنسبة إلى بعض الأطراف. وأما بالنسبة إلى جميع الأطراف ، فلا يمكن مثل هذا الجعل ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف وانقلاب الاحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف إلى إحراز آخر يضاده (١) ومعه كيف يمكن الحكم ببقاء الاحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبدا ، فان الاحراز التعبدي لا يجتمع مع

__________________

١ ـ أقول : الذي انتقض إنما هو العلم بطهارة أحدهما ، وإلا فالعلم بطهارة كل عنوان تفصيلي ما انتقض أبدا. ولئن شئت قلت : بأن ما نحن فيه من قبيل انتقاض العلم بطهارة أحدهما ، لا انتقاض أحد العلمين بالطرفين تفصيلا ، بل العلم بطهارة كل منهما مما شك في بقائه بلا انتقاضه بعلم آخر ، فتدبر.

١٤

الاحراز الوجداني بالخلاف.

والحاصل : أنه لا يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في كل من الانائين مع العلم بنجاسة أحدهما.

نعم : يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في أحد الانائين دون الآخر ، لأنه لا يعلم بنجاسته بالخصوص ، فالذي لا يمكن هو الجمع بين الحكمين وجعل الاستصحابين معا ، وهذا من غير فرق بين أن يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية كالمثال ، حيث إن استصحاب طهارة كل من الانائين يقتضي جواز استعمال كل منهما في مشروط الطهارة ، فيلزم مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين وهو وجوب الاجتناب عن النجس منهما وعدم جواز استعماله في مشروط الطهارة (١) وبين أن لا يلزم من جريانهما مخالفة عملية ، كما إذا كان الاناءان مقطوعي النجاسة سابقا وعلم بطهارة أحدهما لاحقا ، فإنه لا يلزم من استصحاب نجاسة كل منهما مخالفة عملية ، لان العلم بطهارة أحدهما لا يقتضي تكليفا ليلزم من جريانهما مخالفة عملية ، لما عرفت من عدم إمكان الحكم ببقاء المستصحبين مع العلم بانتقاض أحدهما ، وهذا يرجع إلى عدم إمكان الجعل ثبوتا (٢) ولا دخل للمخالفة العملية وعدمها في ذلك. ويترتب على ذلك عدم

__________________

١ ـ أقول : إن مفاد الأصل المزبور أيضا هو الترخيص في طرفي العلم ـ كما عرفت في الحاشية السابقة ـ لا في نفس المعلوم ، فمع تلك الجهة حالها حال سائر الأصول ، غاية الامر الفرق بينهما في اقتضاء أصالة الإباحة الترخيص في طرفي العلم بتطبيق واحد وفي البقية بتطبيقين ، وذلك المقدار لا يجدي فرقا في الجهة المهمة ، كما هو واضح.

٢ ـ أقول : بعدما عرفت شرح العلم الاجمالي وأنه لا يكاد إلا أن يتعلق بالعنوان الاجمالي من دون سرايته إلى العنوان التفصيلي وأنه كان باقيا على مشكوكيته ، نقول : إن مفاد « لا تنقض اليقين » بعدما لا يكون إلا إبقاء المتيقن في ظرف الشك لا تنزيل الشك منزلة اليقين ـ كما سيجيء توضيح هذه الجهة أيضا في مقام محكومية الاستصحاب للامارة وحكومته على سائر الأصول المأخوذ في موضوعها عدم العلم والمعرفة ـ لا شبهة في أن الحكم بإبقاء النجاسة في كل واحد من الطرفين تفصيلا أو التعبد باليقين به في

١٥

نجاسة الملاقي لاحد الانائين في المثال الأخير ، لعدم جريان استصحاب النجاسة فيهما ليحكم بنجاسة الملاقي لأحدهما ، وسيأتي في أواخر الاستصحاب مزيد توضيح لذلك مع بعض ما يرد عليه من النقوض والجواب عنها.

فتحصل مما ذكرنا : أن المانع من جريان الأصول التنزيلية في أطراف العلم الاجمالي ليس هو انتفاء الموضوع ولا المخالفة العملية ، بل لان المجعول فيها معنى لا يعقل ثبوته في جميع الأطراف.

وأما الأصول الغير التنزيلية ـ كأصالة الطهارة والبرائة والحل ونحو ذلك ـ فلا

__________________

ظرف شكه كيف ينافي مع العلم بعدم بقاء السابق بعنوانه الاجمالي؟ إذ الاحراز التعبدي في كل مشكوك تفصيلي كيف ينافي مع إحراز عدمه بعنوانه الاجمالي؟ فكما أن هذا الاحراز الوجداني لا ينافي الشك فيه ولا عدم إحرازه بعنوانه التفصيلي ولو كانا في الواقع متحدين وجودا ـ مع أن الشك واليقين من المتضادات ـ فكيف يضاد مثل هذا اليقين الوجداني الاجمالي ما هو من أحكام هذا الشك القائم بعنوانه التفصيلي المعبر عنه بالاحراز التعبدي. نعم : لو كان اليقين الاجمالي قابلا للسريان إلى العنوان التفصيلي واقعا ، كان لما أفيد وجه ، إذ الاحراز التعبدي لا يعقل مع إحراز عدم الحالة السابقة إجمالا في مورد واحد ، وأما بعد بداهة عدم السراية ـ بشهادة اجتماع الشك واليقين في وجود واحد خارجي بتوسط العناوين الاجمالية والتفصيلية ـ لا مجال لانكار الجمع بين إحراز نجاسة كل منهما تفصيلا تعبدا مع العلم بطهارة أحدهما بهذا العنوان الاجمالي ، وحينئذ لا مانع في مثل هذه الأصول أيضا إلا مجرد المخالفة العملية ، وسيجئ توضيح هذه الجهة أيضا عند تعرضه في محله حسب وعدته ( إن شاء الله تعالى ).

وبالجملة نقول : إن ما أفيد من الجزم بانقلاب اليقين السابق بيقين بضده ، ومع هذا الجزم الوجداني كيف يعقل الحكم ببقاء اليقين السابق تعبدا في الطرفين؟ يسئل منه : أن ما هو منقلب إلى اليقين بالخلاف هو اليقين بنجاسة كأس زيد أو اليقين بنجاسة كأس عمرو بعنوانهما التفصيلي ، حاشا! بل المنقلب هو أحد اليقين أو اليقين بأحدهما بهذا العنوان الاجمالي.

ومن المعلوم أيضا : أن موضوع الابقاء التعبدي ليس اليقين بأحدهما ولا أحد اليقينين بهذا العنوان الاجمالي بل الموضوع هو اليقين بكأس زيد واليقين بكأس عمرو ، وفي هذين لانقطع بانقلابه إلى اليقين بالخلاف، فلا وجه لعدم شمول دليل التعبد لهما بهذين العنوانين التفصيليين ، كما لا يخفى.

١٦

مانع من جريانها في أطراف العلم الاجمالي إلا المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين ، فهي لا تجري إن لزم من جريانها مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، وتجري إن لم يستلزم ذلك.

والسرّ فيه : هو أن المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون تنزيل المؤدى منزلة الواقع المشكوك فيه ، كما كان هو المجعول في الأصول التنزيلية ، فان مفاد أصالة الإباحة هو مجرد الترخيص الظاهري وعدم المنع من الفعل والترك : ولا مانع من الترخيص الظاهري في كل واحد من الأطراف من حيث نفسه مع قطع النظر عن استلزامه المخالفة العملية ، فإنه لا يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، لان الترخيص يرد على كل طرف بخصوصه في غير دوران الامر بين المحذورين ، وكل طرف بالخصوص مجهول الحكم ، فالموضوع للترخيص الظاهري محفوظ في كل واحد من الأطراف : وليس فيه جهة إحراز وتنزيل للواقع المشكوك فيه حتى يضاد الاحراز التعبدي في كل طرف للاحراز الوجداني بالخلاف في أحد الأطراف ، فينحصر المانع بالمخالفة العملية للتكليف المعلوم بالاجمال.

ودعوى : أنه لا مانع من الترخيص الظاهري في المخالفة العملية واضحة الفساد ، فان المخالفة العملية مما لا يمكن أن تنالها يد الاذن والترخيص ، لأنها عبارة عن المعصية ، ولا يعقل الاذن في المعصية ، لاستقلال العقل بقبح المعصية كاستقلاله بحسن الطاعة وليست من المجعولات الشرعية : ولو فرض أنه ورد من الشارع الاذن في المخالفة للمعلوم بالاجمال فلابد من حمله على نسخ الحكم أو تقييده بصورة العلم التفصيلي ولو بنتيجة التقييد ، والكلام إنما هو بعد الفراغ عن إطلاق الحكم الواقعي وعدم تقييده بالعلم التفصيلي وانحصار جهة البحث في انحفاظ رتبة الحكم الظاهري من حيث إنه حكم ظاهري ، كما تقدم في صدر العنوان ، ومن المعلوم بالبداهة : أن نتيجة الجعل الظاهري وهي الجري العملي والترخيص الظاهري في جميع الأطراف تنافي العلم بالتكليف المنجز في البين

١٧

بعد البناء على أن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، فلا تكون رتبة الجعل الظاهري محفوظة بالنسبة إلى جميع الأطراف.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن عدم انحفاظ رتبة الحكم الظاهري يكون لاحد أمور :

إما لانتفاء الموضوع ، وينحصر ذلك في أصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين.

وإما لقصور المجعول عن شموله للأطراف كما في الأصول التنزيلية ، سواء كانت نافية للتكليف المعلوم بالاجمال أو مثبتة له.

وإما لعدم إمكان تطبيق العمل على المؤدى كما في الأصول الغير التنزيلية النافية للتكليف المعلوم بالاجمال ، كأصالة الإباحة والبرائة عند العلم بوجوب أحد الشيئين.

وأما إذا كانت مثبتة للتكليف المعلوم فلا مانع من جريانها كما في أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال (١) عند العلم بحرمة إراقة دم أحد الشخصين أو حرمة إحدى المرأتين أو المالين وحلية الآخر ، فان أصالة الحرمة في كل من الشخصين والمرأتين والمالين تجري من دون أن يلزم منها مخالفة عملية لان مؤداها موافق للمعلوم بالاجمال. هذا كله بحسب مقام الثبوت والجعل.

وأما بحسب مقام الاثبات فأدلة الأصول العملية بقسميها من التنزيلية وغيرها تشمل أطراف العلم الاجمالي ، لما عرفت من أن الأصول إنما تجري في الأطراف ، وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فيشمله قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع

__________________

١ ـ أقول : لا نرى لأصالة الحرمة مدركا غير استصحاب عدم الحل في الأموال وغيرها ، فمع العلم بالانتقاض في أحد الطرفين يجيء ما ذكرت من الاشكال ، ولو كان لنا أصل آخر فعليه بالبيان.

١٨

ما لا يعلمون » وقوله عليه‌السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (١) وقوله عليه‌السلام « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » وغير ذلك من أدلة الأصول ، فان كل واحد من الأطراف مما يشك في بقاء الحالة السابقة فيه أو مما لا يعلم أو لا يعرف أنه حرام أو طاهر فتشملها أدلتها. فإذا لم يكن في مقام الثبوت مانع عن الجعل بأن كانت رتبتها محفوظة ـ بالتفصيل المتقدم ـ لم يكن في مقام الاثبات مانع عن شمول الأدلة لجميع الأطراف ، لعموم أدلة الأصول للشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي.

هذا ، ولكن يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس‌سره عدم شمول أدلتها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، بدعوى : أنه يلزم من الشمول مناقضة صدر الدليل لذيله حيث قال قدس‌سره في آخر مبحث الاستصحاب عند تعارض الاستصحابين ما هذا لفظه : الثانية : أنه إذا لم يكن مرجح ، فالحق التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين. إلى أن قال بل لان العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدين يوجب خروجهما عن مدلول « لا تنقض » لان قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين مثله » يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله. إلى أن قال : وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة : وأن قوله عليه‌السلام « كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام » لا يشمل شيئا من المشتبهين. انتهى موضوع الحاجة من كلامه ، زيد في علو مقامه.

ومراده مما تقدم : هو ما ذكره في أول الشك في المكلف به ، فإنه قد أطال

__________________

١ ـ أقول : هذا سهو من قلمه الشريف ، وإلا فبهذا المضمون ليس في الاخبار.

١٩

الكلام في وجه عدم شمول قوله عليه‌السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » لموارد العلم الاجمالي ، وأن لفظة « بعينه » لا دلالة لها على الشمول.

ومن ذلك كله يظهر : أن المانع عنده من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي هو جهة الاثبات وعدم شمول أدلة الأصول للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، لا جهة الثبوت ، فإنه لو كان المانع هو عدم إمكان الجعل ثبوتا لم يكن موقع لإطالة الكلام في شمول لفظة « بعينه » للأطراف وعدم شمولها ، فان لفظة « بعينه » ـ كانت في هذه الأخبار أولم تكن ـ لا دخل لها بمقام الجعل ، فالبحث عن دلالة لفظة « بعينه » وعدم دلالتها ينحصر وجهه بمقام الاثبات لا الثبوت.

نعم : يظهر من كلامه في حجية القطع عند البحث عن حرمة المخالفة الالتزامية الموارد العلم الاجمالي أن المانع من جريان الأصول في الأطراف هو لزوم المخالفة العملية ، ويظهر منه ذلك أيضا في مواضع اخر من الكتاب.

وبالجملة : قد اختلفت كلمات الشيخ قدس‌سره في وجه عدم جريان الأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي.

فمن بعضها يظهر أن. المانع هو لزوم المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين. وهذا يرجع إلى مقام الجعل ، حيث لا يعقل جعل ما يؤدي إلى المخالفة القطعية.

ومن بعضها يظهر أن الوجه في ذلك هو قصور الأدلة وعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي.

وعلى كل حال : إن رجع كلامه قدس‌سره إلى مقام الثبوت والجعل وان المانع من جريان الأصول في الأطراف هو لزوم المخالفة العملية فهو حق في خصوص الأصول الغير التنزيلية النافية للتكليف ، وأما الأصول التنزيلية فالمانع من جريانها ليست هي المخالفة العملية ، بل هو قصور المجعول فيها لان يعم

٢٠