الصّلاة في المشكوك

الميرزا محمّد حسين الغروي النّائيني

الصّلاة في المشكوك

المؤلف:

الميرزا محمّد حسين الغروي النّائيني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-053-6
الصفحات: ٥٥١

ذي النفس غير قابلة لأن تملك وتباع وتشترى وينتفع بها ، ولا يترتّب على ما علم أنّه من غير المأكول شي‌ء من هذه الأحكام ـ فضلا عمّا شكّ فيه.

فقد ظهر من ذلك ما في التشبّث بالتعليل الوارد في ذيل رواية حفص بن غياث (١) لهذا المدّعى من الغرابة ، إذ بعد أن كان‌

__________________

للملك كالمأكول ، فأماريّة اليد على الملكية لا تستلزم كونه من المأكول ، ونحوه الحال في الميتة الطاهرة بناء على ما يظهر من عبارة المتن من اختصاص عدم قابلية الملك والبيع بميتة ذي النفس النجسة ، هذا.

وقد يشكل ما أفيد بأنّ قاعدة اليد لا يختص جريانها بيد المسلم ، فإن اللحم الموجود في يد الكافر أيضا محكوم بملكيته له ، مع أنه لا يحكم عليه بالتذكية ، فكيف الفرعيّة.

ويمكن أن يجاب عنه بأن القاعدة وإن جرت بالنسبة إلى يد الكافر أيضا ، لكن لم يثبت اقتضاؤها فيه الملكية ، فلعلّ الذي تقتضيه بالنسبة إليه هو مجرد حق الاختصاص الثابت في الميتة أيضا ، وقد ذكر في محلّه أن أماريّة القاعدة لا تنحصر في الملكية ، فكما أنها بالنسبة إلى يد مدّعي الوكالة أو الولاية أو نحوهما أمارة على وكالته أو ولايته ، كذلك يمكن أن يكون يد الكافر على اللحم أمارة على مجرد اختصاصه به لا ملكيته.

(١) أوردها في قضاء الوسائل في الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٢ ، وذيلها قوله عليه‌السلام ( لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ) ، والرواية بطولها تفيد جواز الشهادة بالملكية استنادا إلى اليد ، وفي سندها القاسم بن يحيى ولم تثبت وثاقته ، بل عن ابن الغضائري تضعيفه.

١٨١

ما لا تحلّه الحياة من غير المأكول ـ وكذا ما تحلّه هي بعد تذكيته ـ ملكا يجوز بيعه وشراؤه وكلّ انتفاع به عدا الصلاة فيه ـ سواء أخذ من يد المسلم أو غيره ـ ، فليت شعري أيّ محذور نوعيّ أو اختلال نظام يلزم من لحوق مشكوكه بمعلومه في ذلك ، ونظيره (١) دعوى استقرار السيرة العمليّة على الصلاة في المشتبه.

وأغرب من الجميع دعوى * استلزام النزع حال الصلاة الحرج المنفيّ ، وليت شعري لو كان هذا المقدار من الكلفة (٢) رافعا للتكليف فلم لم يتشبّث به لجوازها حتى في الثعالب والسمّور ، بل لسقوط معظم التكاليف؟.

وبالجملة فهذه الوجوه وإن تمسّك بها المجوّزون ، لكنّها بمعزل عن الصلاحيّة ، وإنّما المتعيّن هو البحث عن اندراج هذه الشبهة في مجاري قاعدة الاشتغال أو البراءة ، وعلى التقدير الأخير‌

__________________

ومحصّل الدعوى أنه يستفاد من هذا التعليل الترخيص الشرعي في كلّ ما لولاه لاختلّ النظام ـ ومنه المقام. وحاصل الردّ إنكار كون المقام منه ، وقد بيّن في المتن.

(١) أي نظيره في الغرابة ، إذ لا يكاد يكون استقرار سيرة المتديّنين محتملا مع فتوى معظم الفقهاء بعدم الجواز ، هذا فضلا عن دعوى اتصالها بزمن المعصومين عليهم‌السلام.

(٢) ولو سلّمت الكلفة والحرج بحسب نوع المكلفين فهي لا تجدي في رفع التكليف عمّن لا كلفة عليه شخصا ـ كما حقق في محله.

__________________

(*) كلمة ( دعوى ) غير موجودة في الطبعة الاولى أضفناها لاقتضاء السياق.

١٨٢

فهل تشارك (١) الشبهات الموضوعيّة التحريميّة في جريان أصالة الحلّ فيها أيضا ، ويعمّهما ما يدلّ على اعتبار هذا الأصل بجامع واحد ، أو أنّه يختص (٢) بذلك القسم ، وعلى كلّ تقدير فهل يجري الاستصحاب في موارد الشبهة ـ إمّا مطلقا أو في الجملة ـ أو أنّه لا مجرى له مطلقا.

وإذ قد عرفت ذلك فينبغي أن نمهّد للبحث عن اندراجها في مجاري كلّ واحد من هذه الأصول الثلاثة مقاما برأسه ، فالمقامات حينئذ ثلاثة : ـ

__________________

(١) أي الشبهة المبحوث عنها.

(٢) أي إن ما يدلّ على اعتبار هذا الأصل يختص بالشبهات الموضوعية التحريمية ، ولا يشمل المقام.

١٨٣

( المقام الأوّل )

في تنقيح أنّ مرجع الشبهة إلى تردّد متعلّق التكليف من جهة الشبهة الخارجيّة بين الأقلّ والأكثر ، واندراجها في مجاري البراءة بذلك.

ولنقدّم لتوضيحه مقدّمتين :

الاولى : إنّه لا خفاء في أنّ البحث عن جريان البراءة وعدمه في المقام ، ونظائره ـ ممّا ينشأ تردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر عن شبهة خارجيّة ـ إنّما هو بعد الفراغ عن جريانها في الارتباطيات ، وعدم مانعيّة الارتباطية (١) والشكّ في تحقّق المطلوب الواقعي المردّد بين الأمرين عن انحلال العلم الإجمالي بالخطاب المعلوم تعلّقه بأحدهما إلى متيقّن هو المعاقب على تركه ، ومشكوك تجري البراءة فيه.

__________________

(١) أشار قدس‌سره بهذه العبارة إلى ما يذكر في مبحث الشك في الارتباطيات من أن العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ينحلّ إلى العلم التفصيلي بتعلّقه بالأقلّ والشك في تعلّقه بالزائد ، فتجري البراءة فيه ، وأن الشك فيه ـ وإن استلزم لمكان الارتباطية الشك في تحقق الواجب الواقعي خارجا بالإتيان بالأقل وفراغ الذمة بذلك بعد اشتغالها اليقيني ـ لا يمنع عن الانحلال المزبور ، وسيأتي تفصيل الكلام حول ذلك في البحث الكبروي الآتي ، فانتظر.

١٨٤

وواضح أنّه بعد الفراغ عن ذلك فالضابط في تنجّز الخطاب الارتباطي (١) بحسب كميّته أن يكون نفس تعلّقه بكلّ واحد من أجزاء متعلّقه أو قيوده بحيث لو فرض تكليفا استقلاليا وخطابا نفسيّا كان مستجمعا لما يوجب تنجّزه ، وخروجه عن مجاري البراءة ، وإلاّ لم تكن الارتباطيّة مؤثّرة (٢) في تنجيز ما ليس بمتنجّز مع الغضّ عنها ، وكانت كعدمها ، ويكون التكليف المعلوم بالإجمال (٣) متوسّطا في التنجز وعدمه باعتبار ما علم أو لم يعلم‌

__________________

(١) ملخّص المرام أنه ـ بعد الفراغ عن أن الارتباطية لا تمنع عن الانحلال ـ لا يعتبر في تنجّز كلّ من الخطابات الارتباطية المتعلّقة بآحاد الأجزاء والقيود سوى ما يعتبر في تنجّز الخطاب الاستقلالي ، بحيث لو فرض الارتباطي استقلاليا لكان متنجّزا ، فإن مقتضى ما فرغنا عنه أنه لا أثر للارتباطية في التنجيز والخروج عن مجاري البراءة أصلا وأن وجودها كعدمها. إذن فالضابط في تنجّز الارتباطي فرضه استقلاليا وجوبيا أو تحريميا ـ حسب اختلاف الموارد ـ ، والنظر في استجماعه شرائط التنجز وعدمه ، وستعرف أنه في مورد البحث يفرض القيد العدمي خطابا استقلاليا تحريميا ، والشبهة موضوعيّة ، وانتظر التفاصيل.

(٢) أي وإن لم يكن بحيث لو فرض تكليفا استقلاليا كان متنجزا ، بل كان مع هذا الفرض غير متنجز ، فالارتباطية لا تؤثر في تنجيز غير المتنجز ، بل هي كعدمها ـ كما هو المفروغ عنه حسب الفرض.

(٣) بعد ما أفاد قدس‌سره ضابط التنجز بالنسبة إلى الخطابات الارتباطية ، أشار إلى حالة التنجز بالإضافة إلى نفس التكليف الأصلي المتعلق بالمركب أو‌

١٨٥

تعلّقه به ـ على ما حرّر في محلّه.

وإذ لا خفاء في ابتناء جريان البراءة في الارتباطيات على ذلك فالذي يهمّ البحث عنه هو تنقيح أنّه هل يجري * ما تنتزع عنه مانعيّة غير المأكول وأشباهه مجرى وجوب قضاء الفريضة الفائتة ـ مثلا ـ ، أو حرمة شرب الخمر ، ونحوهما في كونه بالنسبة إلى آحاد وجودات موضوعه انحلاليا يترتّب على مصداقية كلّ واحد منها تقيّد الصلاة بعدم وقوعها فيه ـ كما في المثالين (١) وأشباههما ـ ، ويرجع الشكّ فيها (٢) إلى الشكّ في القيديّة المترتبة عليها ـ لا محالة ـ ، ويتردّد متعلّق التكليف من جهة هذه الشبهة الخارجية بين الأقلّ والأكثر (٣) ، ويندرج في مجاري البراءة بعد الفراغ عن ذلك المبنى ، ويكون حال الشبهة‌

__________________

المقيد ، والوجه في كونه متوسطا في التنجز هو تنجّزه على تقدير دون آخر ، فإنه إن كان متعلقا بالأقل فهو متنجز ، وإن كان متعلقا بالأكثر فكذلك متنجز لا يعذر في مخالفته إذا استندت المخالفة إلى ترك الأقلّ ، وليس متنجزا فيعذر في مخالفته إذا استندت إلى ترك خصوص الزائد المشكوك.

(١) فالانحلال كما يقتضي كون كلّ مصداق للفريضة الفائتة محكوما بوجوب قضائه ، وكلّ فرد من الخمر محرما شربه ، كذلك يقتضي كون الصلاة متقيّدة بعدم وقوعها في كلّ مصداق لغير المأكول.

(٢) أي في المصداقية.

(٣) الأقل هو الصلاة المتقيّدة بعدم وقوعها في المصاديق المعلومة لغير المأكول ، والأكثر هي المتقيّدة بعدم وقوعها فيها وفي المشكوكة.

__________________

(*) الموجود في الطبعة الاولى ( تجري ) والصحيح ما أثبتناه.

١٨٦

المبحوث عنها حينئذ كحال الشبهة الموضوعيّة التحريميّة بعينه (١).

أو أنّ مرجع الأمر (٢) في باب القيود العدميّة سواء كان لها تعلّق بموضوع خارجيّ ـ كالمقام ونحوه ـ أو لم يكن ـ كعدم التكلّم والقهقهة وأشباههما ـ إلى قيديّة عنوان بسيط ونعت عدميّ لا يقبل التعدّد بتعدّد الوجودات ، ولا زيادة باعتبارها ، وإنّما يكون التحرّز عن مجموعها محصّلا خارجيّا له ، والتكليف بذلك العنوان ـ استقلاليا كان أو قيديا (٣) ـ متنجزا بنفس العلم به (٤) ، والشبهة راجعة إلى المحصّل الخارجي الذي هو بمعزل عن جريان البراءة فيه (٥) ، ويتردّد هو دون متعلّق التكليف (٦) بين الأمرين ، وهذا هو الذي يهمّ تنقيحه‌

__________________

(١) فإنها تشابهها من جميع الجهات سوى جهة الاستقلالية والارتباطية ، فكما تجري البراءة في المصداق المشكوك خمريته ، كذلك في الشبهة المبحوث عنها ، لاقتضاء الانحلال الآنف الذكر كونه في الأول شكا في التكليف الاستقلالي ، وفي الثاني شكا في ثبوت قيدية زائدة ، وقد أشرنا آنفا إلى أنّ مقتضى فرض الارتباطي استقلاليا هو فرض الشبهة في المقام شبهة موضوعية تحريمية.

(٢) محصّل هذا الوجه أن مرجع الشك في المقام ونحوه من القيود العدميّة إلى الشك في المحصّل ، وهو شكّ في مقام الامتثال ومجرى لقاعدة الاشتغال.

(٣) أي تكليفا قيديا ـ كما في المقام.

(٤) فلا يتوقّف تنجّزه على العلم بموضوعه أيضا ـ كما على الوجه الأوّل ـ ، إذ لا موضوع له لمكان بساطته ، وإنما الموضوع لمحصّله.

(٥) لعدم كونه بنفسه متعلقا للتكليف لتجري البراءة مع الشك فيه ، وما هو المتعلق له أمر لا يشكّ فيه.

(٦) فإن متعلق التكليف ـ كما عرفت ـ أمر لا تردّد فيه بين الأقل والأكثر ،

١٨٧

في المقام ، وعليه يبتني اندراج الشبهة المبحوث عنها في مجاري البراءة أو الاشتغال ـ بعد الفراغ عن ذلك المبنى ـ ، دون سائر ما ذكر ، ولا محصّل له (١) سوى التشبّث بالارتباطيّة ، واستلزام الشكّ في مانعيّة المشتبه للشكّ في الخروج عن عهدة التكليف بالصلاة ، وهو ـ كما ترى ـ خروج عن الفرض (٢) ورجوع عن ذلك المبنى ـ كما لا يخفى.

الثانية : إنّه بعد أن تبيّن أنّ مبنى الوجهين في المسألة هو كون القيد العدمي المنتزعة عنه مانعيّة غير المأكول وأشباهه ممّا يتنجّز خطابه بنفس العلم به ، أو يتوقف تنجّزه على العلم بموضوعه أيضا (٣) ، فالمهمّ حينئذ هو تنقيح ضابط القسمين ، وتوضيح ما به يمتاز رجوع الشبهة المصداقيّة إلى الشكّ في الامتثال عن رجوعها إلى الشكّ في التكليف ، ثم البحث عن اندراج الشبهة المبحوث عنها في أيّ الضابطين.

ومحصّل ما عندنا في ذلك هو أنّه ـ بعد أن لا خفاء في أنّه لا بدّ في متعلّق التكليف من أن يكون عنوانا اختياريّا يصلح لأن يتعلّق به الإرادة الفاعليّة (٤) إمّا بنفسه ، أو بتوسيط ما يكون ذلك العنوان‌

__________________

لعدم قابليته للتعدد بتعدد الوجودات لبساطته ، وإنما التردد في محصّله ، وأنه هو التحرّز عمّا يشمل المشكوك أو لا ، ومقتضى القاعدة فيه الاشتغال.

(١) أي لسائر ما ذكر.

(٢) إذ المفروض الفراغ عن جريان البراءة في الارتباطيات في نفسها.

(٣) لتجري في الشبهة المبحوث عنها قاعدة الاشتغال على الأوّل ، وأصالة البراءة على الثاني.

(٤) فإن الإرادة الآمريّة إنما تتعلّق بما يصلح لأن تتعلّق به الإرادة الفاعليّة ، وهو الفعل الاختياري ، ولا يكاد يتعلق التكليف بما هو خارج عن الاختيار ، وسقوط التكليف به لحصول الغرض أو لانتفاء الموضوع أمر آخر.

١٨٨

مسبّبا توليديّا له (١) ـ فإمّا أن يكون (٢) العنوان المذكور اختياريا كلّه ، ولا تعلّق له بموضوع خارج عن الاختيار أصلا ـ كالتكلّم ونحوه ـ ، أو يكون له تعلق بالموضوع المذكور ، وهذا يتصوّر على وجوه : ـ فتارة يكون ذلك الموضوع متحققا خارجيا (٣) ـ كما في مثل استقبال القبلة أو استدبارها.

وأخرى يكون عنوانا كلّيا ذا أفراد محقّقة الوجود ومقدّرته ، وهذا يتصوّر على وجهين :

فتارة يؤخذ عنوان الموضوع بلحاظ صرف وجوده المساوق للإيجاب الجزئي موضوعا لحكمه ، كما في الماء أو التراب ـ مثلا ـ بالنسبة إلى وجوب الوضوء أو التيمّم ، وأشباههما ممّا يكون إطلاق كلّ من متعلّق الحكم وموضوعه بدليّا (٤) ، ويختصّ ذلك بالتكاليف‌

__________________

(١) فإن اختياريّة الواسطة والسبب التوليدي تكفي في اختياريّة ذيها ـ وهو المسبب المتولّد منه قهرا ـ كالإحراق المتولّد من الإلقاء والتطهير المترتّب على الغسل ، ضرورة أن القدرة على السبب قدرة على المسبّب.

(٢) شروع في تقسيم متعلق الحكم باعتبار تعلّقه بموضوع خارجي وعدمه ونوعيّة الموضوع إلى أربعة أقسام ، وهذه أولى المقدمتين اللتين أعدّهما قدس‌سره قبل الخوض في صميم البحث.

(٣) أي موجودا شخصيا عينيا كالقبلة في المثال.

(٤) فإنّ المطلوب في المثالين هو صرف وجود الوضوء والتيمم ، وموضوعهما صرف وجود الماء والتراب ، لا مطلق وجوده لينحلّ الحكم ويتعدّد بتعدد وجودات موضوعه ـ كما في القسم الرابع ـ ، بل لا يترتّب على تعدّد وجوداته سوى التوسعة في الامتثال والتخيير العقلي بينها في امتثال واحد.

١٨٩

الوجوديّة ـ كما ستعرفه (١) ـ فيكفي تمكّن المكلّف من أحد مصاديقه في فعليّة خطابه ، ولا يترتّب على مصداقيّة الزائد سوى التوسعة في امتثاله.

وأخرى يكون موضوعا للحكم بلحاظ مطلق وجوده ، كالعقد ـ مثلا ـ أو الخمر بالنسبة إلى وجوب الوفاء به أو حرمة شربه ، ونحو ذلك ممّا يستفاد أخذه موضوعا للحكم على نهج القضايا الحقيقيّة من عموم الدليل أو إطلاقه الشمولي (٢) ، فينحلّ ذلك الحكم حينئذ بالنسبة إلى آحاد وجودات موضوعه إلى حكم خاصّ لموضوع كذلك ، كما هو الشأن في محمولات القضايا الحقيقيّة بالنسبة إلى أشخاص موضوعاتها ، ويستكشف اشتمال كلّ واحد منها على ملاك حكمه من ذلك (٣).

وموضوعات التكاليف العدميّة بأسرها من هذا القبيل ، ولا يعقل (٤)

__________________

(١) ستعرف بعد قليل أن موضوعات التكاليف العدمية ـ المحرّمات ـ بأجمعها من قبيل القسم الرابع ، ولا يتصوّر فيها هذا القسم ، فاختصّ هذا بالوجودية.

(٢) يعني أنّ من عموم الدليل ـ نحو ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )أو إطلاقه الشمولي نحو ( لا تشرب الخمر ) يستفاد كون الموضوع مأخوذا بلحاظ مطلق وجوده ، وعلى نهج الموضوع في القضية الحقيقية المتكفلة للحكم على أفراد موضوعها المحقّقة الوجود ومقدّرته ، بحيث كلّما يفرض له من أفراد ـ سواء كانت موجودة بالفعل أم معدومة لكنّها مقدّرة الوجود ـ تدخل فيه ويثبت لها الحكم على تقدير وجودها ، ومقتضاه انحلال الحكم وتعدّد وجوده حسب تعدد وجودات موضوعه ، فيكون لكلّ موضوع حكم يخصّه.

(٣) أي من ثبوت الحكم له ، فإن الحكم كاشف إنّا عن الملاك.

(٤) وجه عدم المعقوليّة أن مقتضى لحاظ الموضوع صرف الوجود ـ كما‌

١٩٠

موضوعيّتها بلحاظ صرف الوجود لتلك الأحكام إلاّ إذا اعتبر بالمعنى الجامع لجميع الوجودات (١) ، فيتّحد في النتيجة مع القسم الرابع (٢) عند عدم صلاحيّة الحكم للانحلال (٣) ، ومطلوبية نفس السلب الكلّي‌

__________________

عرفت في القسم الثالث ـ هو فعلية الحكم بمجرد وجود موضوعه ، من دون أن يتعدّد بتعدّد أفراد موضوعه ، وإنما الفعلي حكم واحد لا يستدعي إلاّ امتثالا واحدا ، ولو كان التكليف العدمي ـ مثل لا تشرب الخمر ـ كذلك لزم تحقق امتثاله بالاقتصار على اجتناب أحد أفراد الخمر مع ارتكاب جميع ما سواه ، ومثل هذا التكليف من السخافة بمكان لا يكاد يصدر من عاقل فما ظنّك بالمولى الحكيم تعالى علوّا كبيرا.

(١) بأن يراد بالتحرّز عن صرف وجود الموضوع ما يلازمه من التحرّز عن جميع وجوداته على نحو العموم المجموعي والسلب الكلّي ، فيكون صرف الوجود بهذا الاعتبار معنى انبساطيا ـ كما سيأتي منه قدس‌سره التعبير به ـ يجمع جميع وجوداته ويلمّ شملها ، ويكون المطلوب ـ في المثال ـ أمرا وحدانيا هو الاجتناب عن مجموع أفراد الخمر على نحو السلب الكلي ، بحيث إذا ارتكب فردا منها فقد خالف التكليف ، ولا تكليف بعد ذلك بالنسبة إلى ما عداه لانتفاء الانحلال ، حذو ما هو الحال في باب النذر وأخويه بناء على ما هو المتسالم عليه عند الأصحاب ـ كما أفاده قدس‌سره فيما يأتي ـ من أنه لو نذر أن لا يشرب ماء دجلة ـ مثلا ـ فبمجرد تعمّد شربه يحنث ، وتلزمه كفارة واحدة ، ويسقط الخطاب المتوجّه إليه من جهة نذره.

(٢) فإنه بحسب النتيجة لا بدّ ـ كما عرفت ـ من اجتناب جميع الأفراد كما هو الحال في القسم الرابع ، غايته أنه هنا لا انحلال فلا يتعدّد الحكم بتعدّد وجودات موضوعه ، بخلافه في القسم الرابع.

(٣) يعني أنه في التكاليف العدميّة إنّما يصار إلى هذا المعنى المعقول من‌

١٩١

ـ كما في باب النذر ونحوه ممّا لا يصلح الحكم لأن يتعدّد بتعدّد وجودات موضوعه كما ستعرفه ـ ، وأمّا موضوعات التكاليف الوجوديّة فهي صالحة لأن تؤخذ بجميع هذه الوجوه (١) ـ كما لا يخفى ـ وهذا هو محصّل ما ينقسم إليه التكاليف باعتبار تعلّقها بالموضوعات الخارجيّة وعدمه ، وقد ظهر انحصار الأقسام فيما ذكر (٢).

وكيف كان ، فمن الواضحات الضروريّة أنّ المدار (٣) في تشريع الأحكام ليس على تشريع كلّ شخص من الحكم (٤) بالنسبة‌

__________________

صرف الوجود فيما إذا لم يصلح الحكم للانحلال والتعدد ، وكان المطلوب نفس السلب الكلّي ـ كما في باب النذر ونحوه.

(١) بما فيها المعنى الأخير من صرف الوجود.

(٢) لأن الحصر فيها عقلي ، إذ الحكم لا يخلو إما أن لا يكون له موضوع واخرى له ذلك ، والثاني لا يخلو إما أن يكون شخصيا خارجيا أو كليا ذا أفراد ، والثاني لا يخلو إما أن يلحظ على نحو صرف الوجود أو مطلق الوجود على نحو الانحلال أو الانضمام.

(٣) هذه هي ثانية المقدمتين بيّن قدس‌سره فيها ـ بإيجاز ـ كيفية تشريع الأحكام وما لها من مراتب ومراحل.

(٤) بيان لكيفية تشريع الأحكام بعقدها السلبي ، محصّله أن القضايا المتكفّلة للأحكام الشرعية الكلّية ليست إخبارا عن إنشاءات استقبالية تتعدّد حسب تعدد المكلفين والوقائع ، ووعدا بأنه سبحانه ينشئ في كلّ واقعة بإنشاء خاص حكما خاصا بها ـ عند اجتماع شرائطه فيها ـ على نهج القضية الخارجية وإلا لزم منه ارتفاع المائز بين موضوع الحكم وعلة تشريعه ، وخروج ما هو بوجوده‌

١٩٢

إلى كلّ مكلّف وفي كلّ قضيّة بإنشاء يخصّه ، كي يرتفع الفارق بين موضوعات الأحكام وعلل تشريعها ، ويلزم من التوالي الضروريّ فسادها (١) ما أوضحناه في محلّه.

__________________

العيني موضوع للحكم الى كونه بوجوده العلمي باعثا على تشريعه وعلة غائية له ، وبالجملة صيرورة شرائط المجعول شرائط للجعل ، ضرورة أنّه كما أنّ المؤثّر في تشريع الأحكام وعلّته الغائية هو اشتمال المتعلق على ملاك حسنة أو قبحه بوجوده العلمي دون الواقعي ، فكذلك تحقّق الموضوع واجتماع الشرائط في الواقعة الخاصة إنما يكون بوجوده العلمي مؤثّرا في تشريع الحكم فيها على نهج القضية الخارجية وباعثا عليه دون الواقعي ، فإذا اعتقد الحاكم وجوده أنشأ حكمه الشخصي في الواقعة صادف الواقع أم لا ، وإلاّ لم ينشئه أصاب أم أخطأ ، هذا ، واللازم المذكور ضروريّ الفساد مخالف لظواهر أدلّة الأحكام الدالّة على كون موضوعاتها شرائط لها بوجوداتها العينيّة لا عللا لتشريعها بوجوداتها اللحاظية.

(١) أشار قدس‌سره بهذا إلى الخلط الواقع في بعض المسائل الأصولية بين شرائط الجعل وشرائط المجعول بترتيب أحكام الأوّل على الثاني :

منها : إرجاع شرائط التكليف والوضع إلى شرطيّة اللحاظ ـ وهو مقارن ـ ، وتجويز الشرط المتأخّر على أساسه ـ كما صنعه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ـ ، وقد ظهر ممّا مرّ أنّه إنّما يستقيم في شرائط الجعل وعلله الغائية وهي بمعزل عن محط البحث.

ومنها : دعوى أن الواجب المشروط ينقلب مطلقا بوجود شرطه ، فلا يجدي اشتراط أحد الخطابين المتزاحمين بعصيان الآخر في تصحيح الترتّب ودفع محذور طلب الجمع بين الضدين ، لأنّه عند حصول الشرط‌

١٩٣

وإنّما المجعول (١) حكما كليّا على موضوعه المقدّر وجوده ـ كوجوب الفرائض الخمس على المكلّفين بها في أوقاتها ، والحجّ على المستطيع ، وتبادل العوضين عند تحقّق البيع الجامع لشرائطه ،

__________________

يصبح الاشتراط كعدمه فيعود المحذور. ويردّه أنها إنما تتمّ في شرائط الجعل التي لدى تحقّقها ينشأ الحكم مطلقا غير مشروط بشي‌ء ، لا في شرائط المجعول التي لا يعقل انسلاخ الشرطيّة عنها بمجرد تحقّقها ، إذ لا يخرج الحكم بذلك عن كونه حكما على ذلك الموضوع.

ومنها : ما في الكفاية أيضا من عدّ السببيّة ـ المتّصفة بها الأسباب الشرعيّة كالدلوك والعقد من الأمور التكوينيّة المنجعلة ، لا من الأحكام الوضعيّة المجعولة ، بدعوى أن اتصافها بها إنما هو لاشتمالها على خصوصيّة ذاتية تؤثّر في وجوب الصلاة أو الملكيّة مثلا ، فتكون ـ إذن ـ منجعلة تبعا لتكوين المتصف بها ، لا مجعولة تبعا لتشريع حكم تكليفي أو وضعي على تقدير وجود المتّصف بها. وفيه أن هذا إنما ينطبق على دواعي الجعل وعلله الغائية ، لا على أسباب المجعول ، فإنّ المسلّم هو تأثير تلك الخصوصيّة الذاتية بوجودها اللحاظي تكوينا في جعل الحكم وتشريعه ، أما تأثيرها بوجودها العيني في الحكم نفسه فغير معقول ، لاستحالة ترشّح الحكم الشرعي عن أمر تكويني ، وقضاء الضرورة بتكوّنه بتشريع شارعة عن إرادته.

(١) بيان للعقد الإيجابي من كيفية تشريع الأحكام ، وخبر المبتدأ قوله ( هو الحكم الشرعي ) ، وحاصل المقصود أن ما يصدر من الشارع لدى تشريع الأحكام ليس إخبارا عن إنشاء استقبالي ـ كما عرفت ـ ، بل هو بنفسه إنشاء لحكم كلّيّ انحلاليّ وجعل له على موضوعه المقدّر وجوده بنحو القضية الحقيقية ، بحيث تترتّب عليه فعليّة أحكام شخصية عند تحقّق وجودات ذلك الموضوع من دون إنشاء جديد لها ، بل بنفس ذلك الإنشاء الانحلاليّ الأول.

١٩٤

وغير ذلك ـ هو الحكم الشرعيّ المجعول في جميع الأبواب (١) ، ويعبّر عن ذلك الموضوع المقدّر وجوده في أبواب التكاليف بشرائطها ، وفي الوضعيّات بأسبابها لمناسبة ظاهرة (٢) ، ويعبّر عن‌

__________________

(١) سواء في ذلك أبواب التكاليف ـ كما في مثالي الصلاة والحج ـ والوضعيّات ـ كما في مثال البيع.

(٢) أمّا الأول فباعتبار أن الموضوع شرط متمّم لفاعليّة المقتضي وتأثيره في مرحلة الملاك ، ذلك أنّ لوجوده دخلا في فعلية الملاك المقتضي لجعل التكليف ، فتماميّة المقتضي المذكور في تأثيره في مقتضاه متوقّفة على تحقّق الموضوع ، فهو ـ إذن ـ شرط تكوينيّ في هذه المرحلة ، وعنه ينشأ أخذه موضوعا معلّقا عليه الحكم في مرحلة التشريع ، فأصبحت الشرطية التكوينية منشأ لتعليق الحكم تشريعا المنتزع عنه شرطيّة المعلّق عليه وموضوعيّته ، هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت والقضية اللبّية.

والأمر كذلك في مقام الحكاية بالقضيّة اللفظيّة ، فإنّ الحكم المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة كما يصحّ إلقاؤه بصيغة القضيّة الحمليّة نحو ( المستطيع يجب عليه الحج ) ، كذلك يصحّ إلقاؤه قضية شرطيّة بجعل الموضوع شرطا ، فيقال ( إذا استطاع المكلف وجب عليه الحج ) ، وقد ذكروا أن مرجع الموضوع ـ في القضية الحقيقية ـ إلى الشرط وبالعكس ، وأن القضية المذكورة تنحلّ إلى شرطية مقدّمها وجود الموضوع خارجا وتاليها عنوان المحمول ، هذا.

ولا يخفى أن مقتضى ما ذكرناه من المناسبة صحة التعبير عن الموضوع بالشرط في جميع الأبواب حتى الوضعيّات ، إلاّ أنه اختص في هذه الأخيرة باسم السبب لمناسبة اخرى تخصّ هذا الباب ، وهي شدّة شبهة بالأسباب‌

١٩٥

نفس ذلك المجعول الشرعي (١) على موضوعه المقدّر وجوده بالحكم الشأنيّ في الجميع ، إذ كونه من قبيل ما بالقوّة ظاهر.

وكما لا خفاء (٢) في أنّ دوران فعليّة ذلك الحكم وكونه بعثا أو زجرا (٣) فعليّا للمكلّف ، وكذا تحقّق ما أنشِئ بعقد أو إيقاع أو غير ذلك مدار تحقّق ذلك الموضوع هو الذي يقتضيه كونه مجعولا على ذلك التقدير ، وتنتزع سببيّة الأسباب لمسبّباتها عن ذلك (٤) ، ولا‌

__________________

التكوينيّة المؤثّرة في مسبّباتها ، إذ كما أن النار ـ فرضا ـ توجد الحرارة تكوينا ، كذلك العقد الإنشائي أو الحيازة ـ مثلا ـ يوجد الملكيّة اعتبارا ، والإنشاء عندهم إيجاد في الاعتبار. هذا ، وقد يعبّر بالسبب حتى في موضوعات التكاليف ، وستعرف قريبا وجهه.

(١) وذلك قبل فعليته بفعلية موضوعه ، أما بعدها فهو الحكم الفعلي ، وسيذكر الآن.

(٢) بيان ضمنيّ لمرحلة فعلية الحكم ، مجمله ما مرّ من أن مقتضى جعل الحكم على تقدير تحقق موضوعه هو إناطة فعليّته بتحقّقه ودورانها مداره.

(٣) هذا في التكليفيات ، كما أن ما بعده في الوضعيات.

(٤) أي عن الدوران المذكور ، فمن دوران وجود المسبّب مدار وجود السبب تنتزع السببيّة ، والغرض من درج هذه الجملة المعترضة في هذا المقام الإشارة إلى المناسبة في تسمية الموضوع بالسبب ، ووجه الشبه بينهما ، وأنه لمّا كان منشأ انتزاع عنوان السببيّة للسبب والمسببيّة للمسبب دوران جود الثاني مدار وجود الأول وإناطته به ، وكانت هذه العلقة بعينها متحققة بين الموضوع وحكمه ناسب أن يسمّى الموضوع باسم السبب ـ وإن اختلفا في أن الإناطة بين الأوّلين تكوينيّة ذاتيّة ، وبين الأخيرين تشريعيّة جعليّة.

١٩٦

يعقل أن يتخلّف عنه (١) لا وجودا ولا عدما ، وإلاّ كان خلفا واضحا (٢) ، ومن بداهة امتناعه يتّضح من مهامّ المسائل (٣) ما لا يخفى.

فكذا لا خفاء في أنّ تنجّزه (٤) ـ بمعنى تماميّته في تأثيره التشريعيّ المتوقّف على وصوله (٥) ـ إنّما يدور بعد العلم بالكبرى الشرعيّة المذكورة مدار العلم بتحقّق ذلك الموضوع ، وانضمام‌

__________________

(١) أي يتخلف الحكم عن الموضوع لا وجودا بأن يتخلف عن وجوده فلا يوجد معه ، ولا عدما بأن لا ينتفي عند انتفائه ، ـ حذو امتناع تخلف المعلول عن علته.

(٢) لأنه خلاف فرض كونه مجعولا على ذلك التقدير وحكما على ذلك الموضوع ، والخلف محال ، لأنه مناقضة واضحة.

(٣) كمسألة امتناع الشرط المتأخر ، فإن مقتضى ما ذكر من كون الحكم مجعولا عن تقدير تحقق موضوعه هو عدم تخلفه عنه بتقدمه عليه أو تأخره عنه ، فلو تقدّم عليه ـ كما في الشرط المتأخر ـ لزم الخلف المحال. وكمسألة امتناع الواجب المعلّق ، فإن فعليّة الوجوب قبل حلول الوقت المأخوذ في موضوعه وتقدّمه عليه خلف واضح. ونحوهما امتناع الاستصحاب التعليقي المفروض فيه عدم تحقق أحد أجزاء موضوع الحكم المستصحب ، فلا تحقق للحكم في الحالة السابقة ليستصحب ، ولا يعقل تحققه للخلف المذكور. ومنها مسألة وجوب المقدمات المفوّتة قبل وجوب ذيها ، فإنه إذ يمتنع فعليّته قبل الزمان المأخوذ في موضوعه للخلف المزبور ، فلا وجوب ليترشّح منه إلى المقدمة ، فلا محيص من متمّم الجعل لإيجابها ، إلى غير ذلك من المسائل.

(٤) بيان لمرحلة تنجز الحكم.

(٥) فإنّ الحكم المجعول غير الواصل إلى المكلف لا يكون تامّ التأثير في بعثه نحو العمل ، فإن انبعاثه عنه فرع وصوله إليه.

١٩٧

الصغرى إلى تلك الكبرى (١) ، إذ هو في كلتا مرحلتي الثبوت والإثبات (٢) بمنزلة النتيجة الحاصلة من انضمام المقدّمتين ، ولا يعقل أن تتخلّف عنه (٣) لا وجودا ولا عدما ، وإلاّ عاد ذلك الخلف ـ لا محالة.

وبالجملة : فالذي يعقل من مراتب الحكم هو هذه الثلاثة (٤)

__________________

(١) فإن وصول الحكم الفعلي إلى المكلف وتنجّزه عليه يتوقّف على علمه بالكبرى الشرعيّة المجعولة على نحو القضية الحقيقية ، وعلى علمه بتحقق موضوعها صغرويّا ، وبضمّ هذه الصغرى إلى تلك الكبرى المتشكّل منهما الشكل الأوّل من القياس يستنتج الحكم الفعلي ، ويصل إليه ، فيكون متنجّزا في حقّه.

(٢) يعني أن الحكم الفعلي يكون بمنزلة النتيجة في كلتا المرحلتين : مرحلة فعليته وثبوته الواقعي ، ومرحلة تنجّزه والعلم به ، فبثبوت المقدّمتين يثبت الحكم ، وبالعلم بهما يعلم به.

(٣) أي تتخلّف النتيجة عن انضمام المقدمتين وجودا وعدما ، وإذ قد عرفت آنفا امتناع تخلف فعليّة الحكم عن فعليّة المقدّمتين ثبوتا ، للزوم الخلف ، فكذلك ـ إثباتا ـ يمتنع تخلّف تنجّزه عن العلم بالمقدّمتين ، لنفس المحذور.

(٤) مراده قدس‌سره بالثلاثة الشأنيّة والفعليّة والتنجّز ، وقد سمعت أن الحكم الشأني هو المجعول الشرعي على موضوعه المقدّر الوجود قبل فعليّته بفعليّة موضوعه ، فهو الحكم الشخصي الذي لم يصر بعد فعليّا ، بل له شأنيّتها وقوّتها ، أما الحكم الإنشائي الذي تقدّم أنه إنشاء الحكم الكلّي على موضوعه المقدّر الوجود على نحو القضية الحقيقيّة والكبرى الكليّة فليس هو نحو وجود للحكم ـ حتى شأنا ـ ليعدّ من مراتبه ، إذ ليس هناك بعث فعليّ ولا شأني ولا زجر كذلك ولا غيرهما ، وحقيقة الحكم ما كان كذلك.

١٩٨

بما عرفت من تفسيرها ، وترتّب كلّ لاحقة على سابقتها ، وامتناع التداخل فيها (١) والتفكيك بينها (٢) ، وكونه (٣) من الخلف الضروريّ امتناعه ، ويطّرد ذلك في جميع أنواعه (٤).

وإنّما ينشأ اختلاف الأقسام الأربعة المذكورة ـ في تنجّز‌

__________________

فإن قلت : كيف وله نحو وجود اعتباريّ ، إذ يوجد بإنشائه ، ويستمرّ وجوده ما لم يعرضه النسخ ، ويستصحب بقاؤه إذا شك فيه بلا إشكال ، وهو الذي تقدّم دخل العلم به ـ مضافا إلى العلم بتحقّق الموضوع ـ في بلوغ الحكم مرتبة التنجّز.

قلت : نعم ، لكنّه معنى آخر للحكم غير منوط بوجود موضوع أصلا ، فإنّه عبارة عن قضيّة تعليقيّة ، مفادها إناطة تكليف أو وضع بأمر ودورانه مداره ، وما هذا شأنه أجنبيّ عمّا نحن بصدده من تعداد مراتب الحكم الشخصي المتضمّن بعثا أو زجرا متوجّها إلى مكلّف خاص ، أو ملكية أو زوجية أو نحوهما متحقّقة في موضوع كذلك.

ثمّ إنّ في عدّ الشأنيّة من مراتب وجود الحكم مسامحة واضحة ، فإنّه لا وجود له بعد ، بل شأنيّة الوجود ، فلا بدّ من ارتكاب التسامح في ناحية الحكم ذي المراتب ، وإرادة ما يعمّ الشأنيّة ، والأمر سهل.

(١) بصيرورة مرتبتين منها مرتبة واحدة ، للزوم الخلف.

(٢) المراد التفكيك في مرحلة الفعلية بين فعلية الحكم وتحقّق موضوعه ، وفي مرحلة التنجّز بين تنجّزه والعلم به.

(٣) أي كون التفكيك المذكور من الخلف ، وقد مرّ تفصيله.

(٤) وهي الأقسام الأربعة المتقدمة ، ومن هنا يبدأ قدس‌سره فيما عقد له البحث ـ وهو التحقيق حول اختلاف الأقسام الأربعة في التنجز ـ بعد ما فرغ من المقدمتين اللتين مهّدهما أمامه.

١٩٩

ما عدا الأخير منها بنفس العلم بالحكم (١) واجتماع شرائط التكليف (٢) ، وتوقّفه في خصوص الأخير على العلم بموضوعه أيضا (٣) ـ عن كون (٤) الخطاب متضمّنا بنفسه للاشتراط بوجود موضوعه أيضا (٤) ، ومتوقّفا كونه * خطابا متوجّها في نفس الأمر إلى المكلّف على وجوده في خصوص ذلك القسم ، دون سائر الأقسام.

أمّا في القسم الأوّل فظاهر (٦) ، إذ المفروض تعلق التكليف في هذا القسم بعنوان اختياريّ لا تعلّق له بالموضوع الخارج عن الاختيار أصلا ، فلا يتوقّف فعليّة هذا القسم من التكليف بعد القدرة على متعلّقه إلاّ على اجتماع شرائطه ، ولا تنجّزه أيضا بعد العلم‌

__________________

(١) يعني به الحكم الكبروي وأصل التشريع.

(٢) أي والعلم باجتماع شرائطه العامة والخاصة.

(٣) أي مضافا إلى العلم بما ذكر.

(٤) متعلق بـ ( ينشأ ) ، والمقصود أنه في خصوص القسم الأخير يكون الخطاب الكبروي متضمنا للاشتراط بوجود موضوعه والتعليق عليه ، ويتوقف صيرورته خطابا فعليا متوجها إلى المكلف على وجود الموضوع المعلّق عليه ، وشي‌ء من الأمرين غير متحقّق في سائر الأقسام ، وهذا الاختلاف هو منشأ اختلافها الآنف الذكر بالنسبة إلى مرحلة التنجز.

(٥) أي كما هو مشترط بحصول شرائط.

(٦) تفصيل لذلك الإجمال وبيان لكيفيّة فعلية الحكم وتنجّزه في كلّ من الأقسام الأربعة ، وما يترتّب عليها من حكم موارد الشبهة المصداقيّة لكلّ منها.

__________________

(*) الموجود في الطبعة الاولى ( متوقفا وكونه ) والصحيح ما أثبتناه.

٢٠٠