الصّلاة في المشكوك

الميرزا محمّد حسين الغروي النّائيني

الصّلاة في المشكوك

المؤلف:

الميرزا محمّد حسين الغروي النّائيني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-053-6
الصفحات: ٥٥١

كالطهارة الحدثيّة والخبثيّة وغير ذلك.

وذهب غير واحد (١) تبعا لمحكيّ المنتهى إلى الثاني ، وعليه بنوا رجوع الشبهة المبحوث عنها إلى الشكّ في الامتثال (٢) إمّا مطلقا ، أو بالتفصيل الأخير (٣) ـ كما ستعرفه.

واختار الثالث في الجواهر ، لكنّه عمّم المانعيّة لجميع ما يصلّى فيه من اللباس وعوارضه والشعرات الملقاة والمحمول ، نظرا إلى ظهور صدر الموثّقة (٤) في المانعيّة وشمول الظرفيّة فيه لجميع‌

__________________

(١) تقدّم كلام العلاّمة قدس‌سره في المنتهى والمصرّح فيه بالشرطية ، وهي ظاهر كشف اللثام ، ومفتاح الكرامة أيضا.

(٢) فذهبوا لأجله إلى المنع ، لأنّ القيد الوجودي لا بدّ من إحرازه لدى الامتثال ، والشك في تحققه شك في الامتثال ، وهو مجرى قاعدة الاشتغال.

(٣) وهو القول الرابع المتقدم نقله في أوّل الرسالة عند تحرير أقوال المسألة ، وهو التفصيل بين ما إذا علم أنّه من أجزاء الحيوان وشكّ في مأكوليته فالمنع ، وما إذا لم يعلم ذلك وكانت النباتية أيضا محتملة فالجواز ، وستعرف أن القائل بهذا التفصيل يرى اختصاص شرطية المأكولية بما إذا كان من أجزاء الحيوان ، فيختصّ الشك في الامتثال بهذه الصورة لا محالة.

(٤) وهو قوله عليه‌السلام : « الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله فالصلاة في وبره. فاسدة » فإنه ظاهر في المانعية ، والظرفية فيه شاملة للباس وعوارضه والشعرات والمحمول ، وقد مرّ بيان كيفية شمولها والتوسّع فيها.

١٢١

ذلك ، وقد استظهر شرطيّة المأكوليّة أيضا من ذيلها (١) ، لكنّه خصّصها باللباس ، لخلوّه عمّا يوجب التوسّع في الظرفية فيه (٢) ، وقد التزم في خصوص اللباس بكلا الأمرين بزعم عدم التنافي ، وفرّع ما اختاره من التفصيل في جوازها (٣) في المشتبه بين اللباس وغيره من المذكورات على ذلك (٤) ، بناء منه (٥) على المفروغيّة عن‌

__________________

(١) وهو قوله عليه‌السلام : « لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّى في غيره مما أحلّ الله أكله » ، وسيأتي البحث عنه.

(٢) فيؤخذ بظاهر الظرفية فيه وهو الظرفية الحقيقية الخاصّة باللباس.

(٣) أي جواز الصلاة.

(٤) يعني على تعميمه المانعية للجميع وتخصيصه الشرطية باللباس ، قال قدس‌سره في الجواهر ( ٨ : ٨٢ ) : « ولكن قد يقال : إن المستفاد من الموثق المزبور شرطية المأكول بالنظر إلى الملبوس نفسه ، أمّا ما كان عليه من الشعرات ـ بناء على المنع منها ـ أو الفضلات أو المحمول أو نحو ذلك فلا دلالة فيه على اشتراط كونه من المأكول كي لا يجزي الصلاة مع الشك فيها ، بل هي تبقى على النهي عنها من غير المأكول ، فمع تحققها تبطل الصلاة ، ومع الشك فلا » انتهى موضع الحاجة ، ومحصّله أنّه لا دليل على الشرطية بالنسبة إلى غير الملبوس ، بل مجرد المانعية المستتبعة للصحة مع الشك ، أمّا الملبوس فقد دلّ الدليل على الشرطية أيضا بالنسبة إليه ، ومقتضاها البطلان لدى الشك.

(٥) تعليل لاختياره التفصيل المذكور ، فإنّ مقتضى الأصل المذكور عدم وقوع الصلاة في المأكول المعتبر شرطا في اللباس فتبطل ، وعدم وقوعها في غير المأكول المعتبر مانعا في غير اللباس فتصح ، وسيأتي تحقيق الحال في هذا الأصل في المقام الثالث من مقامات البحث عن الأصول العملية التي وقع البحث عن جريانها في المقام.

١٢٢

حجيّة أصالة العدم عند الشكّ في أيّ حادث يترتّب الأثر على وجوده ، وجعل الجواز والعدم في المشتبه مبنيّا على القول بمانعيّة غير المأكول وشرطيّة المأكوليّة من ذلك (١) ، وتقدّم ابتناء ما اختاره من الجواز فيما انفصل عن الإنسان مطلقا إذا كان من العوارض أو المحمول ، واستشكاله في الثوب المنسوج من شعره أيضا على ذلك (٢) ، ولا يهمّنا التعرّض لمواقع النظر فيما أفاده.

وإنّما المهمّ في المقام هو البحث أوّلا عن إمكان اجتماعهما (٣) في الضدّين أو امتناعه ، ثم تنقيح ما يستفاد في مقام الإثبات من أدلّة الباب.

أمّا الأوّل : فلا يخفى أنّ امتناعه من فروع امتناع الجمع بين الضدّين (٤) ، ويلحقه في الوضوح.

أمّا في التكوينيّات فظاهر ، لأنّ مناط شرطيّة الشرط (٥) وكونه‌

__________________

(١) الظاهر أن الظرف متعلق بـ ( جعل ) ، و ( في ) سببية ، يعني أنه قدس‌سره جعل الجواز وعدمه مبنيا على القولين ـ كما تقدّم نقله عنه لدى سرد الأقوال ـ بسبب بنائه على المفروغية عن حجية الأصل المذكور.

(٢) تقدّم نقل ذلك عنه قدس‌سره لدى البحث عن الصلاة في أجزاء الإنسان وفضلاته ، حيث بنى التفصيل المذكور على اختصاص الشرطية باللباس.

(٣) اي اجتماع الشرطية والمانعية.

(٤) سيتضح لك وجهه قريبا.

(٥) مهّد قدس‌سره لإثبات مطلوبه والبرهنة عليه مقدمة تعرّض فيها لبيان المناط لكل من أجزاء العلة الثلاثة : المقتضي والشرط وعدم المانع ، وموقعه من‌

١٢٣

من أجزاء العلّة هو توقّف تماميّة المقتضي ـ فيما له من التأثير في إفاضة المعلول ـ على وجوده ، كمجاورة النار للأجسام القابلة للاحتراق بها ، فإنّها إنّما تكون محترقة لها بالمجاورة ، لا بنفس ذاتها. ومناط مانعيّة المانع هو دفاعه عن تلك الفاعليّة ، ودفعه لذلك التأثير الحاصل للمقتضي بمعونة شرطه ، كما إذا كان ما جاورته النار ذا رطوبة حافظة له دافعة لتأثيرها في إحراقه ، ونحو ذلك ، وبهذا الاعتبار (١) عدّ عدم المانع أيضا من أجزاء العلّة ، وإلاّ فالذي‌

__________________

تركيب العلّة ، ووجه دخله في ترتّب المعلول عليه ، فأفاد قدس‌سره : أن المقتضي هو الذي يترشّح منه وجود المعلول ويكون له الفاعليّة والتأثير في إفاضته ولا شأن للآخرين في هذه المرحلة ـ أعني مرحلة الرشح والتأثير ـ ، كما في النار بالنسبة إلى الاحتراق ، أمّا الشرط فهو الذي يتوقف تمامية المقتضي في فاعليّته وتأثيره عليه فلا تأثير له بالفعل إلا بمعونته ولدى تحققه ، كالمجاورة ـ في المثال ـ فإنّ النار لا تحرق الجسم القابل للاحتراق بنفسها ، وإنما تحرقه إذا جاورها ، وأمّا المانع فهو الذي يمنع عن تأثير المقتضي بمعونة شرطه في مقتضاه ويدفع عن فاعليّته له ، كما في الرطوبة الحافظة للجسم والدافعة لتأثير النار المجاورة له في احتراقه ، ولأجله كان وجود المعلول متوقفا على انتفائه ، كما هو متوقف على وجود المقتضي وشرطه.

(١) أي باعتبار كون المانع دافعا عن المحل تأثير المقتضي فيه كان وجود المعلول متوقفا على عدمه ، فعدّ هذا العدم بهذا الاعتبار من أجزاء علّته ، لا باعتبار كونه جزءا مؤثرا في وجود المعلول راشحا له ، إذ الرشح‌

١٢٤

يترشّح عنه وجود المعلول هو المقتضي وإن كان رشحه له متوقّفا على اجتماع الأمرين ، وتنحسم مادّة الإشكال (١) في عدّ العدم من أجزاء علّة الوجود بذلك ، ويتّضح سرّ الترتّب والطوليّة (٢) بين أجزاء‌

__________________

والتأثير يختص بالمقتضي فهو العلة وتمام المؤثر ، لكن بما أن تأثيره موقوف على اجتماع الأمرين : الشرط وعدم المانع ، فبهذا الاعتبار عدّا من أجزاء العلة.

(١) فإن الإشكال الضروري الورود ـ من أنّ العدم لا يعقل أن يكون مؤثرا أو جزء المؤثر في شي‌ء ، فكيف عدّ عدم المانع من أجزاء العلة ـ إنما تنحسم مادّته بما ذكر من أنه لا يراد بالعلة ماله التأثير ومنه الوجود ، بل مطلق ما يتوقف عليه الوجود.

(٢) غرضه قدس‌سره بيان أن الطولية والترتب الواقع بين أجزاء العلة الثلاثة في مقام الفعلية والتأثير إنما هو من متفرعات ما ذكر من المناط لكل من الثلاثة ، فإنّ مقتضى ما ذكر أن يكون الشرط متأخرا رتبة عن المقتضي ، ويكون عدم المانع متأخرا كذلك عنهما في كل من طرفي التأثير وعدمه ، ذلك لأن الشرط ليس له أثر في وجود المعلول ولا في عدمه إلاّ بعد وجود المقتضي ، فما لم توجد النار لا يستند عدم الاحتراق إلى انتفاء المجاورة بل إلى انتفائها ، وإذا وجدت وتحقق معها المجاورة فحينئذ كان لها الدخل في وجود الاحتراق ، وإن لم تتحقق معها استند عدم الاحتراق إلى انتفائها ، كما أن المانع لا أثر له وجودا ولا عدما إلاّ بعد اجتماع الأولين ، فإذا لم توجد النار ، أو وجدت ولم تتحقق المجاورة لم يستند عدم الاحتراق إلى وجود الرطوبة ، بل إلى أحد الأمرين ـ كما عرفت ـ ، نعم إذا وجدتا فإن وجدت الرطوبة أيضا استند عدم الاحتراق إليها وإن لم‌

١٢٥

العلّة في كلا طرفي التأثير في وجود المعلول وعدمه من ذلك ، فلا يكون للشرط أثر لا وجودا ولا عدما إلاّ بعد وجود المقتضي ، ولا للمانع أيضا إلاّ بعد اجتماع الأمرين.

وكيف كان فمقتضى كون الشرط متمّما (١) لفاعليّة المقتضي في إفاضة المعلول ، وكون المانع كاسرا ودافعا لتلك الفاعليّة الحاصلة للمقتضي بمعونة شرطه هو امتناع أن يجتمع مناط الأمرين وشأنيّتهما (٢) ، فضلا عن فعليّتهما التي عرفت الترتّب والطوليّة‌

__________________

توجد وجد الاحتراق وكان لعدمها دخل في وجوده ، ويتحصّل من كلّ ذلك أنه إذا وجد المعلول استند إلى جميع أجزاء علته إذ كان لكل منها دخل في وجوده ، وإن لم يوجد فبما أنه يكفي في عدمه عدم أحد الثلاثة والمفروض أنّ بينها ترتّبا وطوليّة فيستند العدم ـ لا محالة ـ إلى عدم أسبقها رتبة ـ حسبما عرفت.

(١) أعاد قدس‌سره هنا ذكر مناط الأمرين توطئة ليفرّع عليه النتيجة المطلوبة ، أعني : امتناع اجتماع الأمرين مناطا وفعلية في ممتنعي الجمع كالضدين ـ كما ستعرف.

(٢) مناط الأمرين وما يرجع إلى مقام الشأنية هو ما ذكر من أن الشرط متمّم لفاعلية المقتضي والمانع دافع لهذه الفاعلية المتمّمة بمعونة الشرط ، ويقابله مقام فعليتهما ، وهو مقام دخلهما بالفعل في وجود المعلول وعدمه.

ومقتضى قوله : « فضلا عن فعليتهما » هو كون امتناع اجتماع الأمرين في الضدين ونحوهما من ممتنعي الجمع بالنسبة إلى مقام الفعلية أوضح من مقام الشأنية والمناط ، ووجهه ما مرّ من وضوح أنّه لا أثر للمانع وجودا‌

١٢٦

فيها (١) إلاّ في ممكني الجمع ، ويكون التضاد الموجب لامتناع اجتماع الأضداد هو الموجب لامتناع اجتماعهما (٢) في الضدّين.

وقد ظهر من ذلك أنّه لقد أجاد المحقّق الخونساري قدس‌سره فيما أفاده (٣) من امتناع استناد عدم الشي‌ء إلى وجود مانعه إلاّ بعد وجود‌

__________________

ولا عدما إلاّ بعد وجود الشرط ، وعليه فإذا فرض أنّ الشرط هو أحد الضدين ، وقد فرض وجوده ودخله في التأثير امتنع وجود الضد الآخر معه ، لامتناع اجتماع الضدين ، فكيف يفرض له المانعيّة الفعليّة ، كما أنه إذا فرض العكس وأنّ أحد الضدين مانع وفرض وجوده ومانعيته عن التأثير فكيف يعقل شرطية الضد الآخر وفرض وجوده ودخالته في التأثير. وأمّا الامتناع بالنسبة إلى مقام الشأنيّة والقوّة فلأنّه إذ فرض تحقّق مناط الشرطيّة في أحد الضدين فكان له شأنيّة المتمميّة لفاعلية المقتضي فكيف يمكن تحقّق ملاك المانعية في ضده الآخر ، ويكون له صلاحية الدفع للفاعلية المتممة بالضد الأول ـ حسب الفرض ـ ، فإنّ ثبوت هذه القوة والشأنيّة له فرع إمكان اجتماعه مع الأوّل ، والمفروض امتناعه لتضادّهما ، ونحوه لو انعكس الفرض وفرض تحقّق مناط المانعيّة في أحد الضدين ، إذن فلا يعقل تحقق المناطين إلاّ في شيئين ممكني الجمع خارجا ـ كما هو ظاهر بالتأمل.

(١) أي في الفعليّة.

(٢) أي اجتماع الشرطيّة والمانعيّة في الضدين ـ حسبما شرحناه ـ ، وهذا هو معنى ما أفاده قدس‌سره في صدر البحث من أن امتناع اجتماعهما في الضدين من فروع امتناع اجتماع الضدين.

(٣) ادّعى المحقّق المذكور قدس‌سره استحالة أن يستند عدم أحد الضدين إلى‌

١٢٧

__________________

وجود الضد الآخر ـ استناد عدم الشي‌ء إلى وجود مانعه ـ ، وبرهن عليه بما يتألف من أمرين : أحدهما ما تقدم بيانه من أنّ عدم الشي‌ء يمتنع أن يستند إلى وجود مانعه إلاّ بعد وجود مقتضيه وتمامية اقتضائه بوجود شرطه ، وإلاّ لاستند العدم إلى عدم المقتضي أو الشرط ، والثاني أنه يستحيل اجتماع المقتضي للضدين حذو استحالة اجتماع الضدين أنفسهما ، واستنتج من ذلك أنه لا يمكن وجود الضد المانع ومانعيّته عن تأثير مقتضي الضد الممنوع ليستند عدم الممنوع إلى وجوده ، لأنّ وجوده متوقف على وجود مقتضيه ، ومانعيته متأخرة عن وجود مقتضي الممنوع وشرطه ، فلزم اجتماع مقتضي الضدين ـ المحال ـ ، هذا.

وقد استجود المحقّق الجدّ قدس‌سره استدلاله هذا ، ووافقه في دعواه امتناع اجتماع مقتضي الضدين ، وعلّله في الأصول ـ على ما في تقريرات بحثه ـ بأنّ اقتضاء المحال كنفسه محال ، وأنّه لا فرق في ذلك بين المقتضيات التكوينيّة وبين الإرادة المقتضية للأفعال الاختيارية ، وأنّ من الواضح استحالة تعلق إرادتين من شخص واحد بفعلين متضادّين ، أمّا بالنسبة إلى شخصين فتكون الإرادة الغالبة القاهرة منهما هي المقتضية دون الأخرى ، ثم أفاد قدس‌سره أنه إن أبيت إلاّ عن أنّ عدم تأثير الأضعف أو المساوي إنما يستند إلى وجود مزاحمة ، إذ لولاه لأثّر أثره ، فلا قصور في اقتضاء أيّ منهما ، إلاّ أنّه لا مناص من القول بأنّ عدم أحد الضدين إنما يستند إلى وجود مقتضي الضد الآخر الأقوى منه أو المساوي ، لا إلى وجود الضد الآخر نفسه ـ كما يدعيه الخصم ـ ، ويشهد له أنّه لا وجود للضد الآخر نفسه في صورة التساوي ـ كما لا يخفى ـ ، راجع أجود التقريرات ( ١ :

١٢٨

__________________

٢٥٥ إلى ٢٥٧ ). وسيأتي منه قدس‌سره هنا التصريح بالمطلب الأخير في التنبيه الرابع من تنبيهات الخاتمة إذ يقول : « فإنّ غاية ما يقتضيه امتناع تأثير كلّ منهما ـ يعني بهما مقتضي الوجوب والحرمة. إنما هي خروج الأضعف منهما عن صلاحيّته لذلك بأقوائيّة الآخر لا بوجود ما يقتضيه ».

هذا وقد أورد على المطلب الأول ـ امتناع اجتماع مقتضيي الضدين ـ المحقّق الأصفهاني قدس‌سره في نهايته ( ٢ : ١٩٠ الطبعة الحديثة ) بأن استحالة اقتضاء المحال أجنبية عمّا نحن فيه ، فإنها فيما إذا كان شي‌ء واحد مقتضيا لأمرين متنافيين ، لا فيما إذا كان شيئا يقتضي كلّ منهما أمرا مضادا لما يقتضيه الآخر ، فسبب البياض لا يقتضي إلاّ البياض ، وكذا سبب السواد ، وليس هناك سبب يقتضي بذاته البياض والسواد حتى يكون مقتضيا للمحال. وإليه يرجع ما أورده السيّد الأستاذ قدس‌سره في تعليقته على أجود التقريرات ( ١ : ٢٥٥ ) من أن كلاّ من المقتضيين إنما يقتضي أثره في نفسه ومع قطع النظر عن الآخر ، فمقتضى البياض إنما يقتضيه في نفسه ، كما أن مقتضي السواد يقتضيه كذلك ، ولا استحالة في ذلك ، وإنما المستحيل هو اقتضاء شي‌ء للبياض المقارن للسواد. وأضاف قدس‌سره أنه لو لا ما ذكرناه ـ يعني من إمكان اجتماع المقتضيين في أنفسهما ـ لاستحال استناد عدم الشي‌ء إلى وجود مانعه ، لأنّ الأثر المترتّب على وجود المانع إن لم يكن مضادّا للممنوع فلا موجب لكونه مانعا منه ، وإن كان مضادا له فكيف يعقل وجود المقتضي لما فرض ممنوعا ليستند عدمه إلى وجود المانع.

أقول : يمكن أن يقال إنّ كلّ ما يفرض في الخارج من قبيل اجتماع‌

١٢٩

__________________

مقتضي الضدين فهو في الحقيقة ليس منه ، لأن هناك قصورا لا محالة في أحد المقتضيين أو كليهما ، فإذا فرضنا أنّ هبوب الرياح يقتضي حركة الجسم إلى المشرق وإشعاع الشمس يقتضي حركته نحو المغرب ، فذات المقتضيين وإن وجدا إلاّ أنّه لا يخلو أحدهما عن قصور في اقتضائه ، فإن الذي له اقتضاء التأثير في مثل هذه الموارد هو الأقوى منهما ، فالأضعف قاصر الاقتضاء ، وإذا تساويا قوة وضعفا فكلاهما قاصران عن الاقتضاء ، والمقتضي إنما هو البالغ منهما درجة من القوة بحيث يغلب على الآخر. وبعبارة أخرى : عدم تحقّق الحركة نحو المشرق ـ في المثال ـ ليس مستندا إلى وجود الشعاع ، إذ قد يكون موجودا ومع ذلك تتحقق تلك الحركة ، كما إذا كانت الرياح المحرّكة لها أقوى من الشعاع ، بل عدم تحققها مستند إلى ضعف الرياح بالنسبة إلى الشعاع أو مساواتها له في المرتبة ، والجامع وجود القصور فيها ، وإلاّ فلو لا القصور لكانت متّصفة بصفة الاقتضاء ، ولا أقلّ من القول بأنّ لقصور الرياح دخلا في عدم تحقق مقتضاها وإن كان لوجود الشعاع أيضا دخل فيه إلاّ أن استناد العدم إلى قصور المقتضي في نفسه أسبق من استناده إلى أمر خارجي ـ كما مر ـ ، بل إذا فرض أن النار القويّة لا تمنعها الرطوبة من التأثير وإنّما تمنع الضعيفة ، فإذا وجدت الضعيفة ولم تؤثّر لمكان وجود الرطوبة فعدم تأثيرها يستند إلى ضعفها قبل أن يستند إلى وجود الرطوبة.

وبالجملة : القول بمانعية الضد الآخر فيما إذا كان أقوى من مقتضي الأوّل أو مساويا له دون ما إذا كان أضعف ليس بأولى من القول بعدم اتصاف مقتضي الأوّل بالاقتضاء فيما إذا كان أضعف من مقتضي الآخر أو‌

١٣٠

__________________

مساويا له ، بل الثاني أولى ـ كما عرفت ـ ، هذا.

وعن بعض أكابر المحققين ـ دامت بركاته * ـ الإيراد على المطلب : بأنّ مردّه إلى أن مقتضي الضد إنما يتصف بصفة الاقتضاء إذا كان قاهرا على مقتضي الضد الآخر ، وإذ لا خصوصية لمقتضي الضد الآخر في ذلك من بين سائر الموانع فلا بد من اعتبار كونه قاهرا على سائر الموانع أيضا ، ولازم هذا إلغاء دور عدم المانع المعدود جزءا للعلّة التامة والالتزام بانحصار أجزائها في المقتضي والشرط.

ويشكل بمنع الملازمة ، فإنه قد لا تتحقّق قاهريّة ومقهوريّة بين المقتضي والمانع ، ويكون المقتضي بذاته مقتضيا لا بمرتبته ، وكذا المانع ، فإذا وجد ذات المقتضي وفقد ذات المانع أثّر أثره ، وإن وجد المانع منعه عن التأثير ، وقد يفرض اختلاف المراتب في ناحية المانع دون المقتضي فيكون المانع بمرتبته الشديدة مانعا دون الضعيفة ، فإذا وجد ذات المقتضي ولم توجد تلك المرتبة من المانع أثّر ، وإن وجدت منعته من التأثير ، ولا قاهريّة في البين ، ولم يسقط عدم المانع عن جزئيته للعلّة التامة في شي‌ء من الموردين ، نعم إذا فرض الاختلاف في ناحية المقتضي فقط ـ كما مرّ في مثال النار القويّة والضعيفة ـ فحينئذ إذا وجدت القويّة أثّرت في الإحراق لقاهريّتها على الرطوبة الموجودة وسقوط الرطوبة حينئذ عن المانعيّة ، وإن وجدت الضعيفة لم تؤثّر وكان استناد عدم الأثر إلى ضعفها وقصورها أولى من استناده إلى وجود المانع.

__________________

(*) هو العلم الباهر والبحر الزاخر ، بدر سماء التحقيق والتدقيق ، الفقيه الربانيّ السيّد علي الحسيني السيستاني ـ دام وجوده الشريف ـ ، ( منه عفي عنه ).

١٣١

المقتضي وتماميّة اقتضائه بوجود شرطه ، وحيث يستحيل وجود المقتضي للضدّين فيستحيل أن يدفع أحدهما تأثير مقتضي الآخر في إفاضة وجوده ، ويستند عدمه إليه.

لكنّ العجب أنّه قد حاول أن يدفع الدور (١) الوارد على من‌

__________________

وأمّا ما أفاده السيّد الأستاذ قدس‌سره ثانيا ، فيلاحظ عليه أنّه لا ملزم لأن يكون المانع ذا أثر مضادّ للممنوع ، فالرطوبة المانعة عن تأثير النار في الاحتراق ليست مانعيّتها بملاك أنها تقتضي أثرا مضادّا للاحتراق ، إذ قد لا يترشح منها أثر ، بل لها خاصيّة مودعة في ذاتها وهي دفعها لتأثير النار في المحلّ وحفظها له عن التأثّر والاحتراق.

(١) ذكروا في مبحث الضد أن بعضهم استدلّ على اقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضدّه بأن وجود أحد الضدين متوقف على عدم ضده توقف الشي‌ء على عدم مانعه ، فعدمه مقدمة لذلك الوجود المأمور به ، فيجب ، فيحرم فعله ، وقد أوردوا عليه بوجوه : منها استلزامه الدور ، فإن الموجب لتوقّف وجود أحدهما على عدم الآخر هو التمانع المتحقّق بينهما وكون وجود كلّ منهما مانعا عن وجود الآخر ، ومتى ما كان وجود شي‌ء مانعا عن آخر كان عدم الآخر مستندا إلى وجوده ، فتوقف عدم أحد الضدين على وجود ضده ، والمفروض أن وجوده أيضا متوقف على عدمه ، فلزم الدور.

وقد حاول المحقّق الخونساري قدس‌سره أن يدفع الدور بما حكيناه عنه من أن الشي‌ء إنما يكون مانعا ويستند عدم الممنوع إليه فيما إذا وجد مقتضي الممنوع بجميع شرائطه ، وهذا في الضدين محال لاستحالة اجتماع مقتضييهما ، إذن فلا توقف من أحد الطرفين ، لكنه قدس‌سره

١٣٢

توهّم مقدميّة ترك أحد الضدّين لفعل الآخر بذلك ، مع أنّه يهدم أساس ذلك التوهّم من أصله ، ضرورة امتناع أن يتوقّف وجود شي‌ء بعد وجود المقتضي وشرطه إلاّ على انتفاء ما يدافع المقتضي ويدفع تأثيره في إفاضة وجود ذلك الشي‌ء ، ويكون علّة لعدمه ، أمّا ما يستحيل دفعه لذلك التأثير فلا يعقل أن يكون لعدمه دخل في علّة وجود ذلك الشي‌ء ، وإلاّ كان عدم كلّ شي‌ء من أجزاء العلّة لوجود كلّ شي‌ء ، وظاهر أنّه بعد ما امتنع أن يكون وجود أحد الضدين علّة لعدم الآخر ، ويدفع تأثير المقتضي في إفاضة وجوده امتنع أن يتوقّف وجود الآخر أيضا على عدمه ـ توقّف الشي‌ء على عدم مانعه ـ ، ضرورة ترتّب هذا التوقّف (١) على تلك العلية ، وإذا‌

__________________

سلّم المقدّميّة والتوقف من الطرف الآخر ، وأنّ وجود أحد الضدين متوقف على عدم الآخر فيما إذا كان الآخر موجودا ، مع أن ما دفع به الدور يهدم أساس المقدميّة ، ويقتضي امتناع التوقف من الطرفين ، ضرورة أنه إذا امتنع كون أحد الضدين مانعا عن الضد الآخر ومستندا عدمه إليه فكيف يعقل أن يكون لعدمه دخل في علة وجود الآخر ، وأيّ ملاك غير المانعية يقتضي كون عدم شي‌ء من أجزاء علّة وجود شي‌ء آخر ، والمفروض انتفاء المانعية في الضدين ، فلو كان لعدم أحدهما ـ مع ذلك ـ دخل في وجود الآخر لزم ـ كما أشار إليه المصنف قدس‌سره ـ أن يكون لعدم كلّ شي‌ء دخل في وجود كلّ شي‌ء لانتفاء الخصوصية للضدين ، وهو كما ترى.

(١) يعني ترتّب توقّف الشي‌ء على عدم مانعه على عليّة وجود المانع لعدم الممنوع ، فإذا امتنعت العلية امتنع التوقّف المترتّب عليها ـ لا محالة.

١٣٣

امتنعت امتنع ما يترتّب عليها أيضا ـ لا محالة ـ ، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محلّه.

وأمّا في التشريعيّات فلأنّ دخل وجود الشرط وعدم المانع في متعلّق الحكم أو موضوعه وإن كان ناشئا عن تقييده بهما (١) ، وكانت شرطيّة الشرط ومانعيّة المانع منتزعة عن ذلك (٢) ـ لا محالة ـ ، لكن لمّا كان دخله في ملاك الحكم (٣) ناشئا ـ على أصول‌

__________________

(١) أي تقييد متعلق الحكم أو موضوعه بوجود الشرط وعدم المانع.

(٢) أي عن التقييد المذكور ، وهذه إشارة إجمالية إلى ما هو مفصّل في الأصول من أنّ الشرطية والمانعية ـ كالجزئية والسببية ـ ليست من الأمور الاعتبارية المجعولة استقلالا أو تبعا ، بل أمور انتزاعية تنتزع من تعلّق الحكم بفعل مقيّد بوجود شي‌ء أو بعدمه ، أو من تعليق الحكم على أمر مقيّد كذلك ، فتنتزع من الأوّل الشرطية أو المانعية للمتعلق ، ومن الثاني الشرطية أو المانعية للموضوع.

(٣) محصّل المرام : أن منشأ دخل الأمرين ـ وجود الشرط وعدم المانع ـ في الحكم وإن كان هو تقييده بهما خطابا ، فينتزع عنه الشرطية والمانعية الشرعيتان ، لكن لمّا كانت الأحكام الشرعية ـ بناء على أصول العدلية ـ تابعة للملاكات الواقعية ، وناشئة عن العلل الغائية التكوينية فلا محالة يستكشف دخلهما في ملاك الحكم دخلا واقعيا تكوينيا ، ويكون وجه دخلهما فيه توقّفه على وجود الأول وعدم الثاني توقفا تكوينيا ـ شأن توقّف كلّ معلول تكويني على وجود شرطه وعدم مانعه ـ ، إذن فيندرج الشرط والمانع الشرعيان ـ بالنسبة إلى ملاك الحكم ـ في باب الشروط والموانع التكوينية ، فإذا امتنع اجتماع مناطيهما في الضدين تكوينا ـ كما تقدم ـ جرى ذلك في التشريعي بعينه.

١٣٤

العدليّة ـ عن توقّفه على ذلك الوجود وهذا العدم ـ توقّف كلّ معلول تكوينيّ على وجود شرطه وعدم مانعه ـ وكانت الشرطيّة والمانعيّة التكوينيّة بالنسبة إلى الملاك هي ملاك التقييد (١) المنتزعة عنه الشرطيّة والمانعيّة التشريعيّة ، فسبيلهما من هذه الجهة سبيل سائر التكوينيّات ، ويستحيل اجتماع ملاكيهما في الضدّين ـ كما تقدّم.

مضافا إلى امتناع تشريعهما خطابا أيضا ـ ولو مع الغضّ عن امتناع الملاكين (٢) ـ ، فإن المتلازمين سواء كانا وجوديّين أو كان أحدهما وجوديّا والآخر عدميّا (٣) كما لا يصلحان لتعلّق الحكمين المتنافيين بهما (٤) لمكان التنافي ، وعنه ينشأ تعارض الدليلين‌

__________________

(١) يعني أنّ منشأ التقييد في مرحلة الحكم المنتزع عنه الشرطية والمانعية الشرعية هو الشرطيّة والمانعيّة التكوينيّة المتحقّقة في مرحلة الملاك.

(٢) محصّله أنه لو فرض ـ محالا ـ إمكان كون أحد الضدين شرطا في ملاك الحكم والآخر مانعا عنه ، ولم يلزم منه محذور ، لكنه يمتنع الجمع بينهما خطابا في مرحلة التشريع ـ بتقييد الواجب بوجود أحدهما وعدم الآخر معا ـ للزوم اللغوية الممتنع وقوعها من الشارع الأقدس ، فإنّه إذا قيّد الواجب بأحدهما حصل قهرا التقيّد بعدم الآخر ، للتلازم بين الأمرين ، ومعه فتقييده بهذا العدم بجعل آخر لغو واضح.

(٣) فالأوّل كاستقبال الشمال واستدبار الجنوب ، والثاني كلبس المأكول وعدم لبس غير المأكول.

(٤) كتعلّق الوجوب بأحد المتلازمين والحرمة بالآخر ، وكتقييد الواجب‌

١٣٥

الكاشفين عن ذلك فيما إذا كان التلازم دائميّا ، وتزاحم الحكمين في الاتّفاقي ـ كما حرّر في محلّه ـ ، فكذا لا يصلحان لتعلّق الحكمين المتوافقين أيضا بهما ، لمكان اللغويّة (١) ، فإذا قيّد الواجب بوجود أحد الضدّين كان تقيّده بعدم الآخر حاصلا بالتبع قهرا ، ويكون تقييده به بتشريع مستقلّ آخر من اللغو المنزّه عنه مقام الشارعيّة ، ولو كان ذلك مؤدّى الدليلين كان سبيلهما سبيل المتعارضين ـ كما عرفت (٢).

نعم لو كان متعلّق التكليف ـ كالصلاة مثلا ـ مشتملا على‌

__________________

بوجود أحدهما وعدم الآخر ، لأن مقتضى التلازم بينهما هو وقوع التنافي بين الحكمين المتنافيين المتعلّقين بهما ، والتنافي بين الحكمين ـ كما تنبئ عنه العبارة ـ يدرج المورد في باب التعارض تارة ، والتزاحم اخرى ، ويختص التعارض بكون التنافي في مقام جعل الحكم وتشريعه ـ على نحو القضية الحقيقيّة ـ ، وطرفا التعارض هما الدليلان الكاشفان عن جعل الحكمين ، كما يختص التزاحم بكون التنافي في مقام فعليّة الحكم دون جعله ، وطرفاه هما الحكمان أنفسهما ، والتلازم المفروض في المقام إن كان دائميا ـ كما في المثالين المتقدمين ـ اندرج في باب التعارض لمكان تنافي الجعلين ، وإن كان اتفاقيا كاستقبال القبلة واستدبار الجديّ اندرج في باب التزاحم لعدم التنافي بين الجعلين ، بل بين الحكمين المجعولين.

(١) لا يخفى اختصاص اللغوية بموارد التلازم الدائمي ـ كما في محل الكلام ـ دون الاتفاقي ، لعدم لزوم اللغوية فيه.

(٢) إذ قد عرفت أن المتعارضين هما الدليلان الكاشفان عن حكمين لا يمكن اجتماعهما في مرحلة الجعل ، والمقام كذلك ، إذ المفروض أن جعل أحد الحكمين لغو ممتنع صدوره من الشارع المقدّس.

١٣٦

الجزء الصوريّ (١) والهيئة الاتصاليّة التي توجد بأوّل أفعاله وتنتهي بانتهائها ، وقد أخذ وجود أحد الضدين قيدا لأفعاله (٢) ـ كما لعلّه‌

__________________

(١) الرابط بين أجزائه الماديّة وأفعاله الحسيّة والمستمر من المبدإ إلى المنتهى ، وظاهر شيخنا الأنصاري قدس‌سره في الثامن من تنبيهات الاستصحاب من فرائده اختياره ، إذ قال : إنّما نستكشف من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة بالقاطع أنّ هناك هيئة اتصالية معتبرة فيها تنهدم بعروضه وتنقطع به ، لكنّه لم يرتضه المحقق الجدّ قدس‌سره ـ وفاقا لاستاذه المجدد الشيرازي قدس‌سره ـ ، وأفاد أن أدلّة القواطع قاصرة الدلالة على ذلك ، وأن غاية ما يستفاد منها اعتبار عدم هذه الأمور أثناء الصلاة حتى في سكناتها كاعتبار عدم الموانع في خصوص أفعالها ، راجع أجود التقريرات ( ٢ : ٤٣٨ ). ويأتي منه قدس‌سره التعرض للقولين في أوائل المقام الثالث المعقود للبحث عن جريان الأصل الموضوعي.

هذا وقد أفاد قدس‌سره هنا أنه لو فرض ثبوت الجزء الصوري في مورد ـ كما إذا فرض تعلّق التكليف الصلاتي مثلا بما يشتمل على الجزء المذكور ـ وفرض أيضا أن أحد الضدين ـ كالطهارة ـ اعتبر شرطا لأفعال الصلاة ، فحينئذ وإن لم يمكن اعتبار الضدّ الآخر ـ كالحدث ـ مانعا لها ، لما تقدم من لزوم اللغويّة ، إلاّ أنه لا مانع من اعتباره قاطعا للهيئة الاتصالية المفروضة ، فإنّه اعتبار زائد ، فلا يلزم منه المحذور المذكور.

أقول : بل لا مانع من اعتباره قاطعا ولو لم يثبت الجزء الصوري ، إذ القاطعيّة ـ كما عرفت ـ لا تستدعي الجزء الصوري ، ولا تقتضي سوى اعتبار العدم في أفعال الواجب وأكوانه جميعا ، وهذا اعتبار زائد على اعتبار المانعية الخاص بأفعال الواجب.

(٢) أي لأفعال متعلق التكليف.

١٣٧

الأصل (١) في القيود ـ أمكن أن يعتبر الآخر قاطعا لتلك الهيئة ، ويقيّد المطلوب بعدم تخلّله في أثنائه ـ كما في شرطيّة الطهارة مثلا وقاطعيّة الحدث ، ونحو ذلك ـ ، ولو كان الشرط الوجوديّ قد اعتبر في أكوانه أيضا (٢) ـ كما في ستر العورة ـ امتنع جعل الآخر قاطعا أيضا حذو المانعيّة فيما تقدّم ، هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات فلا يخفى أنّ أدلّة الباب مطبقة المفاد على مانعيّة غير المأكول ، وما توهّم ظهوره في شرطيّة المأكوليّة بمعزل عن ذلك (٣).

أمّا الأوّل : فلما عرفت من أنّ المانعيّة الشرعيّة ناشئة ـ ملاكا ـ عن مانعيّة الخصوصيّة الوجوديّة المانعة في عالم التكوين عن اشتمال متعلّق التكليف على ملاك حسنه ، ومنتزعة ـ خطابا ـ عن تقييده بعدم التخصّص بها (٤) ، وإطباق مفاد الأدلّة على ذلك ظاهر ، إذ هي‌

__________________

(١) أي أخذه قيدا لأفعاله خاصّة دون أكوانه لعلّه الأصل في القيود ، وذلك لظهور دليل التكليف في تعلّقه بالأفعال خاصّة دون الأكوان المتخللة ، وظهور دليل القيد في كونه قيدا للمتعلق ، والنتيجة هي اختصاص القيد بالأفعال.

(٢) كما هو معتبر في أفعاله ، فإنّ جعل الضد حينئذ قاطعا والمطلوب مقيدا بعدمه في الأفعال والأكوان مستلزم لمحذور اللغوية ، كما كان في جعل المانعيّة.

(٣) أي عن ظهوره في الشرطية.

(٤) أي تقييد المتعلق بعدم التخصّص بتلك الخصوصية ، وقد مرّ تفصيل‌

١٣٨

بين (١) ما يتضمّن الحكم بفساد الصلاة المتخصّصة بها ، أو بعدم جوازها ـ كما في عدّة من الأخبار العامّة أو الواردة في الموارد الخاصّة ـ ، أو النهي الغيري عنها ، والكلّ واضح الانطباق إمّا على نفس القيديّة المستتبعة للمانعيّة ، أو على ملزومها ، أو لازمها (٢).

__________________

الكلام في الأمرين ـ ما هو منشأ المانعيّة ملاكا وما تنتزع منه خطابا ـ ، والغرض هنا تطبيق مفاد أدلّة المقام على ذلك.

(١) بيانه أنّ ألسنة روايات الباب مختلفة ، فإنها على ثلاث طوائف : الأولى ـ ما حكم فيه بفساد الصلاة المتخصّصة بهذه الخصوصية ، وهي موثقة ابن بكير في فقرتين منها ، والثانية ـ ما حكم فيه بعدم جواز الصلاة المتخصّصة بها ، كما في عدّة من الأخبار العامة كمرفوعة العلل ( لا تجوز الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه لأن أكثرها مسوخ ) ، وفي رواية الهمداني جوابا عن الصلاة فيما ذكر قال عليه‌السلام ( لا تجوز الصلاة فيه ) ، ونحوها بعض الأخبار الواردة في الموارد الخاصّة كالحديث الثالث والخامس من الباب ٧ من أبواب لباس المصلي من الوسائل ، والثالثة ـ ما تضمّن النهي الغيري عن الصلاة المذكورة كرواية ابن أبي حمزة ( لا تصلّ فيها إلاّ ما كان منه ذكيّا ) ، وما عن الفقيه في وصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام ( يا علي لا تصلّ في جلد ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه ) ، وفي صحيحة الأحوط ( لا تصلّ فيها ـ أي في جلود السباع ـ) ، ونحوها ورد في السّمور والثعالب وغيرهما ، وهي كثيرة منتشرة في الأبواب المذكورة من الوسائل.

(٢) يعني أن هذه الألسنة المختلفة إمّا تفيد قيديّة عدم الوقوع في غير المأكول للصلاة ، وهي مستتبعة للمانعية ومنشأ لانتزاعها ـ خطابا ـ ، أو تفيد عدم اشتمال الصلاة لأجل الخصوصية الوجودية على ملاك حسنها‌

١٣٩

أمّا الموثّقة فلأنّ الفساد فيها إن كان بمعناه العرفي (١) المقابل للصحّة العرفيّة ، والمساوق لخروج الشي‌ء عن الاشتمال على ما هو مناط الرغبة إليه ـ كما هو الأظهر (٢) ـ كان مفاده خروج الصلاة المتخصّصة بتلك الخصوصيّة الوجوديّة عن صلاحية التعبّد والتقرّب بها ، ولو حمل على معناه الأخصّ المقابل للصحّة الشرعيّة كان مفاده وجوب إعادتها ، ويدلّ على ملزوم المانعيّة على الأوّل ، وعلى لازمها على الثاني (٣) ، وعلى كلّ منهما فظهورها (٤)

__________________

والرغبة إليها ، وهو ملزوم المانعيّة ومنشأها ـ ملاكا ـ فيكشف عنها لمّا ، أو تفيد فسادها ووجوب إعادتها لمكان تلك الخصوصية ، وهو لازم المانعيّة وأثرها امتثالا ، فيكشف عنها إنّا ، والدلالة على المانعيّة في الأوّل مطابقية ، وفي الأخيرين التزامية.

(١) وهو ما يقابل التماميّة أو استجماع الشي‌ء لجميع ما يعتبر في ملاكه ويكون مناط الرغبة إليه.

(٢) لأنّه معناه اللغوي والعرفي العامّ ، فيتعين حمل اللفظ عليه لا سيّما إذا كان معناه العرفي الخاص ـ الشرعي ـ من لوازمه وآثاره ـ كما في المقام ، حيث إن وجوب إعادة الشي‌ء أثر شرعي مترتب على عدم تماميته.

(٣) الأوّل هو المعنى العرفي والثاني هو الشرعي ، وكون الثاني لازم المانعية واضح ، وكذا كون الأول ملزومها ، لما مرّ آنفا من أنّ الفساد بهذا المعنى يفيد خلوّ الشي‌ء عن الملاك المرغوب منه.

(٤) أي ظهور الموثّقة ، وظهورها في ذلك ممّا لا بدّ منه في استفادة المانعية منها ـ كما هو ظاهر.

١٤٠