فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

مع ثبوت المصلحة والمقتضى في تلك الأشياء ، والمراد من السكوت هو عدم جعل الحكم ، فمن المحتمل أن يكون المورد الذي أدرك العقل جهة حسنه أو قبحه كان من الموارد التي سكت الله عنها ، وربما يكون حكم بلا مصلحة في المتعلق ، كما في الأوامر الامتحانية والأوامر الصادرة تقية. وغير ذلك مما حكاه في « التقريرات » عن « الفصول » من الوجوه الستة التي أقامها على منع الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرعي والتزم بالملازمة الظاهرية ، ببيان أن مجرد احتمال وجود المانع والمزاحم لما أدركه العقل لا يكون عذرا في نظر العقل ، بل لابد من البناء على الملازمة إلى أن يتبين المانع والمزاحم ، فلو خالف وصادف عدم المزاحم كان عاصيا ، وهو المراد من الملازمة الظاهرية.

هذا حاصل ما أفاده « صاحب الفصول » في وجه منع الملازمة. ولا يخفى عليك ضعفه ، فان الكلام إنما هو في المستقلات العقلية ، والعقل لا يستقل بحسن شيء أو قبحه إلا بعد إدراكه لجميع ماله دخل في الحسن والقبح. ودعوى أن العقل ليس له هذا الإدراك ترجع إلى منع المستقلات العقلية ولا سبيل إلى منعها ، فإنه لا شبهة في استقلال العقل بقبح الكذب الضار الموجب لهلاك النبي مع عدم رجوع نفع إلى الكاذب ، ومع استقلال العقل بذلك يحكم حكما قطعيا بحرمته شرعا (١) لأن المفروض تبعية الأحكام الشرعية

________________________

(١) أقول لا شبهة في أن العقل بعد استقلاله يدرك المفسدة الغير المزاحمة يقبح العمل ويلوم على فاعله ، ولكن مع ذلك لا يلزم أن يكون ذلك تمام المناط في حكم الشارع ، إذ ربما يرى الشارع مصلحة في صبره على ارتكاب العبد للقبيح لمصلحة أعظم في تسهيل الأمر عليه ، ومثل هذه المصلحة في صبر المولى على ارتكاب القبيح لا يوجب منع استقلال العقل عن حكمه بقبح العمل ، وإلا فلا قبح في البين ، كي يصير موضوعا لصبر المولى عليه ، ومجرد تبعية الحكم من المولى لمفسدة المتعلق لا ينافي ذلك ، إذ معنى التبعية عدم حكمه بدونها لا حكمه بمجرد وجودها ، كيف وهذا المعنى أول شيء ينكر!.

ومن هنا نقول : إن مبادئ الحكم لدى العقل ربما يكون دائرته أوسع من مبادئ الحكم العقلي لدى الشارع ، ومع هذا الاحتمال كيف يستقل العقل بالملازمة واقعا؟ نعم : لا بأس به ظاهرا ـ كما أفيد ـ من جهة عدم إحراز وجهه ، كما هو الشأن في جميع صور مزاحمات التكليف ، فتدبر.

٦١

للمصالح والمفاسد ، وقد استقل العقل بثبوت المفسدة في مثل هذا الكذب ، ومعه كيف يحتمل تخلف حكم الشارع؟ وما ذكره من الموارد التي ثبت فيها المصلحة ولم يكن على طبقها حكم شرعي لا يرد نقضا على ما ذكرناه ، فانا لا ننكر أنه يمكن أن تكون للمصالح والمفاسد النفس الأمرية موانع ومزاحمات ، فان ذلك مما لا سبيل إلى إنكاره ، وإنما ندعي أنه يمكن موجبة جزئية إدراك العقل لجميع الجهات من المقتضيات والموانع والمزاحمات. ودعوى أنه مع ذلك يحتمل أن يكون من الموارد التي سكت الله عنها مما لا يلتفت إليها ، وكيف يكون مما سكت الله عنها مع أن العقل رسول باطني وقد استقل به!.

وأما ما ذكره من الموارد التي كان هناك حكم ولم تكن مصلحة فهو مما لا يصغى إليه ، فإنه لا يعقل حكم بلا مصلحة ، غايته أن المصلحة قد تكون خفية لم يطلع عليها العقل.

وأضعف من ذلك كله دعوى الملازمة الظاهرية ، فان احتمال المانع والمزاحم إن تطرق عند العقل فلا يكون مستقلا ولا حكم له بالقبح والحسن مطلقا لا واقعا ولا ظاهرا ، وإن لم يتطرق فيستقل ويحكم بالملازمة الواقعية ولا معنى للملازمة الظاهرية ، إلا أن تبتنى على قاعدة المقتضى والمانع الفاسدة من أصلها ، كما سيأتي في محله ( إن شاء الله تعالى ).

فتحصل : أنه لا سبيل إلى منع الملازمة بعد الاعتراف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد وبعد الاعتراف بادراك العقل لتلك المصالح والمفاسد.

* * *

________________________

ومن هذا البيان أيضا ظهر : أن العقل إنما يكون رسولا باطنيا في صورة إحراز أن الشارع اتكل في بيان مرامه بحكم عقله ، وإلا فمع احتمال عدم اتكاله عليه وأن صبره وسكوته عن إظهار مرامه لمصلحة أعظم من قبح العمل ، فكيف يكون العقل رسولا باطنيا؟ كما لا يخفى.

٦٢

الجهة الثالثة :

ما نسب إلى بعض الأخباريين أيضا : من أن القاعدة وان اقتضت الملازمة بين حكم العقل والشرع ، إلا أنه قامت الأدلة السمعية على منع العمل بهذه الملازمة وأنه لابد من توسيط تبليغ الحجة ، ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجة ، ولذلك حكى عن بعض الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية. وهذا المعنى لو تم وصحت النسبة فلابد وأن يكون ذلك بنتيجة التقييد (١) ـ على ما تقدم بيانه في حجية القطع ـ ولا يرد عليه إشكال عدم المعقولية إلا أن الشأن في دلالة الأخبار المذكورة على ذلك ، فان الأخبار على كثرتها بين طوائف ثلاث : طائفة منها ظاهرة في المنع عن الأخذ بالقياس والاستحسانات الظنية والاعتبارات الوهمية (٢) كما عليه العامة ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه. وطائفة منها ظاهرة في اعتبار الولاية في صحة العبادات (٣) وهذا أيضا لا ربط له بما نحن فيه. وطائفة منها ظاهرة في مدخلية تبليغ الحجة (٤) وهي التي يمكن أن يستدل بها في المقام (٥) وأوقعت الأخباريين في الوهم.

والانصاف : أنه لا دلالة لها على مدعاهم ، فان الحكم الشرعي المستكشف من المستقلات العقلية يكون مما وصل إلى المكلف بتبليغ الحجة

________________________

(١) أقول : قد تقدم أن نتيجة التقييد على فرض تماميته ينتج عدم حصول القطع بحكم شرعي ، لا أنه مع القطع به العقل يحكم بعدم العمل به ، أو الأخبار يوجب ردع المكلف عن العمل بهذا العلم ـ كما هو ظاهر مقالتهم ـ وهو المعنون أيضا في كلامه هذا ، فتدبر.

(٢ و ٣) راجع الوسائل الباب ٦ من أبواب صفات القاضي

(٤) راجع الوسائل الباب ٧ من أبواب صفات القاضي

(٥) أقول : يمكن أن يوجه كلام الأخباري بمنع موجبية القطع الناشئ عن الخوض في العقليات لعذر العباد ـ كالقطع أو الغفلة الناشئة عن تقصيره في المقدمات ـ وذلك لا ينافي مع حكمه بلزوم اتباعه حين وجوده ، وبمثل ذلك أيضا أمكن توجيه كلام « الشيخ » في قطع القطاع ، فتدبر.

٦٣

الباطنية ، وهو العقل الذي به يثاب وبه يعاقب ، كما في الخبر (١).

وبالجملة : لا دلالة في الأخبار على مدخلية السماع عن الصادقين عليهم‌السلام وإن شئت الإحاطة بهذه الجهات فراجع تقريرات الشيخ قدس‌سره

المبحث السادس

حكى عن « الشيخ الكبير » عدم اعتبار قطع القطاع. وهو بظاهره فاسد ، فإنه إن أراد من قطع القطاع القطع الطريقي الذي لم يؤخذ في موضوع الدليل فهو مما لا يفرق فيه بين القطاع وغيره (٢) لعدم اختلاف الأشخاص والأسباب والموارد في نظر العقل في طريقية القطع وكونه منجزا للواقع عند المصادفة وعذرا عند المخالفة. وإن أراد القطع الموضوعي فهو وإن كان له وجه ، لأن العناوين التي تؤخذ في ظاهر الدليل تنصرف إلى ما هو المتعارف من غير فرق في ذلك بين الشك والظن والقطع ، فالشك المأخوذ في باب الركعات ينصرف إلى ما هو المتعارف ، ولا عبرة بشك كثير الشك ولو فرض أنه لم يرد قوله عليه‌السلام « لا شك لكثير الشك » غايته أنه لو لم يرد ذلك كان شك كثير الشك مبطلا للصلاة ولو تعلق في الأخيرتين ، لأنه لا يندرج في أدلة البناء على الأكثر ، فلا يكون له طريق إلى إتمام الصلاة ، فتبطل ، ولكن بعد ورود قوله عليه‌السلام « لا شك لكثير الشك » يلزمه البناء على الأقل أو الأكثر ، أي

________________________

(١) أصول الكافي : كتاب العقل والجهل الحديث ١٢

(٢) أقول : قد أشرنا بان ذلك كله لو كان نظره إلى عدم لزوم العمل به حين وجوده ، وإلا فلو كان نظره في عدم اعتباره إلى عدم معذوريته فلا يمنعه العقل بما توهم.

٦٤

هو في الخيار بين ذلك. وكذا الحال في الظن الذي أخذ موضوعا في عدد الركعات ، فإنه أيضا ينصرف إلى المتعارف ولا يعم كثير الظن ، فيكون حكم ظن كثير الظن حكم الشك. وكذا الحال في القطع المأخوذ موضوعا ينصرف إلى المتعارف ولا يعم قطع القطاع ، إلا أن الشأن في إمكان التفات القاطع حال قطعه إلى أنه قطاع (١) فإنه يمكن أن يقال بعدم التفاته إلى ذلك.

نعم : تظهر الثمرة بالنسبة إلى غير القاطع ، كما لو فرض أن الحاكم علم أن الشاهد قطاع ، فيمكن أن يقال بعدم قبول شهادته ، ولكن المحكى عن « الشيخ الكبير » هو عدم اعتبار قطع القطاع في القطع الطريقي المحض ، وقد عرفت أن ذلك مما لا سبيل إليه.

المبحث السابع

لا فرق في نظر العقل في الآثار المترتبة على العلم بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، فان العلم الإجمالي من حيث كونه علما هو العلم التفصيلي ، وإن كان من حيث شوبه بالإجمال وخلطه بالجهل يفارق العلم التفصيلي على ما سيأتي تفصيله.

ولا يخفى أن المباحث الراجعة إلى العلم الإجمالي كثيرة طويلة الذيل ، يذكر جملة منها في هذا المقام ، وجملة منها في مباحث البراءة والاشتغال ، ونحن وإن كان قد استقصينا الكلام فيما يتعلق بالعلم الإجمالي من المباحث ( في الجزء الرابع من الكتاب ) عند البحث عن أصالة الاشتغال ، إلا أنه تبعا للقوم لا بأس

________________________

(١) أقول : لا قصور في التفاته بكونه قطاعا. نعم : لا يلتفت إلى مخالفة قطعه هذا للواقع ولو من باب الاتفاق.

٦٥

بالإشارة إليها هنا أيضا.

فنقول : إن المباحث التي تذكر في المقام ، منها ما ترجع إلى مرحلة ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي ، ومنها ما ترجع إلى مرحلة سقوط التكليف به ، فالكلام يقع في مقامين :

ولنقدم الكلام في المقام الثاني مع أنه كان حقه التأخير تبعا للشيخ قدس‌سره.

فنقول : المراد من سقوط التكليف بالعلم الإجمالي هو سقوطه بالامتثال الإجمالي على وجه الاحتياط ، ولا إشكال في سقوطه بذلك في الجملة.

وتفصيل ذلك : هو أن التكليف المعلوم بالإجمال ، إما أن يكون توصليا وإما أن يكون تعبديا. فان كان توصليا فلا ينبغي الإشكال في حسن الاحتياط وسقوط التكليف بذلك ، سواء استلزم التكرار أو لم يستلزم ، كانت الشبهة موضوعية أو حكمية ، قبل الفحص أو بعد الفحص ، كان الترديد بين الوجوب والاستحباب أو مع احتمال الإباحة أيضا ، فإنه على جميع التقادير يحسن الاحتياط ويسقط التكليف به ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، لحصول الغرض ، وذلك واضح.

وإن كان تعبديا ففي حسن الاحتياط وسقوط التكليف به مطلقا ولو مع التمكن من الامتثال ، أو عدم حسنه مطلقا ، أو التفصيل بين ما إذا لم يستلزم منه تكرار جملة العمل وبين ما إذا استلزم ذلك وجوه ، وقبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : ينسب إلى جمهور المتكلمين وبعض الفقهاء اعتبار معرفة الوجه وقصده في العبادة ، وقد حكى الإجماع على ذلك أيضا.

والأقوى : عدم اعتبار ذلك ، لأن حقيقة الطاعة عند العقل عبارة عن الانبعاث وكون الإرادة الفاعلية منبعثة عن الإرادة الآمرية ، وهذا المعنى لا

٦٦

يتوقف على معرفة الوجه وقصده ، بل المعتبر هو أن يكون الداعي إلى الفعل إرادة الآمر.

وأما معرفة كون البعث إلزاميا أو غير إلزامي فلا دخل لها في ذلك أصلا عند العقل والعقلاء الحاكم في هذا الباب ، فلو كان قصد الوجه معتبرا فلابد وأن يكون اعتباره بأمر شرعي ، وليس فيما بأيدينا من الأدلة ما يستشم منه اعتبار ذلك ، مع أنه مما تعم به البلوى وتكثر الحاجة إليه ، وليس المقام من المقامات التي تتوفر الدواعي إلى إخفائها في الأمور التي ترجع إلى باب الولاية والإمامة ، فالمقام يكون من أظهر المقامات التي كان عدم الدليل فيها دليل العدم ، بل مما يقطع بعدم اعتبار ذلك شرعا ، وإلا لاستفاضت به الروايات.

والإجماع المحكى في المقام مما لا اعتبار به ، لأنه من الممكن أن يكون مدعى الإجماع قد سلك مسلك المتكلمين وادعى الإجماع على مذاق المتكلمين في المسألة الكلامية لا في المسألة الفقهية ، مع أنه لو سلم يكون من الإجماع المنقول الذي لا عبرة به.

فالإنصاف : أن مدعى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه في العبادات لا يكون مجازفا في دعواه. ثم لو سلم عدم القطع ، فلا أقل من الشك والأصل في ذلك يقتضي البراءة لا الاشتغال ، لأن الشك في اعتبار قصد الوجه يرجع إلى الشك في اعتبار قيد في المأمور به شرعا زائد عما يعتبره العقل في الطاعة ، لما تقدم من أن العقل لا يعتبر في الإطاعة أزيد من كون الشخص منبعثا عن البعث ومتحركا عن الإرادة ، فقصد الوجه لو كان معتبرا فلابد وأن يكون ذلك من جهة الشرع ، والمرجع حينئذ عند الشك في الاعتبار هو البراءة ، كما أن المرجع عند الشك في أصل التعبدية والتوصلية ذلك ، بناء على ما هو المختار : من أن التعبدية تتوقف على الأمر بها ولو بمتمم الجعل ، على ما تقدم تفصيله في مبحث التعبدي والتوصلي.

نعم : بناء على أن اعتبار قصد الامتثال من باب دخله في الغرض و

٦٧

أنّ اللازم هو تحصيل الغرض يكون المرجع عند الشك هو الاشتغال (١) من غير فرق بين الشك في أصل اعتبار قصد الامتثال أو الشك فيما يستتبعه من قصد الوجه ومعرفته ، فإنه على هذا المعنى لا يرجع الشك إلى ما يكون مجعولا شرعيا حتى تجرى فيه البراءة الشرعية ، وصاحب هذا المسلك لابد له من دعوى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه ، وإلا فلو وصلت النوبة إلى الشك يكون الأصل فيه هو الاشتغال. ولكن المبنى عندنا فاسد ، فالأصل يقتضي البرائة.

الأمر الثاني : لا إشكال في أن الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة وحسنها هو العقل ، لا بمعنى أنه ليس للشارع التصرف في كيفية الإطاعة. فان ذلك بمعزل عن الصواب ، لوضوح أن حكم العقل في باب الطاعة إنما هو لأجل رعاية امتثال الأوامر الشرعية والخروج عن عهدتها ، فللشارع أن يتصرف في كيفية إطاعة أوامره زائدا عما يعتبره العقل كبعض مراتب الرياء ، حيث قامت الأدلة الشرعية على اعتبار خلو العبادة عن أدنى شائبة الرياء مع أن العقل لا يستقل بذلك ، وللشارع أيضا أن يكتفى في امتثال أوامره بما لا يكتفى به العقل لو خلى ونفسه ، كما في الأصول الشرعية الجارية في وادى الفراغ ، ولكن كل ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، فلو لم يقم دليل شرعي على التصرف في بيان كيفية الإطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل ، فان استقل بشيء فهو ، وإلا فالمرجع هو أصالة الاشتغال لا البراءة ، لأن الشك في اعتبار شيء في كيفية

________________________

(١) أقول : لازم هذا المسلك لزوم الاحتياط في كلية الأقل والأكثر. والأولى في وجه الاحتياط المختص بمثل هذه القيود كونها خارجة عن دائرة المأمور به ، لمحذور الدور ، فلا يرجع الشك فيها إلا إلى الشك في سقوط الأمر عما تعلق به جزما ، وبه تمتاز عن بقية الأجزاء ، فان الشك فيها يرجع إلى الشك في أصل توجه الأمر إليها ، فالشك فيها يرجع إلى الشك في أصل الاشتغال ، بخلاف الشك في القيود المزبورة ، فإنه يرجع إلى الشك في الفراغ عما اشتغل الذمة به ، كما لا يخفى. فتدبر فيه وفي دفع هذه الشبهة أيضا ، كما سيتضح في محله ( إن شاء الله تعالى ).

٦٨

الإطاعة عقلا يرجع بالأخرة إلى الشك في التعيين والتخيير لا الأقل والأكثر ، والأصل يقتضي التعيين ، كما سيأتي توضحيه في محله.

ولا يقاس الشك في اعتبار شيء في كيفية الإطاعة العقلية بالشك في اعتبار مثل قصد التعبد والوجه ، لما عرفت من أن اعتبار مثل قصد التعبد والوجه إنما يكون بتقييد العبادة شرعا بذلك ولو بنتيجة التقييد (١) فالشك فيه يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطي ، وهذا بخلاف الشك في اعتبار شيء في كيفية الإطاعة العقلية ، فإنه يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير (٢) كما لو فرض الشك في كون الإمتثال التفصيلي في عرض الإمتثال الاحتمالي أو طوله ، كما سيأتي بيانه.

الأمر الثالث : مراتب الامتثال والإطاعة عند العقل أربعة (٣)

__________________

(١) سيأتي في مبحث الاشتغال أن اعتبار الامتثال التفصيلي لابد وأن يرجع إلى تقييد العبادة به شرعا ولو بنتيجة التقييد ، ولكن مع ذلك الأصل الجاري فيه عند الشك هو الاشتغال ، لدوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ( منه ).

(٢) أقول : ويمكن إرجاع قيود الامتثال أيضا إلى الأقل والأكثر بارجاع الشك فيها أيضا إلى الشك في دخل مرتبة زائدة من بقية المراتب من حيث دخل خصوصية زائدة في بعضها دون بعض ، مع فرض حفظ الفاقد في ضمن الواجد. نعم : لو كان نسبتها من قبيل الكلي المتواطي ـ بنحو لا يكون الفاقد محفوظا في ضمن الواجد ـ كان المرجع التعيين والتخيير ، فتدبر في ملاك الفرق بين المسألتين ، وتدبر أيضا في أن ما نحن فيه من أيهما؟.

(٣) أقول : بعد ما كان في المقام مرحلتان : أحدهما مقام إثبات التكليف بعلم ولو إجمالا أو غيره ، والآخر مرحلة إسقاطه وامتثال ما ثبت بأي طريق وأن قطعية مرحلة الإسقاط غير مرتبط بمرحلة إثباته ، لأنه ربما يكون المثبت للتكليف علما ولكن المسقط له ظنا ، وربما يكون الأمر بالعكس.

فلنا حينئذ مجال السؤال بأنه ما المراد من مراتب الامتثال؟ فإن أريد به مراتبه الناشئة عن مراتب طريقه ، فلا يزال يكون مرتبة الامتثال قطعيا ، وإنما ظنه بظنية طريقه ، وحينئذ المراتب المسطورة محسوبة للطريق لا الامتثال مع أنه على هذا لا يتصور الامتثال الإجمالي في أطراف العلم الإجمالي ولا الظني ، أيضا.

وإن أريد به مراتب الامتثال في التكليف الثابت بأي طريق ، فهو ربما يختلف ، ولكن ليس ظنيته من جهة كيفية طريقه ، بل لابد وأن يكون ظنيا بظن ثابت في هذه المرحلة ، كما هو الشأن في مرجعية الظن بناء على التبعيض في الاحتياط ، وفي مثله لا يتصور حجية الظن على الكشف.

٦٩

المرتبة الأولى : الامتثال التفصيلي ، سواء كان بالعلم الوجداني أو بالطرق والأمارات والأصول المحرزة التي تقوم مقام العلم ، فان الامتثال بالظنون الخاصة وبالأصول المحرزة يكون في حكم الامتثال بالعلم الوجداني ، بل الامتثال بالظن المطلق عند انسداد باب العلم بناء على الكشف أيضا يكون حكمه حكم الامتثال بالعلم وفي عرضه ، فان حال الظن المطلق بناء على الكشف حال الظن الخاص ، لأن معنى الكشف هو أن الشارع جعل الظن حجة مثبتا للأحكام الواقعية وطريقا محرزا لها ، فيكون الامتثال به في عرض الامتثال العلمي.

وما ربما يتوهم : من أنه كيف يكون الظن بناء على الكشف في عرض العلم مع أن اعتباره موقوف على انسداد باب العلم ، فهو واضح الفساد ، فان المراد من انسداد باب العلم انسداده في معظم الأحكام لا في جميعها (١)

________________________

وبالجملة نقول : إن أراد المقرر من المراتب المزبورة المعنى الأول ، فلا يتصور فيه الامتثال الظني أو الاحتمالي في أطراف العلم الإجمالي ، فان هذا الظن غير ناش من ظنية طريقه أو احتماله ، بل لابد وأن يتصور في الحجة الظنية أو الاحتمالية.

وإن أراد المقرر من المراتب المعنى الثاني ، فلا يتصور الامتثال الظني بناء على الكشف ، إذ ليس للشارع تصرف في مرحلة الإسقاط.

كيف! وفي هذا المقام مع التمكن من الاحتياط التام يستقل العقل بالامتثال القطعي ، ومع عدم التمكن من الاحتياط التام يتبعض ويأخذ بالاحتمال مع عدم رجحان ذلك الطرف ، وإلا فيستقل بطرف الظن ولا ينتهى النوبة بتصرف الشارع في هذه المرحلة إلا بعد اسقاط العلم عن الحجية ، فترجع حينئذ إلى الفرض الأول.

(١) أقول : لا شبهة في أن باب العلم بالحكم الكلي الشرعي في كل مسألة إذا كان مفتوحا لا تصل النوبة إلى الظن في تلك المسألة ، وأن الانسداد في معظم الأحكام إنما ينتج حجية الظن في موارد الانسداد من معظم الأحكام ، لا غيره.

فالأولى أن يقال بطولية مرجعية الظن المزبور عن العلم في مقام الإثبات مطلقا ، وأن تعجب « الشيخ » عن « المحقق القمي » في محله لو كان غرضه من الظن المطلق ما كان حجيته بدليل الانسداد ، وإلا فلو كان مرامه حجية الظن المطلق ببناء العقلاء ـ كما يشهد به استشهاده عليه بأنه أساس عيش بني آدم ـ فهو بمصطلح « الشيخ » داخل في الظن الخاص لا المطلق ، وحينئذ يرد على « شيخنا العلامة » بأن نتيجته تمام على مصطلحه من الظن

٧٠

ففي المورد الذي يمكن تحصيل العلم مع انسداد بابه في معظم الأحكام يكون المستنتج حجيته من مقدمات الانسداد بناء على الكشف في عرض العلم.

وظاهر كلام الشيخ قدس‌سره عدم الفرق في الظن بين القول بالكشف وبين القول بالحكومة في تأخر رتبة الامتثال به عن الامتثال العلمي ، قال ( قده ) في مقام الرد على مقالة المحقق القمي (ره) « والعجب ممن يعمل بالأمارات من باب الظن المطلق ثم يذهب إلى عدم صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط » انتهى.

والإنصاف : أن تعجب « الشيخ » ليس في محله ، فان « المحقق القمي ره » من القائلين بالكشف ، فيكون حال الظن حال العلم.

فتحصل : انه لا فرق بين العلم الوجداني والظن الخاص والظن المطلق على الكشف في حصول الامتثال بكل واحد منها. نعم : بين الامتثال بالعلم الوجداني والامتثال بالطرق والظنون الخاصة فرق لا دخل له فيما نحن فيه ، وهو أنه بعد الامتثال بالعلم الوجداني لا يبقى موقع للاحتياط ، لعدم تطرق احتمال مخالفة الامتثال للواقع ، بخلاف الامتثال بالظنون الخاصة ، فإنه يبقى موقع للاحتياط ، لتطرق احتمال مخالفة الظن للواقع.

ولكن ينبغي بل يمكن أن يقال : إنه يتعين أولا العمل بمقتضى الطريق (١) ثم العمل بما يقتضيه الاحتياط. وعلى ذلك يبتني الخلاف الواقع بين العلمين « الشيخ الأنصاري » و « السيد الشيرازي » ( قدس سرهما ) في

________________________

المطلق لا مصطلح « المحقق القمي » الذي هو داخل في الظن الخاص على اصطلاح « الشيخ » إذ في مثله لا غرو بدعوى عرضيتها مع الامتثال بالعلم ، كما لا يخفى.

(١) أقول : في تعينه لولا لزوم قصد الوجه أو التميز منع واضح. نعم : لا بأس بمراعاة احتماله استحبابا لا لزوما.

٧١

مسألة تقديم القصر على التمام أو تقديم التمام على القصر في المسافر إلى أربع فراسخ مع إرادة الرجوع ليومه ، فان « الشيخ قده » لما اختار في المسألة تقديم أدلة وجوب التمام جعل الاحتياط بالقصر بعد فعل التمام ، و « السيد » اختار تقديم أدلة وجوب القصر جعل الاحتياط بالتمام بعد فعل القصر.

المرتبة الثانية : ( من مراتب الامتثال ) الامتثال العلمي الإجمالي ، كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

المرتبة الثالثة : الامتثال الظني ، سواء في ذلك الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ، أو الظن المطلق عند انسداد باب العلم بناء على الحكومة ، فان معنى الحكومة هو حكم العقل بتعين الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي ، فيكون الظن بناء على الحكومة واقعا في طريق الامتثال ، على ما سيأتي توضيحه.

المرتبة الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كما في الشبهات البدوية أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي عند تعذر الامتثال الإجمالي أو الظني.

ولا إشكال في أنه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلا بعد تعذر الامتثال الظني (١) ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظني إلا بعد تعذر الامتثال الإجمالي ، إنما الإشكال في المرتبتين الأولتين.

فقيل : إنهما في عرض واحد ، وقيل بتقديم رتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان على الامتثال الإجمالي ، وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريق

________________________

١ ـ أقول : يمكن أن يقال : إن الداعي على العمل ليس إلا ما هو معلوم له ولو إجمالا ، وأن الاحتمال مقدمة لتطبيق ما يدعوه جزما على مورده ، لا أن ما يدعوه إليه احتماله بنفسه ، فتدبر.

٧٢

الإجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط. وهذا هو الأقوى ، ولكن في خصوص ما إذا استلزم منه تكرار جملة العمل ، فان حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عند بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به وانطباق المأمور به عليه ، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقق ، فان الداعي له نحو العمل بكل واحد من فردي الترديد ليس إلا احتمال تعلق الأمر به ، فإنه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص. نعم : بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقق ما ينطبق المأمور به عليه ، والذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلا هو أن يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلق الأمر به حتى يتحقق منه قصد الامتثال التفصيلي فيما بيده من العمل ، ومجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يقتضي أن يكون الانبعاث عن البعث المولوي ، بل أقصاه أن يكون الانبعاث عن احتمال البعث بالنسبة إلى كل واحد من العملين. نعم : الانبعاث عن احتمال البعث وإن كإن أيضا نحوا من الطاعة عند العقل إلا أن رتبته متأخرة عن الامتثال التفصيلي.

فالإنصاف : أن مدعى القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي في الشبهات الموضوعية والحكمية مع التمكن من إزالة الشبهة لا يكون مجازفا في دعواه (١) مع أنه لو سلم الشك في ذلك فقد عرفت أن الأصل يقتضي الاشتغال لا البراءة ، لأن مرجع الشك في ذلك إلى الشك في التخيير بين الامتثال التفصيلي والإجمالي أو تعين الامتثال التفصيلي.

هذا إذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين المتباينين بحيث استلزم من الاحتياط تكرار جملة العمل. وإن كان مرددا بين الأقل والأكثر ـ كالشك في

________________________

١ ـ أقول : على ما ذكرنا آنفا لا يخلو عن مجازفة ، كما أنه على الشك أمكن دعوى : أن لجهة الإجمال جهة نقص عن التفصيل بملاحظة سعة علمه الحاوي لشراشر وجوده دونه مع انحفاظ جهة نقصه في مرتبة كماله ، وفي مثله المرجع هو البراءة ـ كالأقل والأكثر ـ لا التعيين والتخيير ، لعدم كونها من قبيل الكلي المتواطئ ، فتدبر بعين الدقة ولا تسرع في المطلب عميانا.

٧٣

وجوب السورة مثلا في الصلاة ـ فالأقوى أنه لا يجب على المكلف إزالة الشبهة وإن تمكن منها بالعلم والاجتهاد أو التقليد ، لأنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك ، إلا إذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء ، وقد تقدم ضعفه. وهذا من غير فرق بين ما إذا تردد أمر الجزء المشكوك بين الوجوب والاستحباب كالسورة ، أو مع احتمال الإباحة أيضا كجلسة الاستراحة ، بل لو تردد أمره بين المتباينين ـ كالجهر والإخفات في ظهر الجمعة ـ فإنه للمكلف الاحتياط بتكرار القراءة بلا تكرار الصلاة.

هذا كله إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي. وإن كانت الشبهة بدوية : ففي الشبهات الموضوعية يحسن الاحتياط مطلقا قبل الفحص وبعده ، لعدم وجوب الفحص فيها. وإن كانت الشبهة حكمية : فلا يحسن الاحتياط إلا بعد الفحص ، لأن التكاليف في الشبهات الحكمية تتنجز بما يعتبر فيها بمجرد الالتفات إليها ، إلا إذا تفحص المكلف ولم يعثر عليها فإنه يكون حينئذ معذورا. وبعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي في حسن الطاعة يكون حاله حال ساير القيود والأجزاء يتنجز التكليف به على تقدير ثبوت التكليف واقعا مع التمكن من إزالة الشبهة بالفحص. هذا تمام الكلام في المقام الأول وهو سقوط التكليف بالعلم الإجمالي.

المقام الثاني :

في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.

وينبغي أن نقتصر في المقام على فهرست ما يتعلق بذلك من المباحث والإشارة الإجمالية إلى ما هو المختار فيها : ونحيل تفصيلها إلى الجزء الرابع من

٧٤

كتابنا ، فإنه قد استقصينا الكلام فيها بما لا مزيد عليه ، إلا بعض الأمور التي تختص ذكرها هنا.

فنقول : إن الأمور التي وقع البحث عنها في باب العلم الإجمالي كثيرة.

الأمر الأول :

قد توهم أن العلم الذي يكون موضوعا عند العقل في باب الطاعة والمعصية يختص بالعلم التفصيلي ولا يعم العلم الإجمالي ، بتقريب : أن العقل إنما يستقل بقبح الإقدام على عمل يعلم أنه معصية لأمر المولى ونهيه ، وهذا يتوقف على العلم بتعلق الأمر أو النهى بما يأتي به من العمل ، وفي العلم الإجمالي لا يكاد يتحقق هذا المعنى ، لانه عند الاقتحام بكل واحد من أطراف المعلوم بالإجمال لا يعلم بأن اقتحامه يكون معصية لأمر المولى أو نهيه ، لعدم العلم بتعلق الأمر أو النهى به بخصوصه ، غايته أنه بعد الاقتحام بجميع الأطراف يعلم بتحقق المخالفة ، والعقل لا يستقل بقبح الاقتحام على ما يعلم بعد ذلك بحصول المخالفة ، هذا.

ولكن فساد هذا التوهم بمكان من الوضوح ، بداهة أن العقل يستقل بقبح مخالفة التكليف المحرز الواصل إلى المكلف بأحد طرق الوصول. ومن جملتها العلم الإجمالي ، فان التكليف في موارد العلم الإجمالي واصل إلى المكلف ومحرز لديه ، والإجمال إنما يكون في المتعلق ، وإلا فنفس التكليف والإلزام معلوم تفصيلا (١) وهو على ما عليه من إجمال المتعلق يصلح لأن يكون بعثا مولوياً و

________________________

١ ـ أقول : بعد ما كان المتعلق مورد الإجمال والترديد ، فقهرا التكليف المتعلق بكل منهما أيضا طرف الترديد ، وما هو معلوم الجامع المهملة بين الشخصين المردد انطباقه على أيهما بلا إطلاق في هذا الجامع ، فلا يقاس المقام بالتكليف بالجامع في باب التخيير ، لأن في شخص الجامع إطلاق قابل للانطباق على أيهما ، بخلاف الجامع في المقام فإنه مهملة غير صالح للانطباق إلا على واحد منهما ، غاية الأمر بنحو الترديد. ومن هذه الجهة نقول : لا يصح دعوى العلم بشيء تفصيلا في موارد العلم الإجمالي ، لا في الحكم ولا في المتعلق.

٧٥

يمكن الانبعاث عنه ، بحيث لو فرض أنه لو كان الخطاب الواقع كذلك ـ أي على ما هو عليه من الإجمال (١) من دون أن يتعلق بخصوصية أحد الأطراف ـ لكان لك تكليفا مولويا ، يصلح لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد نحو امتثاله وينتج نتيجة التخيير الشرعي أو العقلي ـ على اختلاف المقامات ـ فالجهل بالخصوصية لا يضر بالمعلوم بالإجمال ولا يمنع عن حكم العقل بقبح الاقتحام على مخالفته ، وذلك واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

الأمر الثاني :

ذهب بعض الأعاظم إلى انحفاظ رتبة الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي (٢) لأن موضوع الحكم الظاهري هو الجهل بالواقع ، والأصول

__________________

ثم إن الناظر البصير ربما يرى تهافتا بين قوله في المقام : « ويمكن الانبعاث عن البعث في العلم الإجمالي » وبين تقريبه السابق بأن « الانبعاث من قبل احتمال البعث لا نفسه » وجعل ذلك منشأ تأخيره رتبة عن الامتثال التفصيلي ، فراجع وتدبر.

١ ـ أقول : مثل هذا التعبير في باب التخيير غلط ، كما لا يخفى على من تأمل فيما ذكرنا آنفا.

٢ ـ أقول : رتبة الحكم الظاهري إنما يكون محفوظا في فرض تعلق الشك بنفس الواقع ، بلا شائبة تنجز فيه ، وإلا فمع احتمال التكليف المنجز الملازم لاحتمال المعصية العقل يأبى عن الترخيص في المعصية ولو مع احتمالها ، وحينئذ فلا محيص لمثل هذا المقرر أن يعزل العلم الإجمالي عن المنجزية رأسا ، أو يدعى تعليقية حكم العقل بمنجزية العلم بعدم ترخيص على خلافه ، وعلى الفرضين لا يمنعه الجزم بمخالفة الأصلين للواقع بعد اختلاف الرتبة في البين ، كما هو الشأن في الشبهات البدوية ، وعليه فلا يبقى مجال لما أفيد في جوابه من التفكيك في شمول أدلة الأصول للطرفين أو طرف واحد ألا مع إثباته التفكيك بين الموافقة والمخالفة في التعليقية والتنجيزية ، ولا مجال لإثباته من الخارج ، بل مجرد احتمال التنجيزية يكفي مطلقا ، يكفي لمنع شمول دليل الترخيص ولو لأحدهما ، ولا مجال أيضا لاثباته حينئذ بتوهم شمول دليل الترخيص لفرض الشك دون العلم وذلك لما فيه :

حيث نقول : بأن شمول دليل الترخيص لفرض الشك حينئذ دوري ، لأن الشمول منوط بثبوت التعليقية ، فكيف يثبت التعليقية بشمول دليل الترخيص؟.

فان قلت : إن مانعية المعصية لدليل الترخيص إذا كان عقليا يصير من المخصصات اللبية ، ولا بأس بالتمسك العام في المخصص اللبي فبدليل الترخيص يستكشف عدم المعصية عند الشك بها.

قلت : نتيجة التمسك بالعام في المخصص اللبي ليس نفي المعصية المشكوكة وجدانا ، بل غايته نفيها تعبداً ،

٧٦

العملية إنما تجرى في كل واحد من الأطراف بخصوصه وكل واحد منها مجهول الحكم ، وليس في البين أصلى عملي يجرى في مقابل نفس المعلوم بالإجمال حتى يقع التضاد والمنافاة بين مؤدى الأصل والمعلوم بالإجمال ، فلا يلزم من جريان الأصول في الأطراف محذور المناقضة والتضاد.

قلت : جريان الأصول العملية في كل واحد من الأطراف يستلزم الجمع في الترخيص بين جميع الأطراف (١) والترخيص في الجميع يضاد التكليف المعلوم بالإجمال ، فلا يمكن أن تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة في جميع الأطراف. نعم : يمكن الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر أو فعله.

ودعوى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وأن العلم الإجمالي إما أن يكون علة تامة بالنسبة إلى كلا المرحلتين وإما أن لا يكون ، فهي مما لا شاهد عليها ولا سبيل لها ، بداهة أن العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي (٢) وللشارع الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية في العلم

________________________

فاحتمال المعصية وجدانا موجود ، ومع هذا الاحتمال يأبى العقل عن الترخيص فيها ، فكان العقل يرى عدم المعصية شرطا للحكم الظاهري أيضا ـ نظير شرطية القدرة ـ وحينئذ ليس المقام من موارد التمسك بالعام في الشبهات المصداقية اللبية كما توهم ، فتدبر.

١ ـ أقول : لنا مجال النقض بمشكوكية كل واحد من الطرفين ومعلومية أحدهما ، مع أن بين الشك واليقين كمال المناقضة ، وحينئذ فلو ادعى الطرف بأن مركز الترخيص هو المشكوك بلا سرايته إلى العنوان المعلوم ، من أين يسرى الترخيص إلى الجهة المعلومة؟ فتدبر.

٢ ـ أقول : بعد اكتفاء العقل في مقام الفراغ عما اشتغلت الذمة بالأعم من الواقعي والظاهري ، فلا قصور حينئذ في تصرف الشارع في مقام الفراغ بجعل البدل ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي بضرب قاعدة الفراغ ، وأين هذا مع فرض صرف الترخيص في بعض الأطراف بلا تصرف في مقام الفراغ وجعله بدلا عن الواقع ، كيف! ومثل هذا الترخيص أيضا غير جار في العلم التفصيلي أيضا ، وحينئذ ليس مجال الاستشهاد بمثل جعل البدل في المقامين على جواز الترخيص في أحد الطرفين بلا تعيين مفرغ وجعل بدل. وتتمة الكلام موكول إلى محله في بحث الاشتغال.

٧٧

التفصيلي ، كما هو مفاد الأصول الجارية في وادى الفراغ ، فما ظنك بالعلم الإجمالي؟ وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، فراجع.

الأمر الثالث :

الأصول المتكفلة للتنزيل كالاستصحاب لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم ، فلا يجري استصحاب النجاسة في كل واحد من الإنائين اللذين علم إجمالا بطهارة أحدهما مع سبق النجاسة في كل منهما ، كما لا يجرى استصحاب الطهارة فيهما مع العلم بنجاسة أحدهما وسبق الطهارة في كل منهما ، مع أنه لا يلزم من جريان الاستصحابين في الفرض الأول مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، لان التعبد ببقاء الواقع في كل من الإنائين ينافي العلم بعدم بقائه في واحد منهما. وهذا بخلاف الأصول الغير المتكفلة للتنزيل ـ كأصالة البراءة والحل والاحتياط ـ فان جريانها في أطراف العلم الإجمالي يدور مدار لزوم المخالفة العملية وعدمه ، فإن لم يلزم من جريانها مخالفة عملية تجرى ويلزم العمل على مقتضاها ، وقد ذكرنا تفصيل الكلام في ذلك بأمثلته في خاتمة الاستصحاب.

الأمر الرابع :

المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ليس قصور أدلة اعتبارها وعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي كما توهم ، لوضوح أن ذلك على تقدير تسليمه يختص ببعض أخبار الاستصحاب مما اشتمل على لزوم نقض اليقين باليقين ، فان اشتماله على ذلك هو الذي أوجب توهم عدم شمول الدليل للشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي. وأما بقية أخبار الاستصحاب وأدلة سائر الأصول فليس فيها ما يقتضي توهم اختصاصها بغير الشبهة المقرونة بالعلم

٧٨

الإجمالي ، بل المانع من جريانها هو قصور المجعول فيها وعدم انحفاظ رتبتها ، من جهة لزوم المناقضة بين مؤدى الأصول والتكليف المعلوم بالإجمال ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فالبحث عن عموم أدلة الأصول وعدم عمومه مما لا أثر له ، فإنه مع فرض عمومها لابد من تخصيصها عقلا بغير الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، على تفصيل بين الأصول المتكفلة للتنزيل وغيرها ، كما تقدم الإشارة إليه.

كما أنه لا أثر للبحث عن أن عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لعدم المقتضى أو لثبوت المانع ، مع أنه لم يظهر المراد من المقتضى والمانع المبحوث عنه في المقام.

فان كان المراد من المقتضى ، هو أن كل واحد من الأطراف من حيث كونه مجهول الحكم فيه اقتضاء جريان الأصل والعلم الإجمالي بتعلق التكليف بأحدهما مانع عن جريانه ، فهذا معنى صحيح غير قابل للنزاع والبحث فيه.

وإن كان المراد من المقتضى ، هو أن أدلة الأصول تعم أطراف العلم الإجمالي ولزوم المخالفة العملية من جريانها مانع في مقابل من يقول : إن أدلة الأصول لا تعم أطراف العلم الإجمالي ـ كما يظهر من الشيخ ـ فقد عرفت أن البحث عن عموم الدليل وعدمه مما لا أثر له بعد عدم قابلية المجعول في باب الأصول لان يعم أطراف العلم الإجمالي.

فالإنصاف : أن البحث عن ثبوت المقتضى ولا ثبوته مما لا يرجع إلى محصل ، ويأتي تفصيله في خاتمة الاستصحاب وفي الاشتغال.

الأمر الخامس :

يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أمور :

الأمر الأول : أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال صالحا للإنبعاث

٧٩

عنه وقابلا لأن يكون محركا لإرادة المكلف نحو امتثاله مع ما هو عليه من الإجمال ، بحيث يمكنه المخالفة القطعية للتكليف ، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا تعلق بما لا يمكن أن يكون محركا لإرادة العبد ، كموارد دوران الأمر بين المحذورين ، فان التكليف المردد ين وجوب الحركة أو السكون غير صالح للانبعاث عنه بعد ما كان العبد لا يخلو عن أحدهما تكوينا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ( في مبحث البراءة ) ان شيئا من الأصول العقلية والشرعية لا تجري في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

وليعلم أنه يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين أمور :

الأول : وحدة القضية وعدم تكررها ، فان في صورة تكرار القضية يتمكن المكلف من المخالفة القطعية ، كما لو دار أمر المرأة بين كونها محلوفة الوطي في كل ليلة من ليالي الأسبوع ، أو محلوفة الترك كذلك ، فإنه مع وطيها في بعض ليالي الأسبوع وترك وطيها في الليالي الاخر يعلم بمخالفة التكليف.

الثاني : أن لا يكون المكلف به في كل من طرف الفعل والترك تعبديا أو كان أحدهما المعين تعبديا ، فإنه لو كان كذلك لكان المكلف متمكنا من المخالفة القطعية بترك قصد التعبد في أحدهما أو في خصوص المعين ، ومهما تمكن المكلف من المخالفة القطعية فالعلم الإجمالي يقتضي التنجيز ولو بهذا المقدار ولو لم تجب الموافقة القطعية لعدم التمكن منها. ودعوى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فإذا لم تجب الموافقة القطعية لم تحرم المخالفة القطعية ، قد عرفت ما فيها.

الثالث : عدم القول بوجوب الموافقة الالتزامية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإنه لو بنينا على وجوب الموافقة الالتزامية لكان المكلف متمكنا أيضا من المخالفة القطعية بترك الالتزام بالتكليف المعلوم بالإجمال أو الالتزام بضده. ولكن في أصل الموافقة الالتزامية موضوعا وحكما إشكال ، فان المراد من الموافقة الالتزامية إن كان هو التصديق بما جاء به النبي ( صلى الله

٨٠