فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

متعلق التكليف هو الإرادة وأخذ العلم على وجه الصفتية ، وكل منهما في محل المنع ، لما عرفت من أن متعلق التكليف هو الفعل الصادر عن المكلف عن إرادة على وجه تكون الإرادة فانية في المراد ، ودخل العلم في الإرادة إنما يكون على وجه الطريقية والكاشفية عن المراد ، لا على وجه الصفتية.

مضافا إلى ما عرفت : من أن العلم في باب الإرادة يكون من مقدمات الداعي ، ولا يكون موضوعا للإرادة ، فدعوى اندراج المتجرى في الخطابات الأولية واضحة الفساد ، مع أن هذه الدعوى لا تصلح في مثل ما إذا علم بوجوب الصلاة ولم يصل وتخلف علمه عن الواقع ، فان البيان المتقدم لا يجرى في هذا القسم من التجري ، كما هو واضح.

الجهة الثانية : دعوى أنّ صفة تعلق العلم بشيء تكون من الصفات والعناوين الطارية على ذلك الشيء المغيرة لجهة حسنه وقبحه ، فيكون القطع بخمرية ماء موجبا لحدوث مفسدة في شربه تقتضي قبحه.

والإنصاف : انه ليس كذلك ، فان إحراز الشيء لا يكون مغيرا لما عليه ذلك الشيء من المصلحة والمفسدة. وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغير لجهة حسنه وقبحه ، لوضوح أن العلم بخمرية ماء وتعلق الإحراز به لا يوجب انقلاب الماء عما هو عليه وصيرورته قبيحا ، فدعوى أن الفعل المتجرى به يكون قبيحا ويستتبعه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة ، واضحة الفساد (١).

________________________

(١) أقول : يمكن دعوى ان نظر القائل بحرمة التجري ليس إلى دعوى كون العلم بشيء من الجهات المقبحة ، بل عمدة نظره إلى أن إقدامه على العمل من قبل علمه نحو جرئة على المولى وهو قبيح ، ولذا لو علم ولم يقدم لا قبح في البين ، فعدم حرمة التجري مبنى على عدم اقتضاء هذا العنوان المتأخر عن العلم أيضا للقبح ، لا عدم اقتضاء مجرد مخالفة العلم شيئا ، كما لا يخفى. وحينئذ قوله « فدعوى الخ » كما أفاد ـ لا يخلو عن اغتشاش ، بل بهذا البيان يرتفع شبهة اجتماع الضدين ، بتقريب : أن قبح التجري ومبغوضيته لدى المولى ينافي بقاء الواقع على

٤١

نعم : لا بأس بدعوى القبح الفاعلي (١) بأن يكون صدور هذا الفعل عن مثل هذا الفاعل قبيحا وإن لم يكن الفعل قبيحا. ولا ملازمة بين القبح الفاعلي والقبح الفعلي ، إذ ربما يكون الفعل قبيحا ولكن صدوره عن الفاعل حسن ـ كما في صورة الانقياد ـ وربما ينعكس الأمر ـ كما في صورة التجري ـ وحينئذ يقع الكلام في أن هذا القبح الفاعلي هل يصلح لأن يكون ملاكا للخطاب بحيث يتعلق خطاب بالفعل الصادر عن الفاعل قبيحا؟ أو أنه لا يصلح لأن يكون ملاكا للخطاب؟ والكلام في ذلك تارة : يقع من حيث عموم الخطابات الأولية لما يصدر عن المكلف قبيحا ، بحيث تكون تلك الخطابات مطلقة تعم صورة القبح الفعلي والقبح الفاعلي ، وأخرى : يقع من حيث استتباع القبح الفاعلي لخطاب يخصه ، غير الخطابات المترتبة على الموضوعات الواقعية.

________________________

ما هو عليه من المحبوبية ، للجزم بان علم المكلف بخلاف مرامه لا يغير مرامه ، أقدم المكلف على وفق علمه أم ما أقدم.

وملخص جوابه : أن المحبوب في الواقع هو الذات في الرتبة السابقة عن حكمه لأن موضوعه ، والذات المبغوض في التجري هو الذات الملحوظ في الرتبة اللاحقة عن العلم بحكمه ، فالذاتان حيث كانتا في الرتبتين لا يتعدى حكم كل إلى الآخر ، بعد التحقيق بأن موضوع الحكم ومعروضه في كل مقام هو العنوان لا المعنون ، بلا إضرار لوحدة المعنون أصلا لعدم سراية الحكم إليه ، كما لا يخفى.

(١) أقول : ما المراد من صدور الفعل من الفاعل؟ فإن أريد به الفعل المضاف إلى الفاعل بإضافة صدورية فقهرا قبح الفعل المضاف عين قبح الفعل بقبح ضمني لا مستقل ، وهو خلاف المقصود أيضا. وإن أريد نفس إضافة الفعل إلى الفاعل فهو أشنع ، لأن قبح الإضافة المزبورة يسرى إلى ما قام به ولو غيريا من باب المقدمة. وان أريد به كشف صدور الفعل عن سوء ذات الفاعل بلا قبح في صدور الفعل أبدا فلازمه عدم استحقاقه للثواب في الانقياد أيضا ، ولا أظن التزامه من أحد ، كيف! ولازمه عدم رجحان الاحتياط باحتمال كونه انقيادا ، إذ هو خلاف صريح كلماتهم بعدم الإشكال في رجحان الاحتياط. هذا مضافا إلى أنه بناء على الكاشفية لا معنى لاستناد القبح إلى صدور الفعل ولا إلى ذات الفاعل لسوء سريرته ، فان هذه أمر غير اختياري لا معنى لإضافة الحسن والقبح إليه ، إذ لا يتصف بهما إلا ما هو اختياري للمكلف ـ كما لا يخفى ـ وحينئذ لا حسن ولا قبح في البين ، وهو كما ترى!.

٤٢

أمّا الكلام من الحيثية الأولى : فالحق فيه أن الخطابات الأولية لا تعم القبح الفاعلي ، فان الحسن والقبح الفاعلي إنما يكون مترتبا على الخطابات الأولية (١) ومن الانقسامات اللاحقة له ، إذ بعد تعلق الخطابات بموضوعاتها تتحقق رتبة الحسن الفاعلي وقبحه ، فان ذلك يقع في رتبة امتثال تلك الخطابات وعصيانها ، فلا يمكن أن تكون الخطابات مطلقة تعم الحسن الفاعلي وقبحه بالاطلاق والتقييد اللحاظي.

نعم : يمكن ذلك بنتيجة الإطلاق والتقييد (٢) إلا أن دعوى إطلاق تلك الخطابات ولو بنتيجة الإطلاق للفعل الصادر عن الفاعل قبيحا تكون بلا برهان ، بعد ما كانت الخطابات مترتبة على موضوعاتها الواقعية ، والموضوع في مثل قوله ( لا تشرب الخمر ) هو الخمر الواقعي.

نعم : قد يتفق تقييد الخطاب بصورة صدور الفعل عن الفاعل حسنا وعدم صدوره قبيحا ، كما في مثل الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قلنا ببطلان الصلاة فيها عند الالتفات إلى موضوع الغصب وحكمه ، مع أنا نقول : بجواز اجتماع الأمر والنهي (٣) وليس ذلك إلا من جهة أن صدور الصلاة المشتملة على المصلحة من مثل هذا الشخص يكون قبيحا ، فلا تصلح لأن يتقرب بها ، فقد قيدت الصلاة بصورة عدم صدورها عن الفاعل قبيحا بنتيجة التقييد ، كما

________________________

(١) أقول : ما يترتب على الخطاب هو حكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب ، لا جهة سوء سريرة الفاعل ، إذ وجودها في ذات الفاعل غير محتاج إلى الخطاب أصلا ، وإن تحقق تكشف عنه في بعض الأحيان. وحينئذ احتمال الكشف في الكلام السابق ملغى. بقى في البين الاحتمالان الأولان ، ولقد تقدم ما فيهما

(٢) أقول : ولقد تقدم الكلام فيه مستقصى ، فراجع. نعم : في صيرورته تحت الخطاب ـ كما أفيد ـ يحتاج إلى متمم الجعل.

(٣) أقول : قد حققنا في محله أنه بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين لا معنى لسراية القبح فعليا وفاعليا إلى العنوان الراجح ، فلا معنى لتقييد موضوع الأمر بعدم اقترانه بالحرام ، كما هو الشأن في المتزاحمين ، وإن كان بينهما فرق من جهة أخرى ، فتدبر.

٤٣

قيّدت بقصد القربة ، بل يكون ذلك التقييد من شؤون التقييد بقصد القربة ، لكن هذا في خصوص العبادات التي يعتبر فيها التقرب ، وأما في غير ذلك فتقييد الخطاب وإطلاقه بالنسبة إلى الحسن الفاعلي وقبحه يكون بلا موجب ، فدعوى أن الخطابات الأولية تعم قبح الفاعلي ضعيفة جدا.

وأمّا الكلام من الحيثية الثانية : وهي اختصاص القبح الفاعلي بخطاب يخصه غير الخطابات الأولية ، فمجمل الكلام فيها : هو أن توجيه الخطاب إلى ما يختص بالقبح الفاعلي مما لا يمكن ، فان موضوع الخطاب الذي يمكن أن يختص بذلك إنما هو عنوان المتجرى (١) أو العالم المخالف علمه للواقع وأمثال ذلك من العناوين المختصة بالقبح الفاعلي ، والخطاب على هذا الوجه لا يعقل ، لأن الالتفات إلى العنوان الذي تعلق به الخطاب مما لا بد منه ، والمتجرى لا يمكن أن يلتفت إلى أنه متجري ، لأنه بمجرد الالتفات يخرج عن كونه متجريا ، فتوجيه الخطاب على وجه يختص بالقبح الفاعلي فقط لا يمكن ، مع أنه لا موجب إلى هذا الاختصاص (٢) فان القبح الفاعلي مشترك بين

________________________

(١) أقول : ما أفيد إنما يتم لو قلنا بأن مناط الخطاب وموضوعه عنوان التجري ، ولنا ان نقول : إن تمام المناط على الطغيان على المولى والتسليم له الجامعين بين العصيان والتجري والإطاعة والانقياد. وحينئذ الغفلة عن فرد الجامع مع الالتفات بنفسه ـ ولو بخيال فرد آخر ـ لا يضر باستحقاق العقوبة وقبحه الفاعلي ، ولو صادف الفرد الآخر ، كما لا يخفى.

(٢) أقول : اعترافه بعدم اختصاص القبح بخصوص صورة المخالفة في غاية الجودة ، ولكن ذلك لا يقتضي تعلقه بعنوان معلوم الخمرية أعم من المخالف والمصادف ، بل انما يتعلق بالطغيان الصادر عن العلم بالخمرية ، كما أشرنا إليه سابقا.

ثم إنه على فرض تعلقه بهذا العنوان لا معنى للتأكد في المجمع ، إذ الحكم المترتب على العلم بحرمة الخمر يستحيل اتحاده مع الحرمة الواقعية ، فأين يتصور التأكد في المقام؟ نعم : الأولى أن يعتذر عن مثل هذا الحكم في حق العالم به بمغفولية وجود موضوعه في العلم المخالف ، وذلك أيضا على فرض تعلق الحكم بكل واحد من العلم المخالف والموافق ، وإلا فعلى فرض تعلقه بالجامع ـ كما فرضنا ـ فلا مانع فيه ، كما أشرنا إليه في الحاشية السابقة ، فتدبر ، ولعمري! أن الناظر البصير يرى هذه القطعة مختلة النظام ، وأظن أنه من المقرر.

٤٤

المصادفة للواقع والمخالفة ، بل القبح الفاعلي في صورة المصادفة أتم وأكمل ، فلو كان القبح الفاعلي مناطا للخطاب فلابد وأن يكون الخطاب على وجه يعم صورة المصادفة والمخالفة ، بأن يقال : لا تشرب معلوم الخمرية ، فان هذا العنوان يعم كلتا الصورتين.

ولكن الخطاب على هذا الوجه أيضا لا يمكن ، لا لمكان أن العلم لا يكون ملتفتا إليه غالبا والفاعل لا يشرب الخمر بعنوان أنه معلوم الخمرية ، بل بعنوان أنه خمر ، فان الالتفات إلى العلم من أتم الالتفاتات ، بل هو عين الالتفات ولا يحتاج إلى التفات آخر ، ولو لم يمكن أخذ العلم موضوعا في المقام فكيف يعقل أخذه موضوعا لحكم آخر؟ وهل يمكن الفرق بين مواضع أخذ العلم موضوعا؟ مع أن صاحب الدعوى سلم إمكان أخذ العلم موضوعا لحكم آخر ، فهذا لا يصلح أن يكون مانعا لتوجيه الخطاب كذلك ، كما لا يصلح عدم ثبوت المصلحة والمفسدة في المتعلق في صورة المخالفة لأن يكون مانعا عن الخطاب ، لأن صحة الحكم لا تدور مدار وجودهما في المتعلق بعد ما كان القبح الفاعلي مناط للخطاب ، بل المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر العالم دائما وإن لم يلزم ذلك في الواقع ، لأن النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية هي العموم من وجه ، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان ـ كما في مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي ـ إلا أنه في نظر العالم دائما يلزم اجتماع المثلين ، لأن العالم لا يحتمل المخالفة ودائما يرى مصادفة علمه للواقع ، فدائما يجتمع في نظره حكمان ، ولا يصلح كل من هذين الحكمين لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد بحيال ذاته ، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد ، وفي مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي يصلح كل من الحكمين للباعثية بحيال ذاته ولو في مورد افتراق كل منهما عن الآخر ، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكد ، فلا مانع من تشريع مثل هذين الحكمين. بخلاف المقام ، فإنه لو فرض أن للخمر حكماً ولمعلوم الخمرية أيضا حكماً ، فبمجرد

٤٥

العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض أنه رتب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتب على معلوم الخمرية لا يصلح لأن يكون باعثا ويلزم لغويته ، وليس له مورد آخر يمكن استقلاله في الباعثية ، فان العلم بالخمرية دائما ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنه المترتب على الخمر الواقعي ، وذلك واضح بعد ما كان العالم لا يحتمل المخالفة ، فتوجيه خطاب آخر على معلوم الخمرية لا يمكن.

فظهر : أن القبح الفاعلي بوجه من الوجوه لا يستتبع الخطاب.

الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرى للعقاب لا من باب المخالفة لخطاب شرعي كما في الجهتين الأوليين ، بل من باب استقلال العقل باستحقاق المتجرى للعقاب ، وأنه يكون في حكم العاصي ، بدعوى أن المناط في استحقاق العاصي للعقاب موجود في المتجرى أيضا ، وأنه بمناط واحد يحكم العقل باستحقاق العاصي والمتجري للعقاب ، ببيان أن العلم والالتفات في باب الأحكام العقلية له جهة موضوعية (١) بل هو تمام الموضوع في المستقلات العقلية ، من غير فرق بين الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح باعتبار كونها مناطات الأحكام الشرعية و

________________________

(١) أقول : وأحسن من هذا البيان بيان آخر أشرنا إليه سابقا ، وهو أن الإقدام على ما قطع خلاف أمر مولاه نحو طغيان وظلم في حقه ، وهذه الجهة مشتركة بين العلم المصادف والمخالف ، وعمدة نظر القائل بالاستحقاق هو ذلك بلا خصوصية للعصيان فيه ولا من جهة أخذ العلم في موضوع القبح بنحو الصفتية ، بل العلم المأخوذ على وجه المنورية للغير تمام الموضوع في إحداث عنوان الطغيان على إقدامه بعد فساد توهم عدم إمكان أخذ العلم على وجه الطريقية ـ بالمعنى الذي أشرنا ـ تمام الموضوع ، كما أسلفنا ، فراجع.

كما أنه لا معنى في هذا المقام بأن العلم المخالف جهل ، إذ مثل هذا الجهل أيضا كالعلم في إحداث عنوان الهتك والطغيان على المقدم ، كما أن هذا الجهل يحدث اشمئزاز العقل عن عمله فعلا بعين اشمئزازه عند مصادفة علمه للواقع ، وحينئذ ليس لعنوان العلم دخل في الاستقباح الفعلي في نظر العالم كي يقال : إن العلم المخالف جهل لا علم

٤٦

التي تكون مورد قاعدة الملازمة ، وبين الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام مما يرجع إلى باب الطاعة والمعصية وما يستتبعهما من الثواب والعقاب الغير المستتبعة لحكم شرعي ، لاستلزامه التسلسل المحال ، ومن غير فرق بين ما يكون للعقل حكم واحد في صورة العلم والظن والشك كحكمه بقبح التشريع ، وبين ما يكون له حكمان : حكم على الواقع المعلوم ، وحكم طريقي آخر على المشكوك على طبق الحكم الواقعي ، كحكمه بقبح الظلم وقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه الوقوع في الظلم ، على ما يأتي تفصيل ذلك في محله ( إن شاء الله تعالى ). وعلى جميع التقادير : العقل لا يستقل بشيء إلا بعد العلم والالتفات إليه ، فالعلم يكون في الأحكام العقلية دائما له دخل على وجه الموضوعية ، ومن ذلك حكمه بقبح المعصية ، فإنه لا يحكم بذلك إلا بعد العلم بالمعصية والالتفات إلى أن للمولى إرادة ، ومن المعلوم : أنه لا يمكن اعتبار خصوص العلم المصادف للواقع ، فان المصادفة وعدمها ليست من الأمور الاختيارية ، فلا يمكن أن يكون ذلك مناطا لحكم العقل بقبح المخالفة واستحقاق العقاب ، بل العبرة في نظر العقل هو مطلق العلم صادف الواقع أو خالف. وإن شئت قلت : إن المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو جهة البغض الفاعلي وحيثية صدور الفعل الذي يعلم بكونه مبغوضا للمولى ، من دون دخل للواقع في ذلك فان الإرادة الواقعية مما لا أثر لها عند العقل إلا بعد الوجود العلمي ، وهذا المعنى كما ترى مشترك بين العاصي والمتجري

________________________

نعم : بينهما فرق في إصابته المصلحة وعدمه ، وهو أجنبي عن مقامنا ، كما أن محركية العلم للإرادة الواقعية التابعة للمصلحة الواقعية من المولى أيضا أجنبية عن مقامنا ، بل المناسب لباب وجدان العقل للاستقباح الفعلي إرادة العالم بالمصلحة في شيء ، فان مثل هذا الجهل أيضا محدث لإرادته مثل إرادته للعمل حين مصادفة علمه للواقع ، فتدبر كي لا يختلط الأمر عليك.

٤٧

والحاصل : أن المناط عند العقل في استحقاق العقاب هو البغض الفاعلي الناشئ عن العلم بالمخالفة والمعصية ، وهذا بعد ما كان العلم في باب الطاعة والمعصية موضوعا عند العقل واضح.

فالدعوى في المقام تتركب من أمرين : الأول : كون العلم تمام الموضوع في المستقلات العقلية خصوصا في باب الطاعة والمعصية ، حيث إن الإرادة الواقعية لا أثر لها عند العقل ، ولا يمكن أن تكون محركة لعضلات العبد إلا بالوجود العلمي والوصول. الثاني : كون المناط في استحقاق العقاب عند العقل هو القبح الفاعلي ، ولا أثر للقبح الفعلي المجرد عن ذلك ، ولعل الأمران اللذان يبتني عليهما الدعوى متلازمان ، كما لا يخفى على المتأمل ، هذا.

ويمكن المنع عن كل من الأمرين الذين بنى الدعوى عليهما ، أما الأول : فلأن العلم وإن كان له دخل في المستقلات العقلية ، إلا أنه لا العلم الأعم من المصادف وغير المصادف ، فان غير المصادف لا يكون علما بل هو جهل ، فليس إخراج غير المصادف من باب التخصيص في موضوع حكم العقل ، بل من أول الأمر غير المصادف خارج ، لأنه ليس في الحقيقة علما بل جهلا مركبا ، فان العلم هو الكاشف عن الواقع ، وغير المصادف لا يكون كاشفا عن الواقع فليس علما ، وإطلاق العلم عليه لمكان أنه في نظر العالم يكون كاشفا عنه ، واعتبار العلم في المستقلات العقلية ليس من جهة دلالة دليل عليه حتى يتمسك باطلاقه ، بل لمكان أن الإرادة الواقعية غير قابلة لتحريك إرادة الفاعل ، بل المحرك هو انكشاف الإرادة ووصولها إلى الفاعل ، وفي المقام الإرادة الواقعية لم تصل إلى الفاعل ، بل هو من تخيل الإرادة ، فلا عبرة بمثل هذا العلم في نظر العقل.

والحاصل : أن العقل يستقل بلزوم انبعاث العبد عن بعث المولى (١) و

________________________

(١) أقول : علم الله! العقل مستقل بلزوم انبعاث العبد في نظره بمحض علمه ببعث مولاه ولو من جهة

٤٨

أنّ وظيفة العبد ذلك ، والانبعاث عن البعث يتوقف على وصول البعث وإحرازه ، إذ لا أثر للبعث الواقعي ولا يمكن الانبعاث عنه ما لم يكن له وجود علمي ، وأين هذا مما لم يكن في الواقع بعث وكان من تخيل البعث؟ فدعوى أن العلم في باب المعصية الأعم من المصادف وغير المصادف ضعيفة.

وأما الأمر الثاني الذي بنى عليه الدعوى : فلأن المناط في استحقاق العقاب عند العقل وإن كان هو القبح الفاعلي ، إلا أن القبح الفاعلي المتولد من القبح الفعلي الذي يكون إحرازه موجبا للقبح الفاعلي ، لا القبح الفاعلي المتولد من سوء السريرة وخبث الباطن (١) وكم بين هذا وذلك من الفرق؟ فإن المناط في أحدهما غير المناط في الآخر ، حيث إن مناط أحدهما القبح الفعلي المحرز وعدم الانبعاث عن البعث الواقعي المعلوم ، ومناط الآخر سوء السريرة التي أوجبت عدم الانبعاث عن تخيل البعث ، ودعوى عدم الفرق بينهما في نظر العقل مما لا شاهد عليها.

فتحصل : أن القبح الفاعلي الناشئ عن سوء السريرة وخبث الباطن لا يستتبع استحقاق العقاب ، إلا إذا تعلق به الخطاب بأحد الوجهين

________________________

غفلته عن مخالفة قطعه للواقع ، بلا اختصاص لهذا المقدار بصورة مصادفة قطعه للواقع. وعمدة الخلط تخيل أن الأحكام العقلية الوجدانية نحو مصلحتها واقعية قابل لتخلف الطريق عنها ، وهو أول شيء ينكر!

(١) أقول : المراد من القبح الفاعلي ان كان مجرد سوء سريرة الفاعل فمسلم بأنه لا يكون مناطا لاستحقاق العقوبة أصلا ، ولكنه خلاف مراده ، لعدم كونه متولدا عن سوء السريرة بل هو نفسه. وإن كان المراد قبح إضافة الفعل إلى هذا الفاعل أو قبح الفعل المضاف إليه بهذا الوصف ، فلا مجال لإحداث سوء السريرة محضا مثل هذا القبح أبدا ، إذ بعد ما لا يكون سوء السريرة تحت الاختيار لا يوجب قبحا في أمر اختياري آخر. وعلى فرض تسليمه نقول : إن مثل هذا القبح لا يكون مناطا للاستحقاق ، فلا قصور حينئذ في دعوى استقلال العقل بالملازمة على القول بها في كلية المستقلات العقلية. ولكن لا أظن لأحد التزامه بذلك ، وذلك يكشف عن أن مثل القبح الفاعلي ناش عن استقلال العقل بالاستحقاق على الصادر منه الفعل ، لا أنه مناط ترتب الاستحقاق ، بل الأمر بالعكس. وحينئذ فلمثل هذا المستشكل أن ينكر حينئذ أصل القبح الفاعلي عند مخالفة قطعه ، لا أن يثبت القبح ويلتزم بما التزم ، فتدبر.

٤٩

المتقدمين ، وقد عرفت أن ذلك أيضا لا يمكن بالبيان المتقدم ، فالقول باستحقاق المتجرى للعقاب من الجهة الثالثة أيضا لا يتم.

الجهة الرابعة : دعوى حرمة التجري من جهة قيام الإجماع ودلالة الأخبار عليه ، فيكون البحث من هذه الجهة فقهيا ، كما أن البحث من الجهة الثالثة يكون كلاميا ، ومن الجهة الثانية يكون أصوليا من حيثية وكلاميا من أخرى ، ومن الجهة الأولى يكون أصوليا. ولا يخفى عليك أن البحث عن الجهة الرابعة إنما يستقيم بعد تصوير ما يمكن أن يتعلق به خطاب شرعي ، بحيث يكون فعلا اختياريا ملتفتا إليه حتى يكون حراما شرعا ، ولا يمكن أن يكون عنوان التجري معروض الحرمة (١) لما تقدم من أن الالتفات إلى هذا العنوان لا يمكن ، كما لا يمكن أن يكون فعل المتجرى به معروض الحرمة ، لما تقدم أيضا من أن العلم لا يحدث عنوانا يكون ملاكا للحرمة ، فيقع الكلام حينئذ فيما هو معروض الحرمة وما انعقد عليه الإجماع وما دل عليه الأخبار ، وأنه أي عنوان يكون ذلك ، ولابد أيضا أن يكون ذلك العنوان الذي يعرض عليه الحرمة يعم كلا قسمي التجري ، وهما ما إذا قصد الحرام وأتى ببعض مقدماته ثم عدل عن قصده بنفسه أو بصارف ـ بناء على أن يكون ذلك من التجري أيضا ـ وما إذا قصد الحرام وجرى على طبق مقصده ثم تبين له الخلاف أو لم يتبين له ولكن كان في الواقع مخالفا له ، فمعروض الحرمة لابد وأن يكون جامعا بين هذين القسمين ، ولا يمكن أن يكون الجامع هو قصد المعصية لدلالة جملة من

________________________

(١) أقول : ذلك صحيح على ما أفيد ، ولكن لمدعى الحرمة أن يدعى الحرمة للعنوان الجامع بينه وبين المعصية من مثل « الطغيان على مولاه » غاية الأمر خرج عنه فرد المعصية بالتخصيص وبقى الحكم لنفس العنوان المنحصر انطباقه على التجري ، وهذا المقدار أيضا لا يحتاج إلى الالتفات بعنوان التجري. نعم : لو كان خروج الفرد من باب التقييد بغيره يحتاج أيضا إلى الالتفات إليه ، ولكن مجرد الخروج المزبور لا يقتضي تقيدا بالفرد الآخر ، غاية الأمر تقتضي ضيق دائرة الجامع بنحو ينحصر انطباقه على الفرد الآخر ، كما لا يخفى.

٥٠

الأخبار على عدم المؤاخذة على القصد.

نعم : يمكن أن يكون الجامع هو القصد مع الجري على طبقه ، وبعبارة أخرى : القصد الذي يكون له مظهر ، فإن هذا المعنى موجود في قسمي التجري ، وبذلك يجمع بين الأخبار الدالة على عدم المؤاخذة على قصد السوء والأخبار الدالة على المؤاخذة بحمل الطائفة الأولى على القصد المجرد ، والثانية على القصد الذي يكون له مظهر ، ولكن الكلام حينئذ في الشاهد على هذا الجمع ، فإنه بدون ذلك يكون من الجمع التبرعي الذي لا عبرة به ، وليس في الأخبار ما يمكن أن يكون شاهدا على ذلك.

ومما ذكرنا يظهر ما في دعوى الإجماع في المقام ، لا من جهة كون المسألة عقلية ولا عبرة بالإجماع في المسائل العقلية فان المسألة ـ على ما حررناها ـ تكون فقهية ومن المسائل الشرعية ، بل لعدم الإجماع في المسألة ، فإنه لم ينعقد الإجماع على حرمة القصد الذي يكون له مظهر ولا ادعاه أحد.

نعم : ادعى الإجماع في موردين : أحدهما : فيمن ظن ضيق الوقت وأخر الصلاة ثم تبين الخلاف وسعة الوقت ، حيث ادعى الإجماع على عصيانه بتأخير الصلاة واستحقاقه العقاب ، وذلك لا يكون إلا بناء على حرمة التجري. ثانيهما : فيمن سلك طريقا مظنون الضرر ، حيث ادعى الإجماع أيضا على عصيانه ووجوب الإتمام عليه لكون سفره سفر معصية ولو انكشف عدم الضرر ، وهذا أيضا لا يتم إلا بناء على حرمة التجري ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إن كلا من الموردين اللذين ادعى عليهما الإجماع خارج عما نحن فيه ، وليس من موارد التجري.

أما في الأول : فلان خوف الضيق يكون تمام الموضوع لوجوب المبادرة بالصلاة شرعا (١) ويكون وجوب المبادرة حينئذ نفسيا لا طريقيا إرشاديا.

________________________

(١) أقول : الأولى أن يقال : إن موضوع التجري إنما يتحقق بارتكاب ما قام عنده الطريق على الحرمة

٥١

وأمّا في الثاني : فلأن للعقل في باب الضرر الدنيوي حكم واحد ، وهو قبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الوقوع في الضرر ، نظير حكمه بقبح التشريع ، وليس حكم العقل بقبح الإقدام على مظنون الضرر أو مشكوكه طريقيا نظير حكمه بقبح ما لا يؤمن معه من الوقوع في التصرف في مال الغير ، فان محل الكلام إنما هو الضرر الدنيوي ، إذ الضرر الأخروي ليس هو إلا العقاب وحكم العقل في لزوم دفعه يكون إرشاديا محضا لا يستتبع حكما مولويا ، كحكمه بقبح المعصية. وأما الضرر الدنيوي فالعقل وإن استقل بلزوم دفع بعض مراتبه ، إلا أن حكم العقل في باب الضرر يكون في صورة العلم والظن بل الاحتمال العقلائي بمناط واحد ، وهو قبح الإقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر ، وعلى هذا يخرج من موضوع التجري وليس فيه انكشاف الخلاف.

فتحصل : أنه لم يتم إجماع على حرمة التجري بالقسم المبحوث عنه في المقام ولا دل عليه دليل.

نعم : يمكن القول بحرمة القسم الآخر من التجري (١) وهو ما إذا قصد المعصية وتلبس بمقدماتها ومنعه عن وقوع المعصية مانع. وعلى ذلك تحمل

________________________

الواقعية قطعا أو قطعيا مع فرض مخالفة الطريق للواقع ، وهذا المعنى أجنبي عن معقد الإجماع ، إذ ظاهر معقد الإجماع في المسئلتين هو قيام مطلق الظن على الضيق والضرر ، فلا محيص حينئذ من الالتزام بموضوعية الظن المزبور ، كيف ولولاه لا ملزم في البين مع عدم الحجية الظن المزبور أصلا! وعلى التقديرين لا يتصور عنوان التجري في المقام حينئذ ، فتدبر.

(١) أقول : لو التزمت بحرمة التجري فيما ذكرت فأنشدك بالله! أن عدم منع المانع عن العمل مانع عن حرمته؟ بل لنا أن نقول : إن مناطه بالأولوية يجرى في المقام. والتحقيق أن يقال : إن بنينا بعدم استقلال العقل بأزيد من سوء سريرة الفاعل الكاشف عن تجريه ، فقيام دليل تعبدي على الحرمة في التجري ـ ولو لمورد من موارده ـ دونه خرط القتاد! بل لابد من حمل أخبار حرمة قصد المعصية على إثبات حرمة هذا العنوان المخصوص الغير المرتبط بباب التجري الكاشف عن سوء سريرته وإن كان ملازما له.

وإن قلنا باستقلال العقل بقبحه ، فلا محيص من حمل أخبار العقوبة على الإرشاد ، لاستحالة إعمال جهة المولوية مع الاستقلال العقلي المزبور. فعلى أي حال لا يبقى مجال إثبات حرمة التجري شرعا مولويا ، كما لا يخفى.

٥٢

الأخبار الواردة على المؤاخذة على القصد كما هو مورد بعضها ، وعليه يكون حرمة التجري المبحوث عنه في المقام خاليا عن الدليل ، فالأقوى عدم حرمته.

بقى في المقام أمران ينبغي التنبيه عليهما :

الأول : لا فرق في قبح التجري أو استحقاق المتجرى للعقاب بين مخالفة العلم أو مخالفة الطرق والأصول المثبتة للتكليف ، فإنه في الجميع يتحقق عنوان التجري ، ولا خصوصية للعلم بعد ما كانت الطرق والأصول منجزة للواقع ، والعبرة إنما تكون بمخالفة المنجز علما كان أو غيره ، بل في غير العلم يمكن أن يقع التجري على وجهين ، فإنه لو قامت الأمارة على خمرية مايع فتارة : يشربه المكلف على أنه خمر ، وأخرى : يشربه برجاء أنه لم يكن خمرا ، لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع ، فعلى الأول : يكون متجريا بالنسبة إلى الواقع إذا كانت الأمارة مخالفة له. وعلى الثاني : يكون متجريا بالنسبة إلى الطريق (١) والتعبد بإلقاء احتمال الخلاف والبناء على أنه خمر ، فتأمل.

وهذا في العلم لا يأتي ، لعدم جريان احتمال الخلاف في نظر العالم ، فالتجري في حقه لا يكون إلا بالنسبة إلى الواقع. هذا إذا لم نقل بالسببية في باب الطرق والأصول ، وإلا كان المخالف لها عاصيا حقيقة ، وليس من التجري ، هذا في الأصول والأمارات المثبتة للتكليف.

وأما النافية : فلا إشكال في رجحان الاحتياط معها ، ولكن لو فعل متعلقها برجاء مخالفتها للواقع فلا يبعد أن يكون من التجري ، كما لو قامت

________________________

(١) أقول : الأمر بإلغاء الاحتمال إذا كان طريقيا ففي صورة المخالفة لا يكون إلا ترخيصا ، فبنائه في المقام على العمل برجاء المخالفة مرجعه إلى البناء على كونه ترخيصا ، فأين يتصور حينئذ تجرى بالنسبة إلى الطريق ، ولعل أمره بالتأمل يشير إليه.

٥٣

البينة على عدم خمرية مايع وشرب المكلف ذلك المايع برجاء أنه خمر وأن البينة مخالفة للواقع ، فحيث لم يكن شربه ذلك مستندا إلى الترخيص الشرعي كان ذلك من التجري ، بل لا يبعد أن يكون ذلك من المعصية الحقيقية إذا كانت البينة في الواقع مخالفة وكان ما شربه خمرا ، ويكون المقام نظير الاقتحام في الشبهات قبل الفحص ، فتأمل.

الثاني : ذكر « صاحب الفصول » ان قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار ، وربما يطرء عليه ما يخرجه عن القبح ، كما إذا علم بحرمة ما يكون في الواقع واجبا وكان مصلحة الوجوب غالبة على مفسدة التجري أو مساوية ، وعلى هذا يختلف التجري حسنا وقبحا شدة وضعفا باختلاف الفعل المتجرى به. ثم ذكر أن التجري لو صادف المعصية الحقيقية يتداخل عقابه مع عقاب المعصية ولا يتعدد عقابه ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنه لا يستقيم شيء مما ذكره ، أما في دعواه الأولى : من كون قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار. ففيها أنه لا يعقل الاختلاف في قبح التجري (١) فان القبح ذاتي له ، كقبح المعصية وحسن الطاعة وقبح الظلم وما شابه ذلك من العناوين التي تتغير عما هي عليها ، وليس كقبح الكذب وحسن الصدق مما يمكن أن يطرء عليه جهة توجب حسن الأول وقبح الثاني ، وكيف يعقل أن يطرء على التجري جهة توجب حسنه؟ فكما لا يمكن أن تتصف الطاعة بالقبح والمعصية بالحسن كذلك لا يمكن أن يتصف التجري بالحسن.

________________________

(١) أقول : ما أفاده « الفصول » وما أجابه المجيب إنما يجرى بناء على وحدة الموضوع بين الواقع والتجري ، ولقد أشرنا سابقا أنه بمعزل عن التحقيق ، كما بينا من أن موضوع الواقع والتجري عنوانان طوليان بنحو يسرى الحكم من أحدهما إلى الآخر ، فأين تزاحم في البين حينئذ؟ فتدبر.

٥٤

وأمّا في دعواه الثانية : من أن العلم بحرمة ما يكون واجبا مغير لجهة قبح التجري. ففيها أنه لو سلمنا اختلاف قبح التجري بالوجوه والاعتبار ، ولكن الجهات المغيرة للحسن والقبح لابد وأن تكون ملتفتا إليها ، لما تقدم من أن العلم في باب الحسن والقبح العقلي له جهة موضوعية ، ولا يمكن أن يكون الشيء قبيحا عقلا بلا أن يكون الموجب للقبح ملتفتا إليه (١) فالكذب الذي يتوقف عليه إنجاء البنى قبيح إذا لم يلتفت إلى التوقف ، والصدق الموجب لهلاك البنى حسن إذا لم يلتفت إلى ذلك ، وباب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة التي لا دخل للعلم بها ، فمجرد كون الفعل المتجرى به ذا مصلحة واقعا لا يوجب تغيير قبح التجري بعد ما لم تكن المصلحة معلومة ولم يكن المكلف ملتفتا إلى وجوبه ، ففي مثل هذا قبح التجري يكون على حاله ، كما هو واضح.

وأما ما في دعواه الثالثة : من أن التجري لو صادف المعصية يتداخل عقابه ، ففيها أن التجري لا يعقل أن يجتمع مع المعصية حتى يتداخل العقاب ، بل التجري في طرف النقيض للمعصية ، إذ قوام التجري هو عدم المصادفة ومخالفة الواقع (٢) كما أن قوام المعصية هو المصادفة للواقع ، فكيف يجتمع التجري

________________________

(١) أقول : ما أفيد صحيح بالنسبة إلى العامل. وأما بالنسبة إلى سائر الأنظار الملتفتين إلى الجهتين ، فلا قصور في اختلاف الجهات المحسنة والمقبحة من هذه الجهة. نعم : الأولى الاقتصار إلى الجهة الأولى ، فتدبر.

(٢) أقول : الذي به قوام التجري صدق إبراز الجرئة على المولى مع عدم صدق العصيان عليه ، وهذا المعنى ربما يتحقق ولو بايجاد مقدمة من المقدمات حتى عزمه على العصيان ، ومن المعلوم : أن هذه المقدمات غير نفس العصيان سواء صادف معه أم لا ، وليس من مقوماته عدم مصادفة هذه المقدمات مع العصيان. وحينئذ لا قصور في اجتماع التجري مع العصيان في جميع موارد العصيان. نعم : قد يتحقق بلا عصيان ، فتكون دائرة التجري أوسع من العصيان لا مبائنا معه موردا. نعم : يباينه في الوجود ، فإن العصيان بنفسه غير التجري ، فهو لا يجتمع معه حتى موردا ، كما لا يخفى.

وحينئذ الذي يرد عليه : هو أن موضوع القبح لو كان هذا العنوان المقابل للعصيان لا موجب لتداخل عقابها. نعم : لو كان صادقا حتى على نفس العصيان فعقابهما يتأكد لا أنه يتداخل ، ولكنه أيضا كما ترى!.

نعم : بناء على التحقيق ـ كما أشرنا إليه ـ من أن موضوع القبح مطلق الطغيان الجامع بينهما ، لا بأس بالالتزام بأن الطغيان شخص واحد لا يكون إلا عقابا واحدا ، فإن أراد من التداخل هذا فلا بأس به ، فتدبر.

٥٥

مع المعصية؟.

نعم : يمكن أن يوجه كلامه بحيث يرجع إلى أمر معقول وإن كان خلاف ظاهر كلامه ، بأن يقال : إن مراده من المعصية المجتمعة مع التجري غير المعصية التي علم بها وتجري فيها ، بل معصية أخرى ، كما لو علم بخمرية مايع فتجري وشربه ، ثم تبين أنه مغصوب (١) فان في مثل هذا يمكن أن يقال : إن المكلف تجرى بالنسبة إلى شرب الخمر وعصى بالنسبة إلى شرب المغصوب ، بناء على أن العلم بجنس التكليف والإلزام يكفي في تنجز التكليف وإن لم يعلم فصله ـ كما سيأتي في العلم الإجمالي ـ فيقال في المثال : إنه قد تعلق علمه بحرمة شرب المايع على أنه خمر ، فبالنسبة إلى كونه خمرا أخطأ علمه ، وبالنسبة إلى الحرمة لم يخطأ وصادف الواقع ، لأنه كان مغصوبا ، فيكون قد فعل محرما ويعاقب عليه وإن لم يعاقب على خصوص الغصبية لعدم تعلق العلم بها ، بل يعاقب على القدر المشترك بين الخمرية والغصبية ، فلو فرض أن عقاب الغصب أشد يعاقب عقاب الخمر ـ أي عقاب مقدار شرب الخمر ـ ولو انعكس الأمر وكان عقاب الخمر أشد يعاقب عقاب الغصب ، لأن المفروض أنه لم يشرب الخمر فلا يعاقب عليه. وفي الصورة الأولى إنما كان يعاقب عقاب شرب الخمر مع أنه لم يشرب الخمر ، من جهة أن عقاب ما يقتضيه شرب الخمر هو المتيقن الأقل والمنفى عنه هو العقاب الزائد الذي يقتضيه الغصب ، فتأمل جيّداً.

________________________

(١) أقول : الظاهر من المثال كون القضية مشكوكة بدوية ، وإلا فلو كان طرفا للعلم الإجمالي فتكون الخمرية أيضا مشكوكة مثل الغصبية ، وهو خلاف ظاهر فرضه ، وحينئذ نقول :

إن حرمة الغصب بعدما كان شخص حرمة أخرى غير حرمة الخمر ، فالعلم بشخص حرمة الخمر لا يكاد يسرى إلى حرمة الغصب ، وهما وإن كانا تحت جامع الحرمة ، لكن الذي هو معلوم الحصة من الجامع المختص بشخص حرمة الخمر ، ولا يسرى العلم إلى حصة أخرى الموجودة في الغصب ، وما قرع سمعك : من كفاية العلم بجنس التكليف ، إنما هو في الجنس القابل للانطباق على كل واحد من الشخصين ، كما في فرض العلم الإجمالي بأحد الحرمتين ، لا مثل المقام الذي أحدهما معلوم والآخر مشكوك ، ولو فرض المثال بصورة العلم الإجمالي بالخمرية والغصبية وأتى به برجاء الخمرية فبان غصبيا كان أولى ، فتدبر.

٥٦

المبحث الخامس

ينسب إلى جملة من الأخباريين عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية ، وقد أنكر بعض الأعاظم هذه النسبة وادعى أن الأخباريين إنما ينكرون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وذهب آخرون منهم إلى عدم حصول القطع من المقدمات العقلية وأنها لا تفيد إلا الظن.

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، ينبغي بيان نبذة من المباحث الراجعة إلى المستقلات العقلية. والقوم وإن أطالوا البحث عن ذلك وصنفوا فيها رسائل ، إلا أنه لما كان خارجا عن المقصود فالأنسب أن نقتصر بالإشارة إلى الجهات التي وقع البحث عنها ، وتفصيلها يطلب من المطولات.

الجهة الأولى :

قد نسب إلى جملة من الأشاعرة إنكار الحسن والقبح العقليين وأن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها ، بل بالغ بعضهم وأنكر ثبوت جهة الحسن والقبح للأشياء وأن الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه ، وليست الأحكام تدور مدار المصالح والمفاسد. بل الشارع يكون مقترحا في أحكامه من دون أن يكون هناك مرجح ، وأنه لا مانع من الترجيع بلا مرجح.

ولما كان هذا القول في غاية السخافة والسقوط أعرض عنه المحققون من الأشاعرة والتزموا بثبوت المصالح والمفاسد ، ولكن اكتفوا بالمصلحة والمفسدة النوعية القائمة بالطبيعة في صحة تعلق الأمر ببعض أفراد تلك الطبيعة ، وإن لم تكن لتلك الأفراد خصوصية توجب تعلق الأمر بها بل كانت الأفراد متساوية الأقدام بالنسبة إلى الطبيعة التي تقوم بها المصلحة ويصح ترجيح بعض الأفراد على بعض بلا مرجح بعد ما كان هناك مرجح في أصل

٥٧

الطبيعة.

ولهم على ذلك براهين ، ويمثلون لذلك برغيفي الجايع وطريقي الهارب مع تساوى الرغيفين والطريقين من جميع الجهات ، فإنه لا إشكال في اختيار أحد الرغيفين والطريقين مع أنه ليس في اختيار ذلك مرجح أصلا ، لأن المفروض تساوى الفردين في الغرض من جميع الجهات (١). وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) يميل إلى هذا بعض الميل. وهذا القول ليس بتلك المثابة من الفساد (٢) ويمكن الالتزام به ولا ينافيه تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكفاية المصلحة النوعية في ذلك ، والذي لا يمكن الالتزام به هو إنكار المصالح والمفاسد في متعلقات الأوامر وأنها كلها تكون محض الاقتراح ، لعدم معقولية الترجيح بلا مرجح ، مضافا إلى إمكان دعوى تواتر الأخبار على خلافه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد

________________________

(١) أقول : يمكن توجيه كلامهم على نحو يخرج عن هذا المقدار من السخافة ، بأن يقال أو لا : بأن المراد من المرجح الممكن في ظرف وجوده ليس إلا تمامية علل وجوده المتمم لها إرادة الباري ( عز اسمه ) وهذه العلل ربما تكون خفية لا يحيط بها إلا ذاته المقدسة ، ولا يلزم أن يكون من سنخ المصالح والمفاسد الموجبة لرجحان العمل لدى العباد ، وعليه : فلا غرو في دعوى عدم إدراك العقل تلك العلل الخفية مع عدم وجدان العقل أيضا للمصالح الراجحة في أنظارهم ، وحينئذ لهم أن يدعى أن للباري أن يحكم على ما يرى مقتضيا لوجوده ، كما أنه قد يريد تكوينا ما فيه المفسدة بأنظار الغير المنكرين لها لجهة خفية بنظر ، فصح مع إنكارهم للجهة المحسنة بأنظارهم وأنه تحت اختيار الباري ، بلا التزام بلزوم الترجيح بلا مرجح واقعا في فعله ، وإن اتفق تخيل العباد ذلك ، لعدم دركهم مرجحا لوجوده.

وثانيا : من الممكن حمل كلامهم على منع تحسين الفاعل لا منع رجحان الفعل من جهة التزامهم مجبورية العباد ، وحينئذ مرجع سخافة مذهبهم إلى هذه النقطة لا غيره ، كما أن إنكارهم المصالح والمفاسد في الأفعال كلية أيضا سخيف ، لوجدان العقل في بعض الأفعال المصالح والمفاسد ، ولكن هذا المقدار قابل للشبهة ولم تبلغ إلى درجة لا يلتزم به ذو مسكة ، غاية الأمر الشبهة بأنظار صحيحة مندفعة بالوجدان السليم والذوق المستقيم ، نظير مشيهم في مجبورية العباد ، كما لا يخفى.

(٢) أقول : مع فرض بطلان الترجيح بلا مرجح لا يرى العقل فرقا بين النوع والشخص ، فهما في السخافة سيّان.

٥٨

أمرتكم به » الخبر (١).

ويتلو هذا في الضعف دعوى تبعية الأوامر والنواهي لمصالح في نفسها من دون أن يكون هناك مصلحة في المتعلق ، بل المصلحة في نفس الأمر والنهى. ومن ادعى هذه المقالة وإن لم يدعيها كلية وفي جميع الأوامر والنواهي ، بل ادعاها موجبة جزئية ، ومثل لها بالأوامر الامتحانية ، حيث إنه ليس في متعلقاتها مصلحة ، فلابد وأن تكون هناك مصلحة في نفس الأمر والجعل. ألا أن الأنصاف فساد هذا الدعوى ولو بنحو الإيجاب الجزئي ، فان المصلحة في الأمر مما لا معنى لها (٢) وإلا يلزم أن تتحقق المصلحة بمجرد الأمر بلا انتظار شيء آخر ، والأوامر الامتحانية ليست كذلك ، فان المصلحة فيها إنما تكون قائمة في إظهار العبد الإطاعة وكونه بصدد امتثال الأوامر الصادرة من المولى ، وإظهار الإطاعة لا يتحقق إلا بالجري على وفق ما تعلق الأمر به ، وأين هذا من كون المصلحة في نفس الأمر؟.

فتحصّل : أنه لا سبيل إلى إنكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وأن في الأفعال في حد ذاتها مصالح ومفاسد كامنة مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه وأنها تكون عللا للأحكام ومناطاتها ، كما أنه لا سبيل إلى إنكار إدراك العقل تلك المناطات موجبة جزئية وأن العقل ربما يستقل بقبح شيء وحسن آخر. ولا يمكن عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح ـ كما عليه بعض الأشاعرة ـ فان عزل العقل عن ذلك يوجب هدم أساس إثبات الصانع ، ويلزم إفحام الأنبياء ، لأنه على هذا لا يستقل بقبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب ولا قبح المعصية وحسن الطاعة.

وبالجملة : عزل العقل عن الإدراك مما يوجب هدم أساس الشريعة ، فلا إشكال

________________________

(١) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب مقدمات التجارة الحديث ٢

(٢) أقول : الأولى أن يقال : إن المصلحة الناشئة من قبل الأمر معلول الأمر فكيف يكون مقتضيا له!.

٥٩

في أنّ العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها ولو موجبة جزئية وفي بعض الموارد ، ولا ندعي الكلية ولا يمكن دعواها ، بل نتكلم في قبال السلب الكلي الذي عليه بعض الأشاعرة.

الجهة الثانية :

في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بمعنى أنه في المورد الذي استقل العقل بحسن شيء أو قبحه فعلى طبقه يحكم الشرع بوجوبه أو حرمته ، وهو المراد من قولهم « كلما حكم به العقل حكم به الشرع » وقد أنكر هذه الملازمة بعض الأخباريين ، وتبعهم بعض الأصوليين ك‍ « صاحب الفصول » حيث أنكر الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرع والتزم بالملازمة الظاهرية ، بدعوى أن العقل وإن كان مدركا للمصالح والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة ، إلا أنه من الممكن أن تكون لتلك الجهات موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل إلى تلك الموانع والمزاحمات ، إذ ليس من شأن العقل الإحاطة بالواقعيات على ما هي عليها ، بل غاية ما يدركه العقل هو أن الظلم مثلا له جهة مفسدة فيقبح والإحسان له جهة مصلحة فيحسن ، ولكن من المحتمل أن لا تكون تلك المفسدة والمصلحة مناطا للحكم الشرعي لمقارنتها بالموانع والمزاحم في نظر الشارع ، فربما تكون مصلحة ولم يكن على طبقها حكم شرعي ، كما يظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك » (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « إن الله سكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسيانا » الخبر (٢) فان الظاهر منه هو أنه ( تعالى ) سكت

________________________

(١) بحار الأنوار : كتاب الطهارة باب سنن الوضوء وآدابه الحديث ١٧ ج ٨٠ ص ٣٤٠.

(٢) نهج البلاغة : قصار الحكم ١٠٥.

٦٠