فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

المتعارضتين يكون على القاعدة ، ويكون من صغريات التخيير في باب المتزاحمين فيندرج في القسم الثاني ، فان كلا من الأمارتين فقد استتبعت حكما على طبقها ، وحيث لا يمكن للمكلف الجمع بين الحكمين في الامتثال ، لتضاد مؤداهما الذي هو منشأ التعارض ، فلا محيص عن التخيير ، إما بتقييد الإطلاق ، وإما بسقوط الحكمين واستكشاف العقل حكما تخييريا ، لتمامية الملاك ، وذلك أيضا واضح.

الأمر الثاني :

كما يمكن أن يكون التكليف في عالم الجمع والثبوت ومرحلة التشريع والحدوث مشروطا ـ كاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة والصلاة بالوقت ـ كذلك يمكن أن يحدث للتكليف الاشتراط في مرحلة البقاء والاستمرار بعد ما كان مطلقا في مرحلة الحدوث والثبوت ، كما لو فرض اشتراط بقاء التكليف بالصلاة بعدم الصيام.

وهذان الفرضان متعاكسان في جريان البراءة والاشتغال عند الشك فيهما.

__________________

مفاده حكما تكليفيا ، ولذا ينتج من هذا التخيير بالأخرة حكما تعيينيا أو حجة تعينية ، وبذلك تمتاز عن التخيير في الأقسام السابقة.

ولئن شئت قلت : بأنه عند عدم سقوط الطريقين عن الحجية العقل يحكم باشتراط تعين كل واحد بالأخذ به ، فهذا التخيير في الحقيقة جاء من قبل تحصيل الحجة التعينية بأخذه عند تساويهما ، لا أنه حكم شرعي موجب للعقوبة على ترك الاستناد بهما ، كيف! ومع تركهما لا يستحق إلا العقوبة على ترك الحجة التعينية ، لا على ترك الأخذ بهما.

ثم أن في هذه الجهة لا فرق بين اعتبار الطرق من باب الطريقية أو السببية ، إذ على السببية أيضا الأخذ مقدمة تعيين الحجة المقتضية لتعيين الحكم على وفقه ، بحيث نتيجة هذا التخيير أيضا ينتهى إلى حكم تعييني لا حكم تخييري ، كيف! ولا يتصور التخيير بين مفاد الحجتين المتضادين كالوجوب والحرمة ، فقهرا مثل هذا التخيير أجنبي عن التخييرات السابقة ، على السببية ، كما لا يخفى ، فتدبر.

٤٢١

فلو شك في إطلاق التكليف واشتراطه في عالم الجعل والتشريع ، فالأصل يقتضي البراءة عند عدم وجود ما شك في شرطيته ، للشك في التكليف ، وإن شك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة البقاء والاستمرار فالأصل يقتضي الاشتغال ، لأن حقيقة الشك يرجع إلى أن الصيام في المثال المتقدم هل يكون مسقطا للتكليف بالصلاة أو لا يكون مسقطا؟ (١) وكلما رجع الشك إلى الشك في المسقط ، فالأصل يقتضي عدم السقوط. فلا يقاس الشك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة الحدوث بالشك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة البقاء ، فان الأول يرجع إلى الشك في التكليف عند عدم تحقق الشرط ، والثاني يرجع إلى الشك في سقوط التكليف عند عدم الشرط ، وذلك أيضا واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

الأمر الثالث :

يعتبر في جريان البراءة أن يكون الشك في أمر مجعول شرعي تناله يد الوضع والرفع ولو بتبع منشأ الانتزاع (٢) كالشك في الجزئية والشرطية ، وإن لم تنلها يد الوضع والرفع في حد نفسها وبحيال ذاتها لأنها من الأمور الانتزاعية كما أوضحناه في محله ـ إلا أنه يمكن وضعها ورفعها بوضع التكليف الذي يكون منشأ انتزاع الجزئية والشرطية ورفعه ، وهذا المقدار يكفي في جريان البراءة عند الشك فيها.

والحاصل : أن الذي يعتبر في جريان البراءة أمران :

__________________

١ ـ أقول : الأولى أن يقال : عند الشك في اشتراط بقاء التكليف المرجع استصحاب بقائه لا الاشتغال ، كيف! وفي طرف البقاء يشك في أصل التكليف وأصل الاشتغال.

وما قرع سمعك من مرجعية الشك في المسقط إلى الاشتغال إنما هو في صورة تعلق الشك بوجود بدل مفوت له ، لا مثل المقام ، كما لا يخفى ، فتدبر.

٢ ـ أقول : وسيتضح لك ( إن شاء الله تعالى ) أن هذه المقدمة غير منتجة لمرامه ، فتكون مستدركا.

٤٢٢

أحدهما : أن يكون المشكوك فيه مما بيد الشارع أمر وضعه ورفعه ولو لم يستقل بالخطاب ولم يمكن جعله ابتداء بل كان من الكيفيات والخصوصيات اللاحقة للخطاب بحيث يكون وضعه بوضع الخطاب ورفعه برفعه ، فان هذا المقدار من الوضع والرفع يكفي في جريان البراءة فيه.

ثانيهما : أن يكون في وضعه تضييق على العباد وفي رفعه منة وتوسعة ، فان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » ورد مورد الامتنان ، فلابد ان يكون رفع المشكوك مما يقتضي التسهيل والتوسعة ، فلو فرض أن رفع المشكوك يقتضي الضيق والكلفة على العباد ، فلا يمكن أن يعمه « حديث الرفع » ولو كان مما تناله يد الوضع والرفع شرعا ، فمجرد كون أمر وضع المشكوك ورفعه بيد الشارع لا يكفي في جريان البراءة العقلية والشرعية فيه ما لم يستتبع وضعه العقاب والتضييق ، ليكون في رفعه التوسعة ورفع العقاب.

الأمر الرابع :

الشك في التعيين والتخيير يتصور على وجوه :

فإنه تارة : في أصل التكليف التعييني أو التخييري ، بمعنى أن أصل ثبوت التكليف المردد بينهما مشكوك أو المردد بين خصوص التخيير والإباحة ، كما لو شك في أن الارتماس في نهار شهر رمضان هل يقتضي وجوب إحدى الخصال تخييرا أو لا يقتضي شيئا أصلا؟ كما لو فرض الشك في أن المفطر الكذائي هل يقتضي الكفارة أو لا يقتضيه؟ وعلى تقدير اقتضائه فهل يقتضي كفارة معينة أو يقتضي التخيير بين إحدى الخصال الثلاث؟.

ولا ينبغي التأمل والإشكال في جريان البراءة في ذلك ، فان الشك فيه يرجع إلى الشك في أصل التكليف ، فما نسبه بعض إلى ظاهر صدر كلام الشيخ قدس‌سره في المقام : من أنه يعطى عدم جريان البراءة في هذا القسم من الشك ، ليس في محله ولا توهمه عبارة الشيخ ، خصوصا بعد ضمّ ذيل

٤٢٣

كلامه إلى صدره ، بل كلام الشيخ قدس‌سره ناظر إلى ما سيتلى عليك من ساير الأقسام.

وأخرى : يشك في التعيين والتخيير بعد العلم بتوجه الخطاب وثبوت التكليف ، وهذا يتصور على وجوه :

فإنه تارة : يعلم بتعلق التكليف بأحد الشيئين بخصوصه ، ويشك في أن الشيء الآخر هل هو عدله حتى يكون ما علمه تعلق التكليف به أحد فردي الواجب التخييري؟ أو أنه ليس عدله بل يتعين هو ، لا يقوم شيء آخر مقامه؟ كما لو علم بوجوب العتق وشك في وجوب الصيام على نحو يكون عدلا للعتق وأحد فردي الواجب وعدم وجوبه بل هو مستحب أو مباح.

وأخرى : يعلم بتعلق التكليف بكل من الشيئين ، ولكن يشك في أن كلا منهما واجب عينا لا يقوم أحدهما مقام الآخر ، أو أنهما واجبان تخييرا يسقط كل منهما بفعل الآخر فيكون كل واحد منهما عدلا للآخر.

وثالثة : يعلم بتعلق الوجوب بأحد الشيئين المعين ويعلم أيضا بأن الشيء الآخر مسقط لوجوب ما علم وجوبه ، ولكن يشك في أن إسقاطه للوجوب لمكان أنه قد تعلق الوجوب به أيضا وجعل أحد فردي الواجب المخير؟ أو أنه لم يتعلق الوجوب به بل هو إما مباح أو مستحب إلا أنه مسقط للواجب؟ فإنه ثبوتا يمكن أن يكون ما ليس بواجب مسقطا للواجب ، إما لفوات الملاك ، أو عدم إمكان استيفائه ، وسيأتي الثمرة بين كونه أحد فردي الواجب المخير وبين كونه مسقطا للواجب.

فهذه جملة ما يتصور من وجوه دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وقد عرفت أقسام الواجب التخييري.

فيقع الكلام حينئذ في ما يقتضيه الأصل العملي وأن الأصل عند الشك في التعيين والتخيير في جميع أقسام الواجب التخييري هل البراءة مطلقا؟ أو الاشتغال مطلقا؟ أو التفصيل بالنسبة إلى بعض وجوه الشك في

٤٢٤

التعيين والتخيير أو بعض أقسام الواجب التخييري ، ففي بعض وجوه الشك تجرى البراءة ، وفي بعضها لا تجري ، أو إذا كان طرف الشك بعض أقسام الواجب التخييري تجرى البراءة ، وإذا كان طرف الشك بعض آخر لا تجرى.

والأقوى : أن الأصل في جميع الأقسام على جميع وجوه الشك ـ ما عدا الوجه الأوّل ـ هو الإشتغال (١)

________________________

١ ـ أقول : قد تقدم ـ في الحاشية السابقة ـ أن مرجع الفرق بين التخيير والتعيين إلى كون الطلب متعلقا بالوجود على الإطلاق الذي هو طارد لجميع الأعدام ويقتضي المنع عن جميع أنحاء تروكه التي منها تركه في حال وجود غيره ، أو كونه متعلقا بالوجود بنحو يقتضي المنع عن بعض تروكه دون بعض ، ومن المعلوم : أن من لوازم الأخير جعل البديل له ، بخلاف الأول ، وحينئذ فليس قوام حقيقة التعيينية بعدم جعل البدل ، بل هو من تبعات تعلق الوجوب بالوجود لجميع حدوده الطارد لجميع أعدامه ، ومثل هذه الجهة أمر وجودي زائد عن كيفية تعلق الوجوب بهذا الوجود ببعض حدوده بنحو لا يكون طاردا لجميع أعدامه ، وحينئذ فلا محيص من الالتزام بأن جهة التعينية منتزعة عن سعة الطلب واحتوائه لجميع حدود الوجود ، قبال التخييرية المنتزعة عن قصور الطلب عن شموله لجميع حدوده بحيث لا يقتضي المنع إلا عن بعض تروكه ، وحينئذ عند الشك في التعيينية والتخييرية يرجع إلى الشك في تعلقه بحد زائد عما تعلق به على التخييرية ، فقهرا من هذه الجهة يرجع الأمر في مثله إلى الأقل والأكثر ، فلا مجال لإثبات التعينية من هذه الجهة.

نعم : لو علم بوجوب شيء معين ، وشك في وجوب شيء آخر بديله وعدله أو عدم وجوبه ـ كما هو صورة الفرض الأول ـ لا محيص في هذا الفرض من الاشتغال ، لانتهائه إلى العلم الإجمالي بحرمة ترك ما هو الواجب في ظرف ترك وجود الآخر ، أو حرمة ترك الآخر في ظرف ترك هذا الواجب ، فهذا العلم يقتضي تنجز المعلوم مع الجزم بالفراغ باتيان معلوم الوجوب.

وأما لو علم بوجوب شيئين ، وشك في أن كل منهما تعييني أو تخييري ، ففي هذه الصورة لا يبقى مجال لتشكيل العلم الإجمالي بين حرمة ترك الواجب في حال وجود غيره أو حرمة ترك الغير في حال ترك الآخر ، للعلم تفصيلا بحرمة تركه ، فلا يبقى في البين إلا الشك في حرمة ترك كل واحد في حال وجود غيره وهو تحت البراءة من الطرفين ، للعلم التفصيلي بحرمة ترك كل واحد من سائر الجهات ، وإنما الشك في حرمة ترك خاص من كل منهما وهو تحت البراءة ، حيث إنه من مصاديق الأقل والأكثر ، وفي مثله لا مجال لإجراء « قاعدة الشك في المسقط » إذ الشك فيه مسبب عن تعلق الحرمة بتركه المخصوص ، وهو مجرى البراءة ، فيصير البراءة حاكمة على الاشتغال ، لرجوع الأمر بالأخرة إلى الشك في أصل الاشتغال ، كما أنه لا مجال لاستصحاب وجوب الشيء بعد الإتيان بغيره ، لأن الوجوب المردد بين الأقل والأكثر لا ينتج شيئا ، ووجوب آخر من الأول غير معلوم ، كما لا يخفى.

٤٢٥

وينبغي إفراد كل قسم من أفراد الواجب التخييري بالبحث ، فان لكل واحد من الأقسام الثلاثة خصوصية لم تكن في الآخر ، بحيث لو أمكن القول بجريان البراءة في بعضها لا يمكن القول بجريانها في البعض الآخر ، كما سنوضحه ( إن شاء الله تعالى ).

فنقول : إذا كان الشك في التعيين والتخيير على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأحد الشيئين بخصوصه وشك في كون الشيء الآخر عدلا له وأحد فردي الواجب التخييري وكان الواجب التخييري الذي هو طرف الشك من الواجبات التخييرية الابتدائية في عالم الجعل والتشريع الذي كان هو القسم الأول من أقسام الواجب التخييري ـ فقد قيل : إنه تجرى البراءة عن التعيينية ، لأن صفة التعيينية كلفة زائدة توجب الضيق على المكلف ، بداهة أنه لو لم يكن الواجب تعيينيا لكان المكلف بالخيار بين الإتيان به أو بعدله ، فيشملها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » وقوله عليه‌السلام « الناس في سعة ما لا يعلمون » وغير ذلك من أدلة البراءة ، ويلزمه جواز الاكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلا لما علم تعلق التكليف به.

وقيل : بعدم جريان البراءة ، ويلزمه عدم جواز الاكتفاء بما يحتمل كونه عدلا للواجب ، وهو الأقوى ، فان صفة التعيينية وإن كانت كلفة زائدة توجب الضيق على المكلف ، إلا أن مجرد ذلك لا يكفي في جريان البراءة ، بل لابد مع ذلك من أن يكون المشكوك فيه أمرا مجعولا شرعيا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو بتبع خطاب آخر ، كما تقدم (١) وإلا كان اللازم جريان البرائة

__________________

١ ـ أقول : بعد تسليم أن التعيينية كلفة زائدة توجب ضيقا من ناحية العقوبة على المكلف ، ففي جريان البراءة العقلية ـ لولا شبهة أخرى ـ لا يحتاج إلى كون أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ، وإنما يحتاج إلى ذلك في مثل « حديث الرفع » وأمثاله ، وإلا ففي مثل البراءة العقلية يكفي كون المشكوك بخصوصه موجبا للعقوبة على تركه ، وصفة التعيينية لا أقل من كونه من هذا القبيل ، هذا ، مع أنه قد تقدم من أن مرجع التعيينية إلى تعلق الطلب

٤٢٦

في جميع موارد الشك في الامتثال والسقوط ، فان عدم حصول الامتثال وعدم السقوط ضيق وكلفة على المكلف ، كما أن حصول الامتثال والسقوط توسعة ، فلو اكتفينا في جريان البراءة بمجرد كون المشكوك فيه مما يوجب الضيق والكلفة ، كان اللازم جريان البراءة عند الشك في سقوط الأمر الصلاتي مثلا بالصيام ، وهو كما ترى! وليس ذلك إلا من جهة أنه يعتبر في أصالة البراءة ـ مضافا إلى كونها موجبة للتوسعة ورفع الكلفة ـ أن يكون المشكوك فيه أمرا وجوديا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو كان من توابع نفس التكليف وخصوصياته أو من توابع متعلقه وقيوده ، ولذلك كان الأقوى عندنا جريان البراءة عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، سواء كان المشكوك فيه جزءا أو قيدا ، كما أوضحناه في محله.

وحاصل الكلام : أن الكلفة والضيق الذي يراد رفعه بالبرائة إنما هو الضيق الجائي من قبل جعل التكليف وتشريعه ، بحيث يكون الجعل متضمنا لكيفية توجب الضيق وتوقع المكلف في الكلفة ، ولابد أن تكون تلك الكيفية وجودية ليمكن رفعها عند الشك فيها وأن يكون في رفعها منة وتوسعة على العباد ، وهذا هو الضابط الكلي الذي لابد من رعايته في جميع الموارد التي تجرى فيها البراءة.

ومنه : يظهر أنه لا مجال لتوهّم جريان البراءة عند الشك في التعيين والتخيير ، لأن صفة التعيينية المشكوكة ليست من الأمور الوجودية المجعولة

________________________

لجميع حدود الوجود الملازم لحرمة جميع أنحاء تروكه ، قبال التخييرية المتعلق ببعض حدود وجوده المستلزم لجواز بعض تروكه ، ومن المعلوم : أن التعيينية بهذا المعنى منتزع عن كيفية الجعل وأمر وضعه ورفعه بيد الشارع ، فلا قصور في جريان مثل « حديث الرفع » أيضا في المقام ، كما لا يخفى ، وحينئذ العمدة في منع جريان البراءة الابتلاء بعلم إجمالي آخر بين المتباينين ، وهو مختص بصورة العلم بوجوب شيء والشك في وجوب شيء آخر عدلا له ، ولا يجرى في صورة العلم بوجوب شيئين والشك بأنها تعييني أو تخييري ، كما لا يخفى. ولقد أوضحنا المرام في الحاشية السابقة ، فراجع إليه وتدبر فيه بعين الدقة.

٤٢٧

شرعاً ولو بالتبع ، بل إنما هي عبارة عن عدم جعل العدل والبدل ، بداهة أن نحو تعلق الخطاب لا يختلف تعيينيا كان أو تخييريا ، فالتكليف المتعلق بالعتق مثلا لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص ولا يتكيف بكيفية وجودية إذا كان التكليف المتعلق به تعيينيا ، وإنما الاختلاف ينشأ عن قبل وجوب العدل ، فان تعلق التكليف بشيء آخر يكون عدلا له فالتكليف المتعلق بالعتق كان تخييريا ، وإلا كان تعيينيا ، فالتعيينية ليست صفة وجودية للخطاب حتى تجرى فيها البراءة.

وبالجملة : كما أنه في مقام الإثبات ظاهر الخطاب يقتضي التعيينية لأنها لا تحتاج إلى بيان زائد بل التخييرية تحتاج إلى مؤنة زائدة من العطف ب‍ « أو » ونحوه ، كذلك في مقام الثبوت التعيينية عبارة عن تعلق الإرادة المولوية بشيء ، وليس لها فصل وجودي ، بل حدها عدم تعلق الإرادة بشيء آخر يكون عدلا لما تعلقت الإرادة به ، ففي الحقيقة الشك في التعيينية والتخييرية يرجع إلى الشك في وجوب العدل وعدمه ، فالذي يمكن أن يعمه « حديث الرفع » لولا كونه خلاف المنة ـ هو وجوب العدل المشكوك ، فينتج التعيينية وهي ضد المقصود.

فظهر : أنّ المرجع عند الشك في التعيين والتخيير قاعدة الاشتغال ، لرجوع الشك فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلا له ، من غير فرق بين أن يكون الشك فيهما على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة ( وهو ما إذا لم يعلم تعلق الطلب بما يحتمل كونه عدلا للواجب ) أو على الوجه الثالث ( وهو ما إذا علم بتعلق الطلب به أيضا وكان الشك في مجرد كونه عدلا للآخر ) (١) فان الشك في كل من الوجهين يرجع إلى

________________________

١ ـ أقول : لو تأملت فيما ذكرنا ترى الفرق بينهما كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار ، وأن الأصل في الأول هو التعيين ، وفي الثاني هو التخيير ، فتدبر تعرف.

٤٢٨

الشك في الامتثال والسقوط ، غايته أنه في الوجه الثاني الشك إنما يكون في مسقطية خصوص مشكوك الوجوب عن مقطوعه ، وفي الوجه الثالث يكون الشك في مسقطية كل منهما عن الآخر.

وكذا لا فرق بين القول بان الواجب التخييري عبارة عن تقييد الإطلاق واشتراط التكليف في كل واحد من الفردين بما إذا لم يأت بالآخر ، والقول بأنه بنفسه سنخ آخر من الطلب يقابل الواجب التعييني ، بل رجوع الشك إلى الشك في الامتثال والسقوط لو كان من باب تقييد الإطلاق أوضح ، فان الشك يرجع إلى الشك في السقوط على كل حال ولو كانت صفة العينية وجودية ، فإنه لو قلنا بأن الواجب التخييري من باب تقييد الإطلاق ، فالتقييد إنما يكون باعتبار البقاء ومرحلة السقوط لا باعتبار الثبوت ومرحلة الحدوث ، وقد عرفت : أن الأصل عند الشك في الإطلاق والاشتراط الراجع إلى مرحلة السقوط يقتضي الاشتغال وعدم السقوط ، فتأمّل جيّداً.

بقى الكلام في الوجه الثالث من وجوه الشك في التعيين والتخيير ، وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأحد الشيئين وعلم أيضا بأن الشيء الآخر مسقط التكليف به ، ولكن يشك في أن إسقاطه للتكليف لكونه عدلا له وأحد فردي الواجب المخير ، أو مجرد كونه مسقطا له ومفوتا لموضوعه ، سواء كان إسقاطه من حيث كون عدمه شرطا لملاك الواجب بحيث يكون وجوده معدما للملاك والمصلحة ، أو كان إسقاطه من حيث كونه مانعا عن استيفاء الملاك مع بقائه على ما هو عليه ، وعلى كلا التقديرين : يكون عدمه شرطا لوجوب الواجب ، ولا يمكن أن يكون أحد فردي الواجب المخير ، لأنه ليس فيه مصلحة الوجوب ولا حاويا لملاكه ، وإلا لم يكن إسقاطه للواجب بأحد الوجهين ، بل كان إسقاطه له من باب استيفاء الملاك ، فإنه يعتبر في الواجب التخييري أن يكون بين الأفراد جامع ملاكي.

وعلى كل حال : فان علم أن الشيء الفلاني ـ كالصيام مثلاً ـ ليس

٤٢٩

من أفراد الواجب التخييري وليس فيه ملاك الوجوب وإنما هو مباح أو مستحب مسقط للوجوب عن العتق فهو ، وإن شك في ذلك وتردد أمره بين أن يكون من أفراد الواجب التخييري أو مجرد كونه مسقطا ، فمع التمكن من الإتيان بما علم تعلق التكليف به ـ من العتق مثلا ـ لا يترتب على الوجهين أثر حتى يبحث عن الوظيفة في حال الشك إلا من حيث العصيان وعدمه ، فإنه عند ترك المكلف العتق مع العلم بتعلق التكليف به والاكتفاء بالصيام ـ مع أنه يمكن أن يكون في الواقع مما لم يتعلق به التكليف وكان مسقطيته للتكليف عن العتق لمكان كونه مفوتا لملاكه ومانعا عن استيفائه من دون أن يكون عدمه شرط للملاك ـ يستحق العقوبة.

وأمّا مع عدم التمكن من الإتيان بما علم تعلق التكليف به وتعذر على المكلف عتق الرقبة ، فيظهر بين الوجهين أثر عملي ، فإنه لو كان الصيام من أفراد الواجب التخييري يتعين الإتيان به ، لأنه إذا تعذر أحد فردي الواجب المخير يتعين الآخر ، وإن لم يكن الصيام من أفراد الواجب التخييري بل كان مجرد كونه مسقطا للوجوب عن العتق ، فلا يجب الإتيان به مع تعذر العتق ، لأنه بالتعذر قد سقط التكليف عنه ، والمفروض أن الصيام لم يتعلق التكليف به ، فلا ملزم لفعله بل لا أثر له ، والوظيفة عند الشك هي البراءة عن التكليف بالصيام ، للشك في تعلق التكليف به ، وذلك واضح.

وقد قيل : إن من هذا القبيل الشك في وجوب الجماعة عند تعذر القراءة على المكلف.

بيان ذلك : هو أنه تارة : نقول : إن الصلاة جماعة إحدى فردي الواجب التخييري الشرعي ، فان التخيير العقلي لا يحتمل لسقوط فيها وثبوتها في الصلاة فرادى ، فلا يمكن أن يجمعهما خطاب واحد (١) مع أنه يعتبر في التخيير العقلى أن

________________________

١ ـ أقول : كيف لا يتصور جامع بين الصلاة جماعة وفرادى مع أن الصلاة ولو عند الصحيحي موضوع

٤٣٠

يكون بين الأفراد جامع خطابي حتى تكون الأفراد متساوية الأقدام ، فالتخيير الذي يحتمل أن يكون بين الصلاة فرادى والجماعة هو التخيير الشرعي ، وعليه : فان تعذرت الصلاة فرادى ـ ولو لمكان تعذر جزئها وهي القراءة ـ تتعين الصلاة جماعة ، فإنه عند تعذر أحد فردي الواجب المخير يتعين الآخر.

وأخرى : نقول باستحباب الجماعة وأنها ليست إحدى فردي الواجب التخييري ولكنها مسقطة للوجوب عن الصلاة فرادى ، فلا تجب الجماعة عند تعذر القراءة ، بل للمكلف الصلاة فرادى بدون القراءة أو بما يحسن منها ، ولو شك في أحد الوجهين فالأصل يقتضي البراءة عن وجوب الجماعة عند تعذر القراءة ، للشك في تعلق التكليف بها ، كما تقدم ، هذا.

ولكن في الصلاة جماعة احتمال آخر لا يبعد استظهاره من الأخبار (١) وهو أن يكون الاكتفاء بالصلاة جماعة وإسقاطها للتكليف عن الصلاة فرادى ليس من حيث كونها مفوتة لملاك الصلاة فرادى ولا من حيث كونها إحدى فردي الواجب التخييري ، بل من حيث تنزيل قرائة الإمام منزلة قرائة المأموم ، فيكون المأموم واجدا للقرائة لكن لا بنفسه بل بإمامه ، إلا أن تنزيل قرائة الإمام منزلة قرائة المأموم لا يقتضي أن تكون الصلاة جماعة في عرض الصلاة فرادى حتى يلزم تعين الجماعة عند تعذر القراءة في الصلاة فرادى ، بدعوى : أنه يمكن تحصيل القراءة التنزيلية ، كما هو الشأن في باب الطرق والأمارات ، حيث

________________________

لمفهوم واحد ، غاية الأمر كانت من الحقائق التشكيكية القابلة للانطباق على الأقل والأكثر ، ومجرد اختصاص كل طائفة بمصداق مخصوص لا ينافي وحدة الحقيقة ، وتمام الكلام في محله. وعلى كلام « المقرر » يلزم أن يكون الصلاة مشتركا لفظيا بين الجماعة والفرادى ، وهو كما ترى!

١ ـ أقول : وهنا احتمال آخر لعله أمتن ، وهو كون الجماعة طرف التخيير بالنسبة إلى الفرادى لجميع مراتبه النازلة ، نظرا إلى أن للصلاة عرض عريض صادق على الزائد والناقص والمكلف في كل حال مكلف بمرتبة من الصلاة وفي كل حال مخير بين الفرادى والجماعة ، ولازمه كون الجماعة طرف التخيير للفرادى الاختيارية أو الإضطرارية من دون احتياج حينئذ إلى تنزيل قرائة الإمام خصوصا في طرف اختيار الجماعة كي يقال : إن أخبار تحمل الإمام قرائة المأموم آبي عن هذا التقيد ، فتدبر.

٤٣١

إنّه يجب الأخذ بمؤدياتها عند تعذر الوصول إلى الواقع ، لتنزيل مؤدياتها منزلة الواقع ـ بالبيان المتقدم في باب جعل الطرق والأمارات ـ فان التنزيل في باب الجماعة إنما يكون على تقدير اختيار الصلاة جماعة ، فتكون قرائة الإمام قرائة المأموم على هذا التقدير ، فلا يقتضي ذلك تعين الجماعة عند تعذر القراءة ، فتأمل جيدا.

ولو فرض الشك في كل ذلك فالمرجع البراءة عن وجوب الجماعة ، فعلى جميع التقادير : لو وصلت النوبة إلى الشك فلا محالة ينتهى إلى الشك في التكليف ، كما لا يخفى.

هذا كله إذا كان الشك بين التعيين والتخيير في القسم الأول من أقسام الواجب التخييري ( وهو ما كان التخيير فيه بجعل ابتدائي ).

وإذا كان الشك بين التعيين والتخيير في القسم الثاني من أقسام الواجب التخييري ( وهو ما كان التخيير فيه لأجل التزاحم ) فعدم جريان البراءة عن التعيينية أوضح على كلا المسلكين ، سواء قلنا : إن التخيير في باب التزاحم لأجل تقييد الإطلاق أو لأجل سقوط الخطابين المتزاحمين واستكشاف العقل حكما تخييريا ، فان رجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط في غاية الوضوح ، سواء قلنا : إن صفة التعيينية وجودية أو عدمية.

فلو وقع التزاحم في إنقاذ الغريقين مثلا لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الإنقاذ وكان متمكنا من أحدهما فقط ، فان علم بتساوي الغريقين من حيث الملاك والمصلحة التي اقتضت ايجاب الإنقاذ ، فلا إشكال في التخيير في اختيار إنقاذ أحدهما.

أما على المختار : فلأن نتيجة تقييد إطلاق كل من الخطابين بصورة عدم الإتيان بمتعلق الآخر هو التخيير في إنقاذ أحدهما.

وأما على المسلك الآخر : فلأن العقل بعد سقوط الخطابين المتزاحمين يستكشف حكماً تخييرياً.

٤٣٢

وإن علم بأقوائية الملاك في أحدهما المعين وأهميته في نظر الشارع فلا إشكال أيضا في تعينه على كلا المسلكين. أما على المسلك المختار. فلبقاء الإطلاق في جانب الأهم والتقييد يختص في طرف المهم ، ومنه ينشأ الخطاب الترتبي. وأما على المسلك الآخر : فلأن أقوائية ملاكه يمنع عن استكشاف العقل الحكم التخييري ، لأن التخيير فرع أن تكون الأفراد متساوية الأقدام في الملاك.

وإن شك في أهمية أحدهما المعين واحتمل أقوائية ملاكه ، كما إذا احتمل أن يكون أحدهما المعين هاشميا مع العلم بأهمية إنقاذ الهاشمي ، أو احتمل أهمية الهاشمي مع العلم بهاشمية أحدهما المعين ، فبناء على المختار : يرجع الشك إلى الشك في تقييد إطلاق محتمل الأهمية في مرحلة البقاء والامتثال مع العلم بتقييد الإطلاق في الأطراف الاخر (١) ولا إشكال في أن الأصل عند الشك في تقييد الإطلاق في مرحلة البقاء يقتضي الاشتغال لا البراءة ، للشك في سقوط التكليف عن محتمل الأهمية بعد العلم بتعلق التكليف به.

وأما بناء على المسك الآخر : فالشك فيه يرجع إلى الشك في سقوط أصل الخطاب مع العلم بالملاك التام ، فعلى كلا المسلكين : يرجع الشك إلى الشك في المسقط ، والمرجع أصالة الاشتغال لأن العلم باشتغال الذمة يستدعى العلم بالفراغ ، وذلك كله واضح.

بقى الكلام في القسم الثالث من أقسام الواجب التخييري ( وهو

__________________

١ ـ أقول : في كلية المتزاحمين إنما نقول بالتخيير من جهة التساوي في الاهتمام الموجب لعدم الترجيح عند العقل من جهة عدم القدرة على تحصيلهما ، فمع احتمال الأهمية في أحدهما المعين يكتفى العقل بذلك المقدار مرجحا ، فلا يبقى مجال لحكمه بالتخيير ، بل الفراغ اليقيني حينئذ يقتضي الإتيان بمحتمل الأهمية ، وهذه الجهة أيضا غير مرتبط بالشك في المسقط بمبناه ، كيف! وفي المقام ليس التقييد في مرتبة البقاء ، بل من الأول يحتمل تقيد إطلاقه عقلا ، لعجزه عن امتثالهما من أول الأمر ، فتدبر.

٤٣٣

ما إذا كان التخيير فيه لأجل تعارض الحجتين والطريقين ) وقد عرفت : أنه في باب الطرق والأمارات إن قلنا بالسببية فالتخيير فيه يكون من صغريات التخيير في باب التزاحم ، فان لم يكن لأحد الطرفين مزية فالمكلف بالخيار بين الأخذ بأحدهما. وإن كان لأحدهما مزية يتعين الأخذ بذى المزية (١).

وإن احتمل أن يكون لأحدهما المعين مزية ، كما إذا احتمل أعلمية أحد المجتهدين بعد العلم بوجوب الأخذ بقول الأعلم ، أو احتمل وجوب الأخذ بقول الأعلم بعد العلم بأعملية أحدهما المعين ، أو احتمل أن يكون لإحدى الأمارتين مزية يجب الأخذ بها ـ سواء كانت الشبهة موضوعية أو حكمية ـ فالكلام فيه الكلام في الفريقين عند احتمال أهمية أحدهما المعين ، ويأتي فيه المسلكان المتقدمان.

هذا إذا قلنا في باب الطرق والأمارات بالسببية ، وإن قلنا بالطريقية المحضة وأن المجعول في باب الطرق والأمارات مجرد الحجية والوسطية في الإثبات ـ كما هو المختار وعليه قاطبة المتأخرين ـ فوجوب الأخذ بمحتمل المزية في غاية الوضوح ولا يمكن الخدشة فيه ، فإنه يقطع أن سلوكه يوجب الأمن عن العقاب على تقدير مخالفته للواقع ، بخلاف سلوك الطريق الذي لا يحتمل فيه المزية فإنه يشك في حجيته ، وقد تقدم ( في مبحث الظن ) أن الأصل عند الشك في الحجية عدمها بالأدلة الأربعة ، فلا يكون المكلف معذورا على تقدير مخالفة مشكوك الحجية للواقع ويستحق العقوبة عقلا ، لأنه لم يعتمد في عمله على ما يكون مؤمنا.

فظهر : أن اقتضاء الأصل التعيين عند دوران الأمر بينه وبين التخيير

________________________

١ ـ أقول : ذلك كله إذا لم يكن المزية مورد أصالة التسوية في المصلحة ، كما لو كانا متساويين قبل حصول المزية : من الأعلمية أو الأعدلية ونحو ذلك ، فإنه حينئذ الأصل يقتضي التساوي بينهما وعدم حصول الأهمية بهذه المزية ، فيستصحب التخيير بينهما ، فتدبر.

٤٣٤

في باب الطرق والأمارات أوضح من اقتضائه التعيين في باب التزاحم ، كما أن اقتضائه التعيين في باب التزاحم أوضح من اقتضائه التعيين في باب التكاليف الابتدائية ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا. هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وينبغي تتميم البحث بالتنبيه على أمرين :

الأمر الأوّل :

إن محل الكلام إلى الآن كان في ما يقتضيه الأصل العملي بالنسبة إلى ما يشك في كونه واجبا عينيا. وأما الطرف الآخر الذي يحتمل أن يكون عدلا لما تعلق الوجوب به ، فالبحث عما يقتضيه الأصل بالنسبة إليه بعد البناء على أصالة التعيينية ساقط (١) إذ لا أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم وجوبه ، فإنه بمقتضى أصالة الاشتغال يتعين على المكلف الإتيان بما علم تعلق الطلب به ، والمفروض أنه لا يجب على المكلف إلا عمل واحد ، وذلك العمل يتعين بما يحتمل عينيته ، فأي أثر يترتب على البحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم الوجوب بالنسبة إلى ما يحتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري؟.

وبالجملة : التكلم عما يقتضيه الأصل بالنسبة إلى ما علم تعلق الطلب به وشك في عينيته يغنى عن التكلم فيما يقتضيه الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر ، فلا أثر للبحث عن أن أصالة البراءة هل تختص بالشك في الواجبات

________________________

١ ـ أقول : لا يخفى أن أصالة الإشتغال ملزم بإتيان محتمل التعيينية ولا ينفى وجوب بديله ، وفي ظرف الإتيان يقطع بعدم وجوب بديله ، وفي هذا الظرف لا معنى لجريان البراءة فيه كي تدور مدار أثرها ، وإنما الكلام في ظرف عدم الإتيان به ، ففي هذا الظرف ولو كان أصالة الاشتغال ملزما بالإتيان بمورده ، وأما في ظرف عدم الإتيان فلأصالة البراءة عن وجوب الطرف كمال الأثر ، حيث إن أصالة الاشتغال لا ينفى وجوب بديله ، فمع عدم الإتيان به يشك في وجوب الآخر ، فأصالة البراءة ينفيه ، فتدبر.

٤٣٥

التعيينية أو تعم الشك في الواجبات التخييرية؟ وعلى تقدير الاختصاص : فهل تجرى أصالة عدم الوجوب أو لا تجري؟ فالبحث عن كل هذا ساقط بعد البناء على أصالة التعيين ، بل لا أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو عدم الوجوب بالنسبة إلى ما يحتمل تعلق الطلب التخييري به مطلقا ولو بنينا على أصالة البراءة عن التعيينية عند الشك في التعيين والتخيير ، فان معنى أصالة البراءة عن التعيينية جواز الاكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلا للواجب ، فلا فائدة في جريان أصالة البراءة أو عدم الوجوب فيه ، فالبحث عما أفاده الشيخ قدس‌سره في التنبيه الثالث من قوله : « إن الظاهر اختصاص البراءة بصورة الشك في الوجوب التعييني » مستغن عنه ، فتأمّل جيّداً.

الأمر الثاني :

لو شك في الوجوب العيني والكفائي ، فهل الأصل يقتضي العيني ـ كالشك في التعييني والتخييري ـ فلا يسقط الواجب بفعل الغير؟ أو أن الأصل لا يقتضي العيني؟.

ربما توهم : أن الأصل لا يقتضي العينية ، لأن مرجع الشك في العينية والكفائية إلى الشك في التكليف عند فعل الغير ما هو الواجب ، والأصل عدمه ، هذا.

ولكن رجوع الشك إلى الشك في الامتثال والسقوط في الواجب العيني والكفائي أوضح من رجوعه إلى ذلك في الواجب التعييني والتخييري ، وتوضيح ذلك : هو أن في تصوير الواجب الكفائي وكيفية تشريعه ـ مع أن المطلوب إشغال أحد المكلفين صفحة الوجود بالفعل الذي لا يقبل التكرر أو إذا كان قابلا للتكرر لا يكون وجوده الثاني متعلق الطلب ـ وجهان : (١)

__________________

١ ـ أقول : وهنا شق ثالث : من كون الوجوب ناقصا متعلقا بفعل كل منهما بنحو يقتضي المنع عن بعض

٤٣٦

أحدهما : أن يكون المخاطب به آحاد المكلفين لكن لا على وجه الإطلاق ، بل بتقييد الخطاب المتوجه على كل أحد بصورة عدم سبق الغير بالفعل المخاطب به ، فينحل الخطاب إلى خطابات متعددة حسب تعدد أفراد المكلفين ، كل خطاب مقيد بعدم سبق الغير بفعل متعلق الخطاب.

ثانيهما : أن يكون المخاطب النوع ، ولمكان انطباق النوع على الآحاد يكون كل فرد من أفراد المكلفين مخاطبا بذلك الخطاب الواحد ، فلو أشغل أحد المكلفين صفحة الوجود بالفعل سقط الخطاب عن الباقي ، لأن الخطاب الواحد ليس له إلا امتثال واحد وقد امتثله من خوطب به من جهة انطباق النوع عليه ، فتأمل.

وعلى كلا الوجهين : يرجع الشك في العيني والكفائي إلى الشك في سقوط الواجب بفعل الغير ، أما على الوجه الأول : فواضح ، لأن الشك في ذلك يرجع إلى الشك في تقييد الإطلاق في مرحلة البقاء والامتثال وهو يقتضي الاشتغال لا البراءة. وأما على الوجه الثاني : فكذلك أيضا ، فان المكلف قبل فعل الغير يعلم بكونه مكلفا بالفعل ، إما لكون التكليف عينيا ، وإما لانطباق النوع عليه ، وبعد فعل الغير يشك في سقوط التكليف عنه ، والأصل يقتضي عدم السقوط.

فالأقوى : أن الشك في العيني والكفائي كالشك في التعييني والتخييري لا تجري فيه البراءة ، بل مقتضى أصالة الاشتغال هو البناء على كون الواجب عينيا في الأول وتعيينيا في الثاني.

هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية الحكمية إذا كان منشأ الشبهة

________________________

أنحاء تروكه ، وهو تركه في حال ترك الغير ، لا في حال ايجاد الغير ، وهذه الجهة ـ كما أشرنا في التخيير ـ غير مقام التقييد ، كما توهم. وربما يوجب مثل هذه التقريبات بأجمعها الكفائية لولا إطلاق الطلب المقتضى لعينية وعدم جريان المناط من أصالة الاشتغال في المسألة السابقة في المقام.

نعم : هنا مجال استصحاب بقاء الوجوب وعدم السقوط بفعل الغير ، وذلك غير قاعدة الاشتغال ، فتدبر.

٤٣٧

فقدان النص. وفي حكمها ما إذا كان منشأ الشبهة إجمال النص أو تعارض النصين ، فان الأدلة الدالة على البراءة لا تختص بصورة فقدان النص ، بل تعم صورة إجمال النص وتعارضه. وقد نسب الخلاف في ذلك إلى « صاحب الحدائق » فقال : بوجوب الاحتياط في صورة إجمال النص وتعارضه. وليس له وجه.

هذا إذا كانت الشبهة حكمية ، وإن كانت الشبهة موضوعية ـ كما إذا علم بوجوب إكرام العالم على وجه يكون الحكم انحلاليا ، وشك في بعض مصاديقه ـ فقد تقدم البحث عنها في الشبهة التحريمية ، وعرفت : أن العلم بالكبريات الكلية ما لم يعلم انطباقها على الموارد الجزئية غير منجز للتكليف لا يستتبع استحقاق العقوبة ، والظاهر إطباق الأصوليين والإخباريين على ذلك.

نعم : نسب إلى المشهور وجوب الاحتياط عند تردد الفرائض الفائتة بين الأقل والأكثر (١) ويشكل الفرق بينه وبين تردد الدين بين الأقل والأكثر ، مع أن الظاهر اتفاقهم على عدم وجوب الاحتياط في الدين المردد بين الأقل والأكثر وجواز الاكتفاء بأداء القدر المتيقن وجريان البراءة عن الأكثر.

والظاهر : أن يكون نظر المشهور في مسألة قضاء الفوائت إلى القاعدة وأنها تقتضي الاحتياط ، لا لأجل التعبد وقيام دليل خاص على ذلك ، فيتوجه حينئذ سؤال الفرق بينها وبين مسألة الدين المردد بين الأقل والأكثر؟

__________________

١ ـ أقول : لا يخفى أن الشك في قضاء الفوائت تارة ناش عن عدد السنين التي مضى من عمره الذي فات فيها الصلاة أو الصوم ، وأخرى ناش عن تساهله في الإتيان في الوقت أو نومه وسكره مع الجزم بمقدار سنة عمره ، ثم في هذه الصورة تارة يحتمل التفاته إلى الفوت في الوقت ، وأخرى يقطع بأن التفاته حدث بعد الوقت ، فعلى الأخير : لا شبهة في جريان قاعدة « الوقت حائل » فيؤخذ بالمتيقن من الفوائت ، كما أنه على الأول أيضا يرجع الشك فيه ـ مثل الدين ـ إلى الأقل والأكثر.

وأمّا في الصورة الثانية : فلا محيص من الأخذ بالأكثر من جهة الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال في وجه ، ويمكن حمل كلام المشهور في قضاء الفوائت على هذه الصورة ، لأن الغالب التفاتهم بعمرهم ـ ولو تقريبا ـ واحتمال الالتفات إلى الفوت قبل مضى الوقت غالبا ، فتدبر. وعلى فرض الإطلاق في كلماتهم فلا محيص من ايجاب احتياط في المورد ، فتدبر.

٤٣٨

وقد نقل عن بعض المحققين : أنه حاول تطبيق فتوى المشهور على القاعدة ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك ـ بتحرير منا ـ هو أنه يعتبر في جريان البراءة أن لا يكون الشك الذي اخذ موضوعا فيها مسبوقا بالعلم ولو آنا ما ، فان الأصول العملية كلها مغياة بعدم العلم ومنها البراءة ، فالشك الطارئ بعد العلم لنسيان ونحوه ليس موردا للبرائة ، بل موردهما الشك الابتدائي ، ومع احتمال سبق العلم لا تجري البراءة أيضا ، لاحتمال حصول الغاية ، فيرجع التمسك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » مع احتمال سبق العلم ـ إلى التمسك بالعام في الشبهات المصداقية (١) وقد حرر في محله عدم جوازه.

وبعبارة أوضح : لا يجوز الاقتحام في الشبهة إلا مع القطع بالمؤمن إما عقلا وإما شرعا ، ومع احتمال سبق العلم بحكم الشبهة وتنجز التكليف لا قطع بالمؤمن ، فلا يجوز الاقتحام في الشبهة ، بل لابد من الاحتياط ليحصل القطع بأداء الواقع والخروج عن عهدته.

وعلى هذا تكون فتوى المشهور في محلها ، فإنه عند فوات كل فريضة لا محالة يتعلق العلم بها ، إلا إذا فرض أنه استدام نوم المكلف أو سكره أياما متعددة فانتبه أو أفاق ولم يعلم أيام نومه وسكره ، وهذا فرض نادر ، والغالب حصول العلم بالفائتة وقت فوتها ، فإذا تردد الفائت بين الأقل والأكثر فبالنسبة إلى الأكثر المشكوك كما أنه يحتمل فوته كذلك يحتمل تعلق العلم بفوته على

__________________

١ ـ أقول : كيف يبقى مجال لهذا الكلام مع جزم العقل بأن العلم في كل آن منجز في حين وجوده ولا يكون منجزا حتى بعد زواله ، كيف! ولو انقلب بالعلم بالخلاف يلزم تزاحم المنجزين ، وأي عاقل يصدق ذلك! وحينئذ فبعد طرو الشك يبقى « قبح العقاب بلا بيان » بلا مانع ـ كحديث الرفع وغيره ـ كما لا يخفى.

ولقد أجاد فيما أفاد في طي كلامه ، ويا ليت! يلتزم بقاعدة القبح حتى مع جزمه بسبق العلم بعد زواله ولم يتشبث باعتبار وصول البيان في فرض الشك بحصول العلم قبل زمانه ، إذ مثل هذه التشبثات خارجة عن السداد ككثير من الموارد في صحة المدعى وبطلان دليله على مدعاه. فتتبع من أول الكتاب إلى آخره ترى كثيرا ما من هذا القبيل ، وتدبر فيها.

٤٣٩

تقدير فوته واقعاً ، ومع احتمال سبق العلم به لا تحرى البراءة. ومسألة الدين المردد بين الأقل والأكثر لو كان من هذا القبيل كان كذلك لا تجري البراءة بالنسبة إلى الزائد المشكوك.

والحاصل : أنه في كل شك احتمل سبق العلم به لا تجري الأصول العملية مطلقا ، سواء في ذلك أصالة البراءة وغيرها.

ومنه يعلم : أنه لا يجوز التمسك في مسألة الفوائت ب‍ « قاعدة الشك بعد الوقت » فأنها أيضا من الأصول العملية المضروبة في حال الشك فيعتبر فيها ما يعتبر في البراءة ، ومع احتمال سبق العلم بالفائتة المشكوكة لا تجري « قاعدة الشك بعد الوقت » وليس في البين أصل موضوعي ينقح حال الشك وأنه مما سبقه العلم أو لم يسبقه.

فلا يتوهم : جريان أصالة عدم سبق العلم ، لأنه قبل الفوات لا موضوع للعلم وبعد الفوات يشك في تعلق العلم به حال الفوت ، فليس للعلم حالة سابقة يمكن استصحابها وجودا وعدما.

فظهر : أنه لو قلنا : إن العلم بحال الشبهة ولو آنا ما يكفي في التنجز ولا يعتبر استدامته ، ففي كل شبهة احتمل سبق العلم بها لا تجري الأصول العملية مطلقا شرعية كانت أو عقلية. أما الشرعية : فلاحتمال حصول الغاية ، فيكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. وأما العقلية : فلأنه مع سبق العلم لا يكون العقاب بلا بيان ، ومع احتمال سبق العلم لا مؤمن ، فلا يستقل العقل بقبح العقاب.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه به فتوى المشهور ، وعليه بنى « شيخنا الأستاذ مد ظله » في الدورة السابقة ، وقد عدل عن ذلك في الدورة الأخيرة والتزم بجريان البراءة العقلية والشرعية.

أما البرائة العقلية : فلأنه لا يعتبر في جريانها إلا عدم وصول التكليف الذي يدور التنجز واستحقاق العقاب مداره ، إذ المراد بالبيان في « قاعدة قبح

٤٤٠