فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

التذكية ـ يحكم عليه بالطهارة (١).

هذا إذا قلنا : بأن كل حيوان مما يقبل التذكية بمقتضى بعض الإطلاقات. وإن منعنا عن ذلك ، وشك في كون الحيوان المتولد من حيوانين ـ أحدهما يقبل التذكية والآخر لا يقبل التذكية ـ مما يقبل التذكية أو لا يقبل؟ فعلى بعض التقادير تجرى فيه أصالة عدم التذكية ويحكم عليه بالحرمة والنجاسة ، وعلى بعض التقادير لا تجري فيه أصالة عدم التذكية ويحكم عليه بالحل والطهارة (٢) بمقتضى أصالة الحل والطهارة وسيأتي توضيح ذلك. هذا إذا كانت الشبهة حكمية ، وإن كانت الشبهة موضوعية ، كما لو شك في كون اللحم المطروح من الحيوان الذي يقبل التذكية أو من الذي لا يقبل التذكية ـ بعد إحراز ما يقبل التذكية وما لا يقبل بحسب الحكم الشرعي ـ فمع العلم بورود فعل المذكى عليه ( من فرى الأوداج وغيره ) يحكم عليه بالحل والطهارة ، لأنه لا يجرى فيه أصالة عدم التذكية (٣) ومع الشك في ورود فعل المذكى عليه يحكم عليه بالحرمة والنجاسة ، لأصالة عدم التذكية (٤) وذلك واضح.

الأمر الثاني :

هل التذكية الموجبة للطهارة والحلية عبارة عن المعنى المتحصل من قابلية المحل والأمور الخمسة ـ من فرى الأوداج بالحديد على القبلة مع التسمية وكون المذكى مسلما ـ بمعنى كون التذكية معنى بسيطا يحصل من المجموع

__________________

١ ـ أقول : وكذا الحلية لأصالة الحلية. وقد يستظهر من ذيل كلامه : أنه على هذا لا يحتاج إلى أصالة الحل ، وأظن أنه سهو من القلم ، لأن من لوازم التذكية مطلقا هو الطهارة فقط.

٢ ـ أقول : الظاهر من التقديرين كون التذكية أثرا حاصلا أو أنها نفس الأفعال.

٣ ـ أقول : لجريان أصالة الصحة في فعله بعنوان التذكية.

٤ ـ أقول : بناء على كونها أثرا حاصلا ، لا مطلقا.

٣٨١

المركّب من قابلية المحل وتلك الأمور الخمسة؟ أو أن التذكية عبارة عن نفس الأمور الخمسة ، وقابلية المحل أمر خارج عن حقيقة التذكية وإن كان لها دخل في تأثير الأمور الخسمة في الطهارة والحلية؟ وجهان : لا يخلو ثانيهما عن قوة ، لقوله تعالى : « إلا ما ذكيتم » (١) فان نسبة التذكية إلى الفاعلين تدل على أنها من فعلهم (٢) وعليه : لا يبقى موقع لأصالة عدم التذكية عند الشك في قابلية الحيوان للتذكية (٣) لأن قابلية الحيوان للتذكية ليس لها حالة سابقه وجودا وعدما ، فلا موقع لاستصحاب عدمها ، بل المرجع عند الشك في القابلية أصالة الحل والطهارة ، بناء على جريان « قاعدة الحل » في الشبهات الحكمية. ولكن هذا إذا لم نقل بقابلية كل حيوان للتذكية ـ حسبما يستفاد من الأدلة ـ وإلا لم يكن حاجة إلى أصالة الحل والطهارة ، كما تقدم في الأمر الأول.

هذا إذا كانت التذكية عبارة عن نفس الأمور الخمسة وكانت قابلية المحل شرطا للتأثير. وإن كانت التذكية عبارة عن الأمر المتحصل عن قابلية المحل والأمور الخمسة ، فعند الشك في قابلية الحيوان للتذكية ـ من جهة الشبهة الحكمية تجرى أصالة عدم التذكية ، لأن الحيوان في حال الحياة لم يكن مذكى فيستصحب العدم إلى زمان خروج روحه وورود فعل المذكى عليه.

وتوهم : أن التذكية لو كانت مركبة من قابلية المحل وفعل المذكى ، والمفروض أنه قد تحقق أحد جزئيها ـ وهو فعل المذكى ـ فلم يبق إلا الجزء الآخر

________________________

١ ـ سورة المائدة الآية ٣.

٢ ـ أقول : لو تشبث المدعى بظهور نفس التذكية بلفظها لغة وعرفا في المعنى البسيط ( نظير التطهير ) بلا تصرف من الشارع في أصل المعنى ـ وأن تصرفه في سببه ومحققه ـ كان أولى مما أفيد ، كيف! وبعدما كانت التذكية بهذا المعنى من الأفعال التوليدية لا قصور في انتسابها إلى الفاعلين ، كما لا يخفى.

٣ ـ أقول : لو بنينا على خروج قابلية المحل عن التذكية وأن التذكية عبارة عن نفس الأفعال ، فمع القطع بوجود التذكية لا يجدى في إثبات الطهارة من دون وصول النوبة حينئذ إلى أصالة عدم التذكية ، بل تعليل عدم جريان أصالة عدم التذكية بأن قابلية المحل ليس له حالة سابقة لا يتم إلا بناء على كون القابلية المزبورة دخيلا في حقيقة التذكية لا خارجا ، فتدبر.

٣٨٢

وهو ليس له حالة سابقة فلا معنى لاستصحاب عدم التذكية المركبة من جزئين قد تحقق أحد جزئيها وجدانا والجزء الآخر ليس مما تعلق به اليقين سابقا لعدم العلم به.

فاسد (١) فان المفروض أن التذكية ليست مركبة من جزئين ، بل هي عبارة عن الأمر البسيط المتحصل من مجموع الأمرين ، وهذا المعنى البسيط كان مقطوع العدم في حال حياة الحيوان قبل ورود فعل المذكى عليه ، وبعد ورود فعل المذكى يشك في وجوده فيستصحب عدمه ، غايته أن جهة اليقين والشك تختلف ، فإنه في حال الحياة كانت جهة اليقين بعدم التذكية عدم ورود فعل المذكى عليه وهذه الجهة قد انتفت بورود فعل المذكى عليه ، وجهة الشك في كونه مذكى هي قابليته للتذكية. واختلاف جهة الشك واليقين لا يضر بالاستصحاب. نعم : لو كانت التذكية عبارة عن نفس المجموع المركب لم يكن للاستصحاب مجال ، فتدبر جيّداً.

الأمر الثالث :

قد عرفت : أنه لو استفيد من الأدلة قابلية كل حيوان للتذكية فلا

__________________

١ ـ أقول : أظن أن في ذهن « المقرر » جعل هذا الوجه أيضا أحد الشقين المقابل لما اختاره من الوجه السابق ، حيث إن مقابله إما جعل التذكية أثرا حاصلا أو جعلها عبارة عن مجموع الأفعال مع القابلية ، ثم دفع توهم جريان أصالة عدم التذكية على هذا الفرض أيضا ، فان العبارة وقعت في غير محله فصارت بمنزلة توضيح الواضح.

وبالجملة نقول : إنه قد أشرنا سابقا أنه على كل واحد من الاحتمالات نحو من الأصل ، فعلى الأثر الحاصل يجرى أصالة عدم التذكية بلا إشكال. وعلى كون التذكية نفس الأفعال مع خروج القابلية عن حقيقته ، فلا قصور في جريان أصالة عدم التذكية عند الشك في جريان فعل عليه من حيث العلم بالحالة السابقة.

ولكن لا نتيجة له مع الشك في القابلية ، كيف! ومع القطع بوجودها حينئذ لا ينتج شيئا. وعلى كون القابلية داخلا في حقيقتها ، فمع الشك في القابلية لا يجرى الأصل من جهة الشك في الحالة السابقة ، كما لا يخفى ، فتدبر.

٣٨٣

موقع لأصالة عدم التذكية عند الشك فيها من جهة الشبهة الحكمية ، بل المرجع عند الشك عموم الدليل ، فيحكم عليه بالطهارة ، ولو شك في حلية أكل لحمه يحكم عليه بالحلية ، لقوله عليه‌السلام ـ « كل شيء لك حلال » لو قلنا بعموم قاعدة الحل للشبهات الحكمية.

ولو لم يستفيد من الأدلة قابلية كل حيوان للتذكية ، وقلنا : إن التذكية عبارة عن المعنى المتحصل من قابلية المحل وفعل المذكى ، فالمرجع عند الشك في القابلية ـ كالحيوان المتولد من طاهر ونجس لم يتبعهما في الاسم وليس له اسم خاص يندرج تحت أحد العناوين الطاهرة أو النجسة ـ أصالة عدم التذكية ، فيحكم عليه بالنجاسة وحرمة الأكل ، لأن غير المذكى حرام ونجس.

وإن قلنا : إن التذكية عبارة عن نفس فعل المذكى واجدا للأمور الخمسة وقابلية المحل أمر خارج عن التذكية ، فالمرجع عند الشك فيها أصالة الطهارة وقاعدة الحل ، فعلى جميع التقادير : لا يمكن التفكيك بين الطهارة والحلية بحسب الأصول العملية ، هذا.

ولكن يظهر من بعض الأساطين : التفصيل بين الطهارة والحلية في المثال المتقدم ، فحكم عليه بالطهارة وحرمة لحمه.

ولم يظهر وجه لهذا التفصيل ، فان مقتضى أصالة عدم التذكية النجاسة والحرمة ، ومقتضى أصالة الطهارة والحل الطهارة والحلية ، فلا وجه للتفكيك بينهما.

نعم : قد ذكر « شارح الروضة » في وجه ذلك ما حاصله : ان ما حل أكله من الحيوانات محصور معدود في الكتاب والسنة ، وكذلك النجاسات محصورة ومعدودة فيهما ، فالمشكوك إذا لم يدخل في المحصور منهما كان الأصل فيه الطهارة وحرمة لحمه.

وتوضيح ذلك : هو أن تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه ، فمع الشك في تحقق ذلك الأمر الوجودي الذي علق الحكم عليه يبنى ظاهراً على

٣٨٤

عدم تحققه ؛ لا من جهة استصحاب العدم إذ ربما لا يكون لذلك الشيء حالة سابقة قابلة للاستصحاب ، بل من جهة الملازمة العرفية بين تعليق الحكم على أمر وجودي وبين عدمه عند عدم إحرازه ، وهذه الملازمة تستفاد من دليل الحكم ولكن لا ملازمة واقعية ، بل ملازمة ظاهرية ، أي في مقام العمل يبنى على عدم الحكم مع الشك في وجود ما علق الحكم عليه.

ويترتب على ذلك فروع مهمة :

منها : البناء على نجاسة الماء المشكوك الكرية عند ملاقاته للنجاسة مع عدم العلم بحالته السابقة ، كما لو فرض ماء مخلوق الساعة لم يعلم كريته وقلته ، فان الحكم بالعاصمية قد علق في ظاهر الدليل على كون الماء كرا ، كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام إذا بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا أو لم ينجسه شيء (١) فلا يجوز ترتيب آثار الطهارة على ماء لم يحرز كريته عند ملاقاته للنجاسة ، لأنه يستفاد من دليل الحكم أن العاصمية إنما تكون عند إحراز الكرية ، لا من جهة أخذ العلم والإحراز في موضوع الحكم ، بل من جهة الملازمة العرفية الظاهرية.

ومنها : أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال ، فان الحكم بجواز الوطي مثلا قد علق على الزوجة وملك اليمين ، والحكم بجواز التصرف في الأموال قد علق على كون المال مما قد أحله الله ، كما في الخبر « لا يحل مال إلا من وجه أحله الله » (٢) فلا يجوز الوطي أو التصرف في المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك اليمين أو الشك في كون المال مما قد أحله الله.

ومنها : غير ذلك من الفروع التي تبتنى على ما ذكرناه (٣).

________________________

١ ـ مستدرك الوسائل : الباب ٩ من أبواب الماء المطلق الحديث ٦.

٢ ـ الوسائل : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٨.

٣ ـ أقول : كالحكم بالخمسين في مشكوك القرشية ، ونفوذ الشرط في مشكوك المخالفة للكتاب ، وعدم الإرث في مشكوك الانتساب ، وعدم بطلان المعاملة في مشكوك الغررية ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

٣٨٥

وقد تخيّل « شارح الروضة » : أن باب النجاسات واللحوم من صغريات تلك الكبرى ، بتقريب : أن النجاسات في الشريعة معدودة محصورة في عناوين خاصة ـ كالدم والميتة والكلب والخنزير وغير ذلك ـ وقد علق وجوب الاجتناب على تلك العناوين الوجودية ، فلابد في الحكم بالنجاسة ووجوب الاجتناب من إحراز تلك العناوين ، ومع الشك في تحقق العناوين يبنى على الطهارة ، وحيث إن الحيوان المتولد من طاهر ونجس لم يعلم كونه من العناوين النجسة يبنى على طهارته. وكذا جواز التناول والأكل قد علق في الشريعة على عنوان الطيب ، كما قال تعالى : « أحل لكم الطيبات » والطيب أمر وجودي عبارة عما تستلذه النفس ويأنس الطبع به ، والحيوان المتولد من حيوانين : أحدهما مأكول اللحم والآخر غير مأكول اللحم ، لم يعلم كونه من الطيب ، فلا يحكم عليه بالحلية وجواز الأكل ، بل ينبغي البناء على حرمته ظاهرا ما لم يحرز كونه من الطيب. هذا غاية ما يمكن أن توجه به مقالة « شارح الروضة ».

ولكن يرد عليه أولا : أن الكبرى ـ وهي ان تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه ـ وإن كانت من المسلمات ، إلا أن ذلك في خصوص ما علق فيه الحكم الترخيصي الإباحي على عنوان وجودي ، لا الحكم العزيمتي التحريمي ، فان الملازمة العرفية بين الأمرين إنما هي فيما إذا كان الحكم لأجل التسهيل والامتنان وقد علق على أمر وجودي (١) فلا يجوز الحكم بالترخيص

__________________

١ ـ أقول : الأولى أن يمنع استفادة الملازمة الظاهرية من الكبريات الواقعية ، لعدم اقتضاء الكبرى الواقعية إلا إناطة الحكم ـ من إباحة أو غيرها ـ على أمر وجودي واقعا ، بلا نظر إلى مرتبة الجهل بالمنوط به أو المنوط. واستفادة العرف من هذا الخطاب الواقعي حكما وإناطة ظاهرية غلط ، كيف! ولا خصوصية لمثل هذا الخطاب في ذلك ، فيلزم الالتزام بهذه الاستفادة في كل خطاب ، وهو كما ترى! ومجرد كون الحكم امتنانيا لا يقتضي الملازمة المزبورة في خصوصه ، إذا العرف لا يفرق في منع الملازمة بين الحكم الواقعي والظاهري بين الأحكام الامتنانية وغيرها ، لجريان المناط في سائر الأحكام في ذلك أيضا ، كما لا يخفى.

وحينئذ لولا الأصل الموضوعي لا مجال للحكم بعدم الفرق في الفروع السابقة ، خصوصا في الأعراض

٣٨٦

والإباحة ما لم يحرز ذلك الأمر الوجودي ، لا في مثل وجوب الاجتناب عن النجاسة ، وإلا لم يبق موضوع لقوله عليه‌السلام « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (٢) فادراج باب النجاسات في تلك الكبرى ليس في محله. نعم : إدراج الحكم بحل الطيبات في تلك الكبرى في محله لو سلم عما سيأتي.

وثانياً : منع كون الطيب أمرا وجوديا ، بل الطيب عبارة عما لا تستقذره النفس ولا يستنفر منه الطبع ، في مقابل الخبيث الذي هو عبارة عما يستنفر منه الطبع ، فالحكم بالحلية لم يعلق على أمر وجودي ، بل الحكم بالحرمة قد علق على أمر وجودي.

وثالثاً : سلمنا كون الطيب أمرا وجوديا ولكن الخبيث الذي علق عليه الحرمة أيضا أمر وجودي ، والكبرى المذكورة إنما هي في مورد لم يعلق نقيض الحكم المعلق على أمر وجودي ، على أمر وجودي آخر ، وإلا كان المرجع عند الشك في تحقق أحد الأمرين الوجوديين ـ اللذين علق الحكمان المتضادان عليهما ـ إلى الأصول العملية ، وهي في مورد البحث ليست إلا أصالة الحل ، ولا يجرى استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان في حال حياته ، فان للحيوة دخلا عرفا في موضوع الحرمة ولا أقل من الشك ، فلا مجال للاستصحاب والطهارة ، فالأقوى : ثبوت الملازمة بين الحل والطهارة في جميع فروض المسألة ، فتدبر جيدا.

هذا تمام الكلام في الشبهة التحريمية الحكمية إذا كان منشأ الشبهة

________________________

والأموال ، فان المدرك عندهم هو الأصل المزبور لا غيره ، كما أن الحكم بالنجاسة في المثال الأول أيضا ربما تكون ب‍ « قاعدة المقتضى والمانع » لو لم نقل بجريان الأصل في الأعدام الأزلية ولو في أمثال هذه الأوصاف الزائدة عن الذات وغير الملازمة معها ، وإلا ـ كما هو التحقيق ـ فالأمر في كثير من الفروع السابقة واضح من جهة الأصل الموضوعي فيها ، فراجع وتدبر.

٢ ـ مستدرك الوسائل : الباب ٢٩ من أبواب النجاسات الحديث ٤. هذه العبارة هي عبارة الصدوق في المقنع.

٣٨٧

فقدان النص ؛ وكذا الكلام فيما إذا كان منشأ الشبهة إجمال النص ، لعموم الأدلة المتقدمة ، من غير فرق بين أن يكون إجمال النص لأجل اشتراك اللفظ الدال على الحكم بين الحرمة وغيرها مع عدم نصب قرينة معينة ـ كما لو فرض اشتراك صيغة النهى بين الحرمة والكراهة لغة وعرفا ـ أو كان الإجمال لأجل إجمال متعلق الحكم بحسب ماله من المعنى اللغوي والعرفي ، ك‍ « الغناء » إذا فرض إجمال معناه وتردده بين كونه خصوص الصوت المطرب المشتمل على الترجيع وبين كونه مطلق الصوت المطرب.

وقد يتوهم : عدم شمول أدلة البراءة لصورة إجمال المتعلق ، لأنه قد علم تعلق التكليف بمفهوم « الغناء » وما هو واقعه ، فلا يكون العقاب عليه بلا بيان ، ولا يندرج في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » بل يجب العلم بالخروج عما اشتغلت به الذمة من التكليف ، وذلك لا يتحقق إلا بالاجتناب عن الأفراد المشتبهة والاحتياط بترك كل ما يحتمل كونه من أفراد « الغناء » هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فان متعلق التكليف ليس هو مفهوم « الغناء » بما هو مفهوم (١) بل المفاهيم إنما تؤخذ في متعلق التكليف باعتبار كونها مرآة لما تنطبق عليها من المصاديق ، فالنهي إنما تعلق بما يكون بالحمل الشايع الصناعي غناء ، فالمقدار الذي علم كونه من مصاديق الغناء لا يندرج في أدلة البراءة ، وأما الزائد المشكوك فتعمه أدلة البراءة ويندرج في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » ويشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فتوهم الفرق بين كون منشأ الشبهة فقدان النص أو إجماله ، فاسد.

__________________

١ ـ أقول : قد عرفت منا كرارا بأن الأحكام في عالم عروضها عارضة للعناوين المخزونة في الذهن ، ولكن بنحو يرى خارجية ولا تعلق بمصاديقها خارجا ، وحينئذ الأولى في الجواب أن يقال : إن عنوان « الغناء » الذي هو مفهومه وبإزاء لفظه إذا كان مرددا بين الأقل والأكثر ، فبالنسبة إلى الزائد عن القدر المعلوم ما تمت الحجة ولا العلم حاصل بتعلق التكليف به ، فيكون كلا نص فيه ، فتدبر.

٣٨٨

وفي حكم ذلك ما إذا كان منشأ الشبهة تعارض النصين ، لعدم العلم بالتكليف أيضا الذي هو تمام المناط في البراءة الشرعية والعقلية.

نعم : قد ورد في مرفوعة « العلامة » إلى « زرارة » على ما في كتاب « غوالي اللئالي » عن الباقر عليه‌السلام في الخبرين المتعارضين بعد أمره عليه‌السلام بالأخذ بأشهرهما ثم بأعدلهما وأوثقهما ثم بما خالف العامة « قلت : ربما كانا موافقين لهما أو مخالفين لهما فكيف نصنع؟ قال عليه‌السلام فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط » (١) وهذه المرفوعة وإن كانت أخص من الأخبار الآمرة بالتخيير عند فقد المرجحات المذكورة ، إلا أن الشأن في اعتبار المرفوعة (٢) إذ لا اعتبار بالكتاب وصاحبه ، كما اعترف بذلك « صاحب الحدائق » حيث طعن في صاحب الكتاب وزيف ما فيه من الروايات ، مع أنه من الأخباريين الذين ليس من شأنهم الطعن في الروايات!. هذا كله إذا كانت الشبهة حكمية ، وقد عرفت : أنه لا فرق بين كون الشبهة لأجل فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين.

وان كانت الشبهة موضوعية : فالظاهر انعقاد الإجماع من الأصوليين والأخباريين على عدم وجوب الاجتناب عنها وجواز الاقتحام في الشبهة اعتمادا على أدلة البراءة الشرعية والعقلية.

وقد يتوهم : أن قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » تختص بالشبهات الحكمية ولا تعم الشبهات الموضوعية ، لأن مورد القاعدة هو ما إذا لم يرد بيان من الشارع أصلا أو ورد ولكن لم يصل إلى المكلف ، وفي الشبهات الموضوعية البيان الذي هو من وظيفة الشارع قد ورد ووصل إلى المكلف ، لأنّ وظيفة الشارع

__________________

١ ـ عوالي اللئالي : الجزء ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ( تحقيق مجتبى العراقي ).

٢ ـ أقول : وعلى فرض تمامية الرواية لا ينافي الحكم بالاحتياط في خصوص الخبرين المتعارضين ، نظير الحكم بالتخيير عند القائل به ، مع كون الأصل في المتعارضين التساقط والرجوع إلى الأصل لولا دلالة أخبار العلاج على خلافه ، فتدبر.

٣٨٩

إنّما هي بيان الكبريات ، كقوله تعالى : « حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير » وأما بيان الصغريات من كون هذا الشيء من أفراد لحم الخنزير أو لحم الغنم فليس هو من وظيفة الشارع ، وفي الشبهات الموضوعية الكبرى المجعولة الشرعية قد وردت ووصلت إلى المكلف وحصل العلم بها ، وإنما كانت الشبهة في الصغرى ، فلا مجال للتمسك بقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » بل ينبغي التمسك بقاعدة الاشتغال ، لأن العلم باشتغال الذمة بالكبرى المجعولة المعلومة الواصلة يقتضي العلم بالفراغ عقلا ، وذلك لا يحصل إلا بالتجنب عن موارد الشبهة.

والحاصل : أن المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو بيان الأحكام الكلية التي وظيفة الشارع بيانها ، وأما الأحكام الجزئية ـ فضلا عن الموضوعات الخارجية ـ فليس من وظيفة الشارع بيانها ، بل الأحكام الجزئية تدور مدار تحقق موضوعاتها الخارجية في عالم التكوين ، والمشكوك فيه أولا وبالذات في الشبهات الموضوعية إنما هو وجود الموضوع في الخارج ويستتبعه الشك في الحكم الجزئي ، وكل منهما ليس من وظيفة الشارع بيانه ، وأما الكبرى الكلية فقد بينها الشارع وهي واصلة إلى المكلف ، فلا مسرح لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » في الشبهات الموضوعية ، بل لابد من الاحتياط فيها لقاعدة الاشتغال.

هذا كله ، مع أنه يبقى سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والعملية ، وأنه كيف لا يجوز التمسك بالأصول اللفظية في الشبهات المصداقية ويجوز التمسك بالأصول العملية فيها؟.

وأنت خبير بفساد التوهم ، فان مجرد العلم بالكبريات المجعولة لا يكفي في تنجزها وصحة العقوبة على مخالفتها ما لم يعلم بتحقق صغرياتها خارجا ، فان تنجز التكليف الذي عليه تدور صحة العقوبة إنما يكون بعد فعلية الخطاب ، وفعلية الخطاب إنما يكون بوجود موضوعه خارجا في التكاليف التي لها تعلق

٣٩٠

بالموضوعات الخارجية ؛ وذلك وإن كان بمثابة من الوضوح ، إلا أنه لا بأس بزيادة بيان في المقام حسما لمادة الشبهة.

فنقول : إن الأحكام الشرعية الوجوبية والتحريمية بعد ما كان لا محيص عن تعلقها بفعل المكلف الصادر عنه بتحريم عضلاته عن إرادته واختياره ، إما لا يكون لها تعلق بموضوع خارجي ـ كالصلاة حيث إن أجزائها ليست إلا الأفعال والأقوال الصادرة عن جوارح المكلف من دون أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي ، وكذا الغناء والكذب ونحو ذلك ، وإما أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي ، كوجوب إكرام العالم وحرمة شرب الخمر ، وأمثال ذلك من التكاليف الوجوبية والتحريمية التي لها ربط وتعلق بموضوع خارجي ، سواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف ايجادها في الخارج ويجعلها ثابتة في عالم الأعيان ـ كالخمر الذي يكون صنعه وايجاده من التمر والزبيب بيد المكلف ـ أو كان من الموضوعات التي ليست من صنع المكلف ولا يتمكن من ايجادها في الخارج ـ كحرمة وطي الام ووجوب استقبال القبلة ـ وأمثال ذلك من التكاليف التي لها تعلق بموضوع خارجي لا يتمكن المكلف من ايجاده في الخارج.

فان لم يكن للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فلا يعتبر في فعليته سوى وجود شخص المكلف واجدا للشرائط العامة والخاصة المعتبرة فيه ، فعند وجود المكلف يكون التكليف فعليا علم به المكلف أو لم يعلم ، إذ ليس للعلم دخل في فعلية التكاليف ـ كما أوضحناه في محله ـ وبعد العلم به يتنجز وتصح العقوبة على مخالفته (١) وفي هذا القسم من التكاليف لا يتصور تحقق الشبهة الموضوعية.

________________________

١ ـ أقول : ذلك كله في التكاليف الوجوبية المطلوب فيها صرف وجوده ، فإنه بمجرد العلم به لا يقنع العقل بالاكتفاء بما هو محتمل المصداقية ، بل يلزم تحصيل الجزم بالفراغ الوجداني أو الجعلي. وأما في التكاليف التحريمية المطلوب فيها ترك الطبيعة السارية ـ بشهادة عدم سقوط النهى عنه بعصيانه مرة مثلا ـ فلا شبهة في أن التكليف فيها انحلالي حسب تعدد مصاديقه ، وبعد ذلك إذا فرض في البين ما شك في كونه صوتا مع الترجيع.

٣٩١

وإن كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فيمكن في عالم الثبوت أن يكون التكليف بالنسبة إلى وجود الموضوع مطلقا سواء كان الموضوع موجودا أو لم يكن ـ غايته أنه مع عدم وجوده يجب عليه ايجاده إن كان مما يمكنه ايجاده كسائر مقدمات الواجب المطلق ـ ويمكن أن يكون التكليف بالنسبة إلى الموضوع مشروطا ، ولكن هذا في التكاليف الوجودية المطلوب منها صرف الوجود.

وأما التكاليف العدمية الانحلالية : فالتكليف دائما يكون فيها مشروطا بوجود الموضوع (١) وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في « رسالة المشكوك » نسئل الله تعالى التوفيق لإلحاقها في آخر الكتاب. وعلى كل تقدير : إن كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فما لم يعلم

________________________

المفروض كونه غناء ، فدليل الكبرى لا يشمله ، ومع عدم شموله ـ ولو من جهة الشك في انطباق العنوان عليه ـ لا يصلح لبيانية حكمه ، فيبقى حكم هذه الشبهة الموضوعية تحت « قبح العقاب بلا بيان » إذ مثل هذا البيان كناية الحجة الموجبة لاستحقاق العقوبة ، فمع عدم حجية الخطاب بالنسبة إليه لا قصور في شمول القاعدة لمثله. وما توهم في أمثال ذلك : من عدم تصور الشبهة الموضوعية ، غلط فاحش ، كيف! وكل خبر لم يعلم كذبه من الشبهة الموضوعية وكل صوت لم يعلم فيه ترجيع من الشبهة الموضوعية ، وقس عليه نظائرها من سائر المحرمات من الزنا واللواط وغيرها.

١ ـ أقول : في التكاليف العدمية التي لها تعلق بموضوع خارجي مثل « لا تشرب الخمر » لو كان حرمة الشرب بفعله منوطا شرعا بوجود الخمر يلزم عدم حرمة مقدمات تحصيل الخمر في ظرف يستتبع الشرب قهرا بحصوله ، ولا أظن التزامه من أحد ، فذلك برهان جزمي بأن حرمة شربه غير منوط بوجوده ، غاية الأمر عند عدم حصوله قهرا يسقط التكليف من جهة العجز ، لا من جهة فقد شرطه شرعا ، كما أنه مع التمكن من تحصيله إذا حصله فمع بقاء القدرة على ترك الشرب لا ضير فيه ، لأن المقصود من التكاليف التحريمية مجرد ترك المبغوض خارجا ، فما دامت القدرة على تفويت الشرب باقية لا بأس بايجاد سائر المقدمات ، وهذا المقدار لا يقتضي اشتراط التكليف بوجود الموضوع ، بل لنا أن نقول : إن في كلية التكاليف التحريمية المتعلقة بالغير لا يكون من باب اشتراطها بوجود المتعلق ، بل وجود المتعلق من حدود المكلف به وقيود موضوعه ، ولازمه ما ذكرناه.

ثم إن من نتائج ما ذكرنا هو أن في فرض الشك في المتعلق ـ كالخمر في المثال ـ لا يكون المقام كسائر موارد الشك في شرط التكليف الموجب للشك في أصل توجه التكليف ، بل يكون من باب الشك في مصداق الخطاب المتوجه إلينا جزما ، لكن حيث إن الخطاب انحلالي لا يكون بالنسبة إلى هذا المشكوك حجة ، وحينئذ فالمسلكان مشتركان في عدم حجية الخطاب عند الشك في المتعلق لكن مختلفان في وجه عدم الحجية.

٣٩٢

وجود ذلك الموضوع لم تصح العقوبة على مخالفة ذلك التكليف ، فسواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف ايجادها أو كانت خارجة عن قدرة المكلف لا يكاد يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود الموضوع خارجا (١) فان نسبة الموضوع إلى التكليف كنسبة الفاعل والمكلف ، فكما أنه لا يمكن أن يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود المكلف ، كذلك لا يمكن أن يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود الموضوع ، والسر في ذلك واضح ، فان التكاليف الشرعية إنما تكون على نهج القضايا الحقيقية التي تنحل إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول ، فلابد من فرض وجود الموضوع في ترتب المحمول (٢) فمع العلم بعدم وجود الموضوع خارجا يعلم بعدم فعلية التكليف ، ومع الشك في وجوده يشك في فعليته ، لأن المناط في صحة العقوبة عقلا هو أن يكون التكليف قابلا للباعثية والداعوية ، بحيث يكون محركا ـ في عالم التشريع ـ

________________________

١ ـ أقول : هذا التقريب تمام في الواجبات المنوطة ، لا في المحرمات ، كما شرحنا المقال في الحاشية السابقة.

٢ ـ أقول : تشكيل القضايا الحقيقية في باب التكاليف منوط بجعل التكليف في كلية المشروطات منوطا بوجود شرطها خارجا ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقية المنوط فيها المحمول بوجوده الحقيقي على وجود الموضوع خارجا وبوجوده الفرضي على فرض وجود موضوعه كذلك.

وأما لو بنينا على أن التكاليف طرا فعليتها مشروط بفرض وجود الموضوع في لحاظ الآمر والجاعل ، فلا محيص حينئذ من الالتزام بعدم إناطة فعلية التكليف على وجود الموضوع ، بل وجود الموضوع شرط محركيته وتأثيره في انبعاث المكلف ، لا شرط أصل التكليف وفعليته ، وربما يشهد لذلك أنه لو كان فعلية الإرادة منوطا بوجود الشرط خارجا ، فقبل وجود الشرط لا يكون إرادة أصلا ، وحينئذ فمن أين تجئ إرادة الجاعل بايجاد خطابه مقدمة لحفظ مرامه؟ فهذه الإرادة الغيرية شاهد جزمي على عدم إناطة إرادة المولى على وجود الشرط خارجا ، مع إنه ربما يكون شرط التكليف مفقودا له ، كباب الوصايا العهدية المنوط إرادتها ببعد الموت ، وكذا فيما لو قال : « إن نمت فافعل كذا » فإنه كيف يمكن الالتزام بأن فعلية الإرادة منوط بنومه أو مماته؟ فلا محيص من جعل الإرادة في كلية المشروطات منوطا بوجود الشرط لحاظا ، وحينئذ ففي هذه المعلقات نقطع بفعلية التكليف في ظرف فرض وجود الموضوع لا بفعليته فرضا ، كما في القضايا الحقيقية. وعليه : فجعل القضايا في باب التكاليف من القضايا الحقيقية بعيد عن الصواب ، ولا أقول بأنها من القضايا الخارجية الناظرة إلى الموضوعات الخارجية ، بل هي داخلة في القضايا الطبيعية محضا ، كما لا يخفى ، فتدبر.

٣٩٣

لعضلات المكلف ، وذلك لا يكون إلا بعد العلم بتحقق الموضوع وانطباق الكبرى المجعولة الشرعية عليه ، فلا أثر للعلم بتشريع الكبرى مع عدم العلم بانضمام الصغرى إليها ، لأن وجود الصغرى خارجا مما له دخل في فعلية الكبرى ، غايته أن التكليف قد يكون على وجه يجب على المكلف ايجاد الصغرى ـ إن كان مما يمكنه ايجاده ـ فتنطبق الكبرى عليها فيكون الحكم فعليا ، وقد يكون التكليف على وجه لا يجب على المكلف ايجاد الصغرى ـ وإن كان يمكنه ايجادها.

ثم لا يخفى أن ما ذكرنا : من أن التكاليف العدمية الانحلالية إنما تكون مشروطة بوجود الموضوع في الخارج ومع الشك في وجود الموضوع لا علم بالتكليف ، إنما هو إذا كان المنهى عنه نفس الطبيعة المطلقة على نحو السالبة المحصلة ، كقوله : « لا تشرب الخمر » حيث ينحل إلى قضايا جزئية حسبما للخمر من الأفراد الخارجية.

وأمّا إذا كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول (١) كأن يقال :

__________________

١ ـ أقول مرجع القضية المعدولة إذا كان إلى ربط السلب قبال السالبة الراجعة إلى سلب الربط ، لا شبهة في أن المسلوب في المعدولة هي الطبيعية التي هي متعلق سلب الربط في السالبة ، فهذه الطبيعة إذا كانت بوجودها عين وجود الأفراد ، فلا جرم عدمها أيضا عين عدم الأفراد ، ومجرد وقوع سلبها طرف الربط في القضية لا يوجب المغايرة بين هذا العدم وعدم أفراده ، بل العينية باقية بحاله ، وحينئذ فإذا كان المسلوب الطبيعة السيالة في ضمن الأفراد ، فلا شبهة في أن عدم هذه الطبيعة يختلف قلة وكثرة بقلة الأفراد وكثرتها ، كما أن في وجودها أيضا كذلك ، حيث إنها بالنسبة إلى الأفراد بمنزلة الآباء ، فكلما ازداد الفرد كثرة ازدادت الطبيعة وجودا وقلت عدمها ، وهكذا الأمر بالعكس ، ولازمه مع الشك في فردية شيء لها تردد عدم الطبيعة ـ بل وجوده ـ بين الأقل والأكثر ، وحينئذ فإذا أضيف شيء بمثل هذا العدم كان متصفا بمفهوم مردد بين الأقل والأكثر ، وفي مثله لا يكاد يجرى الاشتغال ، إذ مع تردد المفهوم بين الأقل والأكثر لا يكاد يتم حجية الخطاب بمثل هذا العنوان المردد بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، وحينئذ لو قيل « كن لا شارب الخمر » فمع كون « اللاشاربية » مرددا بين الأقل والأكثر ـ حسب ازدياد فرده وقلته ـ كيف يتم حجية هذا الخطاب بالإضافة إلى المرتبة المشكوكة؟ ومع عدم حجية الخطاب بالنسبة إلى المرتبة المشكوكة من أين يقتضي قاعدة الاشتغال تحصيل الفرد المشكوك ، فتدبر في المقام ، فإنه من مزال الأقدام.

٣٩٤

« كن لا شارب الخمر » فحكمها يغاير حكم السالبة المحصلة ، فان متعلق التكليف في مثله قوله : « كن لا شارب الخمر » هو كون المكلف واجدا لوصف « اللاشاربية » ومعنونا بكونه تارك شرب الخمر ، من دون نظر إلى ترك الأفراد الخارجية من الخمر ، وإنما يكون تركها مقدمة عقلية لاتصاف المكلف بوصف « اللاشاربية » بحيث لو فرض محالا اتصافه بهذا الوصف مع عدم ترك شرب الأفراد الخارجية من الخمر لم يكن عاصيا ومخالفا للتكليف ، وبالعكس لو فرض محالا ترك شرب الأفراد الخارجية ولم يتصف بذلك الوصف كان عاصيا ومخالفا للتكليف ، وهذا الفرض وإن كان محالا وبحسب النتيجة لا فرق بين قوله : « كن لا شارب الخمر » وبين قوله : « لا تشرب الخمر » فإنه على كل حال يجب ترك الأفراد الخارجية ، إما لكون تركها مقدمة عقلية لحصول الوصف ، وإما لكونه متعلق النهى.

ولكن بحسب الأصول العملية تختلف النتيجة ، فإنه لو كان متعلق النهى ترك شرب الأفراد الخارجية وكانت القضية على نحو السلب المحصل ، فعند الشك في خمرية مايع تجرى البراءة ، للشك في تعلق النهى به ـ بالبيان المتقدم ـ وإن كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، فالمرجع عند الشك في خمرية مايع قاعدة الاشتغال لا البراءة ، للشك في حصول الوصف مع عدم ترك المشكوك ، فيرجع الشك إلى الشك في الامتثال ، هذا.

________________________

والعجب من المقرر! حيث إنه تارة تخيل بأن ربط سلب الطبيعة يوجب مغايرة هذا السلب لسلب الأفراد خارجا وأن سلب الأفراد مقدمة لهذا السلب والوصف المربوط في القضية ، وأخرى جعل عدم الأفراد من مقدمات الإتصاف بالسلب ، وهو وإن كان له وجه حيث إن العدم إذا قام به الربط والاتصاف كان له نحو تقدم على الربط المزبور ، ولكن لا يجدى له شيئا ، إذ الإتصاف والارتباط بأمر مردد بين الأقل والأكثر لا يوجب الاشتغال في مثله ، من جهة أن الإتصاف بالمردد موجب للترديد في مرتبة نفس الإتصاف ، لأن المعنى الحرفي في القلة والكثرة والتعيين والترديد كالكلية والجزئية تبع للمتعلق ، ولذا لم يتوهم أحد في تقييد شيء بشيء مردد بين الأقل والأكثر جريان قاعدة الاشتغال فيه ، والنكتة هو الذي أشرنا إليه ، فتدبر فيما أفيد ، خصوصا في برهانه الآخر على التغاير الذي هو عين المصادرة.

٣٩٥

ولكن لم نعثر في باب النواهي على ما يكون من هذا القبيل ، وإنما يكون ذلك مجرد فرض لا واقع له ، فان ظاهر النواهي الواردة في الكتاب والسنة ، هو أن يكون متعلق النهى نفس الطبيعة باعتبار ما يفرض لها من الأفراد الخارجية ، إما على نحو العام المجموعي ، وإما على نحو العام الأصولي ، بل العام المجموعي أيضا مجرد فرض لا واقع له ، فإرجاع القضية السالبة المحصلة إلى المعدولة المحمول خلاف ما يقتضيه ظاهر النواهي.

ولنطوي الكلام في هذا المقام ونقتصر على هذا المقدار ونحيل تفصيله إلى ما نلحقه بالكتاب من « رسالة المشكوك » إن شاء الله تعالى ، فان استقصاء الكلام في ذلك وجمع أطرافه لا يمكن في المقام ، بل يحتاج إلى رسالة مفردة ، وقد استوفينا البحث عنه في تلك الرسالة ، فانتظر.

وعلى كل حال : فقد ظهر مما ذكرنا : أن قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » لا تختص بالشبهات الحكمية ، بل تجرى في الشبهات الموضوعية أيضا ، من غير فرق بينهما ، سوى أنه في الشبهات الحكمية تختص القاعدة بما بعد الفحص وفي الشبهات الموضوعية لا يجب الفحص ، إلا على بعض الوجوه يأتي ذكرها في خاتمة الاشتغال.

بقى الجواب عن سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، وأنه كيف صح التمسك بالأصول العملية في الشبهات الموضوعية ولم يصح التمسك بالأصول اللفظية فيها؟.

ولعمري! أن الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فان الأصول اللفظية إنما تكون كاشفة عن المرادات النفس الأمرية ، وعنوان العام بعد تخصيصه يكون جزء الموضوع وجزئه الآخر عنوان المخصص (١) ولا يمكن أن يتكفل الدليل

__________________

١ ـ أقول : قد حققنا في محله : بأن باب التخصيص غير باب التقييد ، وأن ما يخرج العنوان عن تمام الموضوع إلى جزئه هو باب التقييد ، ولذا لا يتوهم أحد الشك بالمطلق عند الشك في مصداق قيده ، وهذا بخلاف

٣٩٦

وجود الموضوع ، بل إنما يتكفل بيان الحكم على تقدير وجود الموضوع ، والمصداق المشتبه لم يعلم أنه من مصاديق العام أو من مصاديق الخاص؟ فلا يجوز التمسك بأصالة العموم لإثبات كونه من مصاديق العام ، وإلا يلزم أن يكون العام متكفلا لوجود مصاديقه.

وهذا بخلاف الأصول العملية فإنها وظايف عملية. والمصداق المشتبه إذا لم يقم دليل على بيان حكمه ، فبحسب الوظيفة لابد وأن ينتهى الأمر إلى أحد الأصول العملية ، ولا أقل من البراءة والاشتغال اللذين تنتهي إليهما الوظيفة العملية عقلا عند فقدان الأصول الحاكمة عليها.

هذا تمام الكلام في الشبهة التحريمية بأقسامها الأربعة.

وأمّا الشبهة الوجوبية :

فأقسامها أيضا أربعة ـ على حذو الشبهة التحريمية ـ لأن منشأ الشبهة ، إما أن يكون فقدان النص ، وإما أن يكون إجماله ، وإما أن يكون تعارض النصين ، وإما أن يكون لأجل الاشتباه في الموضوع الخارجي ، وهذه الأقسام الأربعة وإن لم يختلف حكمها ، إلا أن الشيخ قدس‌سره أفرد البحث عن كل واحد منها ونحن نقتفي إثره.

القسم الأوّل : ما إذا كان منشأ الشك في الوجوب فقدان النص. والأقوى وفاقا لقاطبة الأصوليين ومعظم الأخباريين ـ جريان البراءة فيه وعدم وجوب الاحتياط ، سواء كان طرف احتمال الوجوب الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة ، للأدلة المتقدمة في الشبهة التحريمية ، فان تلك الأدلة تعم الشبهات الوجوبية أيضا ما عدا أخبار أصالة الحل ، ولا حاجة إلى إعادة البحث عنها.

__________________

باب التخصيص ، فإنه من باب إخراج فرد عن تحت حكم العام ، نظير موته الغير المرتبط بعنوان العام ، غاية الأمر يوجب تقليل أفراده مع ما للعام بالإضافة إلى بقية أفراده تمام الموضوع ، ، وهذه الجهة أوقعتهم في باب الشك في فرد المخصص في حيص وبيص ، وتمام الكلام في محله إن شاء الله تعالى.

٣٩٧

فالأولى عطف عنان الكلام إلى ما يهم ذكره من التنبيهات التي ذكرها الشيخ ( قدس سره القدوسي ).

التنبيه الأوّل :

لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا في جميع أقسام الشبهة التحريمية والوجوبية الحكمية والموضوعية (١).

وفي استحبابه الشرعي من جهة أوامر الاحتياط إشكال ، لاحتمال أن تكون الأخبار الواردة في الباب ـ على كثرتها ـ للإرشاد إلى ما يستقل به العقل من حسن الاحتياط تحرزا عن الوقوع في المفسدة الواقعية وفوات المصلحة النفس الأمرية ، وحكم العقل برجحان الاحتياط وحسنه إنما يكون طريقا إلى ذلك ، لا أنه نشأ عن مصلحة في نفس ترك ما يحتمل الحرمة وفعل ما يحتمل الوجوب ، بحيث يكون ترك المحتمل وفعله بما أنه محتمل ذا مصلحة يحسن استيفائها عقلا.

ومن ذلك يظهر : فساد ما ربما يتوهم : من استحباب الاحتياط شرعاً

________________________

١ ـ أقول : عدم الريب في رجحان الاحتياط يقتضي حسنه حتى مع عدم مصلحة الواقع ، وحينئذ نسئل بأنه ما المناط في حسنه؟ فان كان بملاحظة حسن الاحتياط مقدمة لحفظ الواقع فهو غلط ، إذ صورة المخالفة مباين مع صورة المصلحة لا مقدمة ولا ملازم. نعم : هو مقدمة للعلم بتحصيل الواقع ، وترشيح حسنه منه فرع حسن تحصيل العلم بالواقع ، وهو أول الكلام ، وحينئذ ما معنى طريقية حسن الاحتياط بالنسبة إلى مصلحة الواقع؟ فلا محيص حينئذ إما من دعوى إرشادية حكم العقل بالاحتياط لمحض حفظ المصالح بلا حسن فيه ، أو دعوى وجود مناط لحسنه حتى في صورة المخالفة ولو من جهة كونه موجبا لاستحقاق المثوبة ، نظير حسن الإطاعة الناشئة عن هذه الجهة ، وبذلك أيضا منعنا في مثله جريان قاعدة الملازمة ، وحينئذ لا يسمى مثل هذا الحسن طريقيا ، بل هو من شؤون إتيان محتمل الوجوب برجائه ، فيكون من تبعات الوجوب لا مستتبعا له ، كما لا يخفى.

نعم : هذا البيان أيضا إنما يصح على المختار من حسن الانقياد ، وإلا فعند من لا يقول بحسن العمل بل غايته أنه يكشف عن حسن سريرة الفاعل ـ كما هو مقالته في التجري ـ فلا يكون لحسن العمل مناط أصلا ، بل لا محيص لمثل « المقرر » إلا من الالتزام بالإرشاد ، كما لا يخفى.

٣٩٨

بقاعدة الملازمة ، فان المورد ليس من موارد « القاعدة الملازمة » لما تكرر منا : أن مورد الملازمة إنما هو فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام ، وأما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة معلولات الأحكام من الإطاعة والعصيان وما يستتبعهما من الثواب والعقاب ، فلا محل لقاعدة الملازمة ، والحكم العقلي في باب الاحتياط يكون من القسم الثاني (١) لما عرفت : من أنه طريق محض للتخلص عن فوات المصلحة والوقوع في المفسدة النفس الأمرية ، فهو نظير حكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية ، فلا يمكن إثبات استحباب الاحتياط شرعا من طريق قاعدة الملازمة.

نعم : يمكن أن يستفاد استحبابه الشرعي من بعض الأخبار الواردة في الترغيب على الاحتياط كقوله عليه‌السلام « من ارتكب الشبهات نازعته نفسه أن يقع في المحرمات » (٢) وقوله عليه‌السلام « من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك » (٣) وقوله عليه‌السلام « من يرتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه » (٤) ونحو ذلك من الأخبار التي يمكن أن يستظهر من التعليلات الواردة فيها أنها من قبيل الحكمة لتشريع استحباب الاحتياط ، وإن كان للمنع عن ذلك أيضا مجال.

وعلى كل حال : لا شبهة في حسنه العقلي وإمكانه في التوصليات بترك ما يحتمل حرمته وفعل ما يحتمل وجوبه.

وأمّا العبادات : فقد استشكل الشيخ قدس‌سره في إمكان

__________________

١ ـ أقول : ولقد أجاد فيما أفاد ، ولكن في جعل حسنه طريقيا تأمل قد أشرنا إليه في الحاشية السابقة ، فراجع.

٢ ـ لم أعثر عليه بعد التتبع في مظانها ( المصحح ).

٣ ـ الوسائل : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٢ ولفظ الحديث « فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ».

٤ ـ الوسائل : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٣٩.

٣٩٩

الإحتياط فيها ، بل قوى العدم في هذا المقام ، مع أن بنائه في الكتب الفقهية والرسائل العملية على خلاف ذلك ، وقد نقل أن كلمة « أقواهما » لم تكن في نسخة الأصل.

وذلك هو المظنون ، فان النفس تأبى أن يكون مثل الشيخ قدس‌سره ينكر إمكان الاحتياط في العبادات ، مع أن ما ذكر في وجه ذلك في غاية الضعف والسقوط ، فان مبنى الإشكال ـ على ما ذكره الشيخ قدس‌سره ـ إنما هو اعتبار قصد التقرب والأمر في صحة العبادة (١) وذلك يتوقف على العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا ، وفي الشبهات البدوية لا علم بالأمر فلا يمكن فيها الاحتياط.

وبعبارة أخرى : الاحتياط في الشيء عبارة عن الإتيان بكل ما يحتمل دخله فيه على وجه يحصل العلم بعد الاحتياط بتحقق ما احتاط فيه بجميع ما له من الأجزاء والشرائط ، ومن جملة الشرايط المعتبرة في العبادة قصد أمرها والتقرب بها ، فان العمل الفاقد لذلك لا يكون عبادة ، وقصد الأمر والتقرب يتوقف على العلم بتعلق الأمر بالعمل (٢) والا كان من التشريع المحرم ، ففي الشبهات البدوية العبادية لا يمكن فيها حقيقة الاحتياط ، هذا.

ولكن الإنصاف : أنه ما كان ينبغي أن يجرى هذا الإشكال على قلم « الشيخ » فضلا عن أن يختاره ويقويه ، فإنه قد تقدم منا ـ في مبحث القطع ـ أن للامتثال مراتب أربع : أحدها : الامتثال العلمي التفصيلي ، ثانيها : الامتثال العلمي الإجمالي (٣) ثالثها : الامتثال الظني ، رابعها : الامتثال الاحتمالي ؛ وهذه

________________________

١ ـ أقول : لو عبر بقصد التمييز كان أولى ، لأن ما نحيل في الاحتياط هو قصد التمييز ، وإلا فلا قصور في التقرب برجاء الأمر ولا في قصد الوجه ولو رجاء ، كما لا يخفى.

٢ ـ أقول : فيه نظر ، لأن رجاء الأمر فيه كاف بلا تشريع ، ولذا قلنا : بأن الأولى جعل المانع قصد التمييز لا غير.

٣ ـ أقول : عند من احتمل اعتبار قصد التمييز لابد من عدم هذه المراتب. نعم : لا بأس بالالتزام بها في

٤٠٠