فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

وعلى ذلك يبتني الخلاف المعروف في باب الوضوء : من أنه هل يعتبر في الوضوء مع عدم القصد إلى إحدى الغايات الواجبة أو المستحبة قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة؟ أو لا يعتبر قصد ذلك؟ بل يكفي مجرد قصد أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات بقصد امتثال الأمر المتعلق بها ، فان قلنا : إن المأمور به هو نفس الغسلات والمسحات ، فلا يعتبر قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة. وإن قلنا : إن المأمور به هو الطهارة وتلك الأفعال محصلات لها ، فلابد مع عدم قصد إحدى الغايات من قصد الكون على الطهارة ، لأن قصد حقيقة المأمور به مما لابد منه في كل عبادة.

ومنشأ الخلاف : هو وقوع كل من التطهير والأفعال في حيز الطلب في « القرآن المجيد ».

فمن الأول : قوله تعالى : « وإن كنت جنبا فاطهروا » (١) بضميمة عدم الفرق بين الوضوء والغسل في ذلك.

ومن الثاني قوله تعالى : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم » الآية (٢).

فمن قال : بأنه يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة وأنها من المسببات التوليدية للأفعال حمل الأمر بالأفعال في آية الوضوء على أن الأمر بها لأجل كونها محصلة للطهارة لا من حيث هي هي ، فإنه في المسببات التوليدية يصح تعلق الأمر بكل من المسبب والسبب لكن لا بما هو هو ، بل بما أنه يتولد منه المسبب ، وهذا إذا كان الربط بين السبب والمسبب على وجه يكون الأمر بالسبب عين الأمر بالمسبب عرفا ، كما لو أمر بالإلقاء في النار ، فان الأمر به عرفا أمر بالإحراق. والظاهر أن تكون جميع الأسباب والمسببات التوليدية من هذا القبيل.

__________________

١ و ٢ ـ سورة المائدة الآية ٦.

٣٦١

ومن قال : إنه لا يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة (١) حمل الأمر بالتطهير في آية الغسل على أن المراد منه نفس الأفعال لا المعنى الحاصل منها ويكون التطهير من قبيل الحكم والمصالح ، ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار : من « أن الله تعالى إنما أمر بالوضوء ليكون العبد متطهرا بين يدي الله تعالى » (٢) فان الظاهر منه هو أن تكون الطهارة من الخواص والآثار المترتبة على أفعال الوضوء ، لا أنها من المسببات التوليدية ، وذكرنا ـ في مبحث الاشتغال ـ الفرق بين المسببات التوليدية والمقدمات الإعدادية ، وأن باب المصالح والمفاسد ليست من المسببات التوليدية ، بل إنما هي من الخواص والآثار المترتبة على متعلقات التكاليف ، فراجع ذلك المبحث ، فإنه قد استوفينا الكلام فيه بما لا مزيد عليه ، وغرضنا في المقام مجرد الإشارة ، فلا فائدة في تكرار الكلام في ذلك ، مع أنه أمامنا مباحث مهمة ينبغي صرف عنان الكلام فيها ، ولعل الله يوفقنا للتعرض إلى جملة مما يتعلق بلباس المشكوك من المباحث النفيسة التي أفادها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ما لم تخطر ببال من سبقه من الأعلام.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » على ما هو محل البحث بين الأصوليين والأخباريين ـ وهو جواز الاقتحام في الشبهات التحريمية ـ في غاية الوضوح.

________________________

١ ـ أقول : لو قلنا في باب الوضوء : إنه من المطلوبات النفسية علاوة عن مطلوبيتها غيريا ـ كما قيل به في الغسل ـ فما أفيد من ابتناء النزاع في لزوم قصد الغاية وعدمه في غاية المتانة ، وحينئذ يكون الوضوء بنفسه عبادة وقعت مقدمة لعبادة أخرى. وأما لو قلنا بأنه ممحض في المطلوبية الغيرية وأن عباديته من جهة دعوة أمره الغيري إليه بلا أمر آخر نفسي فيه ، فربما يكون منشأ النزاع السابق شيء آخر ، وهو أن دعوة الأمر الغيري هل يمكن بلا قصد التوصل به إلى الغير؟ أو لا يمكن إلا مع القصد المزبور؟ فعلى الأول : لا يجب قصد الغاية ، بخلافه على الثاني ، فإنه لا يمكن الامتثال به إلا مع قصد الغاية ، حتى بناء على كون الوضوء مقدمة لا الكون على الطهارة ، فراجع المسألة في محله وتدبر.

٢ ـ الوسائل : الباب ١ من أبواب الوضوء الحديث ٩ ولفظ الحديث « إنما امر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبّار ) الحديث.

٣٦٢

وقد استدل للبرائة بأخبار أخر ، أظهرها دلالة قوله عليه‌السلام « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى » (١).

والاستدلال به مبنى على أن يكون « الورود » بمعنى الوصول إلى المكلفين ، لا الورود المقابل للسكوت ، وإلا كان مفاده أجنبيا عن محل البحث ، فان الورود المقابل للسكوت هو بمعنى الجهل بالتشريع ، فيكون مفاد الحديث المبارك : « كل شيء مطلق والناس منه في سعة ما لم يبين الله تعالى حكمه » أي ما دام مسكوتا عنه ، كما ورد في الخبر : « إن الله تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا » الخبر (٢) وأين هذا مما هو مورد البحث من الشك في التكليف بعد تبين الأحكام وتبليغها إلى الأنام وعروض الاختفاء لبعضها لبعض موجبات الاختفاء!.

وقد استدل على البراءة بقوله عليه‌السلام « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » أو « حتى تعرف الحرام منه بعينه » على اختلاف النسخ (٣).

وقوله عليه‌السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه (٤).

ولا يخفى : ظهور كلمة « فيه » و « منه » و « بعينه » في الانقسام والتبعيض الفعلي ـ أي كون الشيء بالفعل منقسما إلى الحلال والحرام ـ بمعنى أن يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما واشتبه الحلال منه بالحرام ولم يعلم أن المشكوك من القسم الحلال أو الحرام ، كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكى ، أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر ، فان اللحم أو المايع

__________________

١ ـ الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٦٠.

٢ ـ نهج البلاغة قصار الحكم ١٠٥

٣ ـ الوسائل : الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

٤ ـ الوسائل : الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

٣٦٣

بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالا وإلى ما يكون حراما ، وذلك لا يتصور إلا في الشبهات الموضوعية.

وأمّا الشبهات الحكمية : فليس القسمة فيها فعلية وإنما تكون القسمة فيها فرضية ، ـ أي ليس فيها إلا احتمال الحل والحرمة ـ فان شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالا أو حراما ليس له قسمان : قسم حلال وقسم حرام ، بل هو إما أن يكون حراما وإما أن يكون حلالا ، فلا يصح أن يقال : إن شرب التتن فيه حلال وحرام ، إلا بضرب من التأويل والعناية التي لا يساعد عليها ظاهر اللفظ.

فكلمة « فيه » ظاهرة في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعية ، وكذا كلمة « بعينه » فان معرفة الشيء بعينه إنما يكون في الموضوعات الخارجية (١) ولا معنى لأن يقال : حتى تعرف الحكم بعينه.

ومن ذلك يظهر : اختصاص قوله عليه‌السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » بالشبهات الموضوعية ، فإنه لولا كلمة « بعينه » كان الخبر عاما للشبهات الحكمية والموضوعية ، كقوله عليه‌السلام « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » ولكن لفظة « بعينه » توجب ظهور الخبر في الشبهات الموضوعية.

وقد استدل للبرائة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الناس في سعة ما لا يعلمون » (٢) وفي دلالته تأمل إلاّ على بعض الوجوه.

________________________

١ ـ أقول : معنى معرفة الحرام بعينه تشخيص الحرام من الحلال ، لا تشخيصه خارجا ، فلا قصور في شمول الحديث ـ لولا الأمثلة في ذيله ـ للشبهات الحكمية ، هذا مع إمكان حمل « بعينه » على بيان التأكيد لموضوع الحرمة وأنه حقيقة معروضها ، لا أنه من توابع المعروض ، فيرتفع حينئذ الإشكال رأسا.

نعم : العمدة في هذه الرواية الأمثلة الواقعة في ذيلها ، والذي يسهل الخطب أن هذه الأمثلة لا يناسب « قاعدة الحلية » حتى على اختصاصها في الشبهات الموضوعية ، فلابد من التفصي عنها على كلا التقديرين ، كما لا يخفى.

٢ ـ مستدرك الوسائل : الباب ١٢ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ٤. لفظ الحديث فيه « .. ما لم يعلموا ».

٣٦٤

والإنصاف ، أن أظهر ما استدل به على البراءة من الأخبار هو « حديث الرفع » وفيه الكفاية.

وأمّا الإجماع :

فقد أفاد الشيخ قدس‌سره في تقريره وجوها.

ولكن الذي ينفع منه في المقام هو إجماع العلماء كافة من الأصوليين والأخباريين على البراءة ، والإجماع على هذا الوجه لم ينعقد ، بل هو مقطوع العدم ، كيف! وجل الأخباريين ذهبوا إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية التي هو مورد البحث ، ولا يمكن دعوى عدم قدح مخالفتهم في تحقق الإجماع مع أن جملة منهم من أجلاء الأصحاب وأعيانهم. وأما بقية تقريرات الإجماع : فلا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها ، بحيث تقدم أو تعارض ما سيأتي من الوجوه التي تمسك بها الأخباريون على وجوب الاحتياط ، لو تمت دلالتها وسلمت عن المناقشة في حد نفسها.

وأمّا العقل :

فحكمه بالبرائة مما لا يكاد يخفى ، لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظان وجوده ، ولا يكفي في صحة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلف ، فان وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجود علمي.

فتوهم : أن البيان في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو البيان الواقعي ـ سواء وصل إلى العبد أو لم يصل ـ فاسد ، فان العقل وإن استقل بقبح العقاب مع عدم البيان الواقعي ، إلا أنه استقلاله بذلك لمكان أن مبادئ الإرادة الآمرية بعد لم تتم ، فلا إرادة في الواقع ، ومع عدم الإرادة لا مقتضى لاستحقاق العقاب ، لأنه لم يحصل تفويت لمراد المولى واقعا ، بخلاف البيان

٣٦٥

الغير الواصل فإنه وإن لم يحصل مراد المولى وفات مطلوبه واقعا ، إلا أن فواته لم يستند إلى المكلف بعد إعمال وظيفته ، بل فواته إما أن يكون من قبل المولى إذا لم يستوفى مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة ، وإما أن يكون لبعض الأسباب التي توجب اختفاء مراد المولى عن المكلف ، وعلى كل تقدير : لا يستند الفوات إلى العبد ، فلأجل ذلك يستقل العقل بقبح مؤاخذته ، فمناط حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان واقعي غير مناط حكمه بقبح العقاب من غير بيان واصل إلى المكلف.

فان قلت : يكفي في البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فان الشك في التكليف يلازم الشك في الضرر ، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، فيرتفع موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

قلت : قد تقدم الكلام في كل من الصغرى والكبرى بما لا مزيد عليه ـ في مبحث الظن قبل دليل الانسداد ـ وإجماله : أن المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، إما أن يكون هو الضرر الدنيوي من نقص في الأنفس والأطراف والأعراض ، وإما أن يكون هو الضرر الأخروي من العذاب والعقاب ، وإما أن يكون هو المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام من القرب والبعد ونحو ذلك مما لا يرجع إلى الضرر الدنيوي ولا إلى العقاب الأخروي ، فإنه يمكن أن تكون مناطات الأحكام أمورا اخر غير المضار الدنيوية والعقاب الأخروي.

وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل في هذه الوجوه الثلاثة ليس بمناط واحد ، بل حكمه بوجوب دفع الضرر الدنيوي بالنسبة إلى خصوص الأنفس والأطراف أو الأعراض أيضا يمكن أن يكون لأجل ما في الضرر الواقعي من المفسدة التي أدركها العقل فاستقل بقبح الإقدام عليه ، ويتبعه حكم الشرع بحرمته لقاعدة الملازمة ، فان الحكم العقلي في ذلك واقع في سلسلة علل الأحكام ، وكلما كان الحكم العقلي واقعا في هذه السلسلة يكون مورد

٣٦٦

القاعدة الملازمة فيستتبعه الحكم الشرعي.

فعلى هذا يكون حكمه بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر أو يظن طريقا محضا للتحرز عن الوقوع في الضرر الواقعي ، فلا يترتب على موافقته ومخالفته غير ما يترتب على نفس الواقع عند موافقة الظن أو الاحتمال للواقع أو مخالفته.

ويمكن أن يكون تمام موضوع حكم العقل هو الإقدام على ما لا يأمن معه من الوقوع في الضرر الواقعي ، من غير فرق بين صورة القطع بالضرر أو الظن أو الاحتمال ، نظير حكمه بقبح التشريع ، على ما تقدم بيان ذلك.

وعلى كل تقدير : سواء كان حكم العقل في باب الضرر الدنيوي بهذا الوجه أو بذلك الوجه يستتبع الحكم الشرعي المولوي على وفقه (١).

هذا كله إن كان المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل هو الضرر الدنيوي.

وإن كان المراد منه الضرر الأخروي ، فحكمه بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل بل الموهوم إنما يكون إرشادا محضا ليس فيه شائبة المولوية ، ولا يمكن أن يستتبع حكما شرعيا ، لأن حكم العقل في ذلك إنما يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا يكون موردا لقاعدة الملازمة ـ كما أوضحناه في محله ـ ولكن ذلك فرع احتمال العقاب ، ومع عدم وصول التكليف بوجه لا تفصيلا ولا إجمالا يحتمل العقاب ، لقبح العقاب بلا بيان ، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يكون حاكما وواردا على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل.

وبالجملة : بعد استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، تختص « قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل » بأطراف العلم الإجمالي

________________________

١ ـ أقول : في الضرر الواقعي على الأول ، وفي محتمله على الثاني.

٣٦٧

أو الشبهة البدوية قبل الفحص ، وأما الشبهة البدوية بعد الفحص فلا يحتمل فيها العقاب ، لأن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب.

والحاصل : أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل لا يصلح أن يكون بنفسه بيانا للتكليف المشكوك (١) لأنه لا يكون رافعا للشك ، وتمام الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو نفس الشك في التكليف ، فإنه بمجرده يستقل العقاب بقبح العقاب عليه فينقطع بعد العقاب ، فيرتفع موضوع قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر. هذا إذا كان المراد من الضرر في القاعدة الضرر العقابي.

وإن أريد منه المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام ، فالشك في التكليف وإن كان يلازم الشك في المصلحة والمفسدة ، إلا أن التحرز عن احتمال المفسدة وفوات المصلحة ليس مما يستقل العقل بلزومه ، بل إن أدرك العقل المصلحة والمفسدة التامة وأحاط بجميع الجهات ولم ير مزاحما لها حكم بقبح تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة. وأما مجرد احتمال وجود المصلحة والمفسدة مع احتمال وجود المزاحم فلا سبيل إلى دعوى استقلال العقل بقبح الاقتحام على ما فيه احتمال المفسدة وترك ما فيه احتمال المصلحة.

نعم : قد تكون المفسدة أو المصلحة المحتملة بمثابة من الأهمية يلزم التحرز عن الوقوع في مخالفتها ولو احتمالا ، إلا أنه لو كانت بهذه المثابة فعلى الشارع جعل المتمم وايجاب الاحتياط ، كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال ، ومع الشك في ايجاب الاحتياط كان المرجع هو البراءة ، لأنه كأحد التكاليف المجهولة ، فيعمه « حديث الرفع ».

ومما ذكرنا يظهر : ما في كلام الشيخ قدس‌سره من الخلل ، حيث

________________________

١ ـ أقول : لو اقتصر بالبيان الأول لكان أولى ، لأن في بيانية التكاليف الطرقية لا يحتاج إلى رفع الشك ، نظير ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية.

٣٦٨

قال قدس‌سره : « ودعوى أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة مدفوعة بأن الحكم المذكورة على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها » إلى أن قال : « وإن أريد بها مضرة أخرى غير العقاب التي لا يتوقف ثبوتها على العلم ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلا أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية » إلى آخر ما أفاده.

والإنصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ قدس‌سره ذلك (١) فان حكم العقل بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر العقابي إنما يكون إرشادا محضا لا يمكن أن يستتبع حكما مولويا شرعيا ، فكيف يمكن أن يكون العقاب على مخالفته وإن لم يكن في مورده تكليف واقعي؟ وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية؟ مع أن مخالفة الأحكام الظاهرية لا تستتبع

________________________

١ ـ أقول : لا نفهم من كلمات الشيخ قدس‌سره أزيد مما أخذت بقوله : والحاصل إلى آخره ، وأن قوله : « وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية » مبنى على تسليم البيانية ولا يكون إرشادا ، لا أنه مسلم عنده ، كيف! وصريح كلماته في الشبهة المحصورة وغيرها إرشادية هذا الحكم بالنسبة إلى احتمال العقاب ، كما أن لازم كونه حكما مولويا ظاهريا الالتزام بالعقوبة على نفسه ولو لم يكن في الواقع تكليف ، كما هو شأن موضوعية الطريق عند المخالفة.

وتوهم : أن الأحكام الظاهرية لا يعاقب عليها عند مخالفتها للواقع ، صحيح في الأوامر الطرقية لا في الأوامر النفسية المجعولة نفسيا في ظرف الجهل بالحكم.

وما أفيد أيضا بأن في الأصول الغير المحرزة يعاقب على مخالفتها بشرط وجود التكليف في موردها ، كلام ظاهري ، إذ الأمر في هذه القاعدة إن كان طريقيا يعاقب على الواقع ، وإن كان نفسيا يعاقب على نفسها وإن خالف الواقع. ولا نرى وجها لهذا الشرط الضمني ولا طعنا على مثل هذا « المؤسس » بعدم ترقبه منه صدور هذا الكلام ، ولقد صدر نظيره في ايجاب الاحتياط الشرعي ردا على الأخباريين أيضا.

نعم : الذي يرد عليه هو الذي أشرنا في ذيل قول المقرر « والحاصل الخ » وهو أن مجرد كونه حكما في ظرف الشك لا يقتضي أن يكون ايجابا نفسيا موجبا للعقوبة على نفسه مطلقا ، بل من الممكن كون أمره طريقيا حاكيا عن الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها وترخيصا محضا عند مخالفته للواقع ، وبه أجبنا عما أفاده في منع بيانية ايجاب الاحتياط الشرعي أيضا ، كما لا يخفى.

٣٦٩

استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع ، بل العقاب يدور مدار مخالفة الواقع مع وجود طريق إليه ، وفي جميع موارد القواعد الظاهرية يكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة القاعدة عند إدائها إلى مخالفة الواقع لا مطلقا ، على اختلاف فيها : من كونها محرزة للواقع كالأمارات والأصول التنزيلية فالعقاب على الواقع ، أو غير محرزة كأصالة الاحتياط فالعقاب على مخالفة القاعدة ولكن بشرط كونه مؤديا إلى مخالفة الواقع ، ويأتي بيان ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في خاتمة الاشتغال.

وعلى كل حال : ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أن العقاب على مخالفة نفس القاعدة الظاهرية وإن لم تؤدى إلى مخالفة الواقع مما لا يستقيم.

وأغرب من ذلك : ما أفاده أخيرا : من أنه لو كان المراد من الضرر غير العقاب من المصالح والمفاسد فاحتماله لا يرتفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وهذا الكلام منه قدس‌سره يعطى أن المصالح والمفاسد من أفراد الضرر (١) وتعمها قاعدة « قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر » ولكن الشارع رخص في الاقتحام في موارد احتمال المفسدة.

وأنت خبير بما فيه ، فان باب المصلحة والمفسدة غير باب الضرر الذي يستقل العقل بلزوم التحرز عن محتمله. وعلى كل تقدير : فقد ظهر لك : أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وارد على حكمه بقبح الاقتحام على ما لا يأمن معه عن الضرر العقابي ، وهذا الحكم العقلي يعم جميع الشبهات الحكمية والموضوعية التحريمية والوجوبية.

ثم إنه ربما يستدل للبرائة باستصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر ، وسيأتي البحث عن حال هذا الاستصحاب وأن استصحاب البراءة مما لا يجرى في شيء من المقامات ، سواء كان المراد من العدم المستصحب العدم

________________________

١ ـ أقول : ظاهر كلامه بيان أن مراده لو كان ذلك ، وذلك لا يدل على اختياره ، كما لا يخفى.

٣٧٠

حال الصغر قبل البلوغ ، أو العدم قبل الوقت في الموقتات ، فانتظر ما يأتي في مبحث الاشتغال ، فإنه قد استوفينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في ذلك المقام.

وقد استدل للبرائة بوجوه أخر لا تخلو عن ضعف ، فلا يهمنا التعرض لها وفيما ذكرناه كفاية.

فلنشرع في أدلة الأخبارييّن

وقد استدلوا بالأدلة الثلاثة :

فمن الكتاب قوله تعالى : « فاتقوا الله حق تقاته » (١) وقوله تعالى : « واتقوا الله ما استطعتم » (٢) وقوله تعالى : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (٣) فان الاقتحام في الشبهة ينافي التقوى المأمور بها. وكذا الحكم بالترخيص وجواز الاقتحام فيها قول بغير علم.

ولا يقال : إن الحكم بحرمة الاقتحام فيها أيضا قول بغير علم ، فان الأخباريين لا يقولون بالحرمة ، وإنما قالوا بترك الاقتحام فيها لاحتمال الحرمة ، فتأمل.

ولا يخفى : أن الآيات الشريفة بمعزل عن الدلالة على مذهب الأخباريين. أما آيات التقوى : فمع أنها لا تدل على الوجوب ، لا تنافى الاقتحام في الشبهة اعتمادا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واتكالا على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » ومنه يظهر : أن القول بجواز الاقتحام ليس قولا بغير علم ، لدلالة حكم العقل والشرع على عدم استحقاق العقاب على التكليف الغير الواصل ، فيكون القول بالجواز قولاً عن علم.

__________________

١ ـ سورة آل عمران الآية ١٠٢.

٢ ـ سورة التغابن الآية ١٦.

٣ ـ سورة الأسراء الآية ٣٦.

٣٧١

ومن السنّة طوائف :

منها : أخبار التوقف كقوله عليه‌السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (١) وهي كثيرة مستفيضة ، بل تبلغ حد التواتر ، وظاهر التوقف هو السكون وعدم الحركة فالتوقف في الشبهات عبارة عن الاحتياط فيها وترك المضي فيها.

ومنها : الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة أيضا تبلغ حد الاستفاضة ، ففي الصحيح : عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال لا ، بل عليهما أن يجزى كل واحد منهما الصيد ، قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسئلوا عنه فتعلموا (٢).

وفي موثقة عبد الله ، قال : كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عين الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل [ الجبل ] فكتب إلى : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائط لدينك ، الخبر (٣).

وعن « المفيد الثاني » قال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (٤).

وقوله عليه‌السلام ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الإحتياط (٥).

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ١٣.

٢ ـ الوسائل : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

٣ ـ الوسائل الباب ٥٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ٢.

٤ ـ الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٤١.

٥ ـ قال الشيخ (ره) في « الفرائد » أرسله الشهيد.

٣٧٢

إلى غير ذلك من الروايات الدالة على حسن الاحتياط ووجوبه.

ومنها : أخبار التثليث ، كقوله عليه‌السلام في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة : وإنما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (١).

وتقريب الاستدلال بها : هو أن « المقبولة » دلت على وجوب ترك الشاذ معللا بأنه فيه الريب ، ومقتضى عموم العلة هو وجوب ترك كل ما كان فيه الريب والشك ، ومنه ما هو المبحوث عنه من الشبهات التحريمية ، بل مورد الرواية مختص بما كان الشك فيه لأجل احتمال الحرمة ، كما يظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك » أي بين الحلال والحرام.

فدلالة أخبار التثليث على وجوب التحرز عن الشبهات التحريمية وحرمة الاقتحام فيها أوضح من الأخبار السابقة ، هذا.

والجواب أمّا عن الطائفة الأولى : فالأمر بالتوقف فيها لا يصلح إلا للإرشاد ، ولا يمكن أن يكون أمرا مولويا يستتبع الثواب والعقاب ، فان المراد من « الهلكة » في قوله عليه‌السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » هي العقاب ولا يمكن أن يكون المراد منه العقاب الجائي من قبل مخالفة الأمر بالتوقف ، لأن الظاهر أن يكون قوله عليه‌السلام ذلك لبيان الملازمة بين الاقتحام والوقوع في الهلكة ، فلابد وأن تكون الهلكة مفروضة الوجود والتحقق مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف ، لتكون في البين ملازمة بين

__________________

١ ـ الوسائل الباب ١٢ الحديث ٩.

٣٧٣

عدم التوقف والهلكة ، ولا يمكن فرض وجود الهلكة إلا بعد فرض تنجز التكليف ، وذلك لا يكون إلا في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فيكون حاصل مفاد قوله عليه‌السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة « هو أن ترك التعرض للشبهة التي يحتمل انطباق التكليف عليها خير من الوقوع في عقاب مخالفة التكليف إذا صادفت الشبهة متعلق التكليف ، فعلى هذا يكون الأمر بالتوقف للإرشاد وهو تابع للمرشد إليه ، فان صادفت الشبهة متعلق التكليف يستحق المكلف العقوبة لفرض تنجز التكليف ، وإن خالفت الشبهة متعلق التكليف لم يكن في البين شيء إلا التجري.

ويحتمل قريبا أن تكون روايات التوقف لإفادة معنى آخر ، وهو أن الاقتحام في الشبهات يوجب وقوع المكلف في المحرمات ، لا أن نفس الاقتحام في الشبهة حرام إذا صادف الحرام المعلوم بالإجمال ـ كما هو مفاد الوجه الأول ـ بل ترك الوقوف عندها والاقتحام فيها مظنة الوقوع في المحرمات ، فان الشخص إذا لم يجتنب عن الشبهات وعود نفسه على الاقتحام فيها هانت عليه المعصية وكان ذلك موجبا لجرئته على فعل المحرمات ، وقد ورد نظير ذلك في باب المكروهات (١) فإنه لو لم يعتنى المكلف بالمكروهات وأكب على فعلها أدى ذلك إلى الجرئة على فعل المحرمات ، كما أن الشخص لو لم يعتنى بالمعصية الصغيرة هانت عليه الكبيرة ( أعاذنا الله من ذلك ) وأما إذا لم يعود الشخص نفسه على الاقتحام في الشبهات بل عود نفسه على التجنب عنها والوقوف عندها حصلت ملكة التجنب عن المعاصي ، وإلى ذلك يشير قوله عليه‌السلام « والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها » (٢).

وعلى هذا فالأمر بالوقوف عند الشبهة يكون استحبابيا ، كما هو الظاهر

________________________

١ ـ لم أجده بعد الفحص والسؤال ( المصحح ).

٢ ـ الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٢.

٣٧٤

من قوله عليه‌السلام في بعض أخبار التوقف « أورع الناس من وقف عند الشبهة » (١) وقوله عليه‌السلام « لا ورع كالوقوف عند الشبهة » (٢).

وعلى كل حال : من راجع أخبار التوقف وتأمل فيها يقطع بأن الأمر فيها ليس أمرا مولويا بنفسه يستتبع الثواب والعقاب ، فلا يصلح للأخباري الاستدلال بها على مدعاه.

وأمّا الطائفة الثانية : وهي الأخبار الواردة في الأمر بالاحتياط ، فأظهرها دلالة ما تقدم منها ، وهي لا تصلح للاستدلال بها على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية.

أما الصحيحة الأولى : فلعدم العمل بها في موردها ، فان الشك في وجوب الجزاء على كل من اللذين اصطادا ، إما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، وإما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن في صورة اشتراك الشخصين في الصيد ، إما أن نقول بوجوب إعطاء نفس البدنة ، وإما ان نقول بوجوب إعطاء قيمة البدنة.

فان قلنا : بوجوب إعطاء القيمة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن اشتغال ذمة كل منهما بنصف قيمة البدنة متيقن ويشك في اشتغال الذمة بالزائد ، نظير تردد الدين بين الأقل والأكثر.

وإن قلنا : بوجوب إعطاء نفس البدنة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنه يدور الأمر بين وجوب إعطاء تمام البدنة على كل منهما أو نصفها ، وعلى تقدير كون الواجب هو تمام البدنة لا يجزى الأقل ولا يسقط به التكليف (٣) نظير تردد أجزاء الصلاة بين الأقل والأكثر ؛

________________________

١ ـ الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٤.

٢ ـ الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٠.

٣ ـ أقول : من الممكن على هذا التقدير أن الواجب عليه البدنة بما لها من المالية في ضمن خصوصية العين ، فإنه حينئذ لو أعطى نصف البدنة مشاعا في تمامها يجزى عن تكليفه بمقداره ولو كان الواجب عليه تمام

٣٧٥

وعلى كلا التقديرين : الشبهة في مورد السؤال إنما تكون وجوبية ولا يجب الاحتياط فيها باتفاق الأخباريين ، فالصحيحة في موردها لم يعمل بها.

مضافاً إلى أن مورد البحث هو الشبهة البدوية التي لم يسبق العلم بالتكليف في موردها بوجه من الوجوه ، ومورد الصحيحة هو ما إذا علم بالتكليف في الجملة وإن تردد متعلقه بين الأقل والأكثر ، فيمكن الالتزام بوجوب الاحتياط في مورد الصحيحة وعدم وجوب الاحتياط في مورد البحث ، مع أن ظاهر الصحيحة هو كون المكلف متمكنا من الفحص وتحصيل العلم بحكم الواقعة ، ومحل الكلام هو ما إذا لم يكن تحصيل العلم بحكم الواقعة ، فلا يصح التمسك بالصحيحة لمورد البحث.

وأما الموثقة : فالشبهة في موردها لا تخلو : إما أن تكون موضوعية ، وإما أن تكون حكمية ، فان كانت موضوعية ـ كما لا يبعد ذلك بل يقربه استبعاد تقرير الإمام عليه‌السلام الجاهل على جهله في الشبهات الحكمية فإنه على الإمام عليه‌السلام رفع الشبهة وتبيين الأحكام للجاهلين لا الأمر بالاحتياط ـ فالاحتياط فيها واجب على كل حال ، لاستصحاب بقاء النهار وعدم دخول الليل ، ومع جريان الاستصحاب لا يبقى موضوع للبرائة ، مع أنه لو كانت الشبهة موضوعية وأغمضنا النظر عن الاستصحاب فالاحتياط لا يجب فيها باتفاق الأخباريين.

وإن كانت الشبهة حكمية : بأن يكون المراد من الحمرة المرتفعة الحمرة المشرقية التي لابد من زوالها في تحقق الغروب ، فيكون السؤال حينئذ عن وقت المغرب الذي تجب الصلاة فيه ويجوز الإفطار عنده وأنه هل يتحقق باستتار

________________________

البدنة ، وعلى أي حال : بعد كون الأقل والأكثر مطلقا مجرى البراءة يسهل الخطب في المقام. ولا يحتاج إلى هذا التشقيق ، فتدبر.

كما أنّ عدم القول بالفصل بين الشبهات البدوية المحضة والمقرونة بالعلم المنحل إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطي يرفع توهم عدم شمول النص مورد البحث مطلقا ، كما لا يخفى.

٣٧٦

القرص أو لابد من ذهاب الحمرة المشرقية؟ والإمام عليه‌السلام في مقام رفع هذه الشبهة وبيان أن الحمرة المشرقية لابد من زوالها في جواز الإفطار وصحة الصلاة ـ كما هو المشهور عند الخاصة ـ فبين الحكم الشرعي بلسان الأمر بالاحتياط ، وقال عليه‌السلام « تأخذ بالحائطة لدينك ».

ولعلّ السر في الأمر بالاحتياط ـ مع أنه كان ينبغي إزالة الشبهة ورفع جهل السائل بالزامه بالانتظار إلى أن تذهب الحمرة المشرقية ـ هو التقية والتباس الأمر على العامة القائلين بتحقق المغرب باستتار القرص ، فأمر عليه‌السلام بالاحتياط لكي يتخيل لهم أن الأمر بالانتظار إنما كان لأجل الاحتياط وحصول اليقين باستتار القرص ، لا لأجل أن المغرب لا يتحقق إلا بذهاب الحمرة المشرقية ، فالإمام عليه‌السلام قد أفاد وجوب الانتظار على خلاف فتوى العامة ببيان لا ينافي التقية ، كما أن قوله عليه‌السلام « أرى لك أن تنتظر » الذي يستشم منه رائحة الاستحباب ـ إنما كان للتقية والتباس الأمر على العامة لكي يزعموا أن الحكم بالتأخير إلى ذهاب الحمرة عند الخاصة إنما هو للاستحباب. وعلى كل حال : فالاحتياط بمعنى التأخير إلى ذهاب الحمرة مفروض السؤال واجب لا دخل له بما نحن فيه.

وأما عن بقية الأخبار المطلقة ( التي لم ترد في مورد خاص ) كقوله عليه‌السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك » فإنها وردت في مقام الإرشاد ، فالأمر فيها تابع للمرشد إليه ، ولا يمكن أن يكون الأمر بالاحتياط فيها أمرا مولويا ، وإلا يلزم تخصيص الأكثر ، لعدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية مطلقا ، وفي الشبهات الحكمية الوجوبية بالاتفاق.

وأمّا عن الطائفة الثالثة : فبأن الأمر فيها لا يصلح إلا للإرشاد ، فان الظاهر من قوله عليه‌السلام « ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات » هو الملازمة بين التعرض للشبهات والوقوع في المحرمات ، فالأخذ بالشبهات بنفسه ليس من المحرمات ، بل يستلزم ذلك الوقوع فيها ؛ فيكون النهى عن الأخذ

٣٧٧

بالشبهات للإرشاد إلى عدم الوقوع في المحرمات (١) لأن التجنب عن الشبهات يوجب حصول ملكة الردع عن المحرمات ، كما أن الاقتحام فيها يوجب التجري على فعل المحرمات ، وذلك هو الظاهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم » فمفاد أخبار التثليث أجنبي عن مقالة الأخباريين.

الدليل الثالث : ( الذي استدل به الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية ) هو حكم العقل ، وتقريره من وجهين :

أحدهما : العلم الإجمالي بثبوت محرمات في الشريعة وهذا العلم الإجمالي حاصل لدى كل أحد قبل مراجعة أدلة الأحكام ، ولا إشكال في استقلال العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية ، فلابد من ترك كل ما يحتمل الحرمة ليحصل اليقين بالفراغ ، ولا يجوز الاقتصار على ترك ما علم حرمته ، لأن ذلك لا يوجب حصول العلم بالفراغ.

ثانيهما : كون الأصل في الأفعال الغير الضرورية والتي لا يتوقف عليها حفظ النظام الحظر ، فلا يجوز الاقتحام في كل أمر لم يعلم الإذن فيه.

ولا يخفى ما في كلا الوجهين من الضعف.

أمّا الوجه الأوّل : فلانحلال العلم الإجمالي بعد الرجوع إلى الأدلة والاطلاع على مقدار من المحرمات يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، بل يمكن أن يقال : إنا نعلم بمصادفة بعض الأمارات للواقع بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية. وعلى ذلك يحمل ما أجاب به الشيخ قدس‌سره عن الدليل العقلي بقوله : « منع تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلا بما أدى إليه الطريق » وإن كان ذلك خلاف ظاهر العبارة ، فان ظاهرها لا ينطبق على

________________________

١ ـ أقول : ويمكن أن يكون الأمر فيها للاستحباب ، كما مر منه في توجيه أخبار التوقف السابق ، فراجع.

٣٧٨

القواعد (١) فتأمل.

ودعوى ثبوت العلم الإجمالي في خصوص الشبهات التي لم يقم عليها دليل ، مما لا شاهد عليها ، وقد تقدم في دليل الانسداد تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه ، هذا ، مضافا إلى أن متعلق العلم الإجمالي أعم من الشبهات الوجوبية والتحريمية ، فلا وجه لجعل ذلك وجها لوجوب الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية.

وأمّا الوجه الثاني : فهو أسوء حالا من الوجه الأول ، لما فيه أولا : من المنع عن كون الأصل في الأشياء الحظر بل الأصل فيها الإباحة لعموم قوله تعالى : « خلق لكم ما في الأرض جميعا » (٢). وثانيا : من الفرق بين مسألة الحظر والإباحة ومسألة البراءة والاشتغال ، وقد تقدم تفصيل ذلك أيضا ( في أول مبحث البراءة ) فراجع.

فالإنصاف : أنه ليس للأخباري ما يمكن أن يقاوم حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » فالأقوى : جواز الاقتحام في الشبهات التحريمية الحكمية التي هي مورد البحث والنزاع بين الأخباريين والأصوليين.

وقد ذكر الشيخ قدس‌سره في خاتمة المسألة تنبيهات لا يهمنا التعرض لها.

نعم : ينبغي التنبيه على أمر ، وهو أن أصالة البراءة والإشتغال إنّما

__________________

١ ـ أقول : ظاهر كلام « شيخنا الأعظم » لا غبار فيه ، إذ هو ينادى بأن التكليف الفعلي الملزم للعقل بالموافقة لا يكون إلا بما أدى إليه الطرق ، بملاحظة أن الطرق مطلقا موجبة لانحلال العلم المانع عن تنجيزه للواقعيات المحتملة الانطباق على غير دائرة الطرق المعلومة ، لا أن غرضه انقلاب التكاليف الواقعية بمؤدى الطرق ، أو أن الطرق المعلوم المطابقة بمقدار المعلوم بالإجمال ، كما توهم.

٢ ـ سورة البقرة : الآية ٢٩.

٣٧٩

هي من الأصول الحكمية الغير المتكفلة للتنزيل ، فكل أصل متكفل للتنزيل يكون حاكما عليها ، ونعني ب‍ « الأصل المتكفل للتنزيل » هو أن يكون مفاد الأصل إثبات المؤدى بتنزيله منزلة الواقع بحسب الجري العملي ، سواء كان المؤدى موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا.

ومراد الشيخ قدس‌سره من الأصل الموضوعي في قوله : « إن أصل أصالة الإباحة في مشتبه الحكم إنما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها » هو ما ذكرنا ، لا خصوص الأصل الجاري في الموضوع مقابل الحكم الشرعي ـ كما ربما يوهمه ظاهر العبارة ـ بل كل أصل محرز متكفل للتنزيل يكون حاكما على أصالتي البراءة والاشتغال ، فلو شك في حلية الحيوان وطهارته ـ من جهة الشك في قبوله التذكية ـ حكم عليه بالحرمة ، لأصالة عدم التذكية ، ولا تجرى أصالة الحل والبرائة فيه.

ولا بأس باستقصاء الكلام في ما يتعلق بالمثال ، وإن كان خارجا عن المقام ، وذلك يتم برسم أمور :

الأمر الأوّل :

اختلفت كلمات الأصحاب فيما يقبل التذكية من الحيوان ، فقيل : لا يقبل التذكية إلا ما يحل أكله : من الغنم والبقر وغير ذلك. وقيل : كل حيوان يقبل التذكية ما عدا المسوخ. وقيل : بقبول المسوخ للتذكية أيضا ويختص ما لا يقبل التذكية بالحشرات. وينسب إلى العامة القول بقبول الحشرات للتذكية أيضا. ولا يبعد استفادة التعميم لغير الحشرات ونجس العين من بعض الأدلة. وعليه : لا يبقى مورد لجريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الحكمية بعد العلم بكون الحيوان ليس من الحشرات ولا من نجس العين ، فلو تولد حيوان من الغنم والأرنب ـ ولم يتبع أحدهما في الاسم ـ يحكم عليه بأنه يقبل التذكية ، وبعد ورود التذكية عليه ـ من فرى الأوداج وغير ذلك من الأمور الخمسة المعتبرة في

٣٨٠