فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

رفعه ؛ كما أنه ليس من وظيفة العقل الحكم بجواز الاقتحام في الشبهة والترخيص في ارتكابها ، لأن ذلك من وظيفة الشارع. نعم : لازم حكم العقل بقبح المؤاخذة بلا بيان هو الترخيص في الارتكاب ، كما أن لازم حكم الشارع بالترخيص هو عدم المؤاخذة في الاقتحام ، فالبرائة الشرعية من أول الأمر تتوجه على جواز الارتكاب عكس البراءة العقلية.

فتحصل مما ذكرنا : أن « الرفع » في الحديث المبارك بمعنى « الدفع » في جميع الأشياء التسعة ، ولا يلزم من ذلك تجوز ولا حمل اللفظ على خلاف ما يقتضيه ظاهره.

وإن أبيت عن ذلك وجمدت على ما ينسبق إلى الذهن في بادئ الأمر : من أن العناية المصححة لورود الرفع على الشيء إنما هي باعتبار وجوده السابق ولا يكفي مجرد ثبوت مقتضى الوجود ، فيمكن الالتزام بذلك أيضا لوجود العناية المصححة لورود الرفع في جميع الأمور التسعة المذكورة في الحديث.

أما في غير « ما لا يعلمون » من الثمانية الاخر فواضح ، فان الرفع قد أسند فيها إلى ما هو ثابت خارجا ، لوجود الخطأ والنسيان والاضطرار وغير ذلك خارجا ، فالرفع قد ورد على ما هو موجود في الخارج ، ولا منافاة بين ورود الرفع على المذكورات وبين بقائها على ما كانت عليه بعد ورود الرفع عليها ، لأن الرفع التشريعي لا ينافي الثبوت التكويني ، كما لا ينافي وجود الضرر خارجا مع نفيه تشريعا ، وسيأتي معنى الرفع التشريعي في المذكورات.

وأما في « ما لا يعلمون » فقد يقال : إنه لا يمكن أن يكون الرفع فيه بمعناه ، فان المراد من « الموصول » نفس الحكم الشرعي ، فان كل الحكم في مورد الشك ثابت فلا يتصور رفعه إلا على سبيل النسخ ، وإن لم يكن ثابتا فلا يصح إسناد الرفع إليه ، لعدم سبق الوجود ، فلابد من جعل « الرفع » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » بمعنى « الدفع » هذا.

ولكن يمكن ثبوت العناية المصححة لإسناد الرفع إلى الحكم من دون

٣٤١

أن يلزم النسخ أو التصويب. أما في الشبهات الموضوعية : فواضح ، فإنه في مورد الشك في خمرية الشيء يصح أن يقال : رفع الحكم بالحرمة عن المشكوك ، بلحاظ أن حرمة شرب الخمر قد ثبتت في الشريعة ، فصح أن يقال : رفعت حرمة شرب الخمر عن هذا المشتبه. وأما في الشبهات الحكمية : فيمكن أيضا فرض وجود العناية المصححة لاستعمال الرفع (١) فتأمل.

ولكن هذا كله إتعاب للنفس وتبعيد للمسافة بلا ملزم ، فان استعمال « الرفع » بمعنى « الدفع » ليس بعزيز الوجود ، بل قد عرفت : أن الرفع حقيقة هو الدفع ، فيستقيم معنى الحديث المبارك بلا تصرف وتأويل.

الأمر الثاني :

قيل : إن دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا في الكلام ، لشهادة الوجدان والعيان على وجود الخطأ والنسيان في الخارج ، وكذا غير الخطأ والنسيان مما ذكر في الحديث الشريف ، فلابد من أن يكون المرفوع أمرا آخر مقدرا ، صونا لكلام الحكيم عن الكذب واللغوية.

وقد وقع البحث والكلام في تعيين ما هو المقدر ، فقيل : إن المقدر هو المؤاخذة والعقوبة. وقيل : إنه عموم الآثار. وقيل : إنه أظهر الآثار بالنسبة إلى كل واحد من التسعة.

والتحقيق : أنه لا حاجة إلى التقدير ، فان التقدير إنما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام عليه ، كما إذا كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي أو كان الرفع رفعا تكوينيا ، فلابد في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب. وأما إذا كان الرفع رفعا تشريعيا (٢) فالكلام يصح بلا تقدير ، فانّ

________________________

١ ـ أقول : يكفي في العناية وجود الحكم المشكوك في الرتبة السابقة ، ويكون رفعه في الرتبة اللاحقة رفع مسبوق الوجود رتبة لا زمانا ، فتدبر.

٢ ـ أقول : يا ليت أمثال هذه البيانات بتوقيع أو وحى! إذ لو كان المراد من الرفع التشريعي تشريع رفع

٣٤٢

الرفع التشريعي كالنفي التشريع ليس إخبارا عن أمر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لا ضرر ولا ضرار » وكقوله عليه‌السلام « لا شك لكثير الشك » ونحو ذلك مما يكون متلو النفي أمرا ثابتا في الخارج.

وبالجملة : ما ورد في الأخبار مما سيق في هذا المساق سواء كان بلسان الرفع أو الدفع أو النفي إنما يكون في مقام تشريع الأحكام وإنشائها ، لا في مقام الإخبار عن رفع المذكورات أو نفيها حتى يحتاج إلى التقدير ، وسيأتي معنى الرفع التشريعي ونتيجته.

والغرض في المقام مجرد بيان أن دلالة الاقتضاء لا تقتضي تقديرا في الكلام حتى يبحث عما هو المقدر.

لا أقول : إن الرفع التشريعي تعلق بنفس المذكورات (١) فان المذكورات في الحديث غير « ما لا يعلمون » لا تقبل الرفع التشريعي ، لأنها من الأمور التكوينية الخارجية ، بل رفع المذكورات تشريعا إنما يكون برفع آثارها الشرعية ـ على ما سيأتي بيانه ـ ولكن ذلك لا ربط له بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية والكذب ، بل ذلك لأجل أن رفع المذكورات في عالم التشريع هو رفع ما يترتب عليها من الآثار والأحكام الشرعية ، كما أن معنى « نفي الضرر » هو نفي الأحكام الضررية ، فتأمل جيّداً.

________________________

هذه الأمور حقيقة فهو غلط ، وإن كان العرض جعل الشارع رفعها تنزيلا فهو يناسب مع الإخبارية أيضا ، وإن كان الغرض عدم جعلها في موارد أحكامه وتشريعاته فهو رفع حقيقي لهذه الأمور في دائرة أحكامه لا مطلقا ، فلا يخرج هذا الرفع أيضا عن التكوين ، غايته في مورد خاص ، إذ مرجع هذا المعنى إلى رفع الخطاء حقيقة في الشرعيات ، وهكذا ، فهو عين الرفع الحقيقي لها ، غاية الأمر لا مطلقا ، وهذا المعنى أيضا قابل للإخبارية ، فلا يبقى في البين إلا توهم تشريع الرفع بجعله غير ما ذكرنا ، وعليه بشرحه ، وهذا الذي لا نفهم له معنى محصلا.

١ ـ أقول : لا مجال لهذا الكلام ، إذ مرجع الرفع التشريعي إلى رفع الأمور الواقعية في عالم التشريع ، ومرجع هذا الرفع إلى رفع أثره ، وهذا عين قابلية الأمور التكوينية للرفع التشريعي ، فلا معنى لقوله توضيحا لمرامه « لا أقول » إلى آخره ، خصوصا لا يفهم فرق بين الرفع التشريعي وبين رفع المذكورات تشريعا ، فتدبر.

٣٤٣

الأمر الثالث :

قيل : إن وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من « الموصول » في « ما لا يعلمون » الموضوع المشتبه ، لأن المراد من « الموصول » فيما استكرهوا وما اضطروا وما لا يطيقون ، هو الفعل الذي استكرهوا عليه أو اضطروا إليه أو لا يطيقونه ، فان هذه العناوين لا تعرض الأحكام الشرعية ، بل إنما تعرض الأفعال الخارجية ، ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد من « الموصول » في « ما لا يعلمون » أيضا الفعل الذي اشتبه عنوانه ، كالشرب الذي اشتبه كونه شرب التتن أو شرب الخمر ، فيختص الحديث المبارك بالشبهات الموضوعية ولا يعم الشبهات الحكمية ، مضافا إلى أنه لا جامع بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية بحيث يمكن أن يراد من « الموصول » معنى يعمها ، فان المرفوع في الشبهات الحكمية إنما هو نفس متعلق الجهل وما لا يعلمون ، وهو الحكم الشرعي (١) فاسناد الرفع إلى « الموصول » يكون من قبيل الإسناد إلى ما هو له ، لأن « الموصول » الذي تعلق الجهل به بنفسه قابل للوضع والرفع الشرعي. وأما الشبهات الموضوعية : فالذي تعلق الجهل به فيها أولا وبالذات إنما هو الموضوع الخارجي وبالتبع يتعلق بالحكم الشرعي ، والموضوع الخارجي بنفسه غير قابل للوضع والرفع الشرعي ، بل إسناد الرفع إليه يكون من قبيل الإسناد إلى غير ما هو له ، فمع قطع النظر عن وحدة السياق كان الأولى اختصاص الحديث

__________________

١ ـ أقول : محل البحث في أن متعلق الرفع في البقية أي شيء؟ وذلك لا ينافي مع كون المرفوع بالأخرة حكم شرعي ، فالاختلاف في المتعلق يوجب خلاف السياق. والأولى في الجواب أن يقال : إن المراد من « الموصول » ما كان معروض وصفه حقيقة ، والفعل في الشبهات الموضوعية ما تعلق عدم العلم بنفسه ـ كما اضطروا إليه ـ بل تعلق عدم العلم بعنوانه ، وهو أيضا خلاف ظهور السياق ، وحينئذ الأمر يدور بين حفظ السياق من هذه الجهة فيحمل على الحكم أو حفظ السياق من حيث إرادة الفعل من « الموصول » وارتكاب خلاف السياق من جهة أخرى ، والعرف يرجح الأول ، فيحمل على الحكم في « ما لا يعلمون » فقط.

٣٤٤

بالشبهات الحكمية ، إلا أن وحدة السياق تقتضي اختصاصه بالشبهات الموضوعية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما في هذا الكلام من الضعف ، فان المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنما هو الحكم الشرعي ، وإضافة الرفع في غير « ما لا يعلمون » إلى الأفعال الخارجية إنما هو لأجل أن الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنما يعرض الأفعال لا الأحكام ـ كما ذكر ـ وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي ، كما أن المرفوع في « ما لا يعلمون » أيضا هو الحكم الشرعي ، وهو المراد من « الموصول » والجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية.

ومجرد اختلاف منشأ الجهل ـ وأنه في الشبهات الحكمية إنما يكون إجمال النص أو فقده أو تعارض النصين وفي الشبهات الموضوعية يكون المنشأ اختلاط الأمور الخارجية ـ لا يقتضي الاختلاف فيما أسند الرفع إليه ، فان الرفع قد أسند إلى عنوان « ما لا يعلم » ولمكان أن الرفع التشريعي لابد وأن يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعي ، فالمرفوع إنما يكون هو الحكم الشرعي ، سواء في ذلك الشبهات الحكمية والموضوعية ، فكما أن قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » يعم كلا الشبهتين بجامع واحد ، كذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع عن أمتي تسعة أشياء » فتدبر.

الأمر الرابع :

قد عرفت : نتيجة الرفع في « ما لا يعلمون » وأنه بمعنى دفع مقتضيات الأحكام في تأثيرها لإيجاب الاحتياط ، من دون أن يمس الرفع فيه كرامة الحكم الواقعي بوجه من الوجوه من حيث الوجود والفعلية ، فلا نسخ ولا تصويب ولا صرف.

وأما النتيجة في غير « ما لا يعلمون » فبالنسبة إلى رفع الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ، سيأتي البحث عنه. وأما بالنسبة إلى الخمسة الاخر : من

٣٤٥

الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه ، فنتيجة الرفع فيها هي تخصيص الأحكام الواقعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجودها بما عدا عروض هذه الطوارى.

بيان ذلك : هو أن مقتضى عموم أدلة الأحكام الواقعية عدم دخل الخطأ والنسيان وغير ذلك من الطوارئ والحالات في ترتبها على موضوعاتها ، فان مقتضى عموم قوله تعالى « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » وقوله تعالى « الزانية والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة » هو ثبوت القطع والجلد على من أكره على السرقة والزنا أو اضطر إليهما. ومقتضى الجمع بين تلك الأدلة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان الخ » هو اختصاص الأحكام بغير صورة عروض ذلك ، فلا قطع ولا جلد على من أكره على السرقة والزنا ، وقد عرفت : أن الرفع في الحديث المبارك بمعنى الدفع ، فيكون حاصل المعنى : هو « أن مقتضيات الأحكام الواقعية وإن كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للخطأ والنسيان في ذلك ، إلا أن الشارع دفع تلك المقتضيات عن تأثيرها في ترتب الحكم على الموضوع الذي عرض عليه الخطأ والنسيان والإكراه ونحو ذلك » فلا حكم مع عروض هذه الحالات ، فتكون النتيجة تخصيص الإحكام الواقعية بالموارد التي لم تطرء عليها هذه الطوارئ.

والذي يدل على أن مقتضيات الأحكام الواقعية كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للإكراه ونحوه في ذلك ، هو أن سياق « حديث الرفع » يقتضي كون الرفع للامتنان والتوسعة على العباد ، فلولا ثبوت المقتضى في الموارد التي تعرض عليها هذه الطوارئ والحالات لم يكن موقع للامتنان ، كما لا يخفى.

وتوهم : أن النسبة بين كل واحد من أدلة الأحكام مع كل واحد من العناوين الخمسة العموم والخصوص من وجه ، فان ما دل على وجوب الجلد في

٣٤٦

الزنا وإن كان يعم صورة الإكراه عليه وعدمه إلا أنه يختص بخصوص الزنا ، كما أن ما دل على رفع الإكراه وإن كان يختص بالإكراه إلا أنه يعم الإكراه على الزنا وغيره ، فلا وجه لتقديم ما دل على رفع الإكراه على ما دل على وجوب الجلد على الزاني.

فاسد ، فان « حديث الرفع » يكون حاكما على أدلة الأحكام ، فلا تلاحظ النسبة بينهما ، كما لا تلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام وبين ما دل على نفي الضرر والعسر والحرج. ولا فرق بين أدلة نفي الضرر والعسر والحرج وبين دليل رفع الاضطرار والإكراه ونحو ذلك ، سوا أن الحكومة في أدلة نفي الضرر والعسر والحرج إنما تكون باعتبار عقد الحمل حيث إن الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارية على نفس الأحكام فان الحكم قد يكون ضرريا أو حرجيا وقد لا يكون ـ كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله ـ وفي دليل رفع الإكراه والاضطرار وغير ذلك إنما تكون باعتبار عقد الوضع ، فإنه لا يمكن طرو الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام ، بل إنما تعرض موضوعاتها ومتعلقاتها ، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام ، نظير قوله عليه‌السلام « لا شك لكثير الشك » و « لا سهو مع حفظ الإمام » ونحو ذلك مما يكون أحد الدليلين متكفلا لما أريد من عقد وضع الآخر ، وسيأتي في محله : أنه لا تلاحظ النسبة بين دليل الحاكم والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل دليل الحاكم يقدم على دليل المحكوم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه أو كان دليل المحكوم في المفاد أظهر من دليل الحاكم ، ونتيجة كل حكومة هي التخصيص ، فلا ينبغي التأمل في حكومة « حديث الرفع » على أدلة الأحكام ، وتكون النتيجة تخصيص الأحكام بما عدا عروض العناوين الخمسة على موضوعات الأحكام ومتعلقاتها ، فتأمل جيّداً.

* * *

٣٤٧

الأمر الخامس :

في بيان عموم النتيجة وأن المرفوع في هذه الموارد هل هو جميع الآثار والإحكام المترتبة على الموضوعات؟ أو بعض الآثار؟ وهو من أهم الأمور التي ينبغي البحث عنها في « حديث الرفع » وقبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على أمرين :

الأوّل : انه يعتبر في التمسك بحديث الرفع أمور :

الأول : أن يكون الأثر الذي يراد رفعه من الآثار الشرعية التي أمر وضعها ورفعها بيد الشارع ، لا من الآثار العقلية التي ليس أمر وضعها ورفعها بيد الشارع.

الثاني : أن يكون في رفعة منة وتوسعة على العباد ، فالأثر الذي يلزم من رفعه التضييق عليهم لا يندرج في عموم الحديث.

الثالث : أن يكون الأثر بحسب جعله الأولى مترتبا على الموضوع لا بشرط عن طرو العناوين المذكورة في الحديث ، أي لم يعتبر في موضوع الأثر عنوان الخطأ والنسيان ونحو ذلك ، وإلا لم يكن مرفوعا بحديث الرفع ، فان عنوان الموضوع يقتضي وضع الأثر لا رفعه ، فلو فرض أنه قد اخذ في موضوع بعض الآثار عنوان خصوص الإكراه أو خصوص الاضطرار أو غير ذلك من أحد العناوين الخمسة كان ذلك الأثر خارجا عن عموم « حديث الرفع » فهذه الأمور الثلاثة مما لابد منها في صحة التمسك بحديث الرفع ، والسر في اعتبارها واضح.

الثاني : إن الرفع التشريعي للشئ عبارة عن خلو صفحة التشريع عنه ، وإن كان صفحة التكوين مشغولة به ، لعدم المنافاة بين الرفع التشريعي والثبوت التكويني ، من غير فرق بين تعلق الرفع بالحكم الشرعي ابتداء أو بالموضوع الخارجي إذا كان الموضوع ذا حكم شرعي ، فان رفع الموضوع في عالم

٣٤٨

التشريع عبارة من رفع حكمه لا بتقدير في الكلام ، بل معنى رفع الموضوع شرعا هو ذلك (١).

فمفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان » ـ بحسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ أولا ـ هو رفع نفس الخطأ والنسيان وتنزيل الصفتين منزلة العدم ، فكأنه لم يقع الخطأ والنسيان خارجا ، ومعنى عدم وقوع الخطأ والنسيان ، هو أن الفعل الصادر على أحد الوجهين كأن لم يصدر على هذا الوجه.

وهذا المعنى بظاهره فاسد ، فإنه يلزم على هذا ترتيب آثار العمد على الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان ، وذلك ينافي الامتنان والتوسعة ، فلابد وأن يكون المراد من رفع الخطأ والنسيان رفع الفعل الصادر عن ذلك ، يعنى جعل الفعل كالعدم وكأنه لم يصدر عن الشخص ولم يقع ، لا أن الفعل وقع وحيثية صدوره عن خطأ أو نسيان لم يكن ، ليلزم ترتيب آثار الصدور عن عمد عليه حتى ينافي الامتنان ، بل لابد من أن يكون مفاد رفع الخطأ والنسيان رفع أصل الفعل الواقع عن نسيان أو خطأ ، فتوافق مفاد رفع الخطأ والنسيان مع مفاد رفع ما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه ، فان المرفوع في هذه الأمور الثلاثة هو الفعل الذي وقع عن إكراه أو عن اضطرار إليه أو ما لا طاقة عليه ، لا رفع صفة الإكراه والاضطرار. ومقتضى وحدة السياق والمفاد هو أن يكون المرفوع في الخطأ والنسيان ذلك ، وقد عرفت : أن رفع الفعل تشريعا إنّما يكون

________________________

١ ـ أقول : رفع ذات الموضوع لا بوصف موضوعيته إذا كان مرجعه إلى خلو صفحة التشريع عنه ، فمرجعه إلى خلو صفحة التشريع عن هذا الذات ، ومآله إلى خلو خطاباته عن هذه الأفعال واختصاصها بغيرها ، وهذا عين رفع نفسها تكوينا في طي أحكامه وخطاباته لا مطلقا ، وهذا عين المعنى الثالث الذي أشرنا إليه في الحاشية السابقة وقابل للإخبارية أيضا. ولكن الأولى منه الالتزام بالمعنى الثاني : من جعل الرفع في المذكورات تنزيليا بلحاظ رفع آثاره. ويمكن حمل كلامه من الرفع التشريعي على ذلك ، تبديل المقرر البيان المعروف من الرفع الادعائي إلى الرفع في عالم التشريع ليس إلا إخفاء الأمر على الأذهان ، وهو نوع من تبعيد المسافة.

٣٤٩

بلحاظ رفع الآثار والأحكام ، فيقع الكلام حينئذ في أن المرفوع عموم الآثار أو بعضها؟ (١)

________________________

١ ـ أقول : ينبغي في شرح هذا المرام أن يقال : إنه بعد اختصاص « حديث الرفع » بما في وضعه خلاف الامتنان على الأمة لا رفع أثره مطلقا ـ إذ لا امتنان في رفع ما لا يكون في وضعه خلاف امتنان عليهم بل لو فرض الامتنان فيه فالمتيقن من « الحديث » رفع هذا المقدار لا كل رفع فيه امتنان وإن لم يكن في وضعه خلاف امتنان ـ فكان « حديث الرفع » من هذه الجهة نظير « لا ضرر » الغير الشامل للمقدم ، مع أن نفي الحكم عنه منة عليه أيضا ، فالخبر لا يكاد يشمل الخطأ والنسيان عن تقصيره وتمكنه من حفظه. نعم : لو بلغ حفظ تمكنه عن الوقوع في الأمور المزبورة إلى حد الحرج ربما يشمله « الحديث » إذ في وضعه عليه أيضا خلاف الامتنان عليه ، ولذا يشمله عموم « لا حرج » أيضا.

ومن هنا ظهر الحال في « ما لا يطيقون » حرفا بحرف ، كما أن الاضطرار في التكليفيات لا اختصاص في رفعه بصورة التمكن عن حفظه ، إذ مع قصوره العقل لا يأبى عن فعلية التكليف واستحقاقه العقوبة ، ولذا كان وضع التكليف في مورده خلاف الامتنان في حقه ، فيشمله « الحديث » بخلاف العناوين السابقة ، إذ مع قصورها يأبى العقل عن استحقاق العقوبة في موردها ، فلا يكون التكليف في وضعه خلاف امتنان ، وإنما يختص ذلك بصورة خاصة ، كما أشرنا.

وأما في الوضعيات : فالظاهر أن رفع تأثير المعاملة عن المضطر إليها ولو قصورا خلاف امتنان في حقه ، لأن في وضعه كمال الامتنان عليه ، وعمدة النكتة فيه : أن في المعاملات المضطر بها الاضطرار دعاه إلى المعاملة ، فأثر المعاملة بالواسطة تنسب إلى الاضطرار الذي هو مقتضيه ، فيكون من الموارد التي يترتب الأثر على نفس العنوان باقتضائه و « حديث الرفع » أجنبي عن مثلها ، وهذا بخلاف موارد الاضطرار على مخالفة التكليف ، كما لا يخفى.

وأما المكره عليه : ففي التكليفيات لا مجال للأخذ باطلاق رفع الإكراه ، كيف! ولو أكره على الزنا بتوعيده على أخذ مال قليل منه لا يكون ضرره حرجيا عليه ـ كالقران أو أقل منه ـ لم يلتزم أحد بجواز ارتكاب الزنا أو اللواط أو شرب الخمر ، وهكذا لو كان توعيده بأمر مهم ولكن كان متمكنا عن دفعه بوجه يكره عليه إقدامه بلا حرج ، فان هذا المقدار يكفي للحكم بفساد المعاملة لكونه مكرها ، ومع ذا لا يكفي في التكليفيات جزما. نعم : لا بأس بالاكتفاء بمطلق صدق الإكراه في المعاملات لأن في وضعه خلاف امتنان عليه.

لا يقال : إن في المقام أيضا الإكراه دعاه إلى المعاملة ، فأثر المعاملة يحسب لعنوانه.

فإنه يقال : فرق بينه وبين الاضطرار ، فان في الاضطرار كان الاضطرار مقتضيا لتحصيل مال لمعاش عياله ، ولا يكون ذلك إلا بصحة المعاملة ، وفي الإكراه ليس الأمر كذلك ، بل هو مقتضى لعدم ترتب الأثر ، لأنه مقتضى للطيب الذي هو من أجزاء المقتضى للصحة أو شرائطه ، فيخرج مثل هذا الأثر من الآثار التي يكون العناوين المزبورة مقتضيا لها. وما هو مورد انصراف « حديث الرفع » مثل هذه الآثار ، لا كل أثر ينسب إلى نفسه ، ولو كان مفنيا لمقتضيه أو شرطه ، وذلك أيضا عمدة النكتة الفارقة بين الإكراه والإضطرار.

٣٥٠

فنقول : الأحكام المترتبة على أفعال العباد ، إما أن تكون وضعية ـ كما في باب العقود والإيقاعات والطهارة والنجاسة وأمثال ذلك ـ وإما أن تكون تكليفية ، وهي إما أن تكون مترتبة على الفعل بلحاظ صرف الوجود بحيث لا يكون لوجوده الثاني ذلك الأثر ، وإما أن تكون مترتبة عليه بلحاظ مطلق الوجود بحيث كلما وجد الفعل كان الأثر مترتبا عليه.

ثم إن معروض الحكم والأثر ، إما أن يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أن الفاعل يكون هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر حيث إن خطاب « لا تشرب » متوجه إلى شخص الشارب ، وإما أن يكون الفعل الصادر عن الفاعل علة لتوجه حكم إلى غير الفاعل ، كوجوب إقامة الحد على من شرب الخمر ، حيث إن شرب الخمر من شخص يكون علة لتوجه خطاب « إقامة

__________________

ولئن شئت قلت : إن الاضطرار مرفوع في خصوص التكليفيات ما لم يكن حفظه حرجيا ولا يشمل المعاملات أبدا ، والإكراه عليه مختص بالمعاملات ولا يشمل التكاليف أصلا. نعم : إذا بلغ بحد الحرج في ترك ارتكاب المكره عليه كان الأثر أيضا مرفوعا ، لكن ذلك أيضا من جهة الحرج لا الإكراه ، ولئن شئت فسمه الإكراه أيضا ، ولكن لا إطلاق فيه ، كما أشرنا.

ثم أن الأثر المرفوع في المكره ليس إلا صحة المعاملة لا الأحكام التكليفية المترتبة على الصحة ، إذ هي أيضا خلاف امتنان في حق المشترى ، لانتهائه إلى كونه مالكا بلا سلطنة ، بخلاف المرفوع في البقية ، فان المرفوع فيها نفس التكليف الواقعي المستتبع لنفي ايجاب التحفظ الواصل إلى حد الحرج المستتبع لنفي استحقاق العقوبة على مخالفتها.

ثم إن في رفع التكليف في باب الاضطرار وغيره لا فرق بين كون التكليف متعلقا بالوجود أو العدم وبين كون الاضطرار متعلقا بالوجود أو العدم ، إذ مرجع الجميع إلى رفع التكليف عما اضطر على خلاف مقتضاه نفيا أو إثباتا ، وسيجيء توضيح المقال في الحاشية الآتية.

وأما في « ما لا يعلمون » فالمرفوع فيه ما كان في ظرف الجهل ، وليس هو إلا ايجاب الاحتياط ، ولا مجال في المقام لتعلق الرفع بنفس التكليف الواقعي ، حتى في صورة الانفتاح ، إذ لا يكون ما في وضعه عليه خلاف امتنان ، فله إبقاء حكم عقله بالاحتياط أو الفحص ، فرفع هذا الحكم بقلب موضوعه ، حيث إنه تعليقي ، ولا يحتاج رفعه برفع نفس التكليف الواقعي ، كما أنه في القاصر كان المرفوع ايجاب احتياطه شرعا بلا رفع التكليف الواقعي إلا عناية وتنزيلا. ونتيجة جميع المرفوعات بالأخرة رفع المؤاخذة عما كان لولا « حديث الرفع » ولئن تتأمل فيما ذكرنا ترى ما في كلمات الماتن المقرر مواقع النظر ، فتدبر.

٣٥١

الحد » إلى الحاكم المقيم للحد. فهذه جملة الأحكام والآثار المترتبة على أفعال العباد.

فان كان الحكم من الأحكام التكليفية وكان مترتبا على الفعل بلحاظ مطلق الوجود وكان الفاعل هو المخاطب بالحكم ، فلا إشكال في سقوط الحكم إذا صدر الفعل عن إكراه أو اضطرار أو نسيان أو خطأ ، فان نتيجة رفع الفعل الصادر على هذا الوجه في عالم التشريع هو ذلك ، فمن شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لم يكن فعله حراما شرعا ، ولا يخرج بذلك عن العدالة لو كان واجدا لها قبل الشرب ، لأن الشرب عن إكراه كالعدم ، والحكم تابع لموضوعه ، فرفع الموضوع يقتضي رفع الحكم ، فلا حرمة ، وهو واضح.

وإن كان الأثر مترتبا على الفعل بلحاظ صرف الوجود ، فان أكره المكلف على الفعل أو اضطر إليه ، فهذا يختلف حسب اختلاف الآثار ، فقد يكون الأثر من الآثار التي لا تقتضي المنة رفعه ، كمن نذر أن يكرم عالما فأكره على الإكرام أو اضطر إليه ، فإنه لا يصح أن يكون الإكراه المكره عليه مشمولا لحديث الرفع ، لأن فرض الإكرام كالعدم وجعله كأن لم يكن يقتضي عدم تحقق الامتثال ووجوب الإكرام عليه ثانيا ، وذلك ينافي الامتنان. وقد يكون الأثر من الآثار التي تقتضي المنة رفعه ، كما لو نذر المكلف أن لا يكرم شخصا خاصا أو لا يشرب ماء الدجلة فأكره على الإكرام أو الشرب ، فان رفع ما يترتب على الإكرام والشرب من الحنث والكفارة يوافق المنة ، فيصح أن يقال : إن الإكرام كذلك إكرام وجعله كالعدم لرفع ما يترتب عليه من الحنث والكفارة.

وإن أكره المكلف على الترك أو اضطر إليه أو نسى الفعل : ففي شمول « حديث الرفع » لذلك إشكال ، مثلا لو نذر أن يشرب من ماء الدجلة فأكره على العدم أو اضطر إليه أو نسى أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة عليه لو لم تكن أدلة وجوب الكفارة مختصة بصورة تعمد الحنث ومخالفة النذر

٣٥٢

عن إرادة والتفات ، فان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأن تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنما يكون وضعا لا رفعا ، والمفروض أن المكلف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع ، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعا وجعله كالشرب ، حتى يقال : إنه لم يتحقق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة.

والحاصل : أنه فرق بين الوضع والرفع ، فان الوضع يتوجه على المعدوم فيجعله موجودا ويلزمه ترتيب آثار الوجود على الموضوع ، والرفع يتوجه على الموجود فيجعله معدوما ويلزمه ترتيب آثار العدم على المرفوع ، فالفعل الصادر من المكلف عن نسيان أو إكراه يمكن ورود الرفع عليه وجعله كأن لم يصدر ، فلا يترتب عليه آثار الوجود إن كان موافقا للتوسعة والامتنان ، وأما الفعل الذي لم يصدر من المكلف وكان تاركا له عن النسيان وإكراه فلا محل للرفع فيه (١) لأن رفع المعدوم لا يمكن إلا بالوضع والجعل ، و « حديث الرفع » لا يتكفل الوضع ، بل مفاده الرفع.

ومن هنا يظهر : أنه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرايط لنسيان أو إكراه ونحو ذلك بحديث الرفع ، فإنه لا محل لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلا لخلو صفحة الوجود عنها ، مضافا إلى أن الأثر المترتب على السورة ليس هو إلا الإجزاء وصحة العبادة ، ومع الغض عن أن الإجزاء والصحة ليست من الآثار الشرعية التي تقبل الوضع والرفع لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحة ، فان ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة ، وهذا ينافي الامتنان وينتج عكس المقصود ، فانّ

__________________

١ ـ أقول : لنا مجال السؤال بنذر شرب أحد المايعين إجمالا واضطر بترك أحد الطرفين معيّناً أو غير معين ، فهل أحد في البين يلتزم بلزوم امتثال الطرفين؟ ما أظن التزامك به أيضا ، بل تلتزم بالتكليف التوسطي ، وهل هذا من غير جهة الإضطرار؟

٣٥٣

المقصود من التمسك بحديث الرفع تصحيح العبادة لا فسادها ، فنفس الجزء أو الشرط المنسى موضوعا وأثرا لا يشمله « حديث الرفع » ولا يمكن التشبث به لتصحيح العبادة.

وأمّا بالنسبة إلى المركب الفاقد للجزء أو الشرط المنسى : فهو وإن كان أمرا وجوديا قابلا لتوجه الرفع إليه ، إلا أنه أولا : ليس هو المنسى أو المكره عليه ليتوجه الرفع إليه ، وثانيا : لا فائدة في رفعه ، لأن رفع المركب الفاقد للجزء أو الشرط لا يثبت المركب الواجد له ، فان ذلك يكون وضعا لا رفعا ، وليس للمركب الفاقد للجزء أو الشرط أثر يصح رفع المركب بلحاظه ، فان الصلاة بلا سورة مثلا لا يترتب عليها أثر إلا الفساد وعدم الإجزاء وهو غير قابل للرفع الشرعي.

ومن ذلك يظهر فساد ما قيل : من أن المرفوع في حال النسيان إنما هو جزيئة المنسى للمركب ، وما أشكل عليه : من أن الجزئية لا تقبل الجعل فلا تقبل الرفع ، وما أجيب عن ذلك : من أن الجزئية مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها فتقبل الرفع برفع منشأ الانتزاع.

فان ذلك كله خروج عن مفروض الكلام ولا ربط له بالمقام ، لأن جزئية الجزء لم تكن منسية وإلا كان ذلك من نسيان الحكم ، ومحل الكلام إنما هو نسيان الموضوع ونسيان قراءة السورة مثلا ، فلم يتعلق النسيان بالجزئية حتى يستشكل بأن الجزئية غير مجعولة فيجاب بأنها مجعولة بجعل منشأ الإنتزاع.

والحاصل : أن الإشكال في شمول « حديث الرفع » للجزء المنسى ليس من جهة عدم قابلية الجزء للرفع الشرعي ، إذ لا إشكال في أنه عند الشك في جزئية شيء للمركب أو شرطيته تجرى فيه البراءة الشرعية ويندرج في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » بل الإشكال إنما هو من جهة أنه عند ترك الجزء نسيانا مع العلم والالتفات بجزئيته ليس في البين ما يرد الرفع الشرعي عليه من حيث الموضوع والأثر ، فلا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط بمثل « حديث الرفع » بل لابد من التماس دليل آخر على

٣٥٤

الصحة ، وهو في الصلاة قوله عليه‌السلام « لا تعاد الصلاة إلا عن خمس ».

وعلى ذلك يبتني جملة من القواعد التي تسالم عليها الأصحاب في باب الخلل الواقع في الصلاة ، من جملتها : أنه لو كان المنسى من الأركان فما لم يدخل المصلى في ركن آخر يجب عليه العود لتدارك الركن المنسى ومع الدخول في ركن آخر تبطل الصلاة ، بخلاف ما إذا كان المنسى من غير الأركان ، فإنه لا تبطل الصلاة بنسيانه وإن دخل في ركن آخر ، بل إن كان الجزء من الأجزاء التي يجب قضائها بعد الصلاة يقضى ، وإلا فلا شيء عليه إلا سجدتا السهو ، ونحو ذلك من الفروع والقواعد التي تستفاد من « حديث لا تعاد » وقد استقصينا الكلام فيها في « رسالة الخلل ».

ولو كان المدرك في صحة الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط نسيانا « حديث الرفع » كان اللازم صحة الصلاة بمجرد نسيان الجزء أو الشرط مطلقا من غير فرق بين الأركان وغيرها ، فإنه لا يمكن استفادة التفصيل من « حديث الرفع ». ويؤيد ذلك : أنه لم يعهد من الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها من ساير المركبات.

هذا إذا كان النسيان مستوعبا في تمام الوقت المضروب للمركب ، وأما في النسيان الغير المستوعب فالأمر فيه أوضح ، فإنه لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت مع التذكر في بقية الوقت ، لأن المأمور به هو الفرد الكلي الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ولو في جزء من الوقت الذي يسع فعل المأمور به ، فمع التذكر في أثناء الوقت يجب الإتيان بالمأمور به لبقاء وقته ـ لو كان المدرك حديث الرفع ـ لأن المأتى به الفاقد للجزء أو الشرط لا ينطبق على المأمور به ، فلو لا « حديث لا تعاد » كان اللازم هو إعادة الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا مع التذكر في أثناء الوقت.

فتحصل مما ذكرنا : أنه في كل مورد مست الحاجة إلى تنزيل الفاقد منزلة الواجد لابد من التماس دليل آخر غير « حديث الرفع » كما أنه في كل

٣٥٥

مورد مسّت الحاجة إلى تنزيل الواجد منزلة الفاقد يتمسك لذلك بحديث الرفع (١) ومن هنا يمكن أن يفرق بين الأجزاء والشرائط وبين الموانع وأنه في صورة ايجاد المانع نسيانا يصح التمسك بحديث الرفع إذا كان النسيان مستوعبا لتمام الوقت ، فتأمل جيدا.

هذا كله في الأحكام التكليفية. وأما الأحكام الوضعية ـ كالعقود والايقاعات والطهارة والنجاسة ـ فالكلام فيها تارة : يقع في الأسباب : الايجاب والقبول مثلا ، وأخرى : في المسببات ، وثالثة : في الآثار والأحكام المترتبة على المسببات.

أما الأسباب : فمجمل الكلام فيها ، هو أن وقوع النسيان والإكراه أو الاضطرار في ناحية الأسباب لا تقتضي تأثيرها في المسبب ولا تندرج في « حديث الرفع » لما تقدم في باب الأجزاء والشرائط : من أن « حديث الرفع » لا يتكفل تنزيل الفاقد منزلة الواجد ولا يثبت أمرا لم يكن ، فلو اضطر إلى ايقاع

________________________

١ ـ أقول : المستفاد من الرفع ما اضطروا إليه إذا كان بقوله رفعه تشريعيا ـ ومعنى رفعه التشريعي خلو صفحة التشريع عنه ـ مرجعه إلى عدم تشريع الحكم له أو عدم أخذه موضوعا لحكمه ، لا أن مرجعه إلى قلب الوجود بعدم ذاته ، أو قلب العدم بوجود ذاته ، بل غاية اقتضائه قلب أخذ في طي التشريع بعدم أخذه ، وفي هذا المعنى لا فرق بين كون الموضوع فعلا أو تركا وأن المضطر إليه فعل أو ترك ، إذ كما أن رفع الوجود تشريعا يرجع إلى خلو صفحة التشريع عن هذا الوجود ، كذلك رفع العدم تشريعا إلى خلو صفحة التشريع عن هذا العدم ، ومآله إلى رفع الحكم المترتب على هذا العدم ، لا جعله وجودا ، كي يرجع إلى وضع شيء لا يناسب رفعه.

ولذا لم يتوهم أحد مسألة الاضطرار بترك أحد طرفي العلم ـ خصوصا إذا كان معينا ـ بوجوب الإتيان بكل الطرفين تحصيلا للموافقة القطعية.

وحينئذ فلا قصور في شمول « الحديث » للسورة المنسية ، ومرجعه إلى إخراجها عن الجزئية لا جعلها بمنزلة الوجود ، إذ معنى خلو صفحة التشريع عنه هو الأول لا الثاني. نعم : هذا المقدار لو كان مستوعبا في الوقت لا يقتضي الإجزاء إذ معنى رفعه ما دام النسيان عدم كونه تحت التكليف الذي هو منشأ انتزاع الجزئية ما دام النسيان ، وأما كونه واجدا لمصلحة الواقع فلا ، فإنه لا يكون تحت الرفع تشريعا ، إذ ليس أمر رفعه ووضعه بيد الشرع ، وحينئذ فالمصلحة المقتضية للجزئية باقية ، فبعد رفع النسيان يؤثر المصلحة في خارج الوقت أثره ، كما لو لم يكن في البين « حديث الرفع » وهذا نكتة عدم تشبثهم بمثل « حديث الرفع » لتصحيح المنسيات جزءا أو شرطا أو مانعاً ، فتدبر.

٣٥٦

العقد بالفارسية أو أكره عليه أو نسى العربية كان العقد باطلا بناء على اشتراط العربية في العقد ، فان رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي (١) وليس للعقد الفارسي أثر يصح رفعه بلحاظ رفع أثره ، وشرطية العربية ليست هي المنسية حتى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطية.

وأما المسببات : فهي على قسمين : فإنها تارة : تكون من الأمور الاعتبارية ليس لها ما بحذاء في وعاء العين ، بل وعائها وعاء الاعتبار ـ كالملكية والزوجية والرقية ونحو ذلك من الوضعيات الاعتبارية التي أمضاها الشارع ـ وأخرى : تكون من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ـ كالطهارة والنجاسة الخبثية ـ على احتمال قواه الشيخ قدس‌سره وإن ضعفناه نحن في محله ، ويأتي بيانه في مبحث الاستصحاب.

أمّا القسم الأوّل : فهو بنفسه مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، على ما هو الحق عندنا : من أن هذا القسم من الأحكام الوضعية يستقل بالجعل وليس منتزعا من الأحكام التكليفية ، فلو فرض أنه أمكن أن يقع المسبب عن إكراه ونحوه كان للتمسك بحديث الرفع مجال (٢) فينزل المسبب منزلة العدم وكأنه لم

________________________

١ ـ أقول : قد أشرنا ـ في الحاشية السابقة ـ أن مرجع رفع المضطر إليه إذا كان من التروك خلو صفحة التشريع عن مثله ، ومآله إلى خروج هذا الترك عن حيز تشريع الجاعلية ، ولازم تطبيقه على عدم العربية الموجبة لتشريع الفساد به ـ بملاحظة دخل نقيضه في الصحة هو أن هذا العدم ما شرع في مورد الفساد الملازم لعدم كون نقيضه دخيلا في الصحة ، لا أن مفاد رفعه جعله منزلة الوجود كي يرد عليه ما أفيد ، وحينئذ ليس وجه عدم جريانهم مثل « حديث الرفع » بجميع فقراته في أبواب المعاملات حتى في فرض الاضطرار بايجاد المانع الغير الجاري فيه هذا التقريب باعترافه ، بل عمدة الوجه في أن قضية نفي الشرطية أو غيره في المعاملة ايجاب الوفاء بالفاقد ، وهو خلاف الامتنان في حق المكلف.

ولذا نفرق بين شرائط الوجوب وشرائط الواجب وأن « الحديث » مختص بالثاني دون الأول ، لما عرفت : من أن لازم نفي شرط الوجوب إثبات الوجوب على المكلف على خلاف امتنانه ، كما لا يخفى ، فتدبر.

٢ ـ أقول : هذا التقريب بعينه يجئ في الاضطرار ، ولم يلتزم أحد فيه فساد المعاملة ، فلابد من بيان فارق بينهما ، كما شرحناه في الحاشية السابقة.

٣٥٧

يقع ؛ ويلزمه عدم ترتيب الآثار المترتبة على المسبب : من حلية الأكل وجواز التصرف في باب العقود والايقاعات.

لا أقول : إن الرفع تعلق بالآثار ، بل تعلق بنفس المسبب ، لأنه بنفسه مما تناله يد الرفع ، ولكن رفعه يقتضي رفع الآثار ، لارتفاع العرض بارتفاع موضوعه ، ولكن فرض وقوع المسبب عن إكراه ونحوه في غاية الإشكال (١) فان الإكراه إنما يتعلق بايجاد الأسباب ، وقد ذكرنا في « كتاب البيع » ما قيل وما يمكن أن يقال في المقام.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان المسبب من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ـ كالطهارة والنجاسة ـ فهو مما لا تناله يد الرفع والوضع التشريعي (٢) لأنه من الأمور التكوينية وهي تدور مدار وجودها التكويني متى تحققت ووجدت ، لا تقبل الرفع التشريعي ، بل رفعها لابد وأن يكون من سنخ وضعها تكوينا. نعم : يصح أن يتعلق الرفع التشريعي بها بلحاظ ما رتب عليها من الآثار الشرعية.

ولا يتوهم : أن لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من أكره على الجنابة أو عدم وجوب التطهير على من أكره على النجاسة ، بدعوى : أن الجنابة المكره عليها وإن لم تقبل الرفع التشريعي إلا أنها باعتبار ما لها من الأثر ـ وهو الغسل ـ قابلة للرفع ، فان الغسل والتطهير أمران وجوديان قد أمر الشارع بهما

________________________

١ ـ أقول : لا بأس به بناء على ما هو التحقيق : من أن الأمر بالمسبب لا يرجع إلى السبب ، كما بيناه في محله.

٢ ـ أقول : إذا كان معنى الرفع التشريعي ما أفاده سابقا : من خلو صفحة التشريع عنه ، فلا مانع من تعلقه بالأمور الواقعية التكوينية ، غاية الأمر نتيجة رفعه تشريعا رفع أثره الشرعي ، كما لا يخفى. ومن هنا ظهر : أنه لا يبقى مجال لقوله : « نعم » بعد هذا الكلام ، إذ لا معنى للرفع التشريعي إلا هذا المعنى ، وحينئذ أي شيء منفى غير ما أثبت هنا؟.

٣٥٨

عقيب الجنابة والنجاسة مطلقا ، من غير فرق بين الجنابة والنجاسة الاختيارية وغيرها (١) فتأمل ، فان المقام يحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعه المجال ، والبحث عن ذلك وقع استطرادا.

والمقصود الأصلي بالبحث هو البحث عن مفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » فإنه هو المدرك في البراءة الشرعية ، وقد عرفت : أن الرفع في « ما لا يعلمون » يغاير الرفع في البقية ، فان الرفع في البقية رفع واقعي ينتج نتيجة التخصيص الواقعي ـ بالبيان المتقدم ـ والرفع في « ما لا يعلمون » رفع ظاهري ينتج عدم وجوب الاحتياط في موارد الشك والشبهات على ما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه ـ والغرض من إعادة الكلام فيه هو بيان ما يندرج في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » من الشبهات.

فنقول : المشكوك فيه تارة : يكون هو التكليف النفسي الاستقلالي ، كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكالشك في حرمة تصوير الصور المجردة من ذوات الأرواح. وأخرى : يكون هو التكليف الغير الاستقلالي ـ كالشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته أو مانعيته. وثالثة : يكون في

__________________

١ ـ أقول : ما أدرى جواب التوهم السابق أين صار؟ فان كان قوله « فان الغسل والتطهير أمران وجوديان » إلى قوله « فتأمل » جوابا فهو غلط ، فان الأمر في كل مورد يشمله « الحديث » باطلاق دليله شامل لصورة الاختيار والاضطرار ، وبالاضطرار أو الإكراه يرتفع ، فالأولى حينئذ : الالتزام بالإشكال ، ويلتزم بأنه في مورد الاضطرار على الجنابة ينتقل التكليف من الغسل إلى التيمم ، كما أن في مورد الاضطرار على ارتكاب النجس يرتفع وجوب الغسل أو حرمة شرب النجس ، بلا محذور فيه ولا احتياج إلى حوالة المقام ببسط الكلام فيه في مقام آخر.

ثم إن من العجب أن المقرر لم ما ثبت في الجواب عن توهمه بما أسسه من الأساس؟ بتوضيح أن وجوب الغسل في النجاسة وكذا وجوب الغسل في الجنابة من آثار الطهارة الخبثية والحدثية وإسناده إليها بالعرض والمجاز ، لأنهما من مقدمات الطهارة الملازم لرفع الجنابة والنجاسة ، وحينئذ فحديث الرفع لا يشملهما من حديث عنوان الإكراه على الجنابة والنجاسة ، وحينئذ لا يبقى في البين إلا عنوان ترك الطهارة حدثية أو خبثية ، و « حديث الرفع » باعترافه لا يشمل التروك.

٣٥٩

المحصّلات والأسباب العقلية أو العادية أو الشرعية الاختراعية أو الإمضائية ، كالشك في اعتبار الغسلة الثانية في التطهير من النجاسة الخبثية ، وكالشك في اعتبار أن يكون المسح ببلة الوضوء ـ بناء على أن تكون الغسلات والمسحات في باب الطهارة الخبثية والحدثية من المحصلات والأسباب لا أنها بنفسها وبما هي هي متعلقات التكليف ، وكالشك في اعتبار العربية والماضوية في العقد ونحو ذلك مما كان الشك فيما هو السبب والمحصل لمتعلق التكليف أو الوضع.

فان كان الشك في التكليف النفسي الاستقلالي ، فهذا هو المتيقن في اندراجه في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية ، وسواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية. وقد تقدم ضعف الإشكال في عموم « حديث الرفع » للشبهات الحكمية والموضوعية ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.

وإن كان الشك في التكليف الغير الاستقلالي ، فهذا هو المبحوث عنه في باب الأقل والأكثر الارتباطي ، وسيأتي البحث عنه بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، وأن الأقوى شمول « حديث الرفع » له.

وإن كان الشك في الأسباب والمحصلات ، فالأقوى : أنها بجميع أقسامها لا تجري فيها البراءة ولا يعمها « حديث الرفع » وإن حكى عن بعض الأعلام جريان البراءة في خصوص الأسباب الشرعية ، كالغسلات والمسحات في باب الطهارة الخبثية والحدثية ، بناء على أن تكون الغسلات والمسحات من الأسباب والمحصلات وأن المأمور به في باب الطهارة الخبثية هو إفراغ المحل عن القذارة الظاهرية فيكون الغسل سببا لذلك ، وفي باب الطهارة الحدثية هو تطهير الباطن عن القذارة المعنوية الحاصلة من الأحداث والغسلات والمسحات أسباب لذلك ، لا أن المأمور به نفس الغسلات والمسحات وتطهير الباطن حكمة للأمر بها ، وسيأتي البحث عن ذلك أيضا ( إن شاء الله تعالى ) في مبحث الإشتغال.

٣٦٠