فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

العقلائي الذي يصح الاعتماد عليه (١) لعدم الإحاطة بمناطاتها ، بخلاف الأمور والأحكام العادية والعرفية ، فان ملاكاتها بيد العرف يمكن قياس بعضها على بعض ، بخلاف الأحكام الشرعية فان مبنى الشرع على تفريق المجتمعات وجمع المتفرقات ، والعقل إنما يستقل بكفاية الامتثال الظني إذا كان حاصلا من سبب عقلائي لا يكثر خطأه ، فمع قطع النظر عن قيام الدليل القطعي على المنع عن القياس ما كان العقل يحكم بكفاية الامتثال الظني الحاصل من القياس بعد التفاته إلى كثرة خطأه.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في خروج الامتثال الظني الحاصل من القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد.

نعم : ينبغي الإشكال في صحة أصل المنع عن العمل بالقياس كلية مع قطع النظر عن دليل الانسداد مع أنه قد يصيب الواقع. وحل الإشكال انما يكون بأحد أمرين : إما الالتزام بأن الأحكام الواقعية مقيدة بما إذا لم يؤد إليها القياس ، فلا يكون الحكم الواقعي في مورد القياس على طبق ما أدى إليه القياس فيكون النهى عن العمل به من باب الموضوعية ، وإما الالتزام بالمفسدة السلوكية على عكس المصلحة السلوكية التي كانت في باب الطرق والأمارات ، فيكون النهى عنه لمكان أن في العمل بالقياس وسلوكه وأخذه طريقا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع ، فتأمّل.

* * *

________________________

١ ـ أقول : الأولى الاقتصار في الجواب بالجواب الأول من تعليقية حكمه ، وإلا فلو بنينا على منجزيته لا يفي هذا الجواب في دفعه ، لأن تمام المناط في نظر العقل هو قربه إلى الواقع لا جهة عقلائية ، وربما يكون الظن القياسي أقرب من غيره إلى الواقع ، كما لا يخفى. نعم : ربما يصير الالتفات إلى كثرة خطائه موجبا لعدم حصول الظن منه وأين ذلك ومحل البحث!

٣٢١

الأمر الرابع :

في الظن المانع والممنوع.

وفيه وجوه :

والأقوى : اعتبار الظن المانع دون الظن الممنوع ، فان حال الظن الممنوع حال الظن القياسي مما قام الدليل القطعي على المنع عنه وعدم اعتباره ، وهو الظن المانع ، فإنه مما تعمه نتيجة دليل الانسداد بلا مؤنة ، بخلاف الظن الممنوع ، حيث إن اندراجه في النتيجة يتوقف على خروج الظن المانع عنها ، فيكون حال الظن المانع والممنوع حال الأصل السببي والمسببي (١) وسيأتي في محله أن الأصل السببي يمنع عن جريان الأصل المسببي ، ولا يمكن العكس ، لأن اندراج الأصل السببي في عموم قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لا يحتاج إلى مؤنة ، بخلاف اندراج الأصل المسببي ، فان شمول خطاب « لا تنقض اليقين » له يتوقف على خروج الأصل السببي عن العموم ، ومن المقرر في محله : أنه إذا توقف شمول العام لفرد على خروج فرد آخر عنه فالعام لا يشمل ذلك الفرد ، لا أنه يشمله ويخرج ما يكون داخلا فيه بلا مؤنة ، فان العام إنما يشمل الأفراد التي تكون متساوية الأقدام بالنسبة إلى اندراجها تحت عنوان العام ، وسيأتي توضيح ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في محله ، والظن المانع والممنوع يكونان من هذا القبيل.

ودعوى : أنه لا يمكن حصول الظن بعدم حجية ظن آخر ، مخالفة

__________________

١ ـ أقول : الأولى بناء على تعليقية حكم العقل في باب الانسداد أن يقال : إن المقتضى في الظن الممنوع تعليقي وفي المانع تنجيزي ، إذ لا مانع عنه غير الظن الممنوع الذي لا يشمله الدليل باقتضائه إلا في ظرف عدم تأثير المقتضى في المانع ، وكل مورد كان من هذا القبيل يستحيل مانعيته ، لأنه دوري ، فمقتضى التنجيزي يؤثر أثره. وهذا التقريب أولى من تنظير المقام بباب الشك السببي والمسببي ، حيث هنا عموم دائر بين التخصيص ولا عموم في المقام ، كما لا يخفى.

٣٢٢

للوجدان لا ينبغي الالتفات إليها. وبما ذكرنا يظهر ضعف ما قيل في المقام ، فراجع.

خاتمة

يذكر فيها أمور :

ونحن نقتصر على الإشارة إليها ، لأنه قد تقدم جملة منها في المباحث السابقة ، وجملة منها لا تستحق إطالة الكلام فيها ، وإن كان الشيخ قدس‌سره قد أطنب البحث فيها.

الأوّل : في حجية الظن الحاصل من قول اللغوي في معاني الألفاظ الواردة في الروايات. وقد تقدم البحث عما قيل أو يمكن أن يقال في وجه ذلك.

الثاني : في حجية الظن بوثاقة الراوي الحاصل من توثيق أهل الرجال. وتقدم أن الأقوى اعتبار الظن بذلك ، لأنه يوجب حصول الوثوق بصدور الرواية ، ومعه لا حاجة إلى دعوى انسداد باب العلم غالبا بوثاقة الراوي من غير طريق إخبار أهل الرجال ولا يحصل من إخبارهم غالبا سوى الظن ، فلو لم يكن الظن حجة يلزم إهمال ما تضمنته الأخبار من الأحكام ، أو الرجوع إلى الأصول ، أو الاحتياط ، إلى آخر ما تقدم في مقدمات دليل الانسداد.

وهذه الدعوى وإن كانت في محلها ـ كما تقدم سابقا ـ إلا أنه لا يتوقف اعتبار الظن الحاصل من قول أهل الرجال عليها ، بل لو فرض انفتاح باب العلم بوثاقة الرواة كان الظن بالوثاقة أيضا حجة ، لأنه يوجب الوثوق بالصدور الذي هو المناط في حجية الروايات.

٣٢٣

الثالث : انسداد باب العلم في بعض موضوعات الأحكام لا يوجب اعتبار الظن فيه (١) فإنه لا يلزم من الرجوع إلى الأصول أو الاحتياط فيها محذور ، إلا إذا تولد من الظن فيها عنوان آخر كان هو الموضوع للحكم ك‍ « باب الضرر » فان الظن بتحقيق الضرر يلازم الخوف الذي هو الموضوع في الحقيقة ، بل قد يحصل الخوف من الشك أيضا.

الرابع : لا عبرة بالظن في باب الأصول والعقايد ، فإنه لابد فيها من تحصيل العلم ، وفي الموارد التي انسد فيها باب العلم يمكن الالتزام وعقد القلب بها على سبيل الإجمال ، بمعنى أنه يلتزم بالواقعيات على ما هي عليها. وقد أطال الشيخ قدس‌سره الكلام في هذا المقام بلا موجب.

وليكن هذا آخر ما أردنا ذكره من المباحث المتعلقة بالظن.

والحمد لله أولا وآخرا.

والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين

واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

________________________

١ ـ أقول : لا يخفى أن لازم مقالة القائل بالتبعيض في الاحتياط ومرجعية الظن في مقام الإسقاط : أن يلتزم في الموضوعات عند الاضطرار بغير المعين الأخذ بطرف المظنون لو كان ، لجريان تمام مقدماته فيه ، ولا أظن التزامه به ، وليس ذلك إلا من جهة منع تمامية المقدمة الرابعة في تعيين الظن في مقام إسقاط التكليف به ، ولعمري! أن ذلك من الشواهد على بطلان مسلك التبعيض في باب الانسداد ، علاوة عما ذكرنا : من أن لازم التعيين في الظن والترخيص في غيره مطلقا ـ كما هو ظاهر كلامه ـ سقوط العلم عن المنجزية رأسا ، مضافا إلى أن مقتضى محذور الخروج عن الدين ـ ولو لم يكن علم إجمالي ـ وجود منجز آخر في البين ، ومعه ينحل العلم الإجمالي رأسا ولا يبقى معه أثر ، وحينئذ كان لتعيين المنجز الآخر بالمقدمة الرابعة مجال.

وبهذا البيان أيضا قلنا ببطلان الاحتياط رأسا حتى تبعيضا ، كما لا يخفى ، فتدبر ، ولقد أشرنا إلى وجه التأمل في بعض الحواشي السابقة.

٣٢٤

المقام الثالث

في الشك

وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :

الأمر الأوّل :

ان الشك في الشيء قد يؤخذ موضوعا للحكم الواقعي كالشك في عدد ركعات الصلاة ، حيث إنه يوجب تبدل الحكم الواقعي إلى الركعات المنفصلة. وقد يؤخذ موضوعا لحكم ظاهري ، وهو المقصود بالبحث في المقام.

ومتعلق الشك قد يكون حكما جزئيا أو موضوعا خارجيا ، وقد يكون حكما كليا ـ على ما مر منا مرارا من بيان الفرق بين الحكم الجزئي والكلي ـ والغرض من البحث إنما هو بيان ما هو الوظيفة عند الشك في الحكم الكلي ، وقد يبحث عن الشك في الحكم الجزئي أو الموضوع الخارجي استطرادا.

والوظيفة المقررة لحال الشك هي الأصول العملية ، وهي على قسمين : منها : ما تختص بالشبهات الخارجية كأصالة الصحة وقاعدة الفراغ والتجاوز ومنها : ما تعم الشبهات الحكمية ، وعمدتها الأصول الأربعة ، وهي : الاستصحاب والتخيير والبرائة والاحتياط ، وقد تقدم في صدر الكتاب بيان مجاريها ، وإجماله : هو أنه إما أن يلاحظ الحالة السابقة للشك ، أولا. وعلى الثاني : إما أن يكون التكليف معلوما بفصله أو نوعه أو جنسه. أولا. وعلى

٣٢٥

الأوّل : إما أن يمكن فيه الاحتياط ، أولا. فالأول مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة.

الأمر الثاني :

ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره في المقام وفي مبحث « التعادل والتراجيح » أن الوجه في التنافي بين الأمارات والأصول العملية هو الوجه في التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وما هو المناط في الجمع بين الأمارات والأصول هو المناط في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

والتحقيق : أن التنافي بين الإمارات والأصول غير التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمع بين هذين ، فان التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري إنما كان لأجل اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة والوجوب والحرمة وغير ذلك من المحاذير الملاكية والخطابية المتقدمة ، وقد تقدم طريق الجمع بينهما ، وأين هذا من التنافي بين الأمارات والأصول؟ فإنه ليس في باب الأمارات حكم مجعول من الوجوب والحرمة حتى يضاد الوظيفة المجعولة لحال الشك ، بل ليس المجعول في باب الأمارات إلا الطريقية والوسطية في الإثبات وكونها محرزة للمؤدى ، ووجه التنافي بينها وبين الأصول إنما هو لمكان أنه لا يجتمع إحراز المؤدى في مورد الشك فيه مع إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إذا كانت الوظيفة المقررة على خلاف مؤدى الأمارة ، ورفع التنافي بينهما إنما هو لحكومة الأمارات على الأصول (١) وسيأتي

________________________

١ ـ أقول : ما هو صريح كلمات « شيخنا العلامة » في المقام وفي باب « التعادل والتراجيح » هو أن مفاد الأصول حكم ثابت في ظرف الشك بالحكم الواقعي ومفاد الأمارة نفس الحكم الواقعي ، فقهرا يكون مفاد الأصول بحسب الرتبة متأخرة عن مفاد الأمارة ، ولازم هذا التأخير : أنه لو فرض قيام دليل على الأمارة كان رافعا لموضوع الأصل إن كان علميا وجدانيا ، وإلا كان حاكما عليه ، ومن هذا البيان ظهر : أنه قدس‌سره ما التزم بالتنافي بين مفاد الأصل ومفاد نفس الأمارة وبين الحكم الواقعي والظاهري من جهة اختلاف الرتبة وأنّ هذا

٣٢٦

تفصيل ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في آخر الاستصحاب.

وإجماله : هو أن الأمارات إنما تكون رافعة للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول العملية ، لا رفعا وجدانيا بنفس التعبد بالأمارة ، بل رفعا تعبديا بثبوت المتعبد به ، وبذلك تفترق « الحكومة » عن « الورود » كما يفترق « الورود » عن « التخصيص » بأن خروج فرد عن موضوع الحكم في « الورود » إنما يكون بعناية التعبد ، وفي « التخصص » بلا عناية التعبد ، بل بالتكوين ، كخروج الجاهل عن العالم ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاستصحاب ، وبينا الوجه في حكومة الأمارات بعضها على بعض ، وحكومتها على الأصول ، وحكومة الأصول بعضها على بعض ، فراجع.

الأمر الثالث :

لا يجوز إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إلا بعد الفحص واليأس عن وجود أمارة على أحد طرفي الشك ، لما عرفت : من أن الأمارات تكون حاكمة على الأصول ، فلا يجوز الاعتماد على الأصول مع احتمال وجود أمارة في مورد الشك إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالأمارة ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.

الأمر الرابع :

قد عرفت : أن الوظيفة المقررة للشاك إنما هو الأصول العملية ، والتي

__________________

الإختلاف يوجب « الحكومة » أو « الورود » بين دليلهما ، فجعل وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري نفس اختلاف الرتبة ، ووجه الجمع بين دليلهما حكومة أحدهما على الآخر بلا اشتراك بين المقامين في وجه الجمع وتناف بين المدلولين بنفسهما مع قطع النظر عن دليلهما ، فمن أين ظهر : أن وجه التنافي بين المقامين واحد ووجه الجمع واحد؟ إذ صريح كلامه منع التنافي بين المدلولين لمحض اختلاف الرتبة وأن هذا الاختلاف الرتبي موجب للجمع بين دليلهما بالحكومة أو الورود ، فتأمل في كلماته ، لعمري! أن هذا المقدار واضح لا يستأهل ردّاً.

٣٢٧

تجرى في الشبهات الموضوعية والحكمية وتعم بها البلوى وتطرد في جميع أبواب الفقه تنحصر في الأصول الأربعة ، وهي : البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، وحيث إن مباحث التخيير قليلة لا يستحق إفراد فصل يخصه ، فالأولى التعرض لمباحثه في ضمن مباحث البراءة ، وعقد فصول ثلاثة للبرائة والاشتغال والاستصحاب.

الأمر الخامس :

قد تقدم : أن مجرى البراءة إنما هو الشك في التكليف ، وهو على أقسام : لأن الشك قد يكون في التكليف النفسي الاستقلالي وقد يكون في التكليف الغيري ، وعلى كلا التقديرين قد تكون الشبهة حكمية وقد تكون موضوعية ، والشبهة الحكمية قد تكون وجوبية وقد تكون تحريمية ، ومنشأ الشك في الشبهة الحكمية تارة : يكون فقد النص ، وأخرى : يكون إجمال النص ، وثالثة : يكون تعارض النصين ، ومناط البحث في جميع هذه الأقسام وإن كان متحدا ، إلا أنه قد يكون لبعض هذه الأقسام خصوصية تقتضي إفراد البحث عنه ، فالأولى : إفراد البحث عن كل واحد من هذه الأقسام بخصوصه ، وسيأتي أن محل النزاع بين الأصولي والأخباري خصوص الشبهات التحريمية الحكمية ، دون سائر الإقسام.

الأمر السادس :

قد يتوهم : أن البحث عن مسألة كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة يغنى عن البحث عن مسألة البراءة والاشتغال ، بل البحث عن إحدى المسألتين عين البحث عن الأخرى ، فلا وجه لعقد مسألتين يبحث في إحديهما عن الحظر والإباحة وفي الأخرى عن البراءة والاشتغال.

ولكن التحقيق : أن البحث عن إحديهما لا يغني عن البحث عن

٣٢٨

الاخرى ، لأن جهة البحث عن كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة تغاير جهة البحث عن أصالة البراءة والاشتغال من وجهين :

أحدهما : ان البحث عن الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها الأولية بحسب ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية ، والبحث عن البراءة والاشتغال ناظر إلى حكم الشك في الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الأولية ، فللقائل بالإباحة في تلك المسألة أن يختار الاشتغال في هذه المسألة وبالعكس.

ثانيهما : أن البحث عن الحظر والإباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالأعيان الخارجية من حيث كونه تصرفا في ملك الله تعالى وسلطانه ، والبحث عن البراءة والاشتغال راجع إلى المنع والترخيص في فعل المكلف من حيث إنه فعله وإن لم يكن له تعلق بالأعيان الخارجية كالتغني ، فتأمل.

وقد يقال : إن البحث عن مسألة الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء قبل ورود البيان من الشارع ، والبحث عن البراءة والاشتغال بعد ورود البيان. وهذا بظاهره فاسد إن أريد من القبلية والبعدية الزمانية ، إلا أن يكون المراد أن البحث عن مسألة الحظر والإباحة إنما هو بلحاظ ما يستقل به العقل مع قطع النظر عن ورود البيان من الشارع في حكم الأشياء ، والبحث عن البراءة والاشتغال إنما يكون بعد لحاظ ما ورد من الشارع في حكم الأشياء ، وعلى كل تقدير : لا تلازم بين المسألتين فضلا عن عينية إحديهما للأخرى.

نعم : من قال في مسألة الحظر والإباحة بالحظر ، عليه إقامة الدليل على انقلاب الأصل إلى البراءة ، ومن قال في تلك المسألة بالإباحة فهو في فسحة عن إقامة الدليل على البراءة ، بل على الطرف إقامة الدليل على الاشتغال ، فالذي اختار في مسألة الحظر والإباحة أحد الطرفين قد يستغنى عن إقامة الدليل على ما يختاره في مسألة البراءة والاشتغال ويكون على الخصم إقامة الدليل على مدعاه ، وقد لا يستغنى ذلك ، فتأمل جيّداً.

٣٢٩

الأمر السابع :

قد يتوهّم : أنه بعد ما كان حكم الشبهة قبل الفحص هو الاحتياط ، فعلى الأصولي القائل بالبرائة إقامة الدليل على انقلاب حكم الشبهة بعد الفحص إلى البراءة والأخباري في فسحة عن ذلك.

ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم ، فان لزوم الاحتياط في الشبهات قبل الفحص إنما يكون بمناط تكون الشبهة فاقدة له بعد الفحص ، فان استقلال العقل بوجوب الفحص في الشبهات إنما يكون لوجهين : أحدهما ثبوت العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية فيما بين الشبهات. ثانيهما حكم العقل بوجوب إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته : من السؤال والفحص عن مرادات المولى وعدم الاعتماد على أصالة العدم ، فان الطريقة المألوفة بين العبيد والموالي العرفية هي ذلك ـ وقد تقدم في بعض المباحث السابقة توضيح ذلك ـ وهذان الوجهان لا يجريان بعد الفحص ، لانحلال العلم الإجمالي بالفحص وإعمال العبد على ما تقتضيه وظيفته ، فعلى الإخباري أيضا إقامة الدليل على اتحاد حكم الشبهة قبل الفحص وبعد الفحص ، كما أنه على الأصولي إقامة الدليل على البراءة.

إذا عرفت ذلك ، فلنشرع فيما يتعلق بالفصل الأول من المقام الثالث من المباحث.

المبحث الأوّل

في حكم الشك في التكليف في الشبهة التحريمية لأجل فقدان النص.

والأقوى : أنه تجرى فيه البراءة وفاقا لقاطبة الأصوليين خلافا لقاطبة

٣٣٠

الأخباريين.

وقد استدل على البراءة بالأدلة الأربعة.

أمّا الكتاب : فبآيات منها : قوله تعالى « لا يكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها » (١) والاستدلال بها مبنى على أن يكون المراد من « الموصول » التكليف ومن « الايتاء » الوصول والإعلام ، فيكون المعنى « لا يكلف الله نفسا إلا بتكليف واصل إلى المكلف » وفي حال الشك لا يكون التكليف واصلا ، فلا تكليف.

وفيه أولا : أن المحتملات في الموصول ثلاثة : أحدها : ما ذكر في تقريب الاستدلال. ثانيها : أن يكون المراد من « الموصول » المال ومن « الايتاء » الملك ، فيكون المعنى : « لا يكلف الله نفسا بمال إلا بما ملكه » ثالثها : أن يكون المراد من « الموصول » مطلق الشيء ، ومن « الايتاء » الإقدار ، أي « لا يكلف الله نفسا بشيء إلا بما أقدرها ومكنها عليه ».

والآية المباركة ليس لها ظهور في الوجه الأول ، بل يمكن أن يقال بظهورها في الوجه الثالث ، لظهور « الموصول » في كونه مفعولا به ، وعلى الوجه الأول لابد وأن يكون « الموصول » مفعولا مطلق ، لأنه لا يعقل أن يتعلق التكليف بالتكليف إلا على وجه تعلق الفعل بالمفعول المطلق.

ولا يمكن أن يراد من « الموصول » الأعم من التكليف والمال والشيء (٢) فإنه لا جامع بين المفعول به والمفعول المطلق ، لأن نحو تعلق الفعل بالمفعول به يباين نحو تعلقه بالمفعول المطلق.

________________________

١ ـ سورة الطلاق الآية ٧.

٢ ـ أقول : لو لم نقل بأن تعلق الفعل بالجامع بين المفاعيل تعلق آخر غير مرتبط بأحد التعليقات الثلاثة ، مع أنه لو كان ذلك بنحو الدالين والمدلولين لا بأس بتعلقه بالموصول المتخصص بالخصوصيات بدال آخر ، وكان تعلقه بكل خاص نحوا من التعلق غير الآخر ، كما لا يخفى.

٣٣١

نعم : ربما يستظهر من استشهاد الامام عليه‌السلام بالآية المباركة عن السؤال عن تكليف الناس بالمعرفة ، وجوابه عليه‌السلام « لا ، على الله البيان ـ لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها » (١) أن المراد من « الموصول » التكليف ، لا المال ولا مطلق الشيء ، فيكون المراد من « الايتاء » الوصول والإعلام ، وإن كان يمكن أن يقال : إن المراد من المعرفة المسؤول عنها المعرفة التفصيلية بصفات الباري وأحوال الحشر والنبوة الخاصة ونحو ذلك ، لا المعرفة الإجمالية بوجود الباري تعالى ، فان المعرفة الإجمالية لا يمكن أن يتعلق التكليف بها إلا على وجه دائر ، والمعرفة التفصيلية لا يمكن إلا باقدار الله تعالى عليها ، لأنه لا يتمكن العبد من ذلك إلا بعناية الله تعالى وإقداره ، هذا.

ولكن الإنصاف : أنه يمكن أن يراد من « الموصول » الأعم من التكليف وموضوعه ، وايتاء كل شيء إنما يكون بحسبه ، فان إيتاء التكليف إنما يكون بالوصول والإعلام ، وايتاء المال إنما يكون باعطاء الله تعالى وتمليكه ، وايتاء الشيء فعلا أو تركا إنما يكون باقدار الله تعالى عليه ، فان للايتاء معنى ينطبق على الإعطاء وعلى الإقدار ، ولا يلزم أن يكون المراد من « الموصول » الأعم من المفعول به والمفعول المطلق ، بل يراد منه خصوص المفعول به.

وتوهم : أن المفعول به لابد وأن يكون له نحو وجود وتحقق في وعائه قبل ورود الفعل عليه ويكون الفعل موجبا لايجاد وصف على ذات المفعول به التي كانت مفروضة التحقق والوجود (٢) كزيد في قولك : « إضرب زيدا » فان زيدا كان موجودا قبل ورود الضرب عليه ـ وعلى ذلك يبتني إشكال « الزمخشري » في

________________________

١ ـ أصول الكافي : كتاب التوحيد ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث ٥

٢ ـ أقول : لو كان المراد من التكليف معناه اللغوي من الكلفة فلا بأس بجعل « الموصول » عبارة عن الخطاب والحكم مع الالتزام بهذه القاعدة في المفعول به بلا عناية ، إذ معنى الآية حينئذ « إن الله لا يوقع العباد في كلفة حكمه وخطابه إلا خطابا أعلمه لهم وآتاهم » وهذا المقدار يكفي للقائل بالبرائة.

٣٣٢

قوله تعالى : « خلق الله السماوات » من أنه لا يمكن أن تكون السماوات مفعولا به لأنه لا وجود للسماوات قبل ورود الخلق عليها مع أن المشهور جعلوا السماوات مفعولا به فعلى هذا لا يمكن أن يتعلق التكليف بالتكليف على نحو تعلق الفعل بالمفعول به لأنه ليس للتكليف نحو وجود سابق عن تعلق التكليف به بل وجوده إنما يكون بنفس إنشاء التكليف لأن المفعول المطلق من كيفيات الفعل فلا يمكن وجوده قبله ـ فاسد ، فان المفعول المطلق النوعي والعددي يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية ، مثلا الوجوب والتحريم وإن كان وجودهما بنفس الإيجاب والإنشاء وليس لهما نحو تحقق في المرتبة السابقة ، إلا أنهما باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري يصح تعلق التكليف بهما. نعم : هما بمعنى المصدر لا يصح تعلق التكليف بهما ، فتأمل.

وثانيا : على فرض ظهور الآية الشريفة في إرادة التكليف من « الموصول » وإرادة الوصول والإعلام من « الايتاء » فأقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو أن المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلا بعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد (١) وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشك في التكليف بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها ، فالآية المباركة لا تدل على البراءة ، بل مفادها مفاد قوله تعالى : « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » (٢).

وقد قيل : إن هذه الآية أظهر الآيات التي استدل بها للبرائة.

وأنت خبير : بأن مفادها أجنبي عن البراءة ، فان مفادها الأخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجة ، كما هو حال الأمم السابقة ، فلا دلالة لها على

________________________

١ ـ أقول : إذا كان المراد من بعث الرسل إتمام الحجة بالايصال إليهم يكفي هذا المقدار للقائل بالبرائة. نعم : لو كان المراد مجرد بعث الرسل واقعا ولو لم يصل إلى العباد لا يفيد ذلك للبرائة ، ولكن بهذا المعنى لا يصح حتى بالنسبة إلى الأمم السابقة ، كما لا يخفى.

٢ ـ سورة الإسراء الآية ١٥.

٣٣٣

حكم مشتبه الحكم من حيث إنه مشتبه ، فهي أجنبية عما نحن فيه.

كما أن مفادها أجنبي عما زعمه الأخباريون : من دلالتها على نفي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بتقريب : أن الملازمة تقتضي ثبوت العذاب عند استقلال العقل بقبح شيء ولو مع عدم بعث الرسل والآية تنفى العذاب مع عدم بعث الرسل فلا ملازمة بين حكم العقل والعذاب ويلزمه عدم الملازمة بين حكمه وحكم الشرع وإلا لما احتاج التعذيب إلى بعث الرسل.

وأنت خبير : بأن الرسول في الآية الشريفة كناية عن الحجة ، فيعم الرسول الباطني والرسول الظاهري.

وقد قيل في رد مقالة الأخباريين : إن أقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو نفي فعلية التعذيب قبل بعث الرسل ، والملازمة المدعاة إنما هي بين حكم العقل واستحقاق العقوبة ، ونفى فعلية العذاب لا يقتضي نفي الملازمة ، فإنه من الممكن أن يكون الشارع قد حكم بحرمة ما استقل بقبحه العقل وكانت مخالفة الحكم الشرعي تقتضي استحقاق العقوبة ، ولكن الشارع تفضل بالعفو وأخبر به ، كما تفضل بالعفو عن نية السيئة (١) وكما تفضل بالعفو عن الصغائر عند الاجتناب عن الكبائر (٢) وكما تفضل بالعفو عن الظهار مع حرمته (٣) على ما قيل.

ولا يخفى ما فيه ـ أما أولا فلأن الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأن مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه (٤) لأن النزاع في البراءة إنما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة وعدم استحقاقه ، لا في

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٦ و ٧ و ٨ و ١٠.

٢ ـ الوسائل : الباب ٤٥ من أبواب جهاد النفس الحديث ٤ و ٥.

٣ ـ الوسائل : الباب ١ من أبواب الظهار الحديث ٢.

٤ ـ أقول : ذلك كذلك لولا دعوى عدم القول بالفصل بين نفي الفعلية في الشبهات مع نفي الاستحقاق بين المجتهدين والأخباريين ـ كما هو المدعى في كلماتهم ـ فراجع.

٣٣٤

فعلية العقاب ، فالاستدلال بها على البراءة يتوقف على أن يكون المراد من نفي العذاب نفي الاستحقاق ، وذلك ينافي رد مقالة الأخباريين المنكرين للملازمة بما تقدم : من أن المراد من نفي العذاب نفي الفعلية لا الاستحقاق ، وإلى ذلك ينظر كلام المحقق القمي (ره) حيث قال : « إن من جمع في الآية بين الاستدلال بها على البراءة وبين رد الأخباريين لإثبات الملازمة يكون قد جمع بين النقيضين ».

وأما ثانيا : فلأن الحرمة الشرعية مع إخبار الشارع بنفي التعذيب والتفضل بالعفو لا يجتمعان ، لأنه يلزم أن يحمل الشارع العباد على التجري بفعل الحرام ، فان الإخبار بالعفو يوجب إقدامهم على فعل الحرام المعفو عنه ، فيلزم لغوية جعل الحرمة (١).

نعم : لا مانع من الإخبار بالعفو بالنسبة إلى المعصية التي لا يكون الإخبار به موجبا للتجري وإقدام العباد عليها ، كالإخبار بالعفو عن نية السيئة ، فان المخبر به هو العفو عن نية السيئة المجردة عن تعقبها بالسيئة ، ولا يمكن للعبد التجري على ذلك ، فان القصد والتجري على النية المجردة لا يعقل ، إذ لا يتحقق العزم على العزم المجرد.

وكالإخبار بالعفو عن الصغاير عند الاجتناب عن الكبائر ، فان المخبر به هو العفو عن الصغاير إذا كان العبد مجتنبا عن الكبائر ما دام العمر وفي تمام أزمنة حياته (٢) ولا يمكن بحسب العادة أن يعتقد الشخص أنه يجتنب عن الكبائر في مدة حياته حتى يتحقق منه التجري والإقدام على الصغاير اعتماداً

________________________

١ ـ أقول : يكفي في صحة جعله إحداث موضوع العفو وإبراز مقام الغفورية ، إذ فيه مصلحة ظاهرة يكفي لتصحيح إنشاء الحرمة في مورد مع العفو ، فلا يلزم من كشف العفو عن عدم الحرمة ، كما توهم في الظهار نعم : الأولى أن يقال : إن الظاهر من الآية والتعبير ب‍ « ما كنا معذبين » أن مثل هذا ليس شأننا وهذا غير باب العفو الذي شأنهم العذاب مع عفوه عنهم رأفة ورحمة ، كما لا يخفى.

٢ ـ أقول : في هذا الشرط نظر.

٣٣٥

على العفو عنها ، لأنه بعد التفاته إلى أن العفو عنها مشروط بعدم ارتكاب الكبيرة أبدا ما دام العمر لا يمكن أن يكون الإخبار بالعفو موجبا لتجريه.

وأما العفو على الظهار فلم يثبت وإن قيل به ، وآية الظهار لا تدل على ذلك ، ولو ثبت العفو عنه فلابد من القول بعدم حرمته.

ثم إنه قد استدل للبرائة بآيات اخر لا دلالة لها على ذلك.

فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان الأخبار التي استدل بها للبرائة. أظهرها وعمدتها « حديث الرفع » وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد والوسوسة في الخلق » واشتهار الحديث المبارك بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغنى عن التكلم في سنده ، مع أنه من الصحاح ، فالمهم بيان فقه الحديث وما يستفاد منه ، وذلك يتم برسم أمور :

الأمر الأوّل :

لا يصح استعمال « الرفع » وكذا « الدفع » إلا بعد تحقق مقتضى الوجود ، بحيث لو لم يرد الرفع أو الدفع على الشيء لكان موجودا في وعائه المناسب له ، سواء كان وعائه وعاء العين والتكوين أو وعاء الاعتبار والتشريع ، لوضوح أن كلا من الرفع والدفع لا يرد على ما يكون معدوما في حد ذاته لا وجود له ولا اقتضاء الوجود ، فالعناية المصححة لاستعمال كلمة « الرفع » و « الدفع » إنما هي بعد فرض ثبوت مقتضى الوجود ، وهذا المقدار مما لا بد منه في صحة استعمالهما ، وبعد ذلك يفترق « الرفع » عن « الدفع » فان استعمال « الرفع » إنما يكون غالبا في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في

__________________

١ ـ الخصال : باب التسعة الحديث ٩.

٣٣٦

المرتبة السابقة عن ورود الرفع ، و « الدفع » يستعمل غالبا في المورد الذي فرض ثبوت المقتضى لوجود الشيء قبل إشغاله لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له ، فيكون الرفع مانعا عن استمرار الوجود ، والدفع مانعا عن تأثير المقتضى للوجود.

ولكن هذا المقدار من الفرق لا يمنع عن صحة استعمال « الرفع » بدل « الدفع » على وجه الحقيقة بلا تصرف وعناية ، فان الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق أو المرتبة اللاحقة (١) لأن بقاء الشيء كحدوثه يحتاج إلى علة البقاء وإفاضة الوجود عليه من المبدء الفياض في كل آن ، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة البقاء وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق ، فاستعمال « الرفع » في مقام « الدفع » لا يحتاج إلى علاقة المجاز ، بل لا يحتاج إلى عناية أصلا ، بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، لأن غلبة استعمال « الرفع » فيما يكون له وجود سابق لا يقتضي ظهوره في ذلك.

ومما ذكرنا من معنى « الرفع » و « الدفع » يظهر : أنه لا مانع من جعل « الرفع » في الحديث المبارك بمعنى « الدفع » في جميع الأشياء التسعة المرفوعة ، ولا يلزم من ذلك مجاز في الكلمة ، ولا في الإسناد.

أما عدم المجازية في الإسناد : فلما سيأتي من أن إسناد الرفع إلى المذكورات يكون على وجه الحقيقة بلا تقدير وإضمار.

وأما في الكلمة : فلما عرفت : من أن حقيقة الرفع هي الدفع ، فيكون المراد من رفع التسعة دفع المقتضى عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة.

__________________

١ ـ أقول : ذلك كذلك لو كان مصحح صدق « الرفع » مجرد منع المقتضى عن تأثيره ، وإما لو قلنا بأن المصحح في صدقه علاوة عن ذلك عدم قصور في تأثير المقتضى في زمان سابق عن وروده قبل « الدفع » المعتبر فيه المقارنة ، فلا مجال حينئذ لتصحيح صدقه على الدفع بتدريجية إفاضة الفيض عليه ، إذ تشبه ذلك باثبات اللغة بالعرفان!.

٣٣٧

غايته أنه في الثلاثة الأخيرة ـ وهي الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ـ يكون المراد دفع المقتضى عن تأثيره في أصل تشريع الحكم وجعله فيها مع ثبوت المقتضى له منة على العباد وتوسعة عليهم ، وسيأتي بيان المراد من الحكم الذي كان له اقتضاء الجعل والتشريع في الحسد وأخويه.

وفي غير « ما لا يعلمون » من الخمسة الاخر ـ وهي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما اضطروا إليه ـ يكون المراد دفع تأثير المقتضى عن شمول الحكم واطراده لحال النسيان والاضطرار والإكراه والخطأ وما لا يطاق ، فتكون نتيجة الدفع تخصيص الحكم بما عدا هذه الموارد ، وسيأتي أن التخصيص في ذلك يكون من التخصيص الواقعي وليس من التخصيص الظاهري.

وفي « ما لا يعلمون » يكون المراد دفع مقتضيات الأحكام الواقعية عن تأثيرها في ايجاب الاحتياط ، مع أن ملاكاتها كانت تقتضي ايجاب الاحتياط (١).

ويظهر من الشيخ قدس‌سره : أن « الدفع » من أول الأمر ورد على ايجاب الاحتياط ، لا أنه ورد على مقتضيات الأحكام الواقعية من حيث تأثيرها في ايجاب الاحتياط.

قال قدس‌سره : « وحينئذ فنقول : معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم ايجاب الاحتياط والتحفظ فيه الخ ».

ولا يخفى ما فيه من المسامحة ، فان المراد من « الموصول » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » نفس الأحكام الواقعية ، لأنها هي

__________________

١ ـ أقول : ليس المراد نفي نفس المقتضيات الواقعية جزما ولا تأثيرها في الأحكام الواقعية كذلك ، بل المراد نفي « ما لا يعلمون » بالعناية ، باعتبار نفي تأثيرها الذي هو عين أثرها من إيجاب الاحتياط ظاهرا ، ومرجع كلام الشيخ قدس‌سره أيضا إلى ذلك ، فتدبر فيه.

٣٣٨

المجهولة ، وما أريد من « الموصول » هو المرفوع ، فلابد وأن يرد الرفع على الحكم الواقعي (١) وإن كانت نتيجة رفعه عدم ايجاب الاحتياط ، لأنه لا يمكن رفعه حقيقة عن موطنه وهو عالم التشريع ، وإلا يلزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها ، وهو ينافي ما عليه أصول المخطئة.

وورود الرفع على الأحكام الواقعية على وجه ينتج عدم ايجاب الاحتياط لا يمكن إلا بأن يراد دفع الأحكام الواقعية عن تأثير مقتضياتها في ايجاب الاحتياط ، وتكون النتيجة الترخيص الظاهري في ارتكاب الشبهة والاقتحام فيها.

وتوضيح ذلك : هو أن أدلة الأحكام لما كانت قاصرة لأن تتكفل بيان وجود الأحكام في زمان الشك فيها ـ كما أن نفس الجعل والتشريع الأول للأحكام لا يمكن أن يتكفل لحال الشك فيها ـ فلابد من جعل ثانوي يكون هو المتكفل لبيان صورة الشك في الحكم من ثبوته وعدم ثبوته ، فيكون هذا الجعل الثانوي متمما للجعل الأولى ليس له ملاك يخصه ، نظير ما دل على اعتبار قصد التقرب في العبادات ، حيث إن الأمر الأولى لا يمكن أن يتكفل ببيان اعتبار ذلك ، بل لابد من جعل ثانوي يتكفل ببيان ذلك ويكون من متممات الجعل الأولى ، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه في كثير من الموارد نحتاج إلى متمم الجعل بجعل ثانوي.

والحكم الذي يتكفله الجعل الثانوي يختلف ، فقد يكون حكما واقعيا بإضافة قيد في المأمور به الواقعي ، مثل ما دل على اعتبار قصد التقرب ، ومثل ما

________________________

١ ـ أقول : الأولى أن يقال : لو كان المراد من « الرفع » الرفع الحقيقي كيف يعقل وروده عن الحكم الواقعي في ظرف الجهل به؟ إذ العدم في ظرف الجهل بشيء يستحيل وروده على الشيء الملحوظ في الرتبة السابقة عن الجهل بنفسه ، فلا محيص من كون المراد به رفعه بالعناية ، ومرجعه إلى رفع أثره حقيقة ، فالرفع الحقيقي متوجه إلى إيجاب الاحتياط بدوا ، بلا توجيهه إلى « ما لا يعلمون » ولو بنينا على التصويب واختصاص الحكم بالعالمين ، فتدبر تعرف.

٣٣٩

دلّ على اعتبار غسل المستحاضة قبل الفجر.

وقد يكون حكما طريقيا ، مثل ما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم.

وقد يكون حكما ظاهريا ، وهو ما إذا اخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه ، فان الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي لا يمكن أن يكون حكما واقعيا ، بل لابد أن يكون حكما ظاهريا ، على اختلاف مفاده ، فقد يكون مفاده وضع الحكم الواقعي في موطن الشك بجعل ايجاب الاحتياط ، وقد يكون مفاده رفع الحكم الواقعي بلسان الحل والترخيص ، كقوله ـ عليه‌السلام « كل شيء لك حلال » أو بلسان الرفع ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع عن أمتي تسعة أشياء » ومنها ما لا يعلمون.

وهذا الاختلاف ينشأ عن اختلاف ملاكات الأحكام الواقعية ومناطاتها ، فقد يكون الملاك بمرتبة من الأهمية في نظر الشارع يقتضي جعل ايجاب الاحتياط في ظرف الشك تحرزا عن الوقوع في مخالفة الواقع.

وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، فللشارع الترخيص في ارتكاب الشبهة منة على العباد وتوسعة عليهم ، لأنه كان له التضييق عليهم بالزامهم على حفظ الملاكات بأي مرتبة كانت على أي وجه اتفق ولو بالاحتياط مطلقا في جميع موارد الشك ، ولكن الملة السهلة السمحة اقتضت عدم ايجاب الاحتياط ورفع تأثير المقتضيات والملاكات عن اقتضائها ايجاب الاحتياط ، ولازم ذلك : عدم المؤاخذة على الاقتحام في الشبهة لو صادف كونه مخالفا للواقع واتفق كون الشبهة من المحرمات الواقعية.

وبذلك تمتاز البراءة الشرعية عن البراءة العقلية ، فان البراءة العقلية عبارة عن قبح المؤاخذة بلا بيان ، فالحكم العقلي من أول الأمر يتوجه على المؤاخذة واستحقاق العقوبة ، لأن استحقاق المؤاخذة والعقوبة من المدركات العقلية ليس من وظيفة الشارع وضعه ورفعه إلا بوضع ما يكون منشأ ذلك أو

٣٤٠