فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

دفع الضرر المظنون على فرض تسليم كون فوات المصلحة من الضرر.

وإن لم يكن الحكم المظنون من العبادات ، فان كان من الأحكام النظامية : فالظن بها لا يلزم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، فان الأحكام النظامية تبتنى على المصالح والمفاسد النوعية ، والضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه هو الضرر الشخصي لا الضرر النوعي ، فلو سلم أن فوت المصلحة والوقوع في المفسدة يندرج في الضرر فإنما هو في المصلحة والمفسدة الشخصية ، فالظن بالأحكام النظامية لا يلازم الظن بالضرر الشخصي الذي يستقل العقل بقبح الإقدام عليه.

وإن كان من الأحكام الشخصية : فالظن بها يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، ولا يصغى إلى ما قيل : من « أنه يمكن أن تكون المصلحة والمفسدة في نفس الأمر لا في المأمور به ، فالظن بالحكم لا يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية » لما عرفت : من أن دعوى كون المصلحة في الأمر مما لا سبيل إليها ، بل المصالح والمفاسد إنما تكون في نفس المتعلقات.

فان قلنا : إن فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر ، فلا محالة يلزم التحرز عنه بفعل ما ظن وجوبه وترك ما ظن حرمته.

ولكن للمنع عن كون فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر مجال واسع ، فان أقصى ما يقتضيه فوات المصلحة هو عدم النفع ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على ما يقطع منه فوات النفع فضلا عن الظن ما لم يلزم منه محذور آخر من معصية المولى ومخالفة أمره. وأما الوقوع في المفسدة : فكذلك أيضا ، لأنه ليس كل مفسدة ضررا حتى يجب عقلا التحرز عن الوقوع فيها ، إلا أن يدعى أن دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلا وإن لم تكن المفسدة من أفراد الضرر.

ولكن لو صحت هذه الدعوى فهي جهة أخرى لا دخل لها بما رامه المستدل لحجية مطلق الظن بقاعدة قبح الإقدام على الضرر المظنون ، مع أنّه

٢٢١

سيأتي ( في مبحث البراءة ) ما يظهر منه فساده هذه الدعوى.

فالتحقيق : ان الظن بالحكم لا يلازم الظن بالضرر.

والشيخ قدس‌سره بعد أن سلم الملازمة بين الظن بالحكم والظن بالضرر واعترف أن المفسدة من أفراد الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه سلك مسلكا آخر في منع الصغرى.

وحاصل ما أفاده في وجه المنع هو : أن المفسدة المظنونة مما يقطع أو يظن بتداركها ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على المفسدة المظنونة مع القطع أو الظن بتداركها ، بيان ذلك هو : أن أدلة الأصول الشرعية ـ من الاستصحاب والبرائة ـ في المورد الذي لم يثبت التكليف به ، إما أن تكون مقطوعة الصدور عنهم ( صلوات الله عليهم ) كما هو ليس ببعيد وإما أن تكون مظنونة الصدور عنهم ، وعلى كلا التقديرين : إما أن يقطع أو يظن بتدارك المفسدة المظنونة عند الظن بالتكليف مع عدم قيام الدليل على اعتبار الظن ، فإنه إما يقطع بالبرائة الشرعية عن التكليف المظنون إن كانت أدلتها قطعية وإما أن يظن بها إن كانت أدلتها ظنية ، ويلزمه القطع أو الظن بتدارك المفسدة المظنونة حتى لا يلزم ايقاع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، فإنه مع عدم إحراز التكليف لابد للشارع : إما من ايجاب الاحتياط ليتحرز المكلف عن الوقوع في المفسدة وإما من تداركها ، وحيث لا يجب الاحتياط عند الظن بالتكليف ـ إما علما وإما ظنا ـ فلا يظن بالمفسدة الغير المتداركة ، بل يعلم أو يظن بالتدارك ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على المفسدة المتداركة.

هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره في وجه المنع عن الصغرى إن كان المراد من « الضرر » فيها المفسدة لا العقاب.

وأنت خبير بما فيه ، أما أولا : فلأن تدارك الضرر والمفسدة إنما يجب إذا كان الشارع أوقع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، وذلك ينحصر بالتعبد بالأمارات في مورد انفتاح باب العلم وتمكن المكلف من الوصول إلى

٢٢٢

الواقع وإدراك المصالح والمفاسد الواقعية ، فان التعبد بالأمارة مع مخالفتها للواقع يكون قبيحا إلا بأن يتدارك بالمصلحة السلوكية ما فات من المكلف بسبب العمل بالأمارة من مصلحة الواقع ـ كما تقدم بيانه ـ وأما الأصول العملية : فالتعبد بها إنما يكون في مورد انسداد باب العلم وعدم التمكن من الوصول إلى الواقع ، لأن الأصول العملية لا اعتبار بها في الشبهات الحكمية إلا بعد الفحص واليأس عن الوصول إلى الواقع بالعلم أو العلمي ، فلا يكون الوقوع في الضرر والمفسدة الواقعية مستندا إلى الشارع ، لأنه لولا التعبد بالأصول كان المكلف يقع في ذلك إلا إذا وجب عليه الاحتياط عقلا أو شرعا. وقد لا تكون مصلحة الواقع بمثابة يلزم رعايتها بجعل المتمم وايجاب الاحتياط (١) فتأمل.

وأما ثانيا : فلأن العموم في كل مورد إنما يشمل الأفراد التي لا يتوقف شمول العام لها إلى مؤنة زائدة من إثبات أمر آخر (٢) إلا إذا بقى العام بلا مورد لولا تلك المؤنة الزائدة ـ كما أوضحناه في محله ـ وشمول عموم أدلة الأصول لمورد الظن بالحكم يتوقف على إثبات تدارك الضرر والمفسدة ، وإذا توقف على ذلك فمن أول الأمر العموم لا يشمل مورد الظن بالحكم ، ولا يلزم من عدم شموله بقاء العموم بلا مورد ، لأن المشكوكات والموهومات تبقي تحت العموم.

وأما ثالثا : فلأنه بعد تسليم كون الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر على تقدير ترك العمل بالظن لا يبقى موقع للبرائة والاستصحاب ، لاستقلال العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر المستتبع للحكم الشرعي

________________________

١ ـ أقول : إذا فرضنا أن كل مفسدة ضرر ويجب على الشارع عدم إلقاء المكلف في الضرر ، فأي اهتمام أعظم من ذلك ، بل لابد له من متمم الجعل بمقتضى كلامه. نعم : ذلك صحيح في فرض عدم الملازمة بين المصلحة والضرر ، فإنه حينئذ في متمم الجعل يدور مدار الاهتمام وعدمه.

٢ ـ أقول : أصالة العموم متبع في كل مورد يشمله العام ، ولو كان شموله ملازما لخصوصية زائدة ، فبأصالة العموم يحرز الخصوصية المزبورة أيضا ولو كان من اللوازم العادية. ودعوى عدم الشمول عهدته على مدعيه ، فتأمل.

٢٢٣

بحرمته ، سواء كان الحكم العقلي موضوعيا أو طريقيا ، فإنه على كل تقدير هذا الحكم العقلي يكون واردا أو حاكما على البراءة العقلية والشرعية وعلى الاستصحاب (١) كما تقدم بيانه في الأمور المتقدمة.

والعجب من الشيخ قدس‌سره حيث أفاد ( في مبحث البراءة ) أن الظن بالضرر غير العقاب قد جعل طريقا شرعيا إلى الضرر الواقعي ولا تجرى فيه البراءة كسائر موارد الطرق الشرعية ، وفي المقام التزم بجريان البراءة مع اعترافه بأن الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر (٢). ولا يمكن الجمع بين كلاميه.

والحق هو ما أفاده ( في مبحث البراءة ) من أنه لا تجري البراءة العقلية والشرعية في موارد الظن بالضرر الدنيوي وتجري في موارد الظن بالضرر الأخروي ( لو سلم أن الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر الدنيوي والأخروي معا ) فان جريان البراءة في أحد اللازمين لا يلازم جريان البراءة في اللازم الآخر إذا كان لكل من اللازمين مناط يخصه غير مناط الآخر ، فلو كان الظن بالحكم يلازم الظن بالعقاب والظن بالمفسدة معا ، فمن حيث العقاب تجرى البراءة العقلية ، لأن الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ليس بيانا ولا يكون منجزا للتكليف ، فيندرج في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. ومن حيث الظن بالضرر غير العقاب لا تجري البراءة العقلية لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ويستتبعه الحكم الشرعي بوجوبه ، فلا يكون العقاب عليه بلا بيان.

________________________

١ ـ أقول : بعد فرض كون موضوع حكم العقل الضرر الغير المتدارك ، فالأصول الشرعية الكاشفة عن التدارك رافع لهذا الموضوع بالورود بلا عكس ، كما هو ظاهر.

٢ ـ أقول : جملة من كلمات « شيخنا الأعظم » في البراءة صريحة في عدم مانعية الظن بالضرر لجريان أصالة الحلية ، لكشفه عن تداركه بالمصلحة ، فراجع الشبهة الموضوعية من الشبهة التحريمية وغيرها ، وما رأيت في كلماته ما أفيد حتى أتأمل في أطرافه.

٢٢٤

والتحقيق : أن الظن بالحكم لا يلازم الظن بالعقاب ولا الظن بالضرر ، بل إنما يلازم الظن بالمفسدة وهي لا تلازم الضرر ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه.

الوجه الثاني :

من الوجوه التي استدلوا بها لحجية مطلق الظن ـ ما ذكره السيد المجاهد (ره) : من أنا نعلم بوجود واجبات ومحرمات في الشبهات ، ومقتضى القاعدة وإن كان هو الاحتياط بالأخذ بالمظنونات والمشكوكات والموهومات ، ولكن يلزم من الاحتياط في الجميع العسر والحرج المنفى في الشريعة ، فلابد من الأخذ بالمظنونات فقط وترك المشكوكات والموهومات ، فإنه لا يلزم العسر والحرج من الأخذ بها.

وفيه : أن ذلك لا يتم إلا بعد ضم ساير مقدمات دليل الانسداد ، فان ما ذكر من الوجه إنما هو بعض المقدمات ، ولابد من ضم البقية إليه : من انسداد باب العلم والعلمي وعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وغير ذلك مما سيأتي بيانه.

ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثالث ( من وجوه حجية الظن المطلق ) وهو أنه لولا العمل بالمظنونات يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا.

إذ فيه : أن ذلك إنما يلزم إذا وجب الأخذ بالمظنونات أو المشكوكات ، ولمانع أن يمنع عن وجوب الأخذ بها إلا بعد ضم سائر مقدمات الانسداد. فهذه الوجوه ضعيفة ولا تستحق إطالة الكلام فيها.

فالأولى عطف عنان الكلام إلى البحث عن الوجه الرابع المعروف بدليل الإنسداد وهو من المباحث التي ينبغي أن يشكر عليها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) فإنه قد حرر البحث عن دليل الانسداد على وجه لم يسبقه إليه

٢٢٥

أحد (١) وأفاد فيه من الدقايق العلمية ما كانت الأفهام قاصرة عن إدراكه كما سيتضح لك ذلك ( إن شاء الله تعالى ) فشكر الله مساعيه وجزاه عن العلم وأهله خيرا.

وعلى كل حال : دليل الانسداد يتألف من مقدمات أربع.

وقيل : إنها خمس ، بجعل العلم بالتكاليف من جملة المقدمات. والشيخ قدس‌سره أسقط هذه المقدمات نظرا إلى أن المراد من العلم بثبوت التكاليف ، إن كان هو العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها فهذا من البديهيات التي لا ينبغي عدها من المقدمات ، فان العلم بذلك كالعلم بأصل وجود الشارع. وإن كان المراد من العلم بثبوت التكاليف العلم الإجمالي بثبوتها في الوقايع المشتبهة التي لا يجوز إهمالها ، فهو أيضا ليس من مقدمات دليل الانسداد ، بل هو من أحد الوجوه الثلاثة التي تبتنى عليها المقدمة الثانية ( على ما سيأتي بيانه ) فالأولى الاقتصار على ما ذكره الشيخ قدس‌سره من المقدمات الأربع.

الأولى : انسداد باب العلم والعلمي في معظم الفقه. وهي عمدة المقدمات ، حتى حكى عن بعض المتقدمين الاكتفاء بها في استنتاج حجية مطلق الظن ، والمقدمات الآخر أضافها المتأخرون.

الثانية : عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وترك التعرض لها بالرجوع إلى البراءة في جميع موارد الشك في التكليف.

* * *

__________________

١ ـ أقول : بعد التأمل فيما أفيد لم أجد فيه إلا دعوى إجماع في باب الانسداد الذي خرب أساس القوم ، وصار منشأ لتوهم تأسيس جديد في هذا الباب. ولكن لو تأملت في كلماتهم ترى بأن لمثل هذا الإجماع ليس عين ولا أثر ، وسيمر عليك أيضا سر كلماتنا في محل استنتاجه من مقدماته ( إن شاء الله تعالى ) ولقد فصلنا الكلام أيضا في شرح مرامه في الحاشية الآتية.

٢٢٦

الثالثة : بطلان الرجوع إلى الطرق المقررة للجاهل بالأحكام : من الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ، أو الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة : من البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط أو التقليد والرجوع إلى فتوى الغير.

الرابعة : قبح ترجيح المرجوح على الراجح والأخذ بالموهومات والمشكوكات وترك المظنونات.

وهذه المقدمات الأربع إذا تمت وسلمت عن الإشكال تكون نتيجتها حجية الظن المطلق أو في الجملة ( على ما سيأتي توضيحه ) فلا بد من التعرض لكن مقدمة بالخصوص وإثباتها بما يمكن الاستدلال به لها (١).

________________________

١ ـ أقول : : ملخص ما أفاد في إتمام المقدمات بعد ما نظرنا إليه بطوله وتفصيله : أنه بعد إتمام المقدمة الأولى ـ على الفرض ـ وكذلك المقدمة الثانية : من بطلان الخروج من الدين بترك التعرض للأحكام ، عمدة ما أفاد من النكتة الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد باعترافه ( ومنه استنتج الكشف وحجية الظن شرعا وبه رفض مسلك الحكومة في باب الانسداد وكذلك مسلك التبعيض في الاحتياط ) هو ما أفاده في وجه بطلان الاحتياط ـ الذي هو المقدمة الثالثة ـ بعد بطلان سائر الطرق المقررة للجاهل : من الأصول المثبتة والتقليد وغيرها بجهات أخرى : من دعوى الإجماع على عدم البناء في الشريعة على الاكتفاء في امتثال الأحكام بصرف احتماله ، بل لابد وأن يأتي بعنوان وجوبه فعلا أو تركا ، وبهذا الإجماع التجأ إلى كشف طريق شرعي ، وعين هذا الطريق بالظن بمقتضى المقدمة الرابعة.

ولعمري! ان مثل هذا الإجماع لم يسبقه إليه أحد ، وصدق في أن الأفهام قاصرة عن دركه ، والذي نطقت به كلماتهم هو الإجماع على عدم لزوم الاحتياط وبطلانه.

وأما وجه البطلان هو قيام الإجماع المزبور أو وجه البطلان عدم منجزية العلم وعدم اقتضائه الاحتياط ولو تبعيضا فضلا عن الاحتياط التام؟ فيه إشكال ، كيف ويحتمل أن يكون مرجع الإجماع المزبور إلى إطباقهم على عدم وجود مثبتية العلم الإجمالي أو عدم منجزيته ، ومن مثله يستكشف وجود مرجع آخر للمكلف ومثبت للتكاليف غير علمه الإجمالي بمقدار الكفاية الموجب لانحلال علمه ـ كما هو المستفاد من بطلان الخروج من الدين ـ ولو فرض عدم علم إجمالي أو عدم منجزيته رأسا ، إذ من مثل هذا الإجماع التقديري يستكشف وجود مرجع آخر غير العلم ، ولازمه قهرا انحلال العلم الإجمالي وسقوط اقتضائه الاحتياط تماما أو تبعيضاً.

٢٢٧

أمّا المقدمة الأولى : فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم الوجداني مسلمة لا يمكن الخدشة فيها ، بداهة أن ما يوجب العلم الوجداني التفصيلي بالحكم من الخبر النص المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية ظهورا وصدورا مع ساير ما يتوقف عليه الاستنباط لا يفي بأقل قليل من الأحكام الشرعية ، وذلك مما يصدقه كل مجتهد يخوض في الاستنباط.

وأما بالنسبة إلى انسداد باب العلمي فللمنع عنه مجال واسع ، فان ما تقدم من الأدلة الدالة على حجية الخبر الموثوق به ظهورا وصدورا ـ سواء حصل الوثوق به من وثاقة الراوي أو من ساير الأمارات الاخر ـ مما لا سبيل إلى الخدشة فيه ، بل ينبغي عدها من الأدلة القطعية ، ومعها لا يبقى مجال لدعوى انسداد باب العلمي في معظم الفقه ، لأن الخبر الموثوق به ( بحمد الله ) واف بمعظم الأحكام ، بحيث لم يلزم من الرجوع إلى الأصول العملية في الشبهات التي لم يكن على طبقها خبر موثوق به محذور الخروج من الدين أو مخالفة العلم

__________________

وحينئذٍ نقول : إن هذا المقدار من إبطال الاحتياط إنما يقتضي كشف الجعل الشرعي لو لم يكن للعقل حكم بمرجعية شيء في البين الموجب لتعرض الأحكام به ( المتعين بمقتضى المقدمة الرابعة في الظن ) وإلا فلا يكاد ينتهى النوبة إلى كشف الجعل الشرعي ، لاحتمال إيكال الشرع في مقام حكمه بتعرض الأحكام إلى مثل هذا الحكم العقلي ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال لكشف جعل من الشارع أصلا. وبالله عليك! أن تتأمل في وجه الإجماع المدعى لإبطال الاحتياط بأنه هو الذي أفاده أو الذي نحن ذكرنا ، ولا أقل من احتمال أن يكون وجه قيام الإجماع على بطلان الاحتياط رأسا حتى تبعيضا ما ذكرنا ، لا ما أفاده. نعم : الذي مسلم عندنا وعنده قيام الإجماع على بطلان الاحتياط في الشريعة ولو تبعيضا.

ولكن تمام الكلام في أن وجه هذا الإجماع رفض العلم الإجمالي عن المنجزية رأسا ـ ولو بالانحلال الذي نحن قربناه ـ أو وجهه لزوم تعرض المشتبهات بعنوان وجوبه فعلا أو تركا ، ومن اختلاف الوجهين يختلف النتيجة من حيث الكشف والحكومة بالتقريب المتقدم.

فنحن ندعي : أنه من المحتمل أن يكون وجه الإجماع المسلم هو الذي ذكرنا ، إذ هو المتيقن ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى محل لإثبات المقرر ما ادعى من الإجماع في كلامه ولو اجتمع معه الثقلان! ومع عدم إثباته تبطل الفوائد الكثيرة والنكات الجميلة التي لم يسبق إليها أحد ، كي يستحق شكرا ، بل لك أن تسمع ما ذكرنا وتكون من الشاكرين.

٢٢٨

الإجمالي وغير ذلك من المحاذير الآتية.

ومن هنا يظهر : أن البحث عن دليل الانسداد ـ على طوله وكثرة مباحثه ـ قليل الفائدة لا يترتب عليه أثر مهم ، لفساد أساسه وهو انسداد باب العلمي.

نعم : لو قلنا بمقالة المحقق القمي (ره) من أن « اعتبار الظهورات مقصور بمن قصد إفهامه من الكلام » وأغمضنا عما تقدم من الإشكال في ذلك ، أو قلنا : إن أقصى ما تقتضيه الأدلة المتقدمة إنما هو حجية الخبر الصحيح الأعلائي عند المتأخرين ـ وهو ما كان جميع سلسلة سنده من الإمامية مع تعديل كل من الرواة بعدلين في جميع الطبقات ـ كان لدليل الانسداد مجال ، بل مما لا بد منه ، بداهة أن الخبر الصحيح الأعلائي بهذه الأوصاف ـ كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية ـ أقل لا يفي بمعظم الفقه.

ولكن الأدلة المتقدمة تدل على اعتبار ما هو أوسع من ذلك ، وهو مطلق الخبر الموثوق به ـ كما تقدم تفصيله ـ ومعه لا تصل النوبة إلى دليل الانسداد لاستنتاج حجية مطلق الظن.

ومن الغريب : ما حكى عن المحقق القمي قدس‌سره في هذا المقام من أن « حجية ظواهر الكتاب وأخبار الآحاد سندا وظهورا إنما هو لأجل إفادتها الظن ، لا لخصوصية فيها » وعلى ذلك بنى حجية مطلق الظن مع اعترافه بأنه لو كان حجية ظواهر الكتاب والأخبار لخصوصية فيها تقتضي ذلك كان الواجب الاقتصار عليها وعدم التعدي عنها إلى مطلق الظن لأنها تفي بمعظم الفقه ولكن من المحتمل أن تكون حجيتها لأجل إفادتها الظن فيجوز التعدي عنها إلى كل ما يفيد الظن.

وقد أطال النقض والإبرام في ذلك ، وزاد في قوله « إن قلت قلت » على ما يبلغ العشرين. وقد تبعه في ذلك بعض من تأخر عنه حتى حكى : أنه صنف بعض المتأخرين رسالة عدم الخصوصية في ظواهر الكتاب والأخبار ، بل كان

٢٢٩

حجيتها لأجل كونها تفيد الظن بالحكم الشرعي.

وأنت خبير بما فيه ، فان مجرد احتمال أن يكون اعتبار ظواهر الكتاب والأخبار لأجل إفادتها الظن لا يقتضي التعدي عنها إلى مطلق الظن ، فان اعتبار مطلق الظن يتوقف على جريان مقدمات الانسداد ، وإذا احتمل أن يكون اعتبار ظواهر الكتاب والأخبار لخصوصية فيها حينئذ لا تجري مقدمات الانسداد مع الاعتراف بكونها وافية بمعظم الفقه ، فإنها تكون متيقنة الاعتبار ، فلا تصل النوبة إلى دليل الانسداد ، مع أنه لو بنينا على أن أدلة حجية الظواهر والأخبار إنما تدل على حجيتها من أجل كونها تفيد الظن بالحكم الشرعي لا لخصوصية فيها ـ ولو لأجل تنقيح المناط القطعي ـ فأقصاه أن يكون الظن المطلق مما قام الدليل بالخصوص على اعتباره ، فيكون حال الظن المطلق حال الظن الخاص الذي قام الدليل الخاص على اعتباره ، فلا تصل النوبة إلى دليل الانسداد.

فظهر : أنه إنما تمس الحاجة إلى دليل الانسداد إذا منعنا عن حجية ظواهر الكتاب والأخبار بالخصوص ، وقد عرفت : أنه لا سبيل إلى المنع عن ذلك ، فدليل الانسداد فاسد من أصله. هذا كله في المقدمة الأولى.

وأمّا المقدمة الثانية : ( وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وترك التعرض لها والاعتماد على البراءة الأصلية ) فالظاهر : أن تكون ضرورية. وقد استدل عليها بوجوه ثلاثة :

الأول ، الإجماع القطعي على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة عند انسداد باب العلم والعلمي والرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في جميع الموارد المشتبهة (١) والإجماع المدعى في المقام وإن لم يكن من الإجماع المحصل الفعلي ،

__________________

١ ـ أقول : يمكن منع جعل هذا الإجماع مدركا مستقلا في قبال محذور الخروج من الدين ، لاحتمال كون نظر المجمعين إلى هذا المحذور ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال الحدس من هذا الاتفاق برأي المعصوم ، كما هو

٢٣٠

فانّ المسألة لم تكن معنونة عند العلماء أجمع ولم يقع البحث عنها في قديم الزمان عند أرباب الفتوى ، إلا أنه يكفي الإجماع التقديري ، فإنه رب مسألة لم يقع البحث عنها في كلمات الأصحاب ، إلا أنه مما يعلم إجماعهم واتفاقهم عليها ، فإنه لا يكاد يمكن إسناد جواز الاعتماد على أصالة العدم وطرح جميع الأحكام في الوقايع المشتبهة إلى أحد من أصاغر الطلبة فضلا عن أرباب الفتوى.

الثاني : انه يلزم من الرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في الوقايع المشتبهة الخروج عن الدين ، لقلة الأحكام المعلومة بالتفصيل ، فالاقتصار عليها وترك التعرض للوقايع المشتبهة وإهمالها يوجب المخالفة الكثيرة القطعية ، بحيث يعد المقتصر على امتثال المعلومات خارجا عن الدين وكأنه غير ملتزم بشريعة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا بنفسه محذور يعلم أنه مرغوب عنه شرعا ، وإن لم نقل بأن العلم الإجمالي منجز للتكليف ـ كما هو مبنى الوجه الثالث ـ فان المخالفة القطعية الكثيرة والخروج عن الدين بنفسه مما يقطع بكونه مرغوبا عنه عند الشارع ومخالف لضرورة الدين والشريعة ، ويكفيك شاهدا على ذلك ملاحظة كلمات الأعلام كالسيد والشيخ ( قدس سرهما ) وغيرهما ، فراجع « الفرائد ».

الثالث : العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الوجوبية والتحريمية في الوقايع المشتبهة (١) والعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي يقتضي وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، فلا تجرى الأصول النافية للتكليف في أطرافه ،

________________________

الشأن في كثير من الإجماعات المحتمل كون مدركهم وجها من الوجوه الجارية في المسألة ، كما لا يخفى.

١ ـ أقول : بعد ثبوت محذور الخروج عن الدين وان لم يكن علم إجمالي في البين أو قلنا بعدم منجزيته رأسا ، فلا محيص من كشف مرجع في إثبات التكاليف الواقعية بالمقدار الوافي ، ومع ذلك غير خفى بأنه لا يبقى مجال لمناط منجزية العلم الإجمالي ، لانحلاله ، وحينئذ لا يمكن الجمع بين هذا الوجه وسابقه ، لكمال التضاد بينهما ، كما لا يخفى.

٢٣١

والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان مبنى الوجه الثاني هو لزوم المخالفة الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين ، وذلك بنفسه محذور مستقل حتى على مسلك من يقول : إن العلم الإجمالي لا يقتضي التنجيز ولا يستدعي الموافقة القطعية بل يجوز المخالفة القطعية ، كما ذهب إليه بعض الأعلام. وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فإنه مبنى على منجزية العلم الإجمالي وعدم جريان الأصول النافية في أطرافه ولو كان المعلوم بالإجمال تكليفا واحدا تردد بين أمور محصورة بحيث لم يلزم من مخالفته إلا مخالفة تكليف واحد لا مخالفة تكاليف كثيرة ، كما هو مبنى الوجه الثاني.

والإنصاف : أن الوجوه الثلاثة ـ التي استدلوا بها على المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد ـ في غاية الصحة والمثابة غير قابلة للخدشة فيها.

وينبغي أن يعلم اختلاف هذه الوجوه الثلاثة في مدرك المقدمة الثانية هو الذي يوجب اختلاف النتيجة من حيث الكشف والحكومة ، فإنه لو كان المستند في بطلان إهمال الوقايع المشتبهة والرجوع إلى الأصول العدمية هو الوجه الأول والثاني كانت النتيجة الكشف لا محالة (١) فإن مرجع الإجماع أو

__________________

١ ـ أقول : بعد الجزم بعدم الاكتفاء في امتثال الأحكام بأقل قليل إجماعا أو لمحذور عدم صدق التدين بهذا الدين ، فلو فرض عدم جعل من قبل الشارع ، فلا شبهة في أن العقل ملزم باتخاذ طريق في امتثال الأحكام بمقدار الخروج عن المحذور.

وتوهّم : انه لولا تصرف من الشارع كان العقل مجوزا لتعطيل الدين والخروج عنه بالسكون وعدم التعرض للوقايع المشكوكة ـ خارج عن الوجدان السليم والذوق المستقيم ، وحينئذ فمع هذا الحكم العقلي لا يبقى طريق لاستكشاف جعل شرعي في البين. ومجرد عدم حكم العقل بشيء في واقعة مشكوكة أو أزيد لا يكون شاهد منع حكم العقل حتى في صورة لزوم محذور الخروج عن الدين ، وحينئذ عمدة وجه الاستكشاف للجعل الشرعي منع احتمال ايكال الشارع في رفع هذا المحذور إلى مثل هذا الحكم العقلي ، وإلا فمنع أصل حكمه حتى مع عدم تصرف شرعي يكذبه الوجدان السليم ، وحينئذ اثبات منع الإتكال دونه خرط القتاد ، وهو عمدة مدرك القائل بالحكومة في قبال الكشف.

هذا كله ، مع أنه على فرض لزوم جعل من الشارع وعدم اتكاله إلى حكم العقل من المحتمل كون المجعول طريقا إلى إحراز الدين ايجاب الاحتياط بلا عناية تتميم الكشف ، غاية الأمر بضم بقية المقدمات يتعين دائرة

٢٣٢

لزوم الخروج عن الدين إلى أن الشارع أراد من العباد التعرض للوقايع المشتبهة ولم يرخص لهم إهمالها ، فالعقل يحكم حكما ضروريا بأنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد ليتمكنوا من امتثال التكاليف الثابتة في الوقايع المشتبهة ، ولابد وأن يكون الطريق المجعول واصلا إلى العباد ، إما بنفسه ، وإما بطريقه ، والطريق الذي يصح جعله في حال انسداد باب العلم والعلمي مع كونه واصلا بنفسه ينحصر بالاحتياط ، فإنه الطريق الواصل بنفسه لكونه محرزا للواقع وموصلا إليه فعلى هذا يكون الاحتياط في الوقايع المشتبهة طريقا مجعولا شرعيا ، نظير الاحتياط في باب الدماء والفروج. وليس من الاحتياط العقلي ، فان الاحتياط العقلي هو الذي يحكم به العقل في أطراف العلم الإجمالي ، ومحل الكلام إنما هو فيما إذا كان المدرك لعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع أو الخروج عن الدين ، لا العلم الإجمالي ، وليس للعقل الحكم بالاحتياط في غير العلم الإجمالي ، وإلا يلزم أن يكون احتمال التكليف في نظر العقل منجزا للواقع ليحكم بالاحتياط في الوقايع المشتبهة مع قطع النظر عن ثبوت العلم الإجمالي فيها ، وهو كما ترى! فان مجرد احتمال التكليف لا يكون منجزا عند العقل مع انسداد باب العلم به على المكلّف.

وبالجملة : لا إشكال في أن الاحتياط يكون طريقا مجعولا شرعيا إذا كان المستند في المقدمة الثانية هو الإجماع أو الخروج عن الدين ، فإنّه لا طريق

________________________

ايجاب الاحتياط المزبور في دائرة الظنون ، وهو الذي سلك به « استاذنا العلامة » في كفايته ، وذلك أيضا غير قضية كشف طريقية الظن ، بمعنى وسطيته باصطلاحه ، فتدبر.

وبالجملة نقول : إن النوبة لا تصل إلى كشف جعل شرعي احتياطا أو طريقا جعليا ، إلا بعد منع حكم العقل لولا الجعل ، أو منع اتكال الشارع به. والأول : خلاف الإنصاف ، والثاني : يجديه احتمال الإتكال. ولا يمنع هذا الاحتمال إلا دعوى الإجماع الآتي : من أن الشارع أراد امتثال التكاليف في كل مورد بعنوان وجوبه شرعا وحرمته ، فان تم هذا الإجماع فمرجعه إلى الإجماع على عدم اتكال الشارع في رفع محذور الخروج عن الدين إلى حكم العقل ، ولازمه حينئذ هو الكشف ، ولكن دون إثباته خرط القتاد ، كيف! ولا يناسب مثل هذا الإجماع مع اشتهار الحكومة العقلية عند أرباب الانسداد ، فتدبر تعرف.

٢٣٣

واصلاً إلى العباد غيره ، والمفروض أنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد يتوصلون به إلى امتثال التكاليف التي لم يرض بإهمالها. ولا يمكن ايكال الأمر إلى العقل ، لما عرفت : من أنه ليس للعقل حكم في غير موارد العلم الإجمالي (١).

ثم بعد إثبات بطلان طريقية الاحتياط وأن الشارع لم ينصبه طريقا (٢) ـ بأحد الوجوه الآتية في المقدمة الثالثة ـ تكون النتيجة حجية الظن شرعا ، وهي معنى الكشف ، فإنه حينئذ لا طريق غيره يصح للشارع عليه ، فيكون الظن طريقا شرعيا واصلا بطريقه لا بنفسه ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) هذا إذا كان المدرك في المقدمة الثانية الإجماع أو الخروج عن الدين.

وإن كان المدرك هو العلم الإجمالي ، فيمكن أن تكون النتيجة الكشف ، ويمكن أن تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، كما سيتضح وجه ذلك ( إن شاء الله تعالى ) والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى أن أساس الكشف والحكومة هو اختلاف الوجوه الثلاثة التي تبتنى عليها المقدمة الثانية ، فتفطن.

وأمّا المقدمة الثالثة : وهي عدم جواز الرجوع إلى الطرق المقررة للجاهل ، فقد عرفت أنها ثلاثة ـ الأولى : التقليد والرجوع إلى فتوى الغير العالم بالحكم. الثانية : الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها : من البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب. الثالثة : الاحتياط في الوقايع المشتبهة بالجمع بين جميع المحتملات. ولابد من إثبات بطلان كل من هذه الطرق

__________________

١ ـ أقول : كيف يمن إنكاره في مثل هذا المقام المعلوم فيه شدة الاهتمام حتى في ظرف عدم تصرف من الشارع. ولا يقاس المورد بالوقايع المشتبهة القليلة التي لا يلازم تعطيلها للخروج عن الدين ، لعدم إحراز الاهتمام فيها ، كما هو ظاهر وأشرنا إليه.

٢ ـ أقول : قد أشرنا بأن ما هو باطل إنما هو الاحتياط الكلي ، وأما ايجاب الاحتياط في الجملة بنحو يتعين في دائرة الظنون فلا وجه لمنعه ، ومع هذا الاحتمال أيضا لا يبقى مجال كشف حجية الظن بمعنى وسطيته كما أشرنا إليه آنفاً ؛ فتدبر.

٢٣٤

الثلاثة في المقام ، لتصل النوبة إلى المقدمة الرابعة.

أمّا بطلان التقليد : فواضح ، فإنه يشترط في جواز رجوع الجاهل إلى العالم أن لا يكون الجاهل معتقدا بطلان مدرك علم العالم ولا يرى علمه جهلا ، وإلا كان من رجوع العالم إلى الجاهل ، لا رجوع الجاهل إلى العالم ، ففي المقام من يرى انسداد باب العلم والعلمي لا يجوز له الرجوع إلى من يرى انفتاح بابهما ، لأن من يرى انفتاح باب العلمي يعتقد حجية ظواهر الكتاب والأخبار صدورا وظهورا ، ومن يرى انسداد بابه يعتقد عدم حجية ذلك وعدم دلالة الأدلة التي استدل بها على الحجية ، ومع هذا كيف يجوز له عقلا الرجوع إلى الغير القائل بالانفتاح؟ فالتقليد في المقام فاسد من أصله.

وأمّا بطلان الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها : فبالنسبة إلى الأصول العدمية النافية للتكليف واضح ، لأنه يلزم من إعمالها المخالفة القطعية ، للعلم بثبوت التكاليف في مواردها. ولا سبيل إلى دعوى عدم العلم بالتكليف في جميع موارد الأصول النافية.

وأما بالنسبة إلى الأصول الوجودية المثبتة للتكليف : من الاحتياط ( إذا كانت المسألة من أطراف العلم الإجمالي الشخصي المتعلق بها بخصوصها مع قطع النظر عن كونها من أطراف العلم الإجمالي الكلي المتعلق بأحكام الشريعة ) ومن الاستصحاب المثبت للتكليف ( إذا لم تكن المسألة من أطراف العلم الإجمالي ) فقد أفاد الشيخ قدس‌سره في وجه بطلان الرجوع إليها : أنه يلزم من إعمالها العسر والحرج المنفيين لكثرة المشتبهات.

والإنصاف : أن دعوى العسر والحرج بالنسبة إلى الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة في محلها ، وسيأتي الكلام فيه.

وأما بالنسبة إلى الاحتياط في بعض الموارد مما يقتضيه نفس المورد ـ من حيث كونه من أطراف العلم الإجمالي الشخصي ـ وكذا الاستصحاب الجاري في المورد الذي علم التكليف به سابقا : فليسا بمثابة يلزم من الرجوع إليهما العسر

٢٣٥

والحرج ، لقلة مواردهما. نعم : لا يبعد ذلك في خصوص المعاملات ، فإن الاستصحاب فيها يقتضي الفساد ، فالرجوع فيها إلى الاستصحاب قد يفضى إلى العسر والحرج ، فتأمل جيدا.

ولكن صحة الرجوع إلى الاحتياط في موارد العلم الإجمالي الشخصي والاستصحابات المثبتة للتكليف لا يغني عن شيء ، لأنها لا تفي بأقل قليل من الأحكام المعلومة بالإجمال في الشريعة ، مضافا إلى العلم الإجمالي بانتفاض الحالة السابقة في بعض موارد الاستصحابات ، وقد تقدم ( في مبحث القطع ) أن الأصول المحرزة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي ولو لم يستلزم منها المخالفة العملية (١).

ومن ذلك يظهر الخلل فيما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره في المقام : من دعوى انحلال العلم الإجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة ببركة جريان الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا من الأحكام.

والإنصاف : أن دعوى انحلال العلم الإجمالي المتعلق بأحكام الشريعة بهذا المقدار من الأصول المثبتة والمعلومات التفصيلية بمكان من الغرابة ، عهدتها على مدعيها ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الأحكام في الشريعة وقلة موارد الأصول المثبتة والمعلومات التفصيلية؟.

وأغرب من هذه الدعوى ما أفاده قبل ذلك بأسطر : من أن العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض مؤديات الأصول المثبتة لا يمنع عن جريانها في خصوص المقام ولو بنينا على عدم جريانها مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الإجمالي في ساير المقامات لاستلزام شمول الدين لها التناقض في مدلوله فان حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الأطراف بمقتضى قوله عليه‌السلام في الصدر : « لا تنقض اليقين

________________________

١ ـ أقول : قد تقدم فساده ، فراجع.

٢٣٦

بالشك » يناقض وجوب النقض في البعض بمقتضى قوله عليه‌السلام في الذيل : « ولكن تنقضه بيقين آخر » لأن تناقض الصدر والذيل إنما يلزم إذا كان اليقين والشك في جميع الأطراف فعليا ملتفتا إليه ، وأما إذا لم يكن الشك الفعلي إلا في بعض الأطراف وكان الطرف الآخر غير ملتفت إليه ، فالاستصحاب إنما يجرى في خصوص الطرف الملتفت إليه الذي يكون الشك فيه فعليا ، ولا يجرى في الطرف الآخر في ظرف جريانه في ذلك الطرف ، لانتفاء شرطه ـ وهو الشك الفعلي ـ وإذا وصلت النوبة إلى جريان الاستصحاب فيه بعد وجود شرطه وحصول الشك الفعلي فيه يكون ذلك الطرف الذي جرى فيه الاستصحاب سابقا خارجا عن محل الابتلاء ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه أيضا ، غايته أنه بعد ذلك يعلم أن أحد الاستصحابين كان مؤداه مخالفا للواقع ، ولا ضير في ذلك بعد ما لم يكن هذا العلم حاصلا في طرف جريان الاستصحاب ، والاستصحابات التي يعملها المجتهد في مقام الاستنباط تكون من هذا القبيل ، فان استنباط الأحكام إنما يكون على التدريج وليس جميع موارد الاستصحابات ملتفتا إليها دفعة ليكون الشك فيها فعليا ، بل الالتفات والشك يكون تدريجيا حسب تدريجية الاستنباط ، فلا يجري الاستصحاب في جميع أطراف الشبهة دفعة واحدة ليكون العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها مانعا عن جريانه ، بل أقصاه حصول العلم بعد تمامية الاستنباط في أبواب الفقه بمخالفة بعض الاستصحابات التي أعملها في مقام الاستنباط للواقع ، وقد عرفت : أن هذا العلم لا يضر بصحة الاستصحابات. هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره بتوضيح منا.

وأنت خبير بما فيه ، فان كل مجتهد قبل خوضه الاستنباط يعلم بأن الأحكام الشرعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجوداتها قد تنتفي بعض خصوصيات الموضوع عند تحققه خارجا الموجب للشك في بقاء الحكم ، وأن الوظيفة عند ذلك هي استصحاب بقاء الحكم ، ويعلم أيضا بانتقاض الحالة

٢٣٧

السابقة في بعض الموارد التي يجرى فيها استصحاب بقاء الحكم ، وإنكار حصول العلم بذلك للمجتهد قبل خوضه في الاستنباط مكابرة واضحة ، والعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الاستصحابات يمنع عن جريان الاستصحاب في كل شبهة في موطنه ، وعدم فعلية الشك في جميع الموارد لعدم الالتفات إليها تفصيلا قبل الاستنباط لا يوجب عدم حصول العلم قبل الاستنباط بمخالفة بعض مؤديات الاستصحاب للواقع في موطن الاستنباط مع كون المسائل التي يخوض فيها للاستنباط مما تعم بها البلوى ولو بالنسبة إلى بعض المقلدين : ومع هذا كيف يصح للمجتهد الافتاء بمقتضى الاستصحابات والحال أنه يعلم بالخلاف ولو في بعضها؟.

والحاصل : أن فعلية الشك في كل شبهة وإن كانت شرطا لجريان الاستصحاب فيها ، وهي تتوقف على الالتفات إلى الشبهة ، إلا أن المفروض حصول العلم بفساد بعض الاستصحابات قبل وصول النوبة إلى جريانه في موطنه ، وهذا العلم هو المانع عن جريان كل استصحاب في موطنه (١).

فالتحقيق : أنه لا يجوز الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها مع قطع النظر عن انضمام ساير الشبهات إليها لا إلى الأصول النافية ولا إلى الأصول المثبتة. أما الأصول النافية : فللعلم بثبوت التكليف في موردها ، فيلزم

________________________

١ ـ أقول : حصول العلم بالانتقاض في زمان مع عدم بقائه في زمان آخر كيف يجدى في منع جريان الأصل في الزمان الآخر؟ بل المانع عن الجريان هو العلم بالانتقاض في زمان الابتلاء باجراء الأصل ، لا قبله ولا بعده ، وحينئذ فمع غفلة المجرى للاستصحاب في مورد عن الشك بالبقاء في مورد آخر كيف يعلم حين إجرائه الأصل بانتقاض أحد الأصلين؟ ولو علم به قبله ، إذ بمحض الغفلة المزبورة يرتفع العلم السابق ، ومع انعدامه كيف يصلح أن يكون مانعا عن جريان الأصل فعلا؟ فتدبر فيما أفيد.

كيف! ولم يلتزم أحد بمانعية العلم السابق ، حتى لو فرض سريان الشك إليه حال جريان الأصل ، إذ لا يتوهم ذلك ذو مسكة ، وحينئذ لنا سؤال الفرق بين انعدام العلم السابق بسريان الشك إليه لاحقا ، أو بغفلته عن الشك الآخر الموجب للغفلة عن أصله الذي هو طرف علمه ، إذ بمثل هذه الغفلة أيضا يرتفع العلم السابق جزما.

٢٣٨

من جريانها المخالفة القطعية للتكليف. وأما الأصول المثبتة : فلقلتها وعدم كفايتها لأحكام الشريعة ولو مع ضم المعلومات التفصيلية إليها ، مضافا إلى العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض مواردها.

وأمّا بطلان الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة : فيدل عليه الإجماع وقاعدة « نفي العسر والحرج » بل « اختلال النظام » على ما سيأتي بيانه.

ولابد في المقام من زيادة بسط في الكلام ، فان كثيرا من المباحث العلمية المذكورة في دليل الانسداد محلها في هذا المقام. ولأجل عدم خلط المباحث ينبغي تقديم أمور :

الأمر الأول : قد عرفت أن الاحتياط يختلف حكمه حسب اختلاف الوجوه الثلاثة المتقدمة في الاستدلال على المقدمة الثانية وهي : عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة.

فعلى الوجه الأول والثاني : يكون الاحتياط طريقا مجعولا شرعيا ، فان الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة أو لزوم المخالفة الكثيرة الموجبة للخروج عن الدين يقتضي عقلا جعل الشارع طريقا إلى أحكامه ، فان المفروض انسداد باب العلم والعلمي إلى الأحكام ، فلا يمكن عدم نصب الطريق مع الحكم بعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ، ولا يصح ايكال الأمر إلى العقل ، فان العقل لا حكم له في غير مورد العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا ، والمفروض أنه لا علم بالتكليف تفصيلا ، لانسداد بابه. والعلم الإجمالي وإن كان حاصلا إلا أن ذلك يرجع إلى الوجه الثالث ، والكلام إنما هو في الوجهين الأولين ، فلابد أولا : من قطع النظر عن العلم الإجمالي وفرض كون جميع الوقايع من الشبهات البدوية ، أو فرض عدم كون العلم الإجمالي منجزا للتكليف ـ كما هو رأى بعض ـ ثم الكلام فيما يقتضيانه الوجهان الأوّلان.

٢٣٩

ولا إشكال أنهما يقتضيان عقلا نصب الشارع طريقا موصلا إلى التكاليف لأن لا يلزم إهمالها ، ولا بد وأن يكون الطريق المنصوب واصلا إلى العباد ، إما بنفسه وإما بطريقه ـ على ما سيأتي المراد من كون الطريق واصلا بطريقه ـ فان الطريق الغير الواصل بنفسه وبطريقه لا يزيد حكمه عن نفس التكاليف التي انسد باب العلم والعلمي بها ، والطريق الواصل بنفسه في حال انسداد باب العلم والعلمي ليس هو إلا الاحتياط (١) فإنه محرز للواقع لما فيه من الجمع بين المحتملات وإدراك الواقعيات. وليس الظن في عرض الاحتياط ، فإنه لا يعقل أن تكون حجية الظن منجعلة بنفسها في حال من الحالات ، كما في بعض الكلمات ، فان الحجية المنجعلة بنفسها منحصرة بالعلم ، لكونه تاما في الكاشفية ومحرزا للواقع بنفسه ، فالظن لولا التعبد به وتتميم نقص كشفه لا يكون محرزا للواقع ، بخلاف الاحتياط فإنه بنفسه بلا حاجة إلى التماس دليل يكون محرزا للواقع ، فالطريق الواصل بنفسه بلا مؤنة ليس هو إلا الاحتياط (٢) وإذا بطل الاحتياط بأحد الوجوه الآتية يتعين عقلا نصب الشارع الظن طريقا ، إذ لا طريق غيره حينئذ. هذا لو كان الوجه في المقدمة الثانية

________________________

١ ـ أقول : معنى الطريق الواصل بنفسه ما هو معلوم بنفسه طريقيته للمكلف بلا احتياج إلى طريق آخر توصله إلى العباد ، قبال ما هو الواصل بطريقه كالطريق الذي ظن حجيته بظن علم حجية هذا الظن لدى المكلف ، قبال ما لا يكون واصلا إلى المكلف رأسا كالطرق الواقعية المجهولة لدى المكلف ولو تفصيلا بناء على كون المراد من الوصول التفصيلي ، وسيأتي نتيجة هذا التفصيل عند فرض استكشاف الحجة الشرعية تعميما أو إهمالا.

وفى هذه الجهة معنى نصب الشارع طريقا واصلا نصبه طريقا علم بجعله بنفسه بلا توسط طريق آخر ، وفي هذه الجهة لا يتفاوت بين كون المجعول هو ايجاب الاحتياط أو حجية الظن بمعنى الوسطية ، فمن هذه الجهة يكون حجية الظن في عرض ايجاب الاحتياط.

نعم : بينهما تفاوت من جهة أخرى ، وهو أن الاحتياط موصل إلى الواقع بنفسه والظن لا يكون موصلا إليه بنفسه ، وهذه الجهة غير مرتبط بالواصل بنفسه والواصل بطريقه ، قبال غير الواصل رأسا.

٢ ـ أقول : ما هو منحصر بالاحتياط الطريق الموصل بنفسه ، لا الواصل بنفسه « ببين تفاوت ره از كجا است تا به كجا! ».

٢٤٠