فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

بحجية الطرق والأصول ، وهذا غير العلم بالواقع الجعلي.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الوجوه أو الأقوال في قيام الطرق والأمارات والأصول التنزيلية مقام القطع ثلاثة :

الأول : قيامها مقامه بجميع أقسامه حتى فيما إذا اخذ موضوعا على نحو الصفتية.

الثاني : عدم قيامها مقام ما اخذ في الموضوع مطلقا ولو على نحو الطريقية والكاشفية.

الثالث : قيامها مقام القطع الطريقي مطلقا ولو كان مأخوذا في الموضوع ، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي ، وهذا هو الأقوى ، فان ما ذكر مانعا عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعا على وجه الطريقية ـ من استلزام الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد ـ ضعيف غايته ، فان الاستلزام المذكور مبنى على جعل المؤدى الذي قد تبين فساده. وأما على المختار : من أن المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الكاشفية والمحرزية والوسطية في الإثبات ، فيكون الواقع لدى من قامت عندي الطرق محرزا كما كان في صورة العلم ، والمفروض أن الأثر مترتب على الواقع المحرز ، فان ذلك هو لازم أخذ العلم من حيث الكاشفية موضوعا ، وبنفس دليل حجية الأمارات والأصول يكون الواقع محرزا فتقوم مقامه بلا التماس دليل آخر (١) وتركيب

__________________

(١) أقول : بعد ما لا يكون في مفاد الأصول جهة إحراز وتتميم كشف ، بل غايته هو الرضا بجري العمل بعنوان أنه واقع من دون اقتضاء هذا المعنى لإثبات العلم بالواقع الحقيقي لا وجدانا ولا تعبدا ، وإنما غاية اقتضائه العلم بالواقع التعبدي لا الحقيقي ، ومعلوم : أن مثل هذا العلم غير العلم بالواقع الحقيقي ؛ وحينئذ قيام أحدهما مقام الآخر يحتاج إلى جعل آخر ولا يفي به مفاد أدلة الأصول كما هو الشأن لو كان مفاد أدلة الأمارات هو التعبد بكون المؤدى هو الواقع بلا تتميم كشف فيه ، وحينئذ فما أفيد بأن الواقع بنفس دليل حجية الأمارات والأصول محرز صحيح ، ولكن في الأمارات يكون الواقع الحقيقي محرزا بالعناية ، وفي الأصول كان الواقع التعبدي محرزا بالوجدان ، ولا نفهم أزيد من ذلك.

٢١

الموضوع من الواقع والإحراز ليس على حد الموضوع المركب من الأجزاء العرضية كالصلاة ، فان الأجزاء العرضية تحتاج إلى أن تكون كل منها محرزة بالوجدان ، أو بالتعبد ، أو بعضها بالوجدان وبعضها بالتعبد ، ولا يكون إحراز أحد الأجزاء إحرازا للآخر أو التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، بل يحتاج كل منها إلى تعبد مستقل أو إحراز مستقل ، وهذا بخلاف التركيب من الشيء وإحرازه ، فإنه بنفس إحراز ذلك الشيء يتحقق كلا جزئي الموضوع ولا يحتاج إلى احرازين أو تعبدين ، بل لا معنى لذلك ، فلو فرض أن الشارع جعل الظن محرزا للواقع فبنفس جعله يتحقق كلا جزئي الموضوع ، ولا يحتاج إلى جعلين حتى يقال : إنه ليس في البين جعلان والجعل الواحد لا يمكن أن يتكفل كلا الجزئين لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، حيث إن تنزيل الظن منزلة العلم باعتبار المودى يرجع في الحقيقة إلى تنزيل المظنون منزلة المعلوم ، فيكون النظر إلى الظن والعلم نظرا مرآتيا ، وتنزيل الظن منزلة العلم باعتبار نفسه وبما أنه جزء الموضوع يرجع في الحقيقة إلى لحاظ الظن والعلم شيئا بحيال ذاته ، ويكون النظر إليهما نظرا استقلاليا ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في جعل واحد ، لا لمكان أنه ليس هناك مفهوم عام يجمعهما ، كما يقال : إن الجمع بين الشيئين في استعمال واحد لا يمكن لعدم الجامع بينهما ، بل لمكان عدم إمكان الجمع بين اللحاظين لتنافيهما ذاتا. وهذا الاشكال قد كان دائرا على ألسنة أهل العلم من زمن الشيخ ( قده ) إلى زماننا هذا ، على ما حكاه شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) وقد تبين أنه لا موضوع لهذا الإشكال ولا محمول ، فان مبنى الإشكال هو تخيل أن المجعول في باب الطرق والأمارات والأصول هو المؤدى وتنزيله منزلة الواقع والخلط بين الحكومة الواقعية والحكومة

__________________

وما أفيد للحكومة في المقام إنما يتم في الأول لا الأخير ، ولعمري! أن بيان مرامه في هذه المقامات نحو رمز لا نفهم إلا بشرحه ، وعليه بشرح مرامه ، وإلا فلا يكون لهذه البيانات معنى محصل.

٢٢

الظاهرية ، فيقال : إن في قيام الظن مقام العلم المأخوذ موضوعا يحتاج إلى تنزيلين : تنزيل المظنون منزلة المقطوع ، وتنزيل الظن منزلة القطع ، وأنت بعد ما عرفت حقيقة المجعول في باب الأمارات والأصول ظهر لك : انه ليس في البين تنزيل أصلا ، بل الشارع إنما أعطى صفة المحرزية للظن ، فيرتفع الإشكال من أصله.

فان قلت : هب ان المجعول في باب الأمارات والأصول ذلك ، إلا أن الذي اخذ جزء الموضوع في ظاهر الدليل هو العلم والإحراز الوجداني ، وبأي دليل تقولون : إن الإحراز التعبدي يقوم مقام الإحراز الوجداني؟.

قلت : يمكن التفصي عن هذه بوجوه :

الأول : دعوى أن المراد من العلم الذي اخذ في ظاهر الدليل موضوعا هو العنوان الكلي ـ أي عنوان المحرز ـ بلا أخذ الإحراز الوجداني قيدا له (١) غايته أنه لولا جعل الشارع الطرق والأصول محرزة كان مصداق عنوان المحرز منحصرا بالمحرز الوجداني ، وبعد ذلك الجعل الشرعي يتحقق مصداق آخر

________________________

(١) أقول : بعد ما كان المراد من الإحراز الوجداني بل كل أمر وجداني ما كان العقل بوجدانه يطبق عنوانه على الموجود ، سواء كان الشيء الموجود ذاتيا له أو عرضيا ـ كالبياض المجعول للجسم بسبب في قبال ما فيه البياض باقتضاء ذاته كالثلج مثلا فإنه لا يكون مجعولا للثلج بل بعين جعل الثلج يتحقق البياض ـ فما لا يكون بهذه المثابة قد تقدم أنه لا يطبق العقل عنوانه عليه إلا بنحو من الإدعاء والعناية ، وحينئذ ففي قبال الإحراز الوجداني لا يتصور إلا الإحراز بالعناية والادعاء ، ولا يتصور في البين ثالث ، لما عرفت من دوران الأمر فيه بين النفي والإثبات. وحينئذ نقول : إن مرجع الإحراز بالعناية إلى تنزيل عدم الإحراز منزلة الإحراز ، كجميع العناوين الادعائية ، وقوام هذا الإدعاء إنما هو بكون الشيء خارجا عن حقيقة المنزل عليه بتمامه ، ومعه كيف بتصور اشتراكهما في الجامع الحقيقي بواسطة الإدعاء والتنزيل كي يصير البحث في المقام لفظيا؟.

نعم : لو أريد من الإحراز التشريعي الإحراز الحقيقي بنحو يطبق العقل العنوان عليه بعد الجعل بنحو الحقيقة ـ بحيث كان هذا الإحراز مثل البياض المجعول للجسم أمرا وجدانيا ـ ففي هذه الصورة صح دعوى الجامع بين الإحراز الذاتي والعرضي بعد اشتراكهما في صدق الإحراز الوجداني ، ولكن أنى لك بذلك! ثم أنى لك! إذ لا أظن توهمه من ذي مسكة.

٢٣

للمحرز ، كما هو الشأن في جميع العناوين الكلية ، كما يقال في الشمس : إنها كوكب نهاري ناسخ ضوئه وجود الليل ولكن في الخارج منحصر في الفرد ، فلو فرض أنه وجد فرد آخر مثل هذا الموجود كان أيضا من مصاديق ذلك العنوان ، فكذا يقال في العلم وأنه عبارة عن عنوان « المحرز » ويكون الموضوع في الحقيقة هو هذا العنوان ، وبالتعبد الشرعي يتحقق مصداق آخر لعنوان « المحرز » هذا.

ولكن للمنع عن هذا الدعوى مجال ، من جهة أن هذا في الحقيقة يرجع إلى البحث اللغوي وأن العلم موضوع لكلي المحرز أو لخصوص المحرز الوجداني ، ولا سبيل إلى إثبات أنه موضوع للعنوان الكلى.

الثاني : دعوى استخراج المناط نظير العلة المستنبطة ، بأن يقال : إنه وإن كان المأخوذ في لسان الدليل هو خصوص العلم والإحراز الوجداني ، إلا أنه نقطع بأنه ليس للوجدان دخل ، بل المناط هو جهة الإحراز الموجودة في الظن أيضا بعد اعتباره شرعا ، هذا وللمنع عن هذه الدعوى أيضا مجال ، فإنها موقوفة على استخراج المناط القطعي ولا سبيل إلى إثبات ذلك.

الثالث : ( وهو الذي يحسم مادة الإشكال ) دعوى أن ذلك من مقتضيات حكومة أدلة الطرق والأمارات والأصول على الواقعيات (١) بالبيان

________________________

(١) أقول : إن من أسس أساس الحكومة والورود كلماته مشحونة بأن مرجع الورود إلى اقتضاء الجعل لتضييق دائرة دليل الإحراز وتوسعته حقيقة ، ومرجع الحكومة إلى تضييق دائرته عناية وادعاء وأن لبه يرجع إلى التخصيص ، كما أن الأول يرجع إلى التخصص على وجه ، وإن كان بينهما فرق. وحينئذ إذا فرضت في الطرق أنها لا تكون إلا توسعة في طريق الواقع بلا حكم ظاهري ولا تصرف في الواقع ولو بالعناية ، فمن أين لمثل هذا الجعل حكومة على الواقع ولو ظاهرا؟ وتسمية التوسعة في الطريق محضا بالحكومة الظاهرية بالنسبة إلى الأحكام اصطلاح جديد ما سمعناه من آبائنا الأولين!.

نعم : الحكومة الظاهرية صحيحة بالنسبة إلى مفاد الأصول الذي ليس فيها توسعة إحراز بجعله ، وإنما المجعول فيها الأمر بالمعاملة مع أحد الاحتمالين معاملة الواقع ، فان مرجع ذلك إلى توسعة الواقع بالعناية وايصاله إلى مرحلة الظاهر وفي ظرف الشك والاحتمال ، ثم في مثله ليس إلا العلم الوجداني بالواقع بالعناية ، بخلاف الطرق ، فان نتيجة جعلها هي العلم بالعناية بالواقع الحقيقي ، ومن ذلك يقوم مقام العلم الموضوعي ، بخلاف

٢٤

المتقدم من معنى الحكومة وأنها ظاهرية لا واقعية وأن حكومتها لأجل كونها واقعة في طريق إحراز الواقعيات فتكون حاكمة على كلا جزئي الموضوع : من الواقع ومن الإحراز ، بل حكومتها على الواقع لمكان كونها محرزة له ، فتكون حكومتها على أحد جزئي الموضوع انما هي بعناية حكومتها على الجزء الآخر وهو الإحراز فأي أثر رتب في الشريعة على العلم بما أنه محرز يترتب على الطرق والأمارات والأصول المحرزة ولو كان ذلك الأثر من جهة دخله في الموضوع وكونه جزئه ، فإنه يكفي هذا المقدار من الأثر في صحة التعبد ولا يتوقف على أن يكون تمام الموضوع.

والحاصل : أن نتيجة الحكومة الظاهرية هي التوسعة في الإحراز وأنه أعم من الإحراز الوجداني ، وإلا لم يكن للحكومة معنى ، وبملاحظة هذه الحكومة صح أن يقال : إن الموضوع هو الأعم من الإحراز الوجداني وهو العنوان الكلي ، لكن لا لمكان أن معنى العلم ذلك ـ كما هو مفاد الوجه الأول ـ بل لمكان الحكومة وأن نتيجتها تكون ذلك.

فظهر : أن في قيام الطرق والأمارات والأصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية لا يحتاج إلى التماس دليل آخر غير أدلة حجيتها ، وأن قيامه مقامه من لوازم حجيتها وحكومتها على الأحكام الواقعية بالحكومة الظاهرية.

هذا إذا اخذ العلم في الموضوع على وجه الطريقية ، وأما إذا لم يؤخذ في موضوع أصلا وكان طريقا عقليا محضا فقيامها مقامه أولى ، لأن الواقع يكون

________________________

الأول ، فإنه لا يكون نتيجة جعله العلم بالواقع الحقيقي لا حقيقة ووجدانا ولا عناية وادعاء ، فيحتاج في قيامه مقام العلم الموضوعي إلى جعل آخر من تنزيل العلم بالواقع بالعناية منزلة العلم بالواقع الحقيقي. ولو فرض مثل هذا الجعل ـ ولو بالملازمة العرفية كما قيل ـ كانت هذه الحكومة حكومة واقعية ، ولا معنى لإطلاق الحكومة الظاهرية هنا ، وبالله! عليك أن تتأمل في ما قيل ، ترى بأنه لا مفهوم محصل تحت هذه البيانات.

٢٥

حينئذٍ مرسلا غير مقيد بقيد ، والمفروض أنها مثبتة للواقع فلا مانع من قيامه مقامه.

وأما قيامها مقام القطع المأخوذ على جهة الصفتية فلا يمكن ، لأنه يكون حينئذ كسائر الصفات النفسانية ومفاد حجية الطرق والأمارات أجنبي عن إفادة ذلك ، فان مفادها الوسطية في الإثبات وإحراز الواقع ، وأين هذا من تنزيل الظن منزلة القطع من حيث الصفتية! فقيام الظن مقام القطع من هذه الجهة يحتاج إلى دليل آخر وراء أدلة الحجية.

وظاهر عبارة الشيخ ( قده ) أنه هو لو قام دليل آخر على قيام الظن منزلة العلم من هذه الجهة يكون مفاد ذلك الدليل مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات من حيث قيامها مقام العلم الطريقي ، أي يكون مدلول ذلك الدليل من سنخ مدلول الأمارات من حيث كونه حكما ظاهريا.

ولا يخفى ما فيه ، فإنه لو فرض أنه قام دليل على تنزيل الظن منزلة العلم من هذه الجهة يكون ذلك من التنزيل الواقعي والتعميم في ناحية الموضوع واقعا من قبيل قوله « الطواف بالبيت صلاة » وليس ذلك من الحكم الظاهري ، لما تقدم من أن الحكم الظاهري ما كان في طول الواقع وواقعا في طريق إحرازه ، وأين هذا من تنزيل صفة مقام صفة أخرى ، فإن الظن حينئذ لم يعتبر من حيث إحرازه للمتعلق ، بل من حيث إنه صفة ، فيكون في عرض العلم موضوعا واقعيا لحكم واقعي ، وذلك واضح.

والذي يسهل الخطب أنه لم نعثر في الفقه على مورد اخذ العلم فيه موضوعا على وجه الصفتية ، والأمثلة التي ذكرها الشيخ ( قده ) في الكتاب ليس شيء منها من هذا القبيل ، فان العلم في باب الشهادة اخذ من حيث الطريقية ، ولذا جاز الشهادة في موارد اليد ، كما دلت عليه رواية ( حفص ) (١) وفي باب

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث ٢.

٢٦

الركعتين الأولتين لم يؤخذ فيهما على نحو الصفتية ، بل على نحو الطريقية ، كما يدل على ذلك بعض الأخبار الواردة في ذلك الباب قوله عليه‌السلام : « حتى تثبتهما أو تحرزهما » (١) وأمثال ذلك من التعبيرات الظاهرة في أن العلم اعتبر من حيث الطريقية. وبالجملة : ظاهر العلم مهما اخذ في لسان الدليل هو العلم الطريقي ، وإرجاعه إلى العلم الصفتي يحتاج إلى قرينة لم نعثر عليها في شيء من المقامات.

ثم إن للمحقق الخراساني ( قده ) كلام في حاشيته على « الفرائد » في وجه قيام الطرق والأصول مقام القطع بجميع أقسامه ، حتى بما اخذ على وجه الصفتية ( وقد عدل عنه في الكفاية ) وحاصل ما أفاده في « الحاشية » هو أن أدلة الطرق والأمارات إنما توجب تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، ولمكان العلم بحجية الأمارات يتحقق العلم بالمؤدى وأنه بمنزلة الواقع ، وهناك ملازمة عرفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل العلم بالمؤدى وأنه بمنزلة الواقع منزلة العلم بالواقع ، فيتحقق كلا جزئي الموضوع بلا استلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، فإن أدلة الأمارات لم تتكفل إلا لتنزيل المؤدى فقط ، وكان تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع بالملازمة العرفية بين التنزيلين ، فكأنه تحقق كل جزء من جزئي الموضوع بدليل يخصه ، كما أنه لو قام دليل بالخصوص في ما اخذ العلم جزء الموضوع على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فإنه بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية لابد من تنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع ، لأن المفروض أنه لا أثر للواقع حتى ينضم إليه العلم ، هذا إذا قام دليل بالخصوص على تنزيل المؤدى فيما اخذ العلم جزء الموضوع.

وأما الأدلة العامة لحجية الطرق والأمارات فدلالة الاقتضاء لا تقتضي ذلك ، لأنه لو لم ينزل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع لا يلزم لغوية

__________________

(١) الوسائل : الباب ١ من أبواب الخلل الحديث ١٥.

٢٧

جعل الحجية إذ يبقى لها مورد ، وهو ما إذا كان الأثر مترتبا على نفس المودى بلا دخل للعلم فيه ، ولكن مع ذلك الملازمة العرفية تقتضي تنزيل أحد العلمين منزلة الآخر.

هذا حاصل ما أفاده في « الحاشية » ورده في « الكفاية » بما حاصله :

ان ذلك يستلزم الدور المحال (١) فان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيما كان للعلم دخل لا يمكن إلا بعد تحقق العلم في عرض ذلك التنزيل ، فإنه ليس للواقع أثر يصح بلحاظه التنزيل ، بل الأثر مترتب على الواقع والعلم به ، والمفروض أن العلم بالمؤدى يتحقق بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فيكون التنزيل موقوفا على العلم والعلم موقوفا على التنزيل ، وهذا دور محال ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : أنه لا ينحصر الإشكال على ما أفاده في « الحاشية » بالدور ، بل مضافا إلى الدور يرد عليه :

أولا : ان ذلك مبنى على أن يكون المجعول في باب الطرق والأمارات هو المؤدى ، وقد تقدم فساده وأن جعل المؤدى يوجب التصويب (٢) ويقتضي أن تكون الحكومة واقعية لا ظاهرية ، وهذا ينافي ما عليه المخطئة ، وسيأتي أيضا تفصيل ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في باب جعل الطرق والأمارات.

وثانيا : ان المفروض أن الموضوع مركب من العلم ومتعلقه ، و

________________________

(١) أقول : عمدة الإشكال فيما أفيد في دعوى الملازمة العرفية ، وإلا فمع الالتزام به فإنما يرد إشكال الدور على فرض الاحتياج في صحة التنزيل إلى فعلية الأثر للجزء الآخر ، وإلا فلو قلنا بأن أثر الجزئية هي القضية التعليقية من أنه لو انضم إليه الجزء الآخر ليجب فعلا وأنه يكفي لصحة التنزيل هذا المقدار الناشئ من جعله جزء ، فلا دور ، لعدم توقفه على فعلية الجزء الآخر.

(٢) أقول : لو كان نتيجة جعل المودى منزلة الواقع حكما مستقلا عن إرادة مستقلة لا يلزم تصويب ، بل غاية الأمر جعل حكم ظاهري في طول الواقع ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) فضلا عن أن يكون نتيجته جعل حكم طريقي ـ الذي عبارة عن حكم وخطاب ظاهري ـ مبرز للإرادة الواقعية ، بل الحكم الواقعي أيضا ، لأنه تتم مع إرادته ، كما هو الشأن في جميع الخطابات الايجابية الظاهرية وغيرها ، كما سيجيء شرحها في بحث الظن ( إن شاء الله ) فتدبر.

٢٨

التركيب من العلم ومتعلقه ليس على حد سائر الموضوعات المركبة من الأمور المتباينة كالصلاة ، فان المركب من الأمور المتباينة يقتضي أن يكون لكل من الأجزاء إحراز يخصه ، وقد يكون إحراز بعض الأجزاء متقدما زمانا أو رتبة على إحراز الجزء الآخر ، ولا يتوقف إحراز أحدها على إحراز البقية. نعم : الأثر يتوقف على إحراز الجميع ، إما بالوجدان ، وإما بالتعبد ، وهذا بخلاف الموضوع المركب من العلم ومتعلقه (١) فإنه لا يمكن أن يتعلق بكل من العلم والمتعلق إحراز يخصه ، إذ ليس للإحراز إحراز ولا يتعلق العلم بالعلم ، بل بنفس إحراز المتعلق يتحقق كلا جزئي المركب في زمان واحد وفي مرتبة واحدة ، ولا يعقل أن يتقدم إحراز المتعلق على إحراز الجزء الآخر ، وإحراز المتعلق ، إما أن يكون بالعلم الوجداني كما إذا علم وجدانا بالملكية فيجوز له الشهادة لصاحبها ـ بناء على أخذ العلم جزء لموضوع الشهادة ـ وإما أن يكون بالتعبد الشرعي بجعل ما يكون محرزا للمتعلق ، فيتحقق أيضا كلا الجزئين بنفس الجعل الشرعي كما كان يتحقق بالعلم الوجداني. وهذا إنما يستقيم بناء على بيناه : من أن المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الوسطية في الإثبات والمحرزية للمتعلق ، فيتحقق كلا جزئي الموضوع بنفس هذا الجعل ، بلا حاجة إلى جعلين ولحاظين.

وأما لو بنينا على تعلق الجعل بالمؤدى : فهذا الجعل بنفسه لا يوجب تحقق كلا الجزئين ، إذ الإحراز لم يتحقق بهذا الجعل ، وبعد ذلك يستحيل أن يتحقق جزئه الآخر ، لما عرفت : من أن الموضوع المركب من الإحراز ومتعلقه

________________________

(١) أقول : هذا البيان صحيح على مبناك : من كون دليل الأمارة ناظرا إلى تتميم الكشف وجاعلا لإحراز الواقع تشريعا وادعاء ، وأما بناء على مسلك أستاذنا : من تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فلا يكون في البين جعل إحراز تشريعا ، وإنما الحاصل من التنزيل المزبور الإحراز الوجداني بالواقع التعبدي ، وهو جزء الموضوع ، فيحتاج جزئه الآخر إلى جعل آخر ، وهذا الجعل لا يفي به لولا دعوى الملازمة العرفية الممنوعة ، مع الإغماض عن الدور المزبور الذي اعترفت به ، كما أنك أيضا اعترفت بأن الإشكال يرد على تنزيل المؤدى ، فمرجع هذا الإشكال إلى الإشكال السابق عليه ، فلا حاجة إلى تكثيره.

٢٩

يتحقق كلا جزئيه في مرتبة واحدة ولا يتقدم إحراز أحدهما على الآخر ، ولا يمكن أن يصير الإحراز بشيء آخر غير الملكية مثلا في المثال المتقدم جزء موضوع الشهادة بعد ما اخذ جزء الموضوع هو إحراز نفس الملكية ، والإحراز الحاصل من تنزيل المؤدى هو إحراز الحجية والعلم بها ، وأين ذلك من العلم بالملكية؟ وكيف ينضم العلم بالحجية إلى الملكية التي هو مؤدى الإمارة ويلتئم جزئي الموضوع من الإحراز والملكية مع أن الموضوع هو إحراز الملكية (١) فتأمل. (٢).

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن قيام الطرق والأصول مقام العلم الطريقي لا يحتاج إلى كلفة جعلين ولحاظين ، بل نفس أدلة حجيتها تفي بذلك بعد ما كانت حجيتها عبارة عن وسطيتها في الإثبات ووقوعها في طريق إحراز الواقع وكونها محرزة له ـ كما هو الشأن في الطرق العقلائية ـ بل الظاهر أنه ليس للشارع طريق مخترع ، بل الطرق الشرعية كلها إمضاء لما في يد العقلاء من الطرق المحرزة لمؤدياتها ، ولكونها واقعة في طريق إحراز الواقع كان حكومتها حكومة ظاهرية ، ويستقيم حينئذ جميع ما فرع على ذلك مما يقتضيه أصول المخطئة من عدم الإجزاء وإيجاب الإعادة والقضاء عند المخالفة ، وهذا بخلاف ما إذا كان المجعول هو المؤدى ، فإنه يكون من الحكومة الواقعية ولابد حينئذ من القول بالإجزاء ، ويكون ذلك من التصويب المعتزلي. على ما سيأتي تفصيله.

ثم إن شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) قد تعرض في المقام لوجه حكومة الأمارات على الأصول ، وحكومة الأمارات والأصول بعضها على بعض ، وأن

________________________

(١) وجهه : هو أن المدعى تنزيل الشارع العلم بالحجية والمؤدى منزلة العلم بالملكية ، ولا إشكال في أنه يمكن للشارع هذا التنزيل ، والمفروض دعوى الملازمة العرفية على هذا التنزيل ، فينبغي الاشكال في الملازمة العرفية وأنه ليس هناك ملازمة ، ولكن بعد تصديق الملازمة وأن المجعول هو المؤدى لا يرد عليه الاشكال الأخير ، فالذي يرد عليه منع كون المجعول هو المؤدى ، ثم منع الملازمة العرفية ، ثم استلزام ذلك الدور ( منه ).

(٢) أقول : رحمة الله عليك! حيث نبهت وجئت بما فيه في شرح التأمل ، ولكن يا ليت قنعت في الإشكال بالأولين دون الأخير!.

٣٠

الحكومة في الجميع تكون حكومة ظاهرية ومن شؤون حكومتها على الواقعيات ، ونحن قد استقصينا الكلام في ذلك في خاتمة الاستصحاب فراجع (١) هذا تمام الكلام في أقسام القطع وأحكامها.

وأما الظن : فمجمل الكلام فيه ، هو أن الظن ليس كالعلم حجيته منجعلة ومن مقتضيات ذاته ، بل لابد وأن تكون حجيته بجعل شرعي.

وما يقال : من أن الظن في حال الانسداد على الحكومة يكون حاله كالعلم لم تكن حجيته بجعل شرعي بل عقلية محضة وليس موردا لحكم شرعي ـ ولو بقاعدة الملازمة ـ فضعيف غايته ، فإن الظن لا يكون حجة عقلية في شيء من الحالات ، ولا تكون منجعلة كالعلم ، واعتبار الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ليس معناه حجية الظن عقلا بحيث يقع في طريق إحراز الواقعيات إثبات التكاليف به ، بل معناه كفاية الامتثال الظني في الخروج عن عهد التكاليف المعلومة إجمالا ، فالحكم العقلي واقع في طريق الامتثال والإطاعة ، لا في طريق الإثبات والإحراز حتى يكون الظن حجة عقلية ، وسيأتي توضيح ذلك مفصلا ( إن شاء الله تعالى ) في محله (٢) وبالجملة : حجية الظن لا تكون منجعلة في شيء من الحالات ، بل إما أن يكون حجة شرعية ، وإما أن لا يكون ، ولا ثالث لهما.

ثم ما يكون حجة شرعية لإثبات متعلقه وواقعا في طريق إحرازه تارة : يؤخذ موضوعا لحكم آخر غير حكم متعلقه لا يضاده ولا يماثله ، كما إذا قال « إذا ظننت بعدد ركعات الصلاة يجب عليك التصدق » حيث إن الظن الذي هو حجة في عدد ركعات الصلاة ومحرز لها شرعا اخذ موضوعا لوجوب

__________________

(١) أقول : ولقد راجعنا إلى الاستصحاب ، فما كان هناك شيء زائد عما هنا.

(٢) أقول : هذا المشرب يرجع إلى التبعيض في الاحتياط ، وسيجيء ( إن شاء الله ) أن ذلك لا يناسب مع كثير من الشبهات المتعلقة بدليل الانسداد أيضاً.

٣١

التصدق. وأخرى : يؤخذ موضوعا لما يضاد حكم متعلقه. وثالثة : لما يماثله. ورابعة : يؤخذ موضوعا لنفس حكم المتعلق ، هذا فيما إذا كان حجة شرعية لإثبات متعلقه ، وكذا الحال فيما إذا لم يكن حجة شرعية ، فإنه يجرى فيه هذه الأقسام الأربعة.

وعلى جميع التقادير : تارة يؤخذ على وجه الصفتية ، وأخرى على وجه الطريقية ، تمام الموضوع أو جزئه ، ولكن هذه غالبا مجرد تصورات لا واقع لها ، بل بعضها محال لا يعقل. والذي هو واقع في الشريعة ليس إلا اعتبار الظن على وجه الطريقية والكاشفية والمحرزية لمتعلقه الذي هو مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات ، من دون أن يؤخذ الظن موضوعا لحكم آخر. هذا هو الواقع.

وأما الذي يمكن أن يقع عليه : فهو أنه لا إشكال في إمكان أخذه موضعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله ، سواء كان الظن حجة وطريقا شرعا إلى متعلقه أو لم يكن ، وسواء أخذ على وجه الصفتية أو الطريقية ، وسواء كان تمام الموضوع أو جزئه ـ على إشكال فيما اخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية ـ وقد تقدم في العلم (١).

وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه فلا يمكن مطلقا ، من غير فرق بين أن يكون حجة لاثبات متعلقه أو لم يكن ، ومن غير فرق بين أخذه على وجه الصفتية أو الطريقية ، تمام الموضوع أو جزئه ، لأنه يلزم اجتماع الضدين ولو في الجملة (٢) وفي بعض الموارد على كل حال ، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي كما توهم ، فان مسألة اجتماع الأمر والنهي إنما هي فيما

________________________

(١) أقول : قد تقدم دفعه أيضا.

(٢) أقول : هذا صحيح لو كان أخذ عنوان المظنونية بنحو الجهة التقييدية ، وإلا فلو كان بنحو التعليل ، فلا بأس بأخذه في الموضوع بنفس ذاته مع عدم حجيته شرعا. نعم : مع حجيته يستحيل أخذه كذلك بنحو الجزئية أو التمامية صفة أو طريقا.

٣٢

إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس متعلق التكليف ، وهو الفعل الصادر على المكلف ـ كالصلاة والغصب ـ بالشرائط المتقدمة في محله ، وأين هذا مما نحن فيه مما يؤخذ الظن موضوعا لمضاد حكم متعلقه؟ فإنه يلزم اجتماع الأمر والنهي في محل واحد ، مثلا لو فرض أن حكم الخمر واقعا هو الحرمة وحكم مظنون الخمرية هو الوجوب ، ففي صورة مصادفة الظن للواقع يلزم اجتماع الوجوب والحرمة ، بل في صورة أخذ الظن جزء الموضوع دائما يلزم اجتماع الضدين في الواقع وعالم الجعل.

هذا إذا تعلق الظن بموضوع خارجي ، وكذا لو تعلق بحكم شرعي ، كما لو فرض أن حكم صلاة الجمعة هو الوجوب والظن بهذا الوجوب اخذ موضوعا للحرمة ، فإنه يلزم أيضا اجتماع الضدين في صلاة الجمعة على كل حال ، وذلك واضح.

وأما لو اخذ موضوعا لمماثل حكم متعلقه ، فإن لم يكن الظن حجة شرعية لإثبات متعلقه فلا مانع من أخذه كذلك ، غايته أنه في صورة مصادفة الظن للواقع يتأكد الحكمان ، كما هو الشأن في اجتماع كل عنوانين على موضوع واحد ، ولا يلزم اجتماع المثلين ، فإن اجتماع المثلين المستحيل إنما هو فيما إذا تعلق حكم على موضوع بعنوان ثم يتعلق حكم آخر مماثل لذلك الحكم على ذلك الموضوع بذلك العنوان. وأما إذا تعلق حكم على موضوع مع قطع النظر عن الطوارئ ثم تعلق حكم مماثل على ذلك الموضوع باعتبار الطوارئ ، فهذا ليس من اجتماع المثلين ولو كانت النسبة بين ذلك الموضوع وبين الطوارئ العموم المطلق ، فإنه في صورة الاجتماع يتأكد الحكمان (١) ويتولد منهما حكم واحد آكد ، في موارد تعلق

________________________

(١) أقول : لا مجال في أمثال المقام بالالتزام بالتأكد ، حيث إن التأكد يقتضي وحدة الوجود وهو ينافي طولية الحكمين ، بحيث يكون مجال تخلل الفاء ، إذ مع هذا التخلل لا يتصور الاتحاد كي يتصور التأكد ، فالأولى في

٣٣

النذر بالواجب ـ حيث يتأكد الوجوب ـ وتعلق الظن بشيء من الطوارئ ، فيمكن أن يكون حكم الخمر واقعا هو الحرمة ومظنون الخمرية أيضا حكمه الحرمة وفي صورة مصادفة الظن للواقع يتأكد حرمته ، هذا إذا لم يكن الظن طريقا محرزا لحكم متعلقه ولم يكن حجة شرعية لذلك.

وأما الظن المحرز لمتعلقه وما يكون حجة شرعية عليه : فلا يمكن أن يؤخذ موضوعا لحكم المماثل ، فإن الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء ، بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك في ذلك الشيء غير ما هو عليه من الملاك ، فلو كان حكم الخمر في الواقع هو الحرمة فلا يمكن أن يكون إحراز تلك الحرمة موجبا لطرو حكم آخر على الخمر المحرز ، لأن الحكم الثاني لا يصلح لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ، فإن الانبعاث إنما يتحقق بنفس إحراز الحكم الواقعي المجعول على الخمر ، فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز ، ولذلك لا يعقل أخذ العلم موضوعا لحكم مماثل للمتعلق أو لحكم المتعلق ، من جهة أن العلم بالشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء الموجبة لملاك آخر غير ما هو عليه.

والفرق بين العلم والظن ، هو أنه في العلم مطلقا لا يمكن ، لكون إحرازه ذاتيا له ، بخلاف الظن ، فإنه فيما اخذ حجة شرعية لا يمكن ، وفيما لا يؤخذ يمكن بالبيان المتقدم.

فتحصل : أن أخذ الظن موضوعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله بجميع أقسامه يمكن ، وهي ستة : فان أخذ الظن موضوعا لحكم آخر ، إما

________________________

هذه الصورة التفرقة بين كون الظن المزبور من الجهات التقييدية أو التعليلية ـ بجوازه في الثاني دون الأول ـ كما سيجيء توضيح هذا المحال في بحث التجري ( إن شاء الله تعالى ).

والعجب أنه جعل باب النذر أيضا من باب التأكد مع أن النذر من الجهات التعليلية! وإلا فلا مدفع للإشكال بعد بطلان التأكد في الطوليين إلا بنحو أسسناه في باب التجري : من طولية العنوانين مع وحدة المعنون ، كما سيجيء شرحه ( إن شاء الله تعالى ).

٣٤

أن يكون على وجه الصفتية وإما أن يكون على وجه الطريقية. والصفتية إما أن تكون تمام الموضوع وإما أن تكون جزئه. وأما أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية فقد عرفت الإشكال فيه.

والموضوع في كل من هذه الأقسام الثلاثة ، إما أن يكون هو الظن المجعول حجة شرعية لمتعلقه ، وإما الظن الغير المجعول ، فتكون الأقسام ستة. هذا في الظن المأخوذ موضوعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله.

وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه : فقد عرفت أنه لا يعقل بجميع أقسامه. وأخذه للمماثل فقد عرفت أيضا إمكانه على بعض الوجوه.

وأما أخذه موضوعا لنفس متعلقه إذا كان حكما ، كما لو قال : « إذا ظننت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة بذلك الوجوب الذي ظننت به » فإن كان ذلك بنتيجة التقييد لا محذور فيه ، إذ لا يزيد الظن عن العلم ، وفي العلم قلنا إنه يمكن أن يؤخذ كذلك بنتيجة التقييد كما تقدم ، وإن كان بالتقييد اللحاظي فهو مما لا يمكن لاستلزامه الدور كالعلم ، من غير فرق بين الظن المعتبر وغير المعتبر ، بل في الظن المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد ، فإن أخذ الظن حجة محرزا لمتعلقه معناه أنه لا دخل له في المتعلق إذ لو كان له دخل في المتعلق لما اخذ طريقا محرزا للمتعلق ، فأخذه محرزا مع أخذه موضوعا يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد ، وذلك واضح.

فذلكة :

قد اختلف بيان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في أقسام الظن المأخوذ موضوعا ، وما بينه أخيرا هو أن الظن الغير المعتبر لا يصح أخذه موضوعا على وجه الطريقية ، لا لمماثل حكم متعلقه ولا لمخالفه ، فإن أخذه على وجه الطريقية يستدعى اعتباره ، إذ لا معنى لاعتبار الظن إلا لحاظه طريقا ، فحينئذ تكون الأقسام ثمانية أو سبعة ، فإن الظن ، إما أن يؤخذ موضوعا لمماثل حكم

٣٥

المتعلق ، وإما أن يؤخذ موضوعا لمخالفه ، والأول لا يمكن إلا إذا كان الظن غير معتبر ، إذ الظن المعتبر لا يصلح لأن يؤخذ موضوعا لحكم المماثل ـ على ما تقدم بيانه ـ فالمأخوذ لحكم المماثل لابد وأن يكون الظن الغير المعتبر ويلزمه أن يكون ملحوظا على وجه الصفتية ، لما تقدم : من أن لحاظه على وجه الطريقية يستدعى اعتباره ، والمفروض أنه غير معتبر ، وحينئذ فالذي يمكن من هذا قسمان :

الأول : أخذه تمام الموضوع على وجه الصفتية ، بأن يكون الخمر حراما ومظنون الخمرية أيضا حراما ، صادف الظن للواقع أو خالفه.

الثاني : أخذه جزء الموضوع على وجه الصفتية ، بأن يكون الخمر حراما والخمر المظنون أيضا حراما. ولا إشكال في كل من القسمين ، أما في الأول : فلأن النسبة تكون حينئذ العموم من وجه ، وفي مورد الاجتماع يكون الحكم آكد ، كما في مثل قوله : أكرم العلماء وأكرم الهاشميين. وأما في الثاني : فربما يتوهم لغوية الحكم المماثل ، من جهة أن الحكم الأولى المجعول لذات الخمر محفوظ في حال العلم والظن والشك ، فجعل حكم آخر على الخمر المظنون لغو لا أثر له.

ولكن يدفعه : أنه يكفي في الأثر تأكد الحرمة في صورة تعلق الظن بالخمر وتكون مثلا واجدة لعشر درجات من المفسدة ، بخلاف ما إذا لم يتعلق الظن به ، فإنه يكون واجدا لخمس درجات ، وربما لا يقدم الشخص على ما يكون مفسدته عشر درجات مع إقدامه على ما يكون خمس درجات وهذا المقدار من الأثر يكفي بعد إمكان أن يكون الظن من العناوين الثانوية الموجبة للمصلحة والمفسدة ، فالإنصاف أنه لا إشكال في شيء من هذين القسمين. هذا إذا اخذ موضوعا لحكم المماثل.

وأما إذا اخذ موضوعا لحكم المخالف : فإن لم يكن الظن حجة فهو كأخذه لحكم المماثل لابد وأن يكون على وجه الصفتية تمام الموضوع أو جزئه ، وإن كان الظن حجة فيمكن أخذه على وجه الصفتية ويمكن أخذه على وجه

٣٦

الطريقية ، وفي كل منهما إما أن يكون تمام الموضوع وإما أن يكون جزئه ( على إشكال في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية قد تقدم في العلم ) فتكون أقسام الظن الغير المعتبر أربعة وأقسام الظن المعتبر أيضا أربعة بناء على إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية ، وإلا فالأقسام سبعة. هذا بناء على عدم صحة أخذ الظن الغير المعتبر موضوعا على وجه الطريقية لحكم المماثل أو المخالف ، وإلا فتكون الأقسام عشرة ، مضافا إلى ما اعتبر طريقا محضا لمتعلقه وكاشفا عنه ومحرزا له من دون أخذه موضوعا لحكم أصلا. والظاهر : أن تكون الأقسام العشرة كلها تصورات لا واقع لها في الشريعة ، والموجود فيها هو اعتبار الظن طريقا محضا ، ويقوم مقامه ساير الطرق العقلية والشرعية والأصول المحرزة.

ولا يخفى عليك : أن عبارة الشيخ ( قده ) في بيان أقسام الظن لا تخلو عن اضطراب وإغلاق ، فعليك بالتأمل فيها. هذا تمام الكلام في القطع بأقسامه ، والظن بأقسامه.

المبحث الرابع

في استحقاق المتجرى للعقاب

إعلم : أن القائل باستحقاق المتجرى للعقاب لابد له من أن يستند إلى إحدى الجهات الأربع : بعضها أصولية وبعضها كلامية وبعضها فقهية.

الجهة الأولى : دعوى أن الخطابات الأولية تعم صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، ويندرج المتجرى في عموم الخطابات الشرعية حقيقة ، ببيان أن التكليف لابد وأن يتعلق بما يكون مقدورا للمكلف ، والتكليف الذي له

٣٧

تعلق بموضوع خارجي كقوله « لا تشرب الخمر ، وصل في الوقت » وإن كان وجوده الواقعي مشروطا بوجود ذلك الموضوع (١) من غير دخل للعلم والجهل في ذلك ، إلا أن مجرد الوجود الواقعي لا يكفي في انبعاث المكلف وحركة إرادته نحوه ، فإن الحركة والانبعاث إنما يكون بالوجود العلمي ، ولا أثر للوجود الواقعي في ذلك ، فالعلم وإن كان بالنسبة إلى الموضوع طريقا ، إلا أنه بالنسبة إلى الاختيار والإرادة والانبعاث يكون موضوعا ، ومتعلق التكليف إنما يكون هو الاختيار والانبعاث الناشئ عن العلم بالموضوع والتكليف ، وهذا المعنى موجود في كلتي صورتي مصادفة العلم للواقع ومخالفته ، فإنه في صورة المخالفة قد تحقق اختيار شرب ما أحرز أنه خمر ، والفرق بين الصورتين ليس إلا مصادفة العلم للواقع في إحديهما ومخالفته له في الأخرى ، والمصادفة والمخالفة ليست اختيارية ، فلا تصلح لأن يتعلق بها التكليف ، فالذي يصلح لأن يتعلق به التكليف ليس إلا اختيار شر ما أحرز أنه خمر ، فيكون مفاد قوله : لا تشرب الخمر مثلا ـ بعد ضم المقدمة العقلية إليه : من أن متعلق التكليف لابد وأن يكون أمرا مقدورا وليس هو إلا الاختيار والانبعاث نحو ما علم أنه موضوع

________________________

(١) أقول : بعد الاعتراف بأن الخمر بوجوده الواقعي كان شرطا للتكليف ، فضم المقدمة الأخرى لا ينتج إلا فعلية التكليف في ظرف العلم المصادف لا المطلق ، فاستنتاج هذه النتيجة ينافي دخل الخمرية الواقعية في شرط التكليف ، فهذه الكلمات مختلة النظام في أصل التقريب ، كما أن في جعل الاختيار والانبعاث تحت التكليف مسامحة أخرى ، إذ هذه باصطلاحه من الطوارئ اللاحقة للتكليف فيلحق بالانقسامات اللاحقة ، مضافا إلى أن التكليف بشيء إذا كان من شأنه الدعوة فلا جرم يكون المدعو إليه عنوانا في طول عنوان المعروض وإن كان العنوانين متحدين ذاتا ومنشأ ، فما هو المعروض لا يعقل أخذ الإرادة فيه ولو قيدا ، لأن الإرادة الناشئة عن غير دعوة التكليف أجنبية عن التكليف والإرادة الناشئة عن التكليف معلول التكليف ، فكيف يكون قيد موضوعه؟ فما توهم في دفع المقدمة الأولى مندفع بهذا الكلام ، إذ الفعل الصادر عن الإرادة الناشئة عن دعوة التكليف معلول التكليف لا معروضه ، فلا محيص من تجريد المعروض عن الإرادة رأسا ، كما لا يخفى على الناظر الدقيق ، وحينئذ هذا البرهان شاهد خروج الإرادة عن حيز التكليف لا جهة الغفلة ، كيف وكثيرا ما نلتفت إلى إرادتنا حين الامتثال ، كما في العبادات خصوصا عند الإخطاري في النية.

٣٨

التكليف ـ وهو لا تختر شرب ما أحرزت أنه خمر ، وهذا المعنى كما ترى موجود في المتجرى.

ولعله إلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ ( قده ) من الوجه العقلي في استحقاق المتجرى للعقاب ، من قوله « وقد يقرر دلالة العقل على ذلك بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين الخ » فإنه يمكن أن يكون ( قده ) في مقام بيان اندراج المتجرى تحت الخطابات الأولية ، كما أنه يمكن أن يكون في مقام بيان كون المتجرى عاصيا حكما وإن لم يكن عاصيا حقيقة ـ على ما سيأتي في الجهة الثالثة ـ.

وعلى كل حال : ترجع هذه الدعوى إلى أن متعلق التكليف هو القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، بعد ما كانت المصادفة والمخالفة غير اختيارية ، والقدر الجامع ليس إلا تحريك العضلات نحو ما أحرز أنه خمر واختيار شرب ذلك ، فيكون المتجرى عاصيا حقيقة ومخالفا للخطاب النفس الأمري.

وحاصل هذه الدعوى تتركب من مقدمتين :

الأولى : دعوى أن متعلق التكليف هو الانبعاث وحركة الإرادة والاختيار نحو ما أحرز أنه من مصاديق الموضوع الذي تعلق به التكليف الواقعي.

الثانية : دعوى أن الاحراز والعلم يكون موضوعا على وجه الصفتية بمعنى الاختيار والإرادة ، وإن كان طريقا بالنسبة إلى الموضوع. ولا يخفى عليك ما في كلتي المقدمتين من المنع.

أما في الأولى : فلأن المتعلق هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار لا نفس الإرادة والاختيار ، فان الإرادة والاختيار تكون مغفولة عنها حين الفعل ولا يلتفت الفاعل إليها ، فلا يصلح لأن يتعلق التكليف بها ، فإذا كان متعلق التكليف هو الشرب المتعلق بالخمر الصادر عن إرادة واختيار فالمتجري لم يتعلق شربه بالخمر.

وأما في الثانية : فلأن الإرادة وإن كانت تنبعث عن العلم ، لكن لا

٣٩

بما أنّه علم وصورة حاصلة في النفس (١) بل بما أنه محرز للمعلوم ، فالعلم يكون بالنسبة إلى كل من الإرادة والخمر طريقا ، بل العلم يكون في باب الإرادة من مقدمات وجود الداعي ، حيث إنه تتعلق الإرادة بفعل شيء بداعي أنه الشيء الكذائي ، وهذا الداعي ينشأ عن العلم بأنه الشيء الكذائي.

والحاصل : أن دعوى اندراج المتجرى في الخطابات الأولية لا يمكن إلا بأن يكون التكليف متعلقا بالعنوان الجامع والقدر المشترك بين مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، والقدر الجامع المتصور ليس إلا إرادة شرب الخمر المحرز خمريته ، فإن هذا هو الجامع بين الصورتين.

وأما لو فرض أن التكليف لم يتعلق بالإرادة وتعلق بشرب الخمر ، فلا ينتج ما أراده المدعى ، لان المتجرى لم يشرب الخمر ولو فرض أن العلم في باب الإرادة اخذ موضوعا على نحو الصفتية ، إذ غايته أنه يعتبر العلم بإرادة شرب الخمر ، إلا أن الإرادة لو خطت مرآة للمراد وهو شرب الخمر ولم يتعلق التكليف بنفسها ، وفي صورة المخالفة لم يتحقق المراد فلم يأت بما هو متعلق التكليف. وكذا لو فرض أن الإرادة لوحظت معنى اسميا وكانت هي متعلق التكليف ، ولكن العلم اخذ موضوعا في باب الإرادة على نحو الطريقية والكاشفية عن المراد ، فان متعلق التكليف يكون حينئذ هو حرمة إرادة شرب الخمر الذي علم بخمريته على وجه يكون العلم طريقا إلى الخمر الواقعي ، والمتجري وإن أراد شرب الخمر الذي أحرز خمريته ، إلا أن إحرازه لم يقع طريقا إلى الخمر الواقعي ، لأنه لم يؤد إلى الخمر الواقعي ، فدعوى المدعى لا تتم إلا بأخذ

________________________

(١) أقول : مجرد طريقية العلم لا يقتضي المصادفة للواقع ، كما أن أخذ الجامع بين المصادف والمخالف لا يقتضي أخذ العلم على وجه الصفتية ، فما في هذه الكلمات أيضا من نحو هذه التعبيرات لا يخلو عن اغتشاش ، بل الأولى أن يقال : مع فرض دخل الخمر بعنوانه الواقعي في التكليف لا يعقل تعلقه بمعلوم الخمرية مطلقا ، فضلا عن شمول إطلاقه للعلم المخالف ، كما أشرنا سابقاً.

٤٠