فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

ما عدا الأخبار لو لم تكن بنفسها متعلقة للعلم الإجمالي فلا أقل من كونها من أطراف العلم الإجمالي ، لأن متعلق الإجمالي هو المجموع من الأخبار ومن بقية الأمارات الظنية ، وهذا لا ينافي أن تختص الأخبار بعلم إجمالي آخر فيما بينها. وليس العلم الإجمالي في المجموع مستندا إلى العلم الإجمالي في الأخبار لينحل العلم الإجمالي فيه بالعلم الإجمالي فيها.

والشاهد على ذلك (١) هو أنه لو عزلنا طائفة من الأخبار بقدر المتيقن من الأحكام المعلوم بالإجمال فيما بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها على المعزول منها ، فلا يبقى العلم الإجمالي في بقية الأخبار ، ولو ضممنا إلى البقية سائر الأمارات الظنية كان العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين بقية الأخبار والأمارات الظنية بحاله ، وإنكار ذلك يكون مكابرة واضحة.

فان قلت : إن ذلك يقتضي أن يكون متعلق العلم الإجمالي نفس الأمارات الظنية فقط ، لا أنها من أطراف العلم الإجمالي ، لأن المفروض أن في بقية الأخبار المنضمة إليها ليس علم بالتكليف ، لانحلاله بسبب عزل طائفة منها ، فضمها إلى الأمارات يكون من قبيل ضم الحجر في جانب الإنسان لا يؤثر في حصول العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي الحاصل لابد وأن يكون في خصوص الأمارات الظنية.

قلت : أولا : دعوى العلم الإجمالي في خصوص الأمارات الظنية ليست ببعيد ، لأن من تراكم الظنون يحصل العلم الإجمالي بخلاف تراكم الشكوك.

________________________

١ ـ أقول : في فرض العلم الإجمالي بين الأمارات الظنية وبقية الأخبار بعد عزل جملة منها إنما يوجب الاحتياط في الجميع لو كان المعلوم بالإجمال في المظنونات وبقية الأخبار غير المعلوم بالإجمال في مجموع الأخبار ، وإلا فمع احتمال اتحادهما لا يقتضي مثل هذا الفرض الاحتياط في جميع الأخبار والأمارات الظنية ، بل العقل يحكم بالتخيير بين الأخذ بالأخبار تماما أو الأخذ بالمظنونات وبقية الأخبار ، لأنه بكل واحد من الآخذين لا يبقى محذور ، بل يقطع بالفراغ عما علم ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال بين المجموع عليه ، كما لا يخفى ، فتدبر كي لا يحتاج إلى التمثيل بشرقية ولا غربية.

٢٠١

وثانياً : انه قد يكون الشيء بنفسه ليس موردا للعلم الإجمالي ، إلا أن ضمه إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال يوجب حصول العلم الإجمالي ، مثلا لو كان إنائات ثلاث في الجانب الشرقي من الدار ، وإنائات ثلاث أخرى في الجانب الغربي ، وعلم إجمالا بأنه أصاب أحد الإنائات في الشرقية قطرة من الدم ، وعلم إجمالا أيضا أنه زمان وقوع تلك القطرة وقعت قطرة أخرى من الدم ، إما في أحد الإنائات الشرقية غير ما وقعت فيه تلك القطرة ، وإما في أحد الإنائات الغربية ، ففي الفرض الإنائات الغربية ليست مما تعلق العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، لاحتمال أن تكون كلتا القطرتين وقعتا في الإنائات الشرقية ، ولكن ضم الإنائات الغربية إلى الإنائات الشرقية يوجب زيادة في أطراف المعلوم الإجمالي ، ولو بعد عزل ما يوجب انحلال العلم الإجمالي في الإنائات الشرقية ، فتكون الإنائات الست كلها من أطراف العلم الإجمالي ، فإنه لو عزلنا أحد الإنائات الشرقية ، فالعلم الإجمالي الذي كان بنجاسة أحدهما بسبب وقوع أحد القطرتين في خصوص أحدهما ينحل لا محالة ، لأنه لا يعلم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين الباقيين ، كما لا يعلم بنجاسة أحد الإنائات الغربية ، ولكن من ضم الإنائات الغربية إلى الإنائين الباقيين في طرف الشرق يحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وحال الأمارات الظنية مع بقية الأخبار بعد عزل طائفة منها حال الإنائات بعينه ، وعليه تكون الأمارات الظنية أطراف العلم الإجمالي وحالها حال الأخبار.

إلا أن يدعى أنه من أول الامر ليست الأمارات من أطراف العلم الإجمالي ، وليس لنا علم بثبوت التكليف في الأخبار وعلم بثبوت التكاليف في الأعم من الأخبار والأمارات الظنية ، فإنه ، على هذا تكون الأمارات خارجة عن أطراف العلم الإجمالي. ولكن عهدة هذه الدعوى على مدعيها.

فان قلت : سلمنا كون الأمارات من أطراف العلم الإجمالي الحاصل بين بقية الأخبار ـ بعد عزل طائفة منها ـ وبينها ، ولكن لما كانت بقية الأخبار من

٢٠٢

أطراف علم إجمالي آخر ـ وهو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار ـ فقد تنجز التكليف بها بذلك العلم الإجمالي ، فلا يبقى أثر للعلم الإجمالي الحاصل بينها وبين الأمارات الظنية ، لأن بعض أطرافه قد تنجز التكليف به بمنجز آخر ، وقد ذكرنا في محله : أنه لو تنجز التكليف بأحد أطراف العلم الإجمالي بمنجز آخر غير العلم الإجمالي فالطرف الآخر لا يجب الاجتناب عنه ، لأن الشبهة فيه تكون بدوية ، كما لو علم بنجاسة أحد الإنائين ثم علم بوقوع قطرة من الدم إما في أحد الإنائين وإما في الإناء الثالث ، فالإناء الثالث لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض ، وحال الأمارات الظنية حال الإناء الثالث.

قلت : ذلك إنما يكون إذا كان المعلوم بالإجمال في أحد العلمين متأخرا زمانا عن المعلوم بالإجمال في العلم الآخر ـ كما في المثال ـ حيث فرض أن وقوع القطرة الثانية من الدم المرددة بين كونها في أحد الإنائين أو في الإناء الثالث كان بعد نجاسة أحد الإنائين ، من غير فرق بين تقارن نفس العلمين أو في سبق أحدهما الآخر يكون معلومة متأخرا (١) ولو كان السابق ، فان العبرة إنما هو في تقدم المعلوم وتأخره ، لا في تقدم العلم وتأخره.

وأما لو كان المعلومين بالإجمال حدثا في زمان واحد ، فلا وجه لانحلال أحد العلمين بالآخر. بل تكون جميع أطراف العلمين في عرض واحد ويجب الاجتناب عن الجميع. وقد ذكرنا تفصيل ذلك في « الجزء الرابع » وما نحن فيه من القسم الثاني ، لأن ثبوت الأحكام في الأخبار ليس أسبق في الزمان عن ثبوت الأحكام في الأمارات ، فالأخبار والأمارات تكون في عرض واحد طرفا للعلم الإجمالي ، وذلك واضح.

وثانياً : سلمنا أن الأمارات الظنية ليست من أطراف العلم الإجمالي ،

________________________

١ ـ كذا في نسخة الأصل ، والصحيح : « بعد كون معلومه متأخرا » ( المصحح ).

٢٠٣

ولكن وجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار إنما هو لأجل ما تضمنتها من الأحكام الواقعية لا بما هي هي ، فالمتعين هو الأخذ بكل ما يظن أن مضمونه حكم الله الواقعي لا خصوص ما يظن بصدوره من الأخبار ، لأن الأخذ بمظنون الصدور إنما هو لاستلزامه الظن بالمضمون غالبا ، ومقتضى ذلك هو اعتبار الظن بالحكم سواء حصل من الظن بالصدور أو من الشهرة والإجماع المنقول (١).

وثالثا : أقصى ما يقتضيه هذا الدليل هو الأخذ بمظنون الصدور من الأخبار باب التبعيض في الاحتياط ، لأن العلم الإجمالي كان يقتضي الأخذ بجميع ما في الكتب من الأخبار ، ولمكان لزوم العسر والحرج وجب التبعيض في الاحتياط والأخذ بخصوص مظنون الصدور ، والرواية التي كان العمل بها من باب الاحتياط لا تكون حجية شرعية بحيث تنهض لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات (٢) والمدعى هو كون مظنون الصدور حجة شرعية.

وهذا الإشكال يتوجه في الانسداد الكبير أيضا ، كما سيأتي. ولكن سنحرر ( إن شاء الله تعالى ) أن نتيجة مقدمات الانسداد لو كانت هي التبعيض في الاحتياط كان الإشكال واردا ، وأما لو كانت النتيجة هي جعل الشارع مظنون الصدور في المقام ومطلق الظن في الانسداد الكبير طريقا للوصول إلى أحكامه ـ كما هو المعنى الكشف ـ فلا محالة يترتب على مظنون الصدور أو مطلق الظن جميع ما يترتب على الحجة من نهوضها للتخصيص والتقييد وغير ذلك ، فانتظر

________________________

١ ـ أقول : بعد اختصاص العلم في خصوص الأخبار فقط الذي يحكم به العقل هو الأخذ بمضمون الأخبار ، لا بمضمون بقية الأمارات الظنية ، فتدبر.

٢ ـ أقول : لازم العلم في الأخبار المثبتة خروج العمومات النافية عن الحجية ، ولازمه إجراء حكم التخصيص والتقييد عليها. نعم : في الأخبار النافية مع العمومات المثبتة مقتضى المختار هو العكس ، ولكن حيث مختاره من عدم جريان الأصول المثبتة أيضا في أطراف العلم الإجمالي بنفي التكليف يجرى الكلام السابق فيها أيضاً.

٢٠٤

تفصيل ذلك.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن مقدمات الانسداد الصغير لا تنتج اعتبار الظن بالصدور ، بل أقصى ما تقتضيه هو اعتبار الظن بالمضمون ، هذا.

ولكن يمكن تقريب مقدمات الانسداد الصغير بوجه آخر تنتج اعتبار الظن بالصدور ، مع سلامته عما أورد على الوجه الأول.

بيانه : هو أنه نعلم بصدور غالب الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولا إشكال في أنه يجب الأخذ بما صدر عنهم ( صلوات الله عليهم ) من الأخبار ، لا من حيث أنها تتضمن الأحكام الواقعية ليرجع إلى الوجه الأول ، بل من حيث إن نفس الأخبار الصادرة عنهم أحكام ظاهرية من جهة وقوعها في طريق إحراز الواقعيات بعد فرض جريان الأصول اللفظية والجهتية فيها ، وحيث لم يمكن لنا تحصيل العلم بالأخبار الصادرة عنهم ، فلابد من التنزل إلى الظن والأخذ بمظنون الصدور. ولا يرد على هذا التقريب شيء مما ذكر في التقريب السابق ، فان الإشكالات المتقدمة كانت مبتنية على أن وجوب العمل بالأخبار من باب أنها تتضمن الأحكام الواقعية ، فكان يرد عليه : أن متعلق العلم بالأحكام الواقعية لا يختص بالأخبار ، بل الأمارات الظنية أيضا من أطراف العلم الإجمالي ، فلابد من العمل بكل ما يظن أنه حكم الله الواقعي لا خصوص مظنون الصدور من الأخبار ، إلى آخر الإشكالات المتقدمة.

وأمّا هذا التقريب : فهو مبنى على وجوب العمل بنفس الأخبار الصادرة من حيث إنها أخبار لكونها أحكاما ظاهرية ، فلا تكون سائر الأمارات من أطراف هذا العلم الإجمالي ، لأن الأمارات الظنية التي لم يقم دليل على اعتبارها ليست أحكاما ظاهرية ، فدائرة العلم الإجمالي يتخصص بالأخبار ، ونتيجته هي الأخذ بمظنون الصدور عند تعذر تحصيل العلم التفصيلي بما صدر وعدم وجوب الاحتياط في الجميع ، بل مقتضى العلم بصدور غالب ما في الكتب من الأخبار هو انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف بين الأخبار

٢٠٥

والأمارات ، لأن ما صدر عنهم عليهم‌السلام يكون بقدر المعلوم بالإجمال من التكاليف بين الاخبار والأمارات ، فترتفع الإشكالات المتقدمة على التقريب السابق بحذافيرها.

نعم : الإشكال الأخير مشترك الورود ، وهو أن ذلك لا يقتضي حجية مظنون الصدور بحيث يكون مخصصا ومقيدا للعموم والإطلاق ، إلا إذا قلنا بالكشف.

وتقريب مقدمات الانسداد الصغير على هذا الوجه يقرب مما سيأتي من المحقق « صاحب الحاشية » وأخيه « صاحب الفصول » من تقريب مقدمات الانسداد الكبير على وجه ينتج خصوص الظن بالطريق لا الظن بالحكم ، وإن كان بين ما ذكرناه في المقام وما ذكراه في ذلك المقام فرق ، وهو أن الغرض من ترتيب مقدمات الانسداد في المقام إنما هو تعيين موضوع الطريق ومصداقه بعد العلم بأن ما صدر عنهم ( صلوات الله عليهم ) يكون طريقا ، وأما مقصودهما من ترتيب مقدمات الانسداد في ذلك المقام هو اعتبار الظن في طريقية الطريق وتعيين ما جعله الشارع طريقا ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : أن ما ذكرناه من التقريب وإن كان يسلم عن كثير من الإشكالات المتقدمة ، إلا أنه يرد عليه : أن وجوب العمل بالأحكام الظاهرية إنما هو لأجل كونها موصلة إلى الأحكام الواقعية ومحرزة لها ، لا أنها أحكام في مقابل الأحكام الواقعية ، فالعبرة إنما تكون بامتثال الأحكام الواقعية ، ووجوب العمل بالأخبار إنما هو لأجل كونها من الطرق الموصلة إليها ، فلو فرض الوصول إليها من طريق آخر غير الأخبار كان مجزيا ، ونتيجة ذلك بعد تعذر العلم بها وعدم وجوب الاحتياط هي التنزل إلى الظن بها ، لا الظن بالصدور ـ كما أفيد في المقام ـ ولا الظن بالطريق ، كما أفاده « المحقق » واخوه في ذلك المقام.

وبالجملة : عمدة مقدمات دليل الانسداد الصغير والكبير هو عدم جواز

٢٠٦

إهمال الاحكام الواقعية وترك التعرض لها ، إذ لولا ذلك لم يبق مجال لبقية المقدمات لكل من يقول : إنه يجب الأخذ بمظنون الصدور ، أو يقول : إنه يجب الأخذ بمظنون الطريق ، أو يقول : إن يجب الأخذ بمظنون الحكم ، أن يحوم حول امتثال الأحكام الواقعية وعدم جواز إهمالها ، إذ ليس للعمل بمظنون الصدور أو مظنون الطريق خصوصية سوى كونه طريقا إلى الواقع ومحرزا له. وعليه كان الواجب ترتيب مقدمات الانسداد بالنسبة إلى نفس الأحكام لاستنتاج حجية الظن بها ، ولا أثر لترتيب مقدمات الانسداد بالنسبة إلى ما صدر عنهم من الأخبار أو ما نصب من الطرق.

فان قلت : نعم ، الواجب أولا وبالذات وإن كان هو امتثال الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، إلا أنه حيث علم بصدور غالب ما بأيدينا من الأخبار بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية ، فالعلم الإجمالي بها ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب العمل على طبق الأحكام الظاهرية التي هي فيما بين الأخبار المودعة في الكتب والشك البدوي بالنسبة إلى ما عداها من الوقايع المشتبهة ، وحيث لم يتمكن من احراز تلك الأحكام الظاهرية تفصيلا ولم يمكن أو لم يجب الاحتياط في العمل بجميع الأخبار المودعة في الكتب وجب التنزل إلى الظن بالحكم الظاهري ، وهو المراد من الظن بالصدور ، فلا يبقى موقع للانسداد الكبير ، لأن مبناه العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الوقايع المشتبهة ، وقد انحل ببركة العلم بثبوت التكاليف الظاهرية في الأخبار المودعة.

قلت : مجرد العلم بصدور جملة من الأخبار التي بأيدينا لا يقتضي أن يترتب على الأخبار الصادرة آثار الأحكام الظاهرية ، فان الحكم الظاهري يتوقف على العلم به موضوعا وحكما ، لا أقول : إن وجوده الواقعي يتوقف على العلم بالموضوع والحكم فان ذلك ضروري البطلان ، بداهة أن الحكم الظاهري من الطريقية والحجية كالحكم الواقعي من الوجوب والحرمة لا

٢٠٧

يتوقف وجوده الواقعي وجعله النفس الأمري على العلم به ، ولكن الآثار المرغوبة من الحكم الظاهري : من كونه منجزا للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة ، لا تكاد تترتب مع الجهل به موضوعا أو حكما ، فان الحكم الظاهري ليس أمرا مقابلا للحكم الواقعي ـ كما تقدم بيانه في باب جعل الطرق والأمارات ـ بل الوجه في كون الشيء حكما ظاهريا إنما هو لمكان أنه موصل إلى الواقع ، وهذا كما ترى ما لم يكن الطريق محرزا لدى المكلف لا يكون موصلا إليه ، لوضوح أن وجود الرواية في الكتب من دون العلم بها تفصيلا لا تكون منجزة للواقع ، لأن الواقع بعد باق على ما كان عليه من الجهل به.

وكذا مع العلم بالرواية تفصيلا والجهل بظهورها أو جهة صدورها أو إرادة ظهورها ، فان الجهل بأي من هذه الجهات يضر بحجية الرواية ـ أي بالآثار المرغوبة منها ـ لأن الجهل بأي منها يقتضي الجهل بالواقع فلا يكون محرزا لدى المكلف ، وما لم يكن محرزا لا يكون منجزا ، فلا بد من العلم بالرواية صدورا وظهورا لتجري الأصول العقلائية واللفظية في جهة الصدور وإرادة الظهور ، لتكون الرواية حكما ظاهريا منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة. وهذا المعنى لا يكاد يتحقق في العلم الإجمالي بصدور جملة من الأخبار المودعة في الكتب ، لعدم العلم بظهور ما هو الصادر منها لتجري فيه الأصول العقلائية (١) فلا يمكن أن يترتب على الصادر من الأخبار ما للحكم الظاهري من الآثار ، فيبقى العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية بين الأخبار والأمارات الظنية على حاله ، ولابد من ترتيب مقدمات الانسداد الكبير بالنسبة

________________________

١ ـ أقول : ولا أقل من منع ظهور جميعها بنحو يفي بمقدار المعلوم بالإجمال في جميع الدوائر ، وحينئذ لا يبقى مجال لانحلال العلم الكبير بالعلم الإجمالي بالصدور ، إلا بدعوى العلم المزبور في دائرة الظواهر وكونه بمقدار المعلوم بالإجمال ، وليس ذلك كل البعيد أيضا ، فتدبر.

٢٠٨

إلى نفس الأحكام الواقعية لاستنتاج حجية الظن بالحكم ، ولا أثر للظن بالصدور.

وثانياً : فعلى فرض تسليم كون الإجمال غير مانع عن ترتب آثار الأحكام الظاهرية على ما صدر من الأخبار ، ولكن مجرد ذلك لا يكفي في انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف فيما بأيدينا من الأخبار وسائر الأمارات الظنية ، فان تلك الأحكام الظاهرية التي فرض كونها بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية لم تحرز بالوجدان ، ولم يجب الاحتياط في جميع ما بأيدينا من الأخبار وثبت الترخيص في غير مظنون الصدور ـ كما هو المفروض ـ فلا يمكن مع هذا أن ينحل العلم الإجمالي بالتكاليف ، لأن انحلال العلم الإجمالي إنما يكون بانحلال القضية المانعة الخلو ـ التي كل علم إجمالي يتضمنها ـ إلى قضيتين حمليتين ، إحديهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، وقضية العلم الإجمالي بالتكاليف لا تنحل إلى ذلك ، لأن وجوب الأخذ بمظنون الصدور من الأحكام الظاهرية لا يوجب انحلال العلم بالنسبة إلى بقية الأخبار وساير الأمارات بحيث يكون الشك فيها بدويا ، بل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بينها على حاله ، لأن الأحكام الظاهرية في مظنون الصدور ليست بقدر الأحكام الواقعية في مجموع الإخبار والأمارات (١) بل أقصى ما يدعى هو أن مجموع ما صدر عنهم ( صلوات الله عليهم ) من الأحكام الظاهرية بقدر التكاليف الواقعية ، فالترخيص في ما عدا مظنون الصدور يوجب نقصا في الأحكام الظاهرية ، ويلزمه زيادة الأحكام الواقعية عن الأحكام الظاهرية التي يلزم الأخذ بها.

فان قلت : الموجب للإنحلال هو العلم بصدور الأخبار بمقدار المعلوم

________________________

١ ـ أقول : ذلك صحيح في الظن الفعلي بالصدور ، وإلا لو أريد به الوثوق النوعي فعهدة ذلك على مدعيه ، كيف وبناء الفقه فعلا على ما هو موثوق الصدور من الأخبار ، ولو لم تكن وافية بمقدار المعلوم بالإجمال ، قلنا : « إنا لله وإنا إليه راجعون ».

٢٠٩

بالإجمال من التكاليف ، ومجرد الترخيص في ترك العمل بما عدا مظنون الصدور من الأخبار لا يقتضي عدم الانحلال ، لأن عدم ايجاب الشارع الجمع بين جميع الأخبار في العمل لا يضر بالانحلال.

قلت : قد عرفت أن الترخيص في ترك العمل ببعض الأخبار يوجب نقصا في الأحكام الظاهرية ، للعلم بأن بعض الأحكام الظاهرية تكون في الأخبار التي رخص في ترك العمل بها ، لأن مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر التكاليف الواقعية ، فلا يبقى مجال للإنحلال.

مثلا لو علم إجمالا بأن في القطيع من الغنم موطوء وأقله عشرون ويحتمل أن يكون أزيد ، وقام الدليل على أن في البيض من القطيع عشرين موطوء ، وكان عدد البيض يزيد عن مقدار عدد المعلوم بالإجمال في مجموع القطيع ، ففي هذا لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي المتعلق بمجموع القطيع بقيام الدليل على وجود عشرين موطوء في البيض ، لان المعلوم بالإجمال في المجموع محتمل الانطباق على ما في البيض.

ولكن لو لم يجب الاجتناب عن بعض أفراد البيض للعسر والحرج والاضطرار وكان الذي يجب الاجتناب عنه أقل عددا من المعلوم بالإجمال في مجموع القطيع ، فالعلم الإجمالي المتعلق بالمجموع لا ينحل ، لأن الاضطرار إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال وإن كان يوجب التوسط في التنجيز ـ على ما سيأتي بيانه في محله ـ بحيث لو كان الموطوء في الأفراد التي لا يجب الاجتناب عنها للاضطرار كان التكليف بالاجتناب عن الموطوء غير منجز ، إلا أن هذا إذا لم يلزم عن عدم الاجتناب عن بعض أفراد البيض محذور المخالفة القطعية للتكليف بالاجتناب عن الموطوء من الغنم في القطيع ، وإلا عاد العلم الإجمالي في المجموع على حاله ولابد من علاجه ، لأن عدد المعلوم بالإجمال فيه يزيد عن عدد ما يجتنب عنه من أفراد البيض ، فلا يبقى أثر لقيام الدليل على وجود الموطوء في البيض بقدر المتيقن من المعلوم بالإجمال في المجموع من البيض ومن

٢١٠

غيره ؛ وحال المقام بعينه حال المثال ، فتدبر.

فان قلت : الأخذ بمظنون الصدور فيما بأيدينا من الأخبار إن كان من باب التبعيض في الاحتياط كان لعدم الانحلال مجال ، وأما إن كان من باب أن الشارع جعل الظن بالصدور حجة وطريقا إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الأخبار ، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي المتعلق بالمجموع من الأخبار والأمارات الظنية ، لأن الأحكام الظاهرية التي فرضناها أنها بقدر الأحكام الواقعية تكون محرزة ببركة حجية الظن ، فان نتيجة جعل الشارع الظن بالصدور طريقا إلى ما صدر من الأخبار هي : أن ما عدا المظنون ليس مما صدر (١) واختصاص ما صدر بمظنون الصدور ، والمفروض أن ما صدر بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام التكليفية ، فيلزمه انطباقه على مظنون الصدور وينحل العلم الإجمالي بالتكاليف.

قلت : هذا إذا تمت المقدمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة ، فتكون النتيجة حجية الظن وأن الشارع جعل الظن طريقا إلى ما صدر. ولكن المدعى انه لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة ، من جهة أن عمدة المقدمات التي يتوقف عليها أخذ النتيجة هو عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة من الأحكام الظاهرية ، وبعد بطلان هذه المقدمة بجواز إهمال بعض الوقايع ـ وهو ما عدا المظنون ـ لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة ، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة ، وانتظر لذلك مزيد توضيح في باب الانسداد الكبير.

فتحصل : أن مقدمات الانسداد الصغير بكلا وجهيه لا تنتج اعتبار الظن بالصدور ، فالوجه الأول ( من وجوه تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد ) فاسد.

________________________

١ ـ أقول مع الإغماض عن سائر جهاته نقول : مجرد حجية الظن بالصدور لا يقتضي حصر الصادر بما ظن به كي يلزم ما ذكر ؛ فتدبر.

٢١١

الوجه الثاني :

هو ما ذكره المحقق صاحب الحاشية (ره) وحاصله : أن وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالإجماع والضرورة ، فان أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم منهما بالحكم أو الظن المعتبر فهو ، وإلا فلابد من الرجوع إليهما على وجه يحصل الظن منهما بالحكم ، فلا محيص عن الأخذ بمظنون الصدور.

وقد جعل هذا الوجه من أقوى الوجوه الثمانية التي أقامها على اعتبار الظن بالطريق.

وأنت خبير بما فيه ، فإنه إن أراد من السنة نفس قول المعصوم (ع) وفعله وتقريره ـ كما هو المصطلح عليه وقام الإجماع والضرورة على الرجوع إليها ـ كان اللازم عند تعذر تحصيل العلم بما هو واقع السنة من قول الإمام عليه‌السلام وفعله وتقريره هو العمل بما ظن أنه مدلول السنة ـ أي ما ظن أنه مقول قول المعصوم عليه‌السلام ـ من غير فرق بين ما إذا حصل الظن بذلك من الأخبار أو من الشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية ، لاستواء الكل في حصول الظن منها بمدلول السنة ، إلا إذا شك أو ظن بأن مدلول الشهرة لم يكن مقول قول المعصوم عليه‌السلام ولم يصدر ما قامت عليه الشهرة عن الإمام عليه‌السلام بل كان مما سكت الله عنه وأمر الحجج بعدم تبليغه إلى الأنام ، ولكن دون حصول الشك أو الظن بذلك خرط القتاد! بل من المحالات العادية ، لأن المسائل التي انعقدت الشهرة عليها أو حكى الإجماع بها من المسائل التي تعم بها البلوى ، بحيث نعلم بصدور حكمها عنهم ( صلوات الله عليهم ). وإن أراد من السنة الأخبار الحاكية لها لا نفس قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره ( كما حكى أنه صرح في ذيل كلامه بأن المراد منها ذلك ) على خلاف ما هو المصطلح من السنة ففيه : مضافا إلى أنه لم تعم الإجماع والضرورة على العمل بالأخبار

٢١٢

الحاكية عن السنة ـ لأنها هي محل الكلام بين الأعلام ـ إن ذلك يرجع إلى التقريب الثاني من الوجه الأول ( إن كان الوجه في وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية لكونها من الأحكام الظاهرية ) وإلى التقريب الأول منه ( إن كان الوجه في الرجوع إليها كونها تتضمن الأحكام الواقعية ) وقد تقدم ما في كلا التقريبين من النقض والإبرام.

الوجه الثالث :

ما ذكره « صاحب الوافية » مستدلا به على خصوص الأخبار المودعة في الكتب الأربعة مع عمل جمع بها.

وحاصل ما أفاده من الوجه : هو أنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، خصوصا بالضروريات ـ كالصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس وغير ذلك من العبادات والمعاملات ـ ولا إشكال أن غالب أجزاء هذه الأمور وشرائطها إما تثبت بخبر الواحد بحيث لو ترك العمل به لخرجت عن حقايقها ولم تستحق إطلاق أساميها عليها ، فلابد من العمل بخبر الواحد.

وفيه :

أولا : أن اللازم حينئذ العمل بخصوص الأخبار المثبتة للأجزاء والشرايط دون الأخبار النافية.

وثانياً : أنه لا خصوصية للأخبار المودعة في الكتب الأربعة مع اشتراط العمل بها ، بل العلم الإجمالي بثبوت الأجزاء والشرائط حاصل في مطلق الأخبار ، بل في مطلق الأمارات ، فالمتعين هو الاحتياط بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته.

وثالثاً : أنه لا موجب لقصر العلم الإجمالي بخصوص الأجزاء والشرائط ، بل يعلم بثبوت الأحكام والتكاليف النفسية والغيرية في الأخبار المودعة في الكتب الأربعة وفي مطلق الأخبار والأمارات ، فيرجع هذا الوجه

٢١٣

إلى الانسداد الكبير مع حذف بعض مقدماته التي لابد منها ، كما سيأتي بيانه.

فالانصاف : أن ما استدلوا به على حجية الخبر الواحد من الحكم العقلي بتقريباته مما لا يستقيم. ولكن المسألة في غنى عن ذلك ، لأنه يكفي لإثبات حجية الخبر الموثوق به ما تقدم من الأدلة وعمدتها الطريقية العقلائية مع عدم ردع الشارع عنها.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لبيان ما اعتبر فيه من الظنون الخاصة.

المقام الثاني : في الوجوه التي استدلوا بها على حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي أو في الجملة ( على ما سيأتي بيانه ) وهي أربعة :

الوجه الأوّل : ان الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر عند ترك العمل به ، ودفع الضرر المظنون لازم عقلا ، فيجب العمل بالظن.

ولا يخفى أن الفرق بين هذا الوجه والوجه الرابع ـ المعروف بدليل الانسداد ـ هو أن الوجه الرابع يتوقف على انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام ، وهذا الوجه مع ما يتلوه من الوجه الثاني لا يتوقف على ذلك ، بل مع فرض انفتاح باب العلم في المعظم إذا حصل الظن بالحكم في المورد الذي اتفق انسداد باب العلم فيه يكون الظن حجة على هذا الوجه والوجه الثاني.

ثم إن هذا الوجه يتركب من صغرى وكبرى.

أما الكبرى ـ وهي لزوم دفع الضرر المظنون عقلا ـ فهي في الجملة مما لا ينبغي التأمل والإشكال فيها ، لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ،

٢١٤

بل المشكوك ، بل الموهوم أيضا إذا كان الضرر المحتمل من سنخ العقاب الأخروي ، ولذلك لا تكفى الإطاعة الظنية عند التمكن من الإطاعة العلمية ، مع أن الضرر في الإطاعة الظنية يكون موهوما.

وأما الصغرى : فهي ممنوعة أشد المنع.

وتنقيح البحث في كل من الصغرى والكبرى يحتاج إلى تمهيد أمور :

الأمر الأوّل : انه لا إشكال في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما أنه لا إشكال في استقلال العقل بلزوم دفع ضرر العقاب الموهوم فضلا عن المشكوك فضلا عن المظنون. ومورد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو فيما إذا أعمل العبد ما تقتضيه وظيفته وجرى على ما يلزمه الجري عليه من الفحص والسؤال عن مرادات المولى ، فإذا فعل ذلك ولم يعثر على مراد المولى قبح عقابه ، سواء كان للمولى مراد واقعا أو لم يكن ، فان المراد من « البيان » في قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » هو البيان الواصل إلى العبد لا البيان الواقعي ، لأن الإرادة النفس الأمرية لا تكون محركة للعضلات ولا تصلح للداعوية ، فلا أثر للبيان الواقعي ما لم يصل إلى العبد ، وليس قبح العقاب بلا بيان مورد الدليل اللفظي حتى يستظهر منه الأعم من البيان الواقعي والبيان الواصل ، بل هو حكم عقلي ملاكه قصور الإرادة الواقعية عن تحريك إرادة العبد نحو المراد ، فالعقل يستقل بقبح عقاب العبد وعتابه إذا أعمل وظيفته بالفحص والسؤال فلم يعثر على مراد المولى ، فان عدم عثور العبد مع الفحص : إما لكون المولى أخل بوظيفته بعدم بيان مراده بالطرق التي يمكن الوصول إليه منها ، وإما لأجل تقصير الوسائط في ايصال مراد المولى إلى العبد ، وعلى كلا التقديرين : لا دخل للعبد في عدم حصول مراد المولى على تقدير وجوده النفس الأمري ، وذلك واضح.

وأمّا مورد حكم العقل بلزوم دفع ضرر العقاب المحتمل ، فهو إمّا في

٢١٥

الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وإما في الشبهات البدوية إذا أخل العبد بما تقتضيه وظيفته بترك الفحص والسؤال عن مرادات المولى واعتمد على الشك ، فان مثل هذا العبد يستحق العقاب والعتاب إذا صادف فوت مراد المولى.

ويشهد لذلك الطريقة المألوفة بين الموالى والعبيد العرفية ، فإنه لكل من المولى والعبد وظيفة تخصه ، أما وظيفة المولى : فهي أن يكون بيان مراده على وجه يمكن وصول العبد إليها إذا لم يتوسط في البين ما يمنع عن ذلك من تقصير الوسائط في التبليغ ونحو ذلك. وأما وظيفة العبد : فهي الفحص والسؤال عن مرادات المولى في مظان وجودها ، فعند إخلال العبد بوظيفته يستحق العقاب ويكون مورد حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

وبما ذكرنا من الضابط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل يظهر : أنه لا يكاد يتحقق الشك في مورد أنه من موارد قبح العقاب بلا بيان أو من موارد دفع الضرر المحتمل؟ إلا إذا قلنا : إن المراد من البيان في « قاعدة قبح العقاب بلا بيان » هو البيان الواقعي ، فإنه يمكن حينئذ فرض الشك في ذلك ، ولابد من التحرز عن المشكوك ، لأن احتمال الضرر فيه وجداني والشك في جريان البراءة فيه ، فتأمل جيدا.

الأمر الثاني : قد تقدم في بعض المباحث السابقة أن ملاكات الأحكام تختلف من حيث الأهمية ، فقد يكون الملاك بمثابة من الأهمية في نظر الشارع ، بحيث يقتضي تحريم جملة من المحللات ظاهرا ، لإحراز الملاك والتحفظ عليه ، وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، وطريق استكشاف أن ملاك الحكم من أي قبيل إنما يكون بجعل المتمم ، فإنه لابد للشارع من جعل المتمم إذا كان الملاك مما يجب رعايته ، إذ لا طريق للعباد إلى إحراز كون الملاك بتلك المثابة من الأهمية حتى يجب عليهم التحرز عن فوته في موارد الشك ، فلو كان الملاك ثبوتا مما يلزم رعايته فعلى الشارع بيان ذلك بجعل

٢١٦

المتمم من ايجاب الاحتياط في موارد الشك ، كما أوجبه في باب الدماء والأعراض والأموال ، فمن عدم ايجاب الاحتياط في مورد يستكشف كون الملاك ليس بتلك المثابة من الأهمية. ولو شك في جعل المتمم ووجوب الاحتياط في مورد فالأصل يقتضي البراءة ، لأنه يندرج في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع ما لا يعلمون » فان أمر المتمم وضعا ورفعا بيد الشارع ، فيشمله حديث الرفع.

الأمر الثالث : الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه ، إما يكون أخرويا ، وإما يكون دنيويا.

فان كان أخرويا فلا إشكال في أن حكم العقل بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل منه يكون للإرشاد لا يستتبع حكما مولويا شرعيا على طبقه ، لان حكم العقل في باب العقاب الأخروي واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، وكل حكم عقلي وقع في هذه السلسلة لا يستتبع الحكم المولوي الشرعي وليس مورد القاعدة الملازمة وإلا يلزم التسلسل ، فحكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل يكون إرشاديا وطريقيا لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على المرشد إليه من العقاب الواقعي لو فرض مصادفة الظن أو الاحتمال للواقع ، وإلا كان من التجري في حكم العقل ، وذلك واضح.

وإن كان الضرر دنيويا : فالذي يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس‌سره في مبحث البراءة ، هو أن الظن في المضار الدنيوية يكون طريقا مجعولا شرعيا كسائر الطرق الشرعية ، فلا يترتب العقاب على مخالفته إلا إذا صادف الظن الواقع وكان ما أقدم عليه ضررا واقعا ، فيستحق المكلف العقاب على مخالة الواقع لا مخالفة الطريق ، وقد تقدم منا الإشكال في ذلك ، وأن الظاهر من تسالم الأصحاب ـ على ما هو المحكى عنهم ـ من أن سلوك الطريق الذي لا يؤمن من الوقوع في الضرر معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو تبيّن عدم

٢١٧

الضرر (١) هو أن للعقل في باب الضرر الدنيوي حكم واحد بمناط واحد يعم صورة القطع والظن بل الاحتمال العقلائي ، نظير حكمه بقبح التشريع ، لا أنه للعقل حكمان : حكم على الضرر الواقعي ، وحكم آخر طريقي على ما لا يؤمن منه من الوقوع في الضرر ، نظير حكمه بقبح الظلم.

وعلى كل حال : سواء قلنا : بأن حكم العقل في موارد احتمال الضرر طريقي أو موضوعي ، فحيث كان هذا الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام فيستتبع الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة على طبق ما حكم به العقل ، فان كان الحكم العقلي طريقيا فالحكم الشرعي المستكشف منه أيضا يكون طريقيا ، نظير ايجاب الاحتياط في باب الدماء والفروج ، وإن كان موضوعيا فالحكم الشرعي أيضا يكون كذلك ، ولا يمكن أن يختلف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي في الموضوعية والطريقية ، بل يتبعه في ذلك لا محالة.

وهذا الحكم العقلي الطريقي أو الموضوعي المستتبع للحكم الشرعي على طبقه يكون حاكما على أدلة الأصول الشرعية : من البراءة والاستصحاب (٢) كما يكون واردا على البراءة العقلية ، فإنه يخرج المورد عن كونه « ما لا يعلمون » وعن « نقض اليقين بالشك » وعن كون « العقاب عليه بلا بيان » بل يكون « ما يعلمون » ومن « نقض اليقين باليقين » ومن « كون العقاب عليه عقابا مع البيان الواصل » ويأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء الله تعالى ).

* * *

________________________

١ ـ أقول : لولا حمل كلامهم على كونه في فرض المخالفة بحكم المعصية بمناط التجري وأنه موجب لإتمام الصلاة أيضا ، ولقد أشرنا إلى هذه الجهة سابقا أيضا ، فراجع. هذا ، مع إمكان أن يقال : إن لازم طريقية الاحتمال لزوم ترتيب آثار المطابقة عليه ، ومن آثاره إتمام الصلاة حين وجود الاحتمال ، وليس فتواهم بوجوب التمام أزيد من وجوبه حين قيام الطريق بلا نظر منهم إلى فرض انكشاف خلافه ، فتدبر.

٢ ـ أقول : لا نفهم وجه الحكومة ، خصوصا الاستصحاب ، لولا دعوى عكسه فيه ، فتدبر.

٢١٨

الأمر الرابع : المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام ، قد تكون شخصية راجعة إلى آحاد المكلفين كالواجبات العبادية وغالب المحرمات ، كالصوم والصلاة والحج والزنا وشرب الخمر وغير ذلك مما تعود المصلحة والمفسدة إلى شخص الفاعل.

وقد تكون نوعية كالواجبات النظامية ، من الطبابة والصياغة والخياطة ونحو ذلك مما يتوقف عليها حفظ الجامعة والنظام.

وفي كلا القسمين تكون المصلحة والمفسدة في متعلق الأمر ، لا في نفس الأمر ، فإنه لو كانت المصلحة في نفس الأمر والجعل كان اللازم حصولها بمجرد الأمر ولم يبق موقع للامتثال ، فالمصلحة لابد وأن تكون في المتعلق ، بل في الأوامر الامتحانية أيضا لا تكون المصلحة في نفس الأمر ، وإنما المصلحة في إظهار العبد الطاعة والعبودية.

وبالجملة : دعوى كون المصلحة في نفس الأمر والجعل ولو موجبة جزئية مما لا سبيل إليها.

إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم : أن المراد من « الضرر » في قول المستدل « إن الظن بالحكم يستلزم الظن بالضرر » إن كان هو العقاب فالملازمة ممنوعة ، فان العقاب يدور مدار التنجيز وهو يدور مدار وصول التكليف وإحرازه بالعلم أو ما يقوم مقامه من الطرق الشرعية ، لما عرفت ( في الأمر الأول ) من أن التكليف بوجوده الواقعي قاصر عن أن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد ويقبح العقاب عليه. والظن بالحكم مع عدم قيام الدليل على اعتباره وجعله كاشفا ومحرزا لا يقتضي وصول الحكم ، وما لم يصل لا عقاب عليه ، لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، فالظن بالحكم لا يلازم احتمال العقاب فضلا عن الظن به ، لأن العقاب فرع التنجيز وهو فرع الوصول ، فما يقال : من « أن الظن بالحكم وإن لم يلازم الظن بالعقاب إلاّ أنّه يحتمل

٢١٩

العقاب ، ودفع العقاب المحتمل كالمظنون مما يلزم به العقل » ضعيف غايته ، فإنه كيف يحتمل العقاب مع عدم اعتبار الظن وعدم كونه منجزا للتكليف ، بل ينبغي القطع بعدم العقاب لاستقلال العقل بقبحه.

وإن أريد من « الضرر » غير العقاب من المصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات التكاليف ـ بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الراجعة إلى العباد لاستغنائه ( تعالى ) عن ذلك ـ فالظن بالتكليف يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة ، لأن المصالح والمفاسد من الأمورات الواقعية التكوينية ولا تأثير للعلم والجهل بها ، ولا يمكن أن يدور وجودها الواقعي مدار العلم بالتكليف ، فالظن به يلازم لا محالة الظن بها ، إلا أن الشأن في كون فوت المصالح أو الوقوع في المفاسد من المضار الدنيوية ليندرج الظن بها في صغرى حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون.

والإنصاف : أنه ليس كذلك ، فان التكليف المظنون ، إما أن يكون من العبادات التي تتوقف على قصد الامتثال ، وإما أن يكون من التوصليات.

فان كان من العبادات : فالمصلحة فيها تدور مدار قصد الامتثال ، وهو يدور مدار العلم بالتكليف أو ما يقوم مقامه (١) ليتمكن المكلف من قصد الامتثال ، فالظن بالحكم مع عدم قيام الدليل على اعتباره لا يصحح قصد الامتثال ، بل لا يتمكن المكلف من ذلك إلا على نحو التشريع المحرم ، فحال المصلحة في العبادات حال العقاب في عدم الملازمة بين الظن بالحكم وبين الظن بها ، فالظن بالأحكام العبادية لا يندرج في صغرى حكم العقل بلزوم

________________________

١ ـ أقول : ذلك يصح على فرض احتياج العبادة إلى القربة الجزمية ، ومعه ينسد باب الاحتياط في العبادات ، خصوصا في الشبهات البدوية ، ولا أظن التزامه ممن كان خالي الذهن من الشبهات ، كيف وهو ديدن الصلحاء والعباد في الاحتياط في قضاء صلاتهم وغيرها.

ولئن سلمنا ما أفيد ، لنا أيضا أن نقول : إنه في فرض تمكنه من تحصيل العلم لو ترك ذات العبادة فقد احتمل فوت المصلحة الملزمة ، ومع تسليم كون فوات المصلحة من الضرر يحتمل إقدامه على الضرر.

٢٢٠