فوائد الأصول

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٠

باب الطرق والأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات (١) فلا إشكال حتى نحتاج إلى التفصي عنه ، فإنه لا يلزم شيء مما ذكر ، لأن المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية إلى ما تؤدى إليه أي شيء كان المؤدى ، فقول « الشيخ » طريق إلى قول « المفيد » وقول « المفيد » طريق إلى قول « الصدوق » وهكذا إلى أن ينتهى إلى قول « زرارة » الحاكي لقول الإمام عليه‌السلام ولا يحتاج في جعل الطريقية إلى أن يكون في نفس مؤدى الطريق أثر شرعي ، بل يكفي الانتهاء إلى الأثر ولو بألف واسطة ـ كما في المقام ـ فان جعل الطريقية لأقوال السلسلة لمكان أنها تنتهي إلى قول الإمام عليه‌السلام فتكون جميع الأقوال واقعة في طريق إثبات الحكم الشرعي ، فتأمل.

ويمكن تقريب « الوجه الرابع » بوجه آخر لعله يأتي حتى بناء على المختار : من كون المجعول نفس الطريقية ، وإن شئت فاجعله « خامس الوجوه » وهو أنه لو عم دليل الاعتبار للخبر مع الواسطة يلزم أن يكون الدليل حاكما على نفسه ويتحد الحاكم والمحكوم.

وتقريب ذلك : هو أن أدلة اعتبار الأصول والأمارات إنما تكون حاكمة على الأدلة الأولية المتكفلة لبيان الأحكام المترتبة على موضوعاتها الواقعية : من الواجبات والمحرمات وغير ذلك من الأحكام التكليفية والوضعية ، ومعنى حكومتها هو أنها مثبتة لتلك الأحكام ، فلو فرضنا أن مؤدى الأمارة كان إخبار العدل كإخبار « الشيخ » عن « المفيد » فالذي يترتب على إخبار « الشيخ » هو وجوب تصديقه ، ومفاد الدليل الدال على اعتبار قول « الشيخ » أيضا هو وجوب التصديق ، والمفروض أن دليل الاعتبار يكون حاكما على

________________________

١ ـ أقول : المجعول في الأمارة على فرض كونه الوسطية ، اما المراد من الوسطية؟ فان كان المراد وسطيته لإثبات حكم متعلقه ، فلا محيص من الالتزام بحكم للمتعلق كي يكون الوسط المزبور يثبت حكمه. وإن كان المراد الوسطية لإثبات حكم ولو غير حكم متعلقه ، فمن الأول نلتزم بكفاية جعل أول السلسلة لإثبات مضمون آخر السلسلة ، بلا احتياج إلى شمول الدليل للوسائط ، ولا أظن التزامك به.

١٨١

الأحكام الواقعية ، والحكم الواقعي المترتب على خبر « الشيخ » هو وجوب تصديقه الجائي من قبل دليل الاعتبار ، ومفاد دليل الاعتبار أيضا هو وجوب التصديق ، فيلزم أن يكون وجوب التصديق حاكما على نفسه.

ونظير هذا الإشكال يأتي في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، فان في كل من الشك السببي والمسببي يقين سابق وشك لاحق ، فيعمه دليل اعتبار الاستصحاب ، وليس في البين إلا قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فلو كان الأصل السببي حاكما على الأصل المسببي كان دليل الاعتبار حاكما على نفسه. نعم : لو كان لكل من الأصل الجاري في الشك السببي والمسببي دليل يخصه أمكن أن يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ، هذا.

والتحقيق في حلّ الإشكال الرابع ـ مع ما يتلوه من الوجه الخامس ـ هو أن يقال : إن دليل الاعتبار وإن كان بحسب الصورة قضية واحدة ، إلا أنه ينحل إلى قضايا متعددة ويكون الملحوظ فيه طبيعة الأثر (١) فإذا فرضنا أن سلسلة سند الروايات تنتهي بالأخرة إلى الرواية الحاكية لقول الإمام عليه‌السلام فدليل التعبد ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد السلسلة ، ويكون لكل منها أثر يخصه غير الأثر المترتب على الآخر ، ولا يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم ، بل تكون كل قضية حاكمة على غيرها ، فان المخبر به يخبر « الصفار » الحاكي لقول العسكري عليه‌السلام في مبدأ السلسلة لما كان حكما شرعيا من وجوب الشيء أو حرمته وجب تصديق « الصفار » في إخباره عن العسكري عليه‌السلام بمقتضى أدلة خبر العادل ، فيكون وجوب

________________________

١ ـ أقول : مجرد انحلال القضية إلى قضايا متعددة لولا ما ذكرنا ، لا يجدى لرفع الإشكال ، لأن البرهان المزبور يوجب أن يكون القضايا المتعددة عرضية لا طولية ، ومع ذلك كيف يصلح الانحلال المزبور لرفع الإشكال؟ فتدبر.

١٨٢

تصديق « الصفار » من الآثار الشرعية المترتبة على خبر « الصفار » ف‍ « الصدوق » الحاكي لقول « الصفار » قد حكى موضوعا ذا أثر شرعي ، فيعم قول « الصدوق » دليل الاعتبار ويجب تصديقه في إخبار « الصفار » له ، فيكون وجوب التصديق أثرا شرعيا رتب على قول « الصدوق ». ثم إن « المفيد » الحاكي لقول « الصدوق » قد حكى موضوعا ذا أثر شرعي فيجب تصديقه أيضا ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى قول « الشيخ » المحرز بالوجدان ، فكل لاحق يخبر عن موضوع سابق ذي أثر ، غايته أن الآثار تكون من سنخ واحد ، ولا محذور في ذلك إذا انتهت الآثار إلى أثر مغاير ، وهو وجوب الشيء أو حرمته الذي حكاه عن الإمام عليه‌السلام مبدأ السلسلة وهو « الصفار » فلا يلزم أن يكون الأثر المترتب على التعبد بالخبر بلحاظ نفسه ولا حكومة الدليل على نفسه (١) لما عرفت من تغاير الآثار وتغاير الحاكم والمحكوم.

أما الأول : فلأن أثر التعبد بكل خبر باعتبار ما يترتب عليه من وجوب التصديق في المرتبة السابقة على التعبد به.

وأما الثاني : فلأن دليل الاعتبار اللاحق يكون حاكم على الحكم المترتب على الموضوع السابق عليه ، والمنشأ في ذلك هو انحلال قضية وجوب تصديق العادل وانتهاء أخبار السلسلة إلى قول الإمام عليه‌السلام فبهذه المقدمتين يرتفع الإشكال الرابع والخامس.

________________________

١ ـ لا يخفى : أن طريق حل « الإشكال الثالث » وهو إثبات الموضوع بالحكم مع طريق حل « الإشكال الرابع » وإن كان أمرا واحدا ، وهو انحلال القضية إلى قضايا متعددة ، إلا أن حل « الإشكال الثالث » إنما يكون بلحاظ آخر السلسلة وهو خبر « الشيخ » المحرز بالوجدان ، فإن وجوب تصديق « الشيخ » هو الذي يثبت موضوعا آخر وهو خبر « المفيد » عن « الصدوق » وحل « الإشكال الرابع » إنما هو بلحاظ مبدأ السلسلة وهو الراوي عن الإمام عليه‌السلام فان وجوب تصديق « الصفار » هو الذي يترتب عليه الأثر غير وجوب التصديق ، وهو ثبوت قول العسكري عليه‌السلام ثم يكون وجوب تصديق « الصفار » أثرا لإخبار « الصدوق » عنه ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى آخر السلسلة ( منه ).

١٨٣

ومن ذلك يظهر : عدم الإشكال في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي فان انحلال قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى ما لليقين والشك من الأفراد يقتضي حكومة أحد الفردين على الآخر ، لا حكومته على نفسه ، كحكومة أحد فردي دليل الاعتبار فيما نحن فيه على الآخر ، غايته أن الحكومة في باب الأصل السببي والمسببي تقتضي إخراج الأصل المسببي عن تحت قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار ، فان وجوب تصديق « الشيخ » في إخباره عن « المفيد » يقتضي وجوب تصديق « المفيد » في إخباره عن الصدوق (ره) فوجوب التصديق « الشيخ » يدخل فردا تحت عموم وجوب التصديق بحيث لولاه لما كان داخلا فيه.

ولعل خفاء الفرق بين الحكومة في الأصل السببي والمسببي وفيما نحن فيه وأن هناك بإخراج فرد عن العموم وفي المقام بإدخال فرد فيه ، أوجب أن يضرب على عبارة الشيخ قدس‌سره في بعض نسخ « الرسائل » مما كانت تتضمن تنظير المقام بالأصل السببي والمسببي.

ولا يخفى أن عبارة « الشيخ » في بيان الإشكالات والأجوبة مضطربة ، فان جملة من العبارة تتكفل الإشكال الثالث ، وجملة منها تتكفل الإشكال الرابع ، ولذا قد ضرب على كثير من نسخ الكتاب في هذا المقام ، وعليك بالتأمل التام فيما ذكرناه.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بآية النبأ من تقريب الاستدلال بها والإشكالات المتوجهة عليه.

وقد بقى بعض الإشكالات ولكن لا يهم التعرض لها ، لوضوح فسادها ، فراجع فرائد الشيخ قدس‌سره.

ومن جملة الآيات التي استدل بها على حجية أخبار الآحاد قوله تعالى : « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا

١٨٤

إليهم لعلّهم يحذرون » (١) وتقريب الاستدلال بها على وجه يندفع ما أورد على الاستدلال بها يتركب من أمور :

الأمر الأوّل : كلمة « لعل » مهما تستعمل تدل على أن ما يتلوها يكون من العلل الغائية لما قبلها (١) سواء في ذلك التكوينيات والتشريعيات وسواء كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي يمكن تعلق الإرادة بها أو من الموضوعات الخارجية التي لا يصح أن يتعلق بها الإرادة ، فإنه على جميع التقادير كلمة « لعل » تقتضي أن يكون ما يتلوها علة غائية لما قبلها ، فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي تصلح لان يتعلق بها الإرادة الفاعلية والآمرية كان لا محالة بحكم ما قبلها ، فان كان ما قبلها واجبا يكون ما يتلوها أيضا واجبا ، وإن كان مستحبا فكذلك ، فان جعل الفعل الاختياري غاية للواجب أو للمستحب يلازم وجوب ذلك الفعل أو استحبابه ، وإلا لم يكن من العلل الغائية.

وبالجملة : لا إشكال في استفادة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب علته الغائية إذا صح أن يتعلق الطلب بها من حيث كونها فعلا اختياريا قابل لتعلق الإرادة به ، وفي الآية الشريفة جعل التحذر علة غائية للإنذار ، ولما كان الإنذار واجبا كان التحذر أيضا واجبا.

وسيأتي أن المراد من « التحذر » هو التحذر من حيث العمل بقول المنذر لا مجرد الخوف ، فهو من الأفعال الاختيارية التي يصح أن يتعلق

________________________

١ ـ التوبة الآية ١٢٢.

٢ ـ أقول : الذي يمكن أن يدعى أن مورد استعمال هذه الكلمة أوسع من مورد الغاية ، كيف وفي قوله « علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه » ليس كونه غاية لعدم الإهانة؟ بل هذه الكلمة في أمثال المقام مستعملة في مجرد إبداء الاحتمال بلا مطلوبية في مدخوله ، كما في قولنا « لا تدخله في بيتك لعله عدوك » ومن هنا أيضا ظهر ما في توهم إشراب جهة مطلوبية في مضمون تاليه كما لا يخفى ، فتدبر.

١٨٥

التكليف بها ، وإذا تأمل الشخص في موارد استعمال كلمة « لعل » يرى أن في جميع الموارد ما بعدها يكون في حكم ما قبلها من حيث الوجوب والاستحباب إن كان ما بعدها من الأفعال الإختيارية.

الأمر الثاني : المراد من الجمع (١) في قوله تعالى « ليتفقهوا » وفي قوله « لينذروا » وفي قوله « ليحذروا » هو الجمع الاستغراقي الأفرادي ، لا المجموعي الارتباطي ، لوضوح أن المكلف بالتفقه هو كل فرد فرد من أفرد الطائفة النافرين أو المتخلفين ـ على الوجهين في تفسير الآية ـ وليس المراد تفقه مجموع الطائفة من حيث المجموع ، كما أنه ليس المراد إنذار المجموع من حيث المجموع ، بل المراد أن يتفقه كل واحد من النافرين أو المتخلفين وينذر كل واحد منهم. وبالجملة : كما أن المراد من الجمع في قوله تعالى « يحذرون » هو الجمع الاستغراقي الأفرادي ، كذلك المراد من الجمع في قوله تعالى « ليتفقهوا » و « لينذروا » هو الجمع الإفرادي.

الأمر الثالث : ليس المراد من الحذر مجرد الخوف والتحذر القلبي ، بل المراد منه هو التحذر الخارجي ، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون. وليس المراد أيضا الحذر عند حصول العلم من قول المنذر ، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله تعالى « لينذروا » هو وجوب الحذر مطلقا ، حصل العلم من قول المنذر أو لم

________________________

١ ـ أقول : أظن أن غرضه من هذه المقدمة دفع توهم حمل الإنذار منهم على ما يفيد العلم للمتخلفين بخيال أن ما يفيد العلم هو إنذار مجموعهم ، لا كل واحد.

وفيه : أنّ وجوب الإنذار على كل واحد بنحو الاستغراق أيضا لا ينافي مع حمل الآية على صورة إفادة إنذارهم للعلم نظرا إلى إهمال الآية من هذه الجهة كما سيأتي ، وحينئذ العمدة دفع الإهمال من هذه الجهة ، وإلا فمجرد وجوب الإنذار على كل واحد واحد غير مفيد.

١٨٦

يحصل ؛ غايته أنه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلا ، لقيام الدليل على عدم وجوب العمل بقول الفاسق ، كما هو مفاد منطوق آية النبأ.

وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن يشكك أحد في دلالة الآية الشريفة على حجية خبر العدل ، فان مفادها بعد ضم الأمور السابقة ، هو وجوب قبول قول المنذر والحذر منه عملا عند إخباره بما تفقه من الحكم الشرعي إذا كان المنذر عدلا ، ولا نعنى بحجية خبر الواحد إلا ذلك ، فيكون مفاد الآية الشريفة مفاد سائر الأدلة الدالة على حجية قول العدل في الأحكام.

وبما ذكرنا من تقريب الاستدلال يمكن دفع جميع ما ذكر من الإشكالات على التمسك بالآية الشريفة.

منها : ان غاية ما تدل عليه الآية هو مطلوبية الحذر عقيب الإنذار ، إلا أنها ليس لها إطلاق يعم صورة عدم حصول العلم من قول المنذر.

وأنت خبير : بأنه بعد ما عرفت من أن المراد من الجمع هو العام الاستغراقي لا يبقى موقع لهذا الإشكال ، فإنه أي إطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه (١).

ومنها : ان وجوب الحذر إنما يكون عقيب إنذار المنذر بما تفقه ، والتفقه عبارة عن العلم بأحكام الدين من الواجبات والمحرمات الواقعية ، فلابد وأن يكون المنذر ( بالفتح ) عالما بأن إنذار المنذر ( بالكسر ) كان بالمحرمات والواجبات الواقعية ، فيختص اعتبار قول المنذر بما إذا حصل للمنذر ( بالفتح ) العلم بالحكم الشرعي من قوله ، ولا يخفى أن هذا الإشكال وإن كان بالنتيجة يتحد مع الإشكال السابق ، إلا أن طريق الإشكال يختلف ، كما هو واضح.

__________________

١ ـ أقول : بعد عدم الملازمة بين العموم المزبور مع إطلاق الإنذار لا معنى لهذا الاستنتاج في المقام ، بل العمدة إثبات الإطلاق المزبور ، وهو أول الكلام ، لإمكان دعوى إهمال القضية من حيث الحال ، مع فرض عموم الإنذار استغراقا أفرادياً.

١٨٧

وهذا الإشكال يتلو السابق في الفساد ، فان نفس الآية تدل على ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام ، لأن قول المنذر إذا جعل طريقا إليها ومحرزا لها فيجب اتباع قوله والبناء على أنه هو الواقع ، كما هو الشأن في سائر الأدلة الدالة على اعتبار الطرق والأمارات ، فان نتيجة دليل الاعتبار كون مؤدى الطريق هو الواقع ، لا يجعل المؤدى حتى يرجع إلى التصويب (١) بل جعل الطريقية يقتضي ذلك ، ومن هنا كانت أدلتها حاكمة على الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية ، فالآية بنفسها تدل على أن ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام الواقعية.

ومنها : ان الحذر إنما يجب عقيب الإنذار (٢) والإنذار ليس مطلق الإخبار عن الحكم ، بل هو الإخبار المشتمل على التخويف ، والتخويف ليس من شأن الراوي ، بل هو من شأن المفتي والواعظ ، فالآية تدل على حجية قول المفتي لا قول الراوي.

وفيه : أن الإنذار وإن كان هو الإخبار المشتمل على التخويف ، إلا أنه أعم من الصراحة والضمنية (٣) فإنه يصدق الإنذار على الإخبار المتضمن للتخويف ضمنا وإن لم يصرح به المنذر ، وإلا لم يصدق الإنذار على فتوى المفتي ، فإنه ليس في الفتوى التصريح بالتخويف ، مع أن المستشكل سلم صدق الإنذار على الفتوى ، ولا فرق بين الفتوى والرواية في أن كلا منهما يشتمل على

________________________

١ ـ لا يخفى ما في العبارة من الاضطراب ، ولعل الصحيح « لا جعل المودى واقعا » ( المصحح )

٢ ـ أقول : صورة الشبهة غير مستقيم ، لان إنذار كل واحد ولو فاسقا إنذار بالحكم الواقعي كإخباره ، والتحذر من هذا الإنذار لا يقتضي العلم بالحكم ، بل يكفي فيه حجية قوله ، كما هو الشأن في كل خبر بشيء ، وحيث إنه ينوط باطلاق الآية من حيث الحال ، فيكون ذلك من تبعات الإشكال السابق ، وليس إشكالا آخر متحدا معه نتيجة ، فتدبر.

٣ ـ أقول : عمدة نظر المستشكل إلى احتياج الإنذار والتخويف من شخص إلى الالتفات بلازم تخويفه وبعنوانه ، ومثل هذا المعنى لا يصدق على العامي البحت الحاكي لمسموعاته من الإمام عليه‌السلام فتعميم التخويف إلى الصراحة والضمنية أجنبي عن جهة الإشكال ، كما لا يخفى.

١٨٨

التخويف ضمنا ، فان الإخبار بالوجوب يتضمن الإخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب.

فالإنصاف : أن الآية لو لم تكن أظهر من آية النبأ في الدلالة على حجية خبر العدل فلا تقصر عنها ، فتأمل جيدا (١).

وقد استدل على حجية الخبر الواحد بآيات اخر ، كآية السؤال وآية التصديق ، ولكن في دلالتها تأمل ، فراجع فرائد الشيخ قدس‌سره.

وأمّا السنّة فهي على طوائف :

منها : الأخبار العلاجية (٢) المتكفلة لبيان حكم الروايات المتعارضة من الترجيح بالأشهرية والأورعية والأوثقية وغير ذلك من المرجحات ، ومع فقدها فالتخيير ، فإنها ظاهرة الدلالة في حجية الخبر الواحد عند عدم ابتلائه بالمعارض ووجوب الأخذ به مع عدم العلم بصدوره أو بمضمونه ، لأن الترجيح بالأوثقية والأعدلية لا يكاد يمكن إلا مع عدم العلم بالصدور والمضمون.

نعم : ليس فيها إطلاق يعم جميع أخبار الآحاد ، لأن إطلاقها مسوق لبيان حكم التعارض ، والقدر المتيقن دلالتها على حجية الخبر الموثوق به صدورا أو مضمونا (٣) كما يدل على الأول الترجيح باشتهار الرواية بين الرواة أو

__________________

١ ـ أقول : وللتأمل فيه مجال.

٢ ـ راجع الوسائل : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي

٣ ـ أقول : في كون مطلق الوثوق قدرا متيقنا من هذه الأخبار نظر ، بل الذي هو القدر المتيقن صورة عدالة الراوي بجميع طبقاته المسمى عند أرباب الحديث ب‍ « الصحيح الأعلائي » كما لا يخفى ، كما إنه يمكن دعوى أن « الثقة » المسؤول عنه في الروايات عن الإمام أو الواقع في كلام الإمام عليه‌السلام هو العدالة لا مطلق من يتحرز عن الكذب ولو كان فاسقا ، وحينئذ استفادة حجية الخبر الموثوق من مجموع هذه الروايات مشكل لولا دعوى السيرة والإجماع العملي في مقام استنباط الأحكام على مثله ، خصوصا مع عدم الكفاية عندهم مجرد خبر العادل خصوصا بجميع طبقاته في استنباط ما هو المعلوم بالإجمال عندهم من الأحكام.

ولكن مع ذلك أمكن أن يقال في الانتقال من تعبير العدالة إلى الوثاقة : ربما يستظهر أن المناط في الحجية

١٨٩

وثاقة الراوي وعدالته ـ فان هذه المرجحات كلها ترجع إلى اعتبار الخبر الموثوق صدوره ـ وعلى الثاني الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

ومنها : الأخبار الواردة في إرجاع الأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ بعض الصحابة إلى بعض في أخذ الفتوى والرواية ، كإرجاعه عليه‌السلام إلى « زرارة » بقوله عليه‌السلام « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » (١) وأشار إلى « زرارة » وقوله عليه‌السلام « وأما ما رواه زرارة عن أبي فلا يجوز رده » (٢) وقوله عليه‌السلام « العمري ثقة فما أدى إليك عني فعني يؤدي » (٣) وغير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها اعتبار الخبر الموثوق به ، وهي كثيرة مستفيضة.

ومنها : ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والعلماء ، كقوله عليه‌السلام في خبر الاحتجاج : « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا » الخبر (٤).

ومنها : الأخبار الواردة في الرجوع إلى كتب « بني فضال » (٥). ولا إشكال في أنه يستفاد من المجموع اعتبار الخبر الموثوق به ، بل يستفاد من بعضها أن الاعتماد على خبر الثقة كان مفروغا عنه عند الصحابة مرتكزا في أذهانهم ، ولذلك ورد في كثير من الأخبار السؤال عن وثاقة الراوي ، بحيث يظهر منها أن الكبرى مسلمة والسؤال كان عن الصغرى.

________________________

هو هذه الجهة ، وإن كان الموثوق عند الإمام عليه‌السلام فوق العدالة ، مؤيدا ذلك بالإرجاع إلى كتب « بني فضال » لمحض وثاقتهم كما لا يخفى.

١ ـ الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث ١٩.

٢ ـ الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث ١٧.

٣ ـ الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث ٤.

٤ ـ الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث ٩.

٥ ـ الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث ١٣.

١٩٠

ولا يتوهّم : ان هذه الأخبار من أخبار الآحاد ولا يصح الاستدلال بها لمثل المسألة ، فإنها لو لم تكن أغلب الطوائف متواترة معنى فلا إشكال في أن مجموعها متواترة إجمالا ، للعلم بصدور بعضها عنهم ( صلوات الله عليهم أجمعين ).

والإنصاف : أن التتبع في هذه الأخبار يوجب القطع باعتبار الخبر الموثوق به.

وأمّا الإجماع : فقد ذكر في تقريره وجوه : من الإجماع القولي ، والعملي ، وسيرة المسلمين ، وطريقة العقلاء. وينبغي أولا بيان الفرق بين هذه الوجوه ، ثم نعقبه بصحة الاستدلال بها ، فنقول :

أمّا الإجماع القولي : فهو عبارة عن اتفاق أرباب الفتوى على الفتوى بحكم فرعى أو أصولي. وطريق إحراز ذلك إنما يكون من تتبع أقوالهم في كتبهم ورسائلهم.

وأمّا الإجماع العملي : فهو عبارة عن عمل المجتهدين في المسألة الأصولية ، بحيث يستندون إليها في مقام الاستنباط ويعتمدون عليها عند الفتوى ، كإجماعهم على التمسك بالاستصحاب في أبواب الفقه ، سواء أجمعوا على الفتوى بحجيته أيضا ، أو كان مجرد الإجماع على الاستناد إليه في مقام الاستنباط ، غايته أنه في صورة الإجماع على الفتوى يجتمع الإجماع القولي والعملي. فالإجماع العملي لا يكون إلا في المسائل الأصولية التي تقع في طريق الاستنباط ، ولا معنى للإجماع العملي في المسائل الفرعية ، لاشتراك المجتهد في العمل بها مع غيره ، وليس العمل في المسألة الفرعية من مختصات المجتهد بما أنه مجتهد ، والإجماع الذي يكون من الأدلة إنما هو إجماع المجتهدين بما أنهم مجتهدون ، فالإجماع العملي لا يكاد يتحقق في المسائل الفرعية ، بل يختص بالمسائل الأصولية.

١٩١

وأمّا السيرة : فهي عبارة عن عمل المسلمين بما أنهم مسلمون وملتزمون بأحكام الشريعة ، ولا إشكال في كشفها عن رضاء صاحب الشريعة إذا علم استمرارها إلى ذلك الزمان ، إذ من المستبعد جدا بل من المحال عادة استقرار سيرة المسلمين واستمرار عملهم على الشيء من عند أنفسهم من دون أن يكون ذلك بأمر الشارع ودستوره ، ولو سلم أنه يمكن تحقق السيرة بلا أمر منه ، فلا أقل من أنها تكشف عن رضاه ، وإلا كان عليه الردع إظهارا للحق وإزاحة للباطل.

نعم : يعتبر في حجية السيرة أن تكون من الملتزمين بالشريعة والمتدينين بها ، فلا عبرة بسيرة العوام الذين لا يبالون بمخالفة آداب الشريعة ويصغون إلى كل ناعق ، لوضوح أن سيرتهم لا تكشف عن رضا المعصوم ، لعدم ارتداعهم بردعه.

وأمّا طريقة العقلاء : (١) فهي عبارة عن استمرار عمل العقلاء بما هم عقلاء على شيء سواء انتحلوا إلى ملة ودين أو لم ينتحلوا ، ومنهم المسلمون ، وسواء كان ما استمرت عليه طريقتهم من المسائل الأصولية أو من المسائل الفقهية ، وقد يعبر عن الطريقة العقلائية ببناء العرف ، والمراد منه العرف العام ، كما يقال : إن بناء العرف في المعاملة الكذائية على كذا ، وليس بناء العرف شيئا يقابل الطريقة العقلائية ، ولا إشكال أيضا في اعتبار الطريقة العقلائية وصحة التمسك بها ، فان مبدأ الطريقة العقلائية لا يخلو : إما أن يكون لقهر قاهر وجبر سلطان جائر قهر جميع عقلاء عصره على تلك الطريقة واتخذها العقلاء في الزمان المتأخر طريقة لهم واستمرت إلى أن صارت من مرتكزاتهم ، وإما أن يكون مبدئها أمر نبي من الأنبياء بها في عصر حتى استمرت ، وإما أن

________________________

١ ـ أقول : قد نقحنا المقام في طي كلامه في تقريب الآيات الناهية للمنع عن العمل بالظن في أول المسألة ، فراجع.

١٩٢

تكون ناشئة عن فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها الله تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظا للنظام.

ولا يخفى بعد الوجه الأول بل استحالته عادة ، وكذا الوجه الثاني ، فالمتعين هو الوجه الثالث ، ولكن على جميع الوجوه الثلاث يصح الاعتماد عليها والإتكال بها ، فإنها إذا كانت مستمرة إلى زمان الشارع وكانت بمنظر منه ومسمع وكان متمكنا من ردعهم ، ومع هذا لم يردع عنها فلا محالة يكشف كشفا قطعيا عن رضاء صاحب الشرع بالطريقة ، وإلا لردع عنها كما ردع عن كثير من بناءات الجاهلية ، ولو كان قد ردع عنها لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله.

ومن ذلك يظهر : أنه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها ، بل يكفي عدم الردع عنها ، فان عدم الردع عنها مع التمكن منه يلازم الرضاء بها وإن لم يصرح بالإمضاء.

نعم : لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات (١) لأنها من الأمور الاعتبارية التي تتوقف صحتها على اعتبارها ، ولو كان المعتبر غير الشارع فلابد من إمضاء ذلك ولو بالعموم أو الإطلاق. وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع كالمعاملة المعروفة في هذا الزمان ب‍ ( البيمة ) فإنها إذا لم تندرج في عموم « أحل الله » و « أوفوا بالعقود » ونحو ذلك ، فلا يجوز ترتيب آثار الصحة عليها.

وإذا قد عرفت الفرق بين هذه الوجوه الأربعة في تقرير الإجماع.

فاعلم : أنه يصح التمسك بالإجماع القولي المحكى عن الشيخ

________________________

١ ـ أقول : لا فرق في المقامين بعد تسليم أن عدم ردعه عنهم يكشف عن رضائه بعملهم كما أن هذا الكشف أيضا في صورة وجود المعاملة في زمانه وكونها بمرئى منه عليه‌السلام ومسمعه ، وعدم مانع خارجي عن ردعه ، فان ذلك يلازم الإمضاء الكاشف عن أن اعتبار الشارع أيضا على وفق اعتبارهم ، كما لا يخفى.

١٩٣

قدس‌سره على اعتبار حجية خبر الثقة إذا فرض أنه يكشف كشفا قطعيا عن رأى المعصوم عليه‌السلام وعن وجود دليل معتبر عند الكل ، وإلا فلا عبرة به.

وأمّا الإجماع العملي : فهو وإن كان متحققا في المقام ، لما عرفت في صدر المبحث من حصول الاتفاق على التمسك بما في الكتب المعتبرة من الأخبار ، إلا أنه لا يصح التمسك للمقام بمثل هذا الإجماع العملي والاعتماد عليه ، لما تقدم من اختلاف مشرب المجمعين في ذلك ، فان بعضهم يعمل بها لكونها مقطوعة الصدور في نظره ، وبعضهم يعمل بها لكونها تفيد الظن مع بنائه على حجية مطلق الظن بدليل الانسداد ، وبعضهم يعمل بها لكونها مما قام الدليل على اعتبارها ، فالإجماع العملي في المقام يكون من الإجماع التقييدي الذي لا عبرة به في شيء من المقامات.

وأمّا سيرة المسلمين : فلا إشكال في حجيتها والاعتماد عليها ، لكن إذا كان الذي قامت السيرة عليه من الأمورات التوقيفية التي من شأنها أن تتلقى من الشارع ، فإنها تكشف لا محالة عن الجعل الشرعي فيما قامت السيرة عليه. وأما في الأمورات الغير التوقيفية التي كانت تنالها يد العرف والعقلاء قبل الشرع ، فمن المحتمل قريبا رجوع سيرة المسلمين إلى طريقة العقلاء. ولكن ذلك لا يضر جواز الاستدلال بها ، فإنه كما أن استمرار طريقة العقلاء يكشف عن رضاء صاحب الشرع بها ، كذلك سيرة المسلمين تكشف عن ذلك ، غايته أنه في مورد اجتماع السيرة والطريقة تكونان من قبيل تعدد الدليل على أمر واحد وذلك يضر بصحة الاستدلال بعمل واحد منهما ، ولا إشكال في قيام سيرة المسلمين على العمل بخبر الثقة واستمرارها إلى زمان الأئمة ( صلوات الله عليهم ) فتكون السيرة من جملة الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة.

وأمّا طريقة العقلاء : فهي عمدة أدلة الباب ، بحيث لو فرض أنه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة والإتكال عليه في محاوراتهم ، بل على

١٩٤

ذلك يدور رحى نظامهم.

ويمكن أن يكون ما ورد من الأخبار المتكفلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدمة كلها إمضاء لما عليه بناء العقلاء وليست في مقام تأسيس جواز العمل به ، لما تقدم من أنه ليس للشارع في تبليغ أوامره طريق خاص ، بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري بين الموالى والعبيد العرفية من دون أن يكون له طريق مخترع ، وحال الخبر الموثوق به عند الموالى والعبيد حال العلم في جواز الركون إليه والإلزام والالتزام به في مقام المخاصمة والمحاجة.

ومنه يظهر : أن الآيات الناهية عن العمل بالظن لا تشمل خبر الثقة ، حتى يتوهم أنها تكفى للردع عن الطريقة العقلائية ، لأن العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم ، بل هو من أفراد العمل بالعلم (١) لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع ، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرت عليه عادتهم ، فهو خارج عن العمل بالظن موضوعا ، فلا تصلح لأن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة ، بل الردع عنه يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص ، بل لابد من تشديد النكير على العمل به ، كما شدد النكير على العمل بالقياس ، لاشتراك العمل بالقياس مع العمل بخبر الثقة في كونه مما استقرت عليه طريقة العقلاء وطبعت عليهم جبلتهم.

والإنصاف : أن التأمل في طريقة العقلاء يوجب القطع بخروج الاعتماد على خبر الثقة عن الاعتماد بالظن ، فما سلكه الشيخ قدس‌سره في وجه عدم كون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة تبعيد للمسافة بلا ملزم ، مع أن ما أفاده لا يخلو عن المناقشة ؛ فراجع.

* * *

________________________

١ ـ أقول : قد تقدم منا بعض الكلام فيه ؛ فراجع.

١٩٥

وأمّا العقل :

فقد ذكر في تقريره وجوه :

الوجه الأوّل :

ما أفاده الشيخ قدس‌سره واعتمد عليه سابقا ( عند البحث عن حجية كلام اللغوي ) وهو ترتيب مقدمات الانسداد الصغير في خصوص الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب لاستنتاج حجية الظن بالصدور.

وينبغي أولا بيان المراد من « الانسداد الصغير » ثم نعقبه بما أفيد في المقام.

فنقول : قد تقدم أن استفادة الحكم الشرعي من الخبر يتوقف على أمور : الأول : العلم بصدور الخبر. الثاني : العلم بجهة صدوره من كونها لبيان حكم الله الواقعي لا للتقية ونحوها. الثالث : كون الخبر ظاهرا في المعنى المنطبق عليه. الرابع : حجية الظهور ووجوب العمل على طبقه.

فهذه الأمور لابد من إثباتها في مقام استنباط الحكم الشرعي من الرواية وإقامة الدليل على كل واحد منها ، وإذا اختل أحدها يختل الاستنباط ، فان قام الدليل بالخصوص على كل واحد منها فهو ، وإن لم يقم الدليل على شيء منها وانسد طريق إثباتها ، فلابد حينئذ من جريان مقدمات الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي ، للعلم بثبوت الأحكام في الشريعة ولا يجوز إهمالها وترك التعرض لها ـ إلى آخر المقدمات الآتية في باب الانسداد ـ وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الكبير.

وإن قام الدليل على إثبات بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية دون بعض ، كما لو فرض أنه قام الدليل على الصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ، ولكن لم يمكن تشخيص الظهور وتوقف على الرجوع إلى كلام

١٩٦

اللغوي في تعيين أن اللفظ الكذائي كلفظ « الصعيد » مثلا موضوع للمعنى الكذائي ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار قوله ، فاعتبار الظن الحاصل من كلام اللغوي وعدمه مبنى على صحة جريان مقدمات الانسداد في خصوص معاني الألفاظ لاستنتاج حجية الظن الحاصل من كلام اللغوي في معنى اللفظ ـ وإن لم يحصل الظن بالحكم الشرعي من قوله ـ وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الصغير.

وحاصل الفرق بين الانسداد الكبير والانسداد الصغير : هو أن مقدمات الانسداد الكبير إنما تجرى في نفس الأحكام ليستنتج منها حجية مطلق الظن فيها ، وأما مقدمات الانسداد الصغير (١) فهي إنما تجرى في بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية من إحدى الجهات الأربع المتقدمة ليستنتج منها حجية مطلق الظن في خصوص الجهة التي انسد باب العلم فيها.

وفي صحة جريان مقدمات الانسداد الصغير مطلقا في أي جهة من هذه الجهات الأربع ، أو عدم صحته مطلقا ، أو التفصيل بين الجهات ، فأي جهة توقف العلم بأصل ثبوت الحكم على العلم بها لا يصح جريان مقدمات الانسداد الصغير فيها بل لابد إما من إقامة الدليل بالخصوص على إثباتها وإما من جريان مقدمات الانسداد الكبير لاثبات حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي ، وأي جهة توقف تشخيص الحكم وتعيينه على العلم بها من دون أن يكون لها دخل في أصل العلم بالحكم فان لم يقم دليل بالخصوص عليها تجرى

________________________

١ ـ أقول : ميزان الكبر والصغر في باب الانسداد كبر دائرة العلم الإجمالي وصغره بنحو لا يلزم محذور في ترك العمل في هذه الدائرة لولا العلم المخصوص بها من ناحية العلم الكبير ، وإلا فمجرد العلم بالحكم بنحو الكلية الذي هو موضوع الانسداد الكبير لا يتوقف على العلم بصدور روايته ، كيف والعامي البالغ العالم بحكمه وبمحذور الخروج عن الدين غير ملتفت بروايته وصدوره! نعم : ليس العلم بالحكم بنحو الكلي بنحو لولا العلم بصدور الروايات لا يلزم من ترك العمل فيها محذور خروجه عن الدين ، وبذلك تمتاز عن العلم في دائرة ظواهر جملة من الألفاظ المخصوصة ، وحينئذ فعمدة الميزان ذلك ؛ فتدبر.

١٩٧

فيها مقدمات الانسداد الصغير.

وتوضيح ذلك : هو أن بعض هذه الجهات مما يتوقف عليها العلم بأصل الحكم ـ كجهة الصدور ـ فإنه لولا إثبات صدور الرواية لا يكاد يحصل العلم بالحكم لا بجنسه ولا بفصله موضوعا ومتعلقا ، ففي مثل ذلك لابد إما من قيام الدليل على الصدور ، وإما من جريان مقدمات الانسداد الكبير بالنسبة إلى أصل الأحكام. وبعضها الآخر مما لا يتوقف عليها العلم بأصل الحكم بل كان لها دخل في تشخيص الحكم وتعيينه من حيث الموضوع أو المتعلق كالظهور ـ فان العلم بأصل الحكم لا يتوقف على العلم بالظهور عند العلم بالصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ، بل تشخيص الحكم يتوقف على ذلك إذا كان الإجمال في ناحية الموضوع أو المتعلق ، مثلا في قوله تعالى : « فتيمموا صعيدا طيبا » متعلق الجهل هو خصوص « الصعيد » من أجل تردده بين مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب الخالص ، والجهل بمعنى « الصعيد » لا يضر العلم بأصل الحكم ، لأن المكلف يعلم بأنه مكلف بما تضمنته الآية الشريفة من الحكم ، ففي هذه الجهة إن لم يقم دليل بالخصوص على حجية قول اللغوي في تعيين معنى « الصعيد » تجرى فيها مقدمات الانسداد الصغير ، ولا تصل النوبة إلى مقدمات الانسداد الكبير ، لأنها إنما تجرى بالنسبة إلى نفس الحكم ، والمفروض حصول العلم بالحكم في مورد الكلام.

فلابد من جريان مقدمات الانسداد الصغير لإثبات حجية مطلق الظن الجهة التي انسد باب العلم فيها.

وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة يميل إلى هذا التفصيل ، بل كان يقويه ، وعليه بنى حجية الظن الحاصل من قول اللغوي في تعيين مداليل الألفاظ بعد ما كان يمنع عنه ، كما تقدم بيانه.

وعلى كل حال : المقصود من الوجه الأول ( من وجوه تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد ) هو إجراء مقدمات الانسداد بالنسبة إلى خصوص

١٩٨

جهة الصدور لإثبات حجية مطلق الظن به (١) وبيانه : هو أنه لا إشكال في أنا نعلم إجمالا بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولا سبيل إلى منع العلم الإجمالي بذلك ، فان من تتبع حال الرواة وكيفية اهتمامهم في ضبط الأخبار وأخذها من الكتب المعتبرة يعلم علما وجدانيا بصدور كثير منها عن الأئمة ( صلوات الله عليهم ) ولا إشكال أيضا بأنا مكلفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام الشرعية ، فلا يجوز إهمالها. ولا يجب الاحتياط فيها لعدم إمكانه أو تعسره ، ولا يجوز أيضا الرجوع إلى الأصول العملية لمنافاتها للعلم الإجمالي ـ على ما سيأتي بيانه في مقدمات الانسداد ـ لابد حينئذ من الأخذ بمظنون الصدور فقط ، أو مع مشكوك الصدور ، أو مع الموهوم أيضا ، حسب اختلاف مراتب العلم الإجمالي ـ على ما سيأتي تفصيله ـ هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه.

ولكن يرد عليه :

أوّلاً : انّ العلم الإجمالي بالأحكام لا ينحصر أطرافه في ما بأيدينا من الأخبار ، بل الأمارات الظنية ـ كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية ـ أيضا من أطراف العلم الإجمالي ، بل دائرة العلم الإجمالي أوسع من ذلك أيضا ، فان العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الشريعة يقتضي أن تكون جميع الوقايع المشتبهة ( من المظنونة والمشكوكة والموهومة ) من أطرافه ، فيكون للعلم الإجمالي مراتب ثلاث : الأولى : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بأيدينا من الأخبار. الثانية : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بين الأخبار والأمارات الظنية. الثالثة : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في مجموع الوقايع المشتبهة ، وهذه المرتبة

________________________

١ ـ أقول : كلامه السابق يقتضي أن يكون الانسداد الجاري في المقام هو الانسداد الكبير ، ومن فحاوي كلماته الآتية بل صريح بعضها يقتضي كونه من الانسداد الصغير ، فتدبر فيها صدرا وذيلا ، لعلك تعرف المرام وتدفع بها التهافت في المقام.

١٩٩

أوسع من الثانية ، والثانية أوسع من الأولى.

ومقتضى العلم الإجمالي في المرتبة الثالثة وإن كان هو الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ( مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ) إلا أنه ينحل بالعلم الإجمالي في المرتبة الثانية ، لأن المعلوم بالإجمال بين الوقايع المشتبهة لا يزيد قدرا عن المعلوم بالإجمال بين جميع الأمارات الظنية. والذي يدلك على ذلك ، هو أنه لو عزلنا طائفة من الأمارات الظنية بقدر المعلوم بالإجمال بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها عليها ثم ضممنا الوقايع المشتبهة إلى الباقي من الأمارات الظنية لم يكن لنا علم إجمالي بتكليف بين الوقايع المشتبهة مع الباقي من الأمارات.

مثلاً لو فرضنا : أن المتيقن من المعلوم بالإجمال بين الأمارات الظنية مآت من الأحكام ، وعزلنا بذلك المقدار منها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعزول ، فلا يبقى العلم الإجمالي فيما بقى من الأمارات الظنية ، ولو ضممنا إلى الباقي الوقايع المشكوكة لا يحصل لنا العلم الإجمالي بثبوت حكم فيما بين بقية الأمارات الظنية والوقايع المشكوكة ، لأن نفس بقية الأمارات ليس فيها علم إجمالي ، فضم الوقايع المشكوكة لا يؤثر في حصول العلم ، لأن الشك لا ينقلب عن كونه شكا ، فلا يعقل أن يكون ضم الشك إلى الظن موجبا لحدوث العلم الإجمالي ، وهذا أقوى شاهد على أن العلم الإجمالي الوسيع الذي يكون منشأ العلم بثبوت التكاليف في الشريعة ينحل ببركة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف فيما بين الأمارات الظنية المتوسط بين ذلك وبين العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار المودعة في الكتب.

فان قلت : العلم الإجمالي المتوسط أيضا ينحل بالعلم الإجمالي الصغير الذي يكون أطرافه خصوص الأخبار ، لأنه لا يعلم بثبوت التكاليف أزيد مما في بين الأخبار ، فلا أثر للعلم الإجمالي المتوسط.

قلت : هذه الدعوى مما يكذبها الوجدان ، بداهة أن الأمارات الظنية

٢٠٠