جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١١

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١١

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

ولو قال : أوصيت إلى زيد ، فإن مات فقد أوصيت إلى عمرو صح ويكون كل منهما وصيا إلاّ أن عمرا وصي بعد زيد. وكذا : أوصيت إليك ، فإن كبر ابني فهو وصيي.

ويجوز أن يجعل للوصي جعلا ، ولو لم يجعل جاز له أخذ أجرة المثل عن نظره في ماله ، وقيل قدر الكفاية ، وقيل أقلهما.

______________________________________________________

قوله : ( ولو قال : أوصيت إلى زيد ، فإن مات فقد أوصيت إلى عمرو صح ، ويكون كل منهما وصيا إلاّ أن عمرا وصي بعد زيد. وكذا أوصيت إليك ، فإن كبر ابني فهو وصيي ).

يدل على صحة ذلك أن فاطمة عليهما‌السلام أوصت في وقفها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإن حدث به حادث فإلى ولديها عليهما‌السلام ، ولأن الوصاية قريبة من التأمير ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « الأمير زيد ، فإن قتل فجعفر ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة » (١).

وتحتمل الوصية التعليق كما تحتمل الاخطار والجهالة ، ذكره المصنف في التذكرة (٢).

قوله : ( ويجوز أن يجعل للوصي جعلا ، ولو لم يجعل جاز له أخذ أجرة المثل عن نظره في ماله. وقيل : قدر الكفاية ، وقيل : أقلهما ).

لا ريب في جواز بذل جعل للوصي على عمله كما في الوصاية ، فإن كلا منهما استنابة في التصرف. فلو لم يجعل له فتولى أمور الأطفال وقام بمصالحهم كان له أن يأخذ عن تصرفه عوضا ، وفي قدره ثلاثة أقوال :

__________________

(١) إعلام الورى : ١٠٢.

(٢) التذكرة ٢ : ٥٠٩.

٣٠١

______________________________________________________

أحدها : انه يأخذ أجرة المثل ، اختاره الشيخ في موضع من النهاية ـ وهو باب التصرف في مال الأيتام ـ لأنها عوض عمله (١).

الثاني : انه يأخذ قدر الكفاية لظاهر قوله تعالى ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (٢) ، والمعروف : ما لا إسراف فيه ولا تقتير ، وهو قول الشيخ أيضا في النهاية (٣).

الثالث : انه يأخذ أقل الأمرين من الأجرة والكفاية. أما إذا كانت الكفاية فظاهر ، لأنه إنما يأخذ مع الفقر دون ما إذا كان غنيا ، لظاهر قوله تعالى ( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) (٤) ، والأمر للوجوب. وأما إذا كانت الأجرة أقل ، فلأنه إنما يأخذ في مقابل عمله ، فلا يحل له أخذ ما زاد عليه ، وهذا هو الأصح.

وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : سئل وأنا حاضر عن القيّم لليتامى في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم ، إله أن يأكل من أموالهم؟ فقال : « لا بأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف كما قال الله تعالى في كتابه( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، هو القوت ، وانما عنى ( فليأكل بالمعروف ) الوصي لهم والقيم في أموالهم ما يصلحهم » (٥).

إذا عرفت ذلك فاعلم أن من قال بأنه يأخذ أجرة المثل حقه أن لا يفرّق في‌

__________________

(١) النهاية : ٣٦٢.

(٢) النساء : ٦.

(٣) النهاية : ٣٦١.

(٤) النساء ٦.

(٥) التهذيب ٩ : ٢٤٤ حديث ٩٤٩.

٣٠٢

وإذا أوصى إليه بتفريق مال لم يكن له أخذ شي‌ء منه وإن كان موصوفا بصفات المستحقين ، وله إعطاء أهله وأولاده مع الوصف.

ولو قال : جعلت لك أن تضع ثلثي فيمن شئت أو حيث رأيت ، فله أن يأخذ كما يعطي غيره من غير تفضيل.

______________________________________________________

جواز الأخذ بين الغني والفقير ، لأن محط نظره هو العمل دون الفقر. وعلى هذا جرى المصنف في التذكرة (١) وهو ظاهر اختياره هنا.

قوله : ( وإذا أوصى إليه بتفريق مال لم يكن له أخذ شي‌ء منه وإن كان موصوفا بصفات المستحقين ، وله إعطاء أهله وأولاده مع الوصف ).

أي : إذا أوصى إليه بتفريق مال في قبيل وكان منهم لم يكن له أن يأخذ منه شيئا ، لأن المتبادر من اللفظ الصرف إلى غيره ، وصرفه إلى نفسه خلاف ظاهر اللفظ ، وللرواية.

نعم ، لو دلت قرينة حالية أو مقالية على إرادة أخذه عوّل عليها ، فيأخذ كأحدهم ، إلاّ أن تدل على أزيد. ولو كان أهله وأولاده بالصفة جاز إعطاؤهم قطعا ، لتناول اللفظ لهم.

قوله : ( ولو قال : جعلت لك أن تضع ثلثي فيمن شئت أو حيث رأيت ، فله أن يأخذ كما يعطي غيره من غير تفضيل ).

لما كان لفظ الموصي في هذا الفرض أدل على تفويضه في الصرف لنصبه على العموم ، وربط الأمر بمشيئته ورأيه ، جاز له أن يأخذ هنا مثل غيره. ولو دلت قرينة على شي‌ء تعيّن المصير إليه.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥١٤.

٣٠٣

ولو أوصى إليه بتفريق ثلثه ، فامتنع الوارث من إخراج ثلث ما في يده ، فالأقرب إخراج الثلث كله مما في يده ، تجانس المال أو اختلف ،

______________________________________________________

قوله : ( ولو أوصى إليه بتفريق ثلثه ، فامتنع الوارث من إخراج ثلث ما في يده ، فالأقرب إخراج الثلث كله مما في يده ، تجانس المال أو اختلف ).

لو أوصى شخص إلى آخر بتفريق ثلثه في جهة ، وكان بعض المال بيد الوارث وبعضه بيد الوصي ، فامتنع الوارث من إخراج ثلث ما في يده ، ففيه أوجه ، أقربها عند المصنف إخراج الثلث كله مما في يد الوصي ، سواء تجانس المال كله أو اختلف.

ووجه القرب أن إخراج الثلث مستحق ، فإذا امتنع الوارث عما في يده ولم يستطع الوصي قهره ، توصل إلى إخراج الحق إلى مستحقه اقتصاصا. ولأن الوارث غاصب لثلث ما في يده ، فيغرمه الوصي بدله. ولأنه إذا استأثر بعين التركة أخذ منه بدلها. ولأن الوصية تعلقت بثلث التركة ، وهو مفهوم كلي يصدق على الشائع في الجميع وغيره. وإنما أوجبنا الأخذ من كل بعض ثلثه ، لأنه أعدل بالنسبة إلى حق الموصي والوارث. فإذا تعذر أخذ الثلث من كل شي‌ء لم يبطل حق الوصية ، لأن متعلقها أمر كلي ، وبانتفاء الجزئي لا ينتفي الكلي. نعم ، يسقط وجوب رعاية التقسيط لتعذره ، فيخرج الوصي ثلث جميع التركة مما في يده ، وهذا هو الأصح.

وقال المصنف في التذكرة : الوجه أن يقال : إن امتنع الورثة من دفع ثلث ما في أيديهم وكان الوصي عاجزا عن قهرهم ، أخرج الثلث الذي في يده ـ إلى أن قال ـ وإن لم يكن عاجزا دفع ثلث ما في يده ، ولا يعطى الورثة شيئا حتى يخرجوا ثلث ما في أيديهم (١).

ويضعف بأنه إن كان له الإخراج مما في يده في هذه الحالة فلا معنى لحبس باقي ما في يده إلى إخراج الورثة ، بل يخرجه ، وإلاّ لم يكن له الحبس إذ لا يجوز حبس مال الغير لحق عليه بمال في يده.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥١٣.

٣٠٤

وله أن يقضي ما يعلمه من الديون من غير بينة بعد إحلاف أربابها ورد الوديعة.

الفصل الخامس : فيما به تثبت الوصية وأحكام الرجوع : تثبت الوصية بالمال بشهادة عدلين ، ومع عدم عدول المسلمين تقبل شهادة أهل الذمة خاصة ،

______________________________________________________

وفرّق بعض العامة بين الجنس الواحد والمتعدد ، فجوز الإخراج مما في يده في الأول دون الثاني ، لأن ذلك معاوضة تتوقف على التراضي (١).

قوله : ( وله أن يقضي ما يعلمه من الديون من غير بينة بعد إحلاف أربابها ).

لا يسوغ له تحليف أربابها إلاّ إذا كان مستجمعا شرائط الحكم ، وإلاّ لم يجز من دون اذن الحاكم. وليس للحاكم أن يأذن له في التحليف ، إلاّ إذا ثبت ذلك عنده ، لأنه بدون ذلك تحكيم ، فإطلاق عبارة الكتاب معترض. وقد صرح المصنف في التذكرة بأن اليمين إنما يتولاها الحاكم (٢) ، وهو حق.

قوله : ( ورد الوديعة ).

أي : له الاستقلال بذلك إذا كان يعلم كونها وديعة وإن كان بحيث لو أظهر ذلك لم يثبت ظاهرا. وكذا العارية ، والغصب ، وما جرى هذا المجرى.

قوله : ( فيما به تثبت الوصية وأحكام الرجوع :

تثبت الوصية بالمال بشهادة عدلين ، ومع عدم عدول المسلمين تقبل شهادة أهل الذمة خاصة ).

الوصية إما بالمال ، أو بالولاية. فأما الوصية بالمال ـ وهي المقصودة هنا ـ فإنها تثبت بشهادة عدلين قطعا.

__________________

(١) قاله أحمد بن حنبل كما في المغني لابن قدامة ٦ : ٦١٠.

(٢) التذكرة ٢ : ٥١٤.

٣٠٥

______________________________________________________

ومع عدم عدول المسلمين تقبل شهادة عدول أهل الذمة لقوله تعالى ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (١) ولما رواه يحيى بن محمد عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )؟ قال : « اللذان منكم مسلمان ، واللذان من غيركم أهل الكتاب ، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية ».

قال : « وذلك إذا مات في أرض غربة فلم يجد مسلمين ، أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان من بعد الصلاة فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذا لمن الآثمين ».

قال : « وذلك إن ارتاب ولي الميت في شهادتهما ، فإن عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما ، حتى يجي‌ء شاهدان فيقومان مقام الشاهدين الأولين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ، وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ) ) (٢) ، الحديث.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الآية محكمة عند أهل البيت عليهم‌السلام ، وقول بعضهم : إنما منسوخة ، مردود بما روي عنهم عليهم‌السلام.

ولا ريب أن غير أهل الذمة لا تقبل شهادتهم ، للنص والإجماع ، وإنما تقبل شهادتهم إذا كانوا عدولا في دينهم ، لاشتراط العدالة في المسلمين ففي الكافر أولى ، ليكون جابرا لبعض نقصه. ولا يشترط لقبول شهادة الذميين حيث يقبل حلفهما ، لأن ذلك مع الريبة كما في الرواية.

فرع : لو وجد مسلمان مجهولان فهما أولى من شهود أهل الذمة ، ولو وجد‌

__________________

(١) المائدة : ١٠٦.

(٢) الكافي ٧ : ٤ حديث ٦ ، الفقيه ٤ : ١٤٢ حديث ٤٨٧ ، التهذيب ٩ : ١٧٨ حديث ٧١٥.

٣٠٦

وشهادة واحد مع اليمين ومع امرأتين ، وتقبل المرأة في ربع ما شهدت به.

وهل يفتقر إلى اليمين؟ فيه اشكال ، وشهادة اثنين في النصف ، وثلاث في ثلاثة أرباع ، وأربع في الجميع.

______________________________________________________

فاسقان مسلمان : فإن كان فسقهما بغير الكذب والخيانة فالأولى أنهما أولى من أهل الذمة ، ولو كان فسقهما يتضمن عدم التحرز من الكذب فأهل الذمة أولى ، ذكر ذلك في التذكرة (١) ، وللنظر فيه مجال.

واعلم أن الرواية (٢) وإن كان فيها ذكر بلد الغربة إلاّ انه غير شرط ، لأن ذلك خرج مخرج الغالب ، فإن من تعذر عليه شهود المسلمين في بلده كذلك ، نص عليه في التذكرة (٣).

قوله : ( وشهادة واحد مع اليمين ومع امرأتين ).

المراد ثبوت الوصية بالمال بشهادة عدل مسلم مع يمين الموصى له ، وبعدل واحد مع امرأتين ، لأن ذلك مال ، وقد دل قوله تعالى ( فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) (٤) على الاكتفاء برجل وامرأتين ، والإجماع على الاكتفاء بالشاهد الواحد مع اليمين.

قوله : ( وتقبل المرأة في ربع ما شهدت به ، وهل يفتقر إلى اليمين؟ فيه اشكال. وشهادة اثنين في النصف ، وثلاث في ثلاثة أرباع ، وأربع في الجميع ).

روي من طريق الأصحاب عن الباقر عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : انه قضى في وصية لم يشهدها إلاّ امرأة ، فأجاز حساب شهادة المرأة ربع‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥٢٢.

(٢) الفروع ٧ : ٤ حديث ٦ ، الفقيه ٤ : ١٤٢ حديث ٤٨٧ ، التهذيب ٩ : ١٧٨ حديث ٧١٥.

(٣) التذكرة ٢ : ٥٢٢.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

٣٠٧

وهل يثبت النصف أو الربع بشهادة الرجل من غير يمين؟ الأقرب ثبوت الربع إن لم نوجب اليمين في طرف المرأة ،

______________________________________________________

الوصية (١). وفي معناها صحيحة ربعي عن الصادق عليه‌السلام (٢). فعلى هذا يثبت بشهادة امرأتين نصف ، وبشهادة ثلاث ثلاثة أرباع ، وبه صرح الأصحاب. ولا يخفى أن ذلك مع وصف العدالة.

وهل يفتقر في الحكم بالمشهود به في هذه المواضع إلى اليمين من المشهود له؟ فيه اشكال : من إطلاق النص بالثبوت من غير تقييد باليمين ، فلو اعتبر لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. وإطلاق الأصحاب ثبوت ربع الوصية وربع ميراث المستهل بشهادة الواحدة من غير تقييد باليمين.

ومن أن الشهادة بعض النصاب ، فلا يثبت بها شي‌ء ما لم ينضم إليها اليمين ، كما في شهادة الشاهد الواحد. واختاره المصنف في التذكرة (٣) ، وبالأول صرح ابن إدريس (٤) ، وهو الأصح. واليمين مع الشاهد الواحد لإثبات جميع المشهود به ، فلا يلزم مثله هنا.

قوله : ( وهل يثبت النصف أو الربع بشهادة الرجل من غير يمين؟ الأقرب ثبوت الربع إن لم نوجب اليمين في طرف المرأة ).

في قبول شهادة الرجل من غير يمين في شي‌ء من الوصية وجهان :

أحدهما : تقبل ، لأن المرأة تقبل شهادتها في شي‌ء فالرجل أولى ، لأن شهادته أقوى من شهادتها ، لأن شهادته تعدل بشهادة امرأتين قطعا.

والثاني : لا لأن النص إنما ورد على المرأة ، والأولوية غير معلومة.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٦٧ حديث ٧١٧ ، الاستبصار ٣ : ٢٨ حديث ٨٨.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٦٨ حديث ٧١٨ ، الاستبصار ٣ : ٢٨ حديث ٨٩.

(٣) التذكرة ٢ : ٥٢٢.

(٤) السرائر : ١٨٧.

٣٠٨

والأقرب وجوب اليمين لو شهد عدل وذمي.

______________________________________________________

فإن قلنا بالثاني فلا بحث ، وإن قلنا بالأول فهل الشي‌ء الذي تقبل شهادته فيه وحده النصف أم الربع؟ فيه وجهان :

أحدهما : القبول في النصف ، لأن شهادة المرأة ربع النصاب ، وشهادته نصفه ، فيثبت بشهادته ضعف ما يثبت بشهادتها. وأقربهما عند المصنف ثبوت الربع ، فإن الأولوية إن تثبت فإنما هي بالنسبة إلى الربع خاصة.

وهذا كله إنما يكون إذا قلنا بثبوت الربع بشهادة المرأة من غير يمين ، فإن اشترطنا اليمين معها سقط هذا البحث رأسا ، لأن الجميع يثبت بشهادة الرجل مع اليمين قطعا.

واعلم أن عبارة الكتاب لا يظهر منها احتمال عدم ثبوت شي‌ء بشهادة الرجل وحده أصلا ، بل إنما تدل على احتمال في ثبوت الربع أو النصف لا غير. لكنه صرح في التذكرة بأن في ثبوت شي‌ء بشهادته اشكالا (١). ولا يخفى أن هذه مسألة واحدة فيها احتمالان ، لا مسألتان كما تخيله الشارح الفاضل ولد المصنف (٢).

واعلم أيضا ان شيخنا الشهيد فصّل في بعض حواشيه بما حاصله : أنّ شهادة الرجل وحدها لا يثبت بها شي‌ء ، إلاّ إذا لم يتمكن الموصى له من اليمين ، لانتفاء علمه بالوصية.

أقول : وينبغي أن يكون الحكم فيمن لا يعتد بيمينه كالصبي والمجنون كذلك ، وأنا في ذلك كله من المتوقفين ، على أن إلغاء شهادة الرجل أصلا بعيد.

قوله : ( والأقرب وجوب اليمين لو شهد عدل وذمي ).

المراد انه إذا شهد بالوصية بالمال عدل مسلم وذمي ، فهل تثبت بشهادتهما الوصية ، أم تلغو شهادة الذمي ويجب اليمين لتكميل الحجة وإثبات الوصية؟ فيه‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥٢٢.

(٢) إيضاح الفوائد ٢ : ٦٣٤.

٣٠٩

ولا تثبت الولاية إلاّ بشهادة عدلين ، ولا تقبل شهادة النساء وإن كثرن ، ولا شاهد ويمين. وفي قبول أهل الذمة مع عدم عدول المسلمين نظر ، أقربه عدم القبول.

______________________________________________________

وجهان : أحدهما الثبوت ، لأن شهادة الذميين إذا ثبت بها مع تعذر غيرهما فالمسلم والذمي أولى.

وأقربهما عند المصنف العدم ، لأن قبول شهادة الذمي على خلاف الأصل ، والنص إنما ورد في الذميين حيث لا يوجد المسلم ، فيقتصر على مورده. ولأن شهادة المسلم يمكن ضم اليمين إليها فتكمل الحجة ، فلا حاجة إلى شهادة الذمي ، وما قربه المصنّف أقرب.

فرع : لو لم يعلم الموصى له بالوصية فلم يمكنه الحلف ، فهل تقبل شهادة الذمي مع المسلم هنا؟ الظاهر العدم ، اقتصارا فيما خالف أصول المذهب على مورد النص.

قوله : ( ولا تثبت الولاية إلاّ بشهادة عدلين ، ولا تقبل شهادة النساء وإن كثرن ، ولا شاهد ويمين. وفي قبول أهل الذمة مع عدم عدول المسلمين نظر ، أقربه عدم القبول ).

لا خلاف بين الأصحاب في أن الوصية بالولاية لا تثبت بشهادة النساء منفردات ولا منضمات ، ولا بشاهد عدل ويمين ، بل بشهادة عدلين مسلمين.

وهل تثبت بشهادة عدول أهل الذمة مع عدم المسلمين؟ فيه نظر ، ينشأ : من أن الوصية المتضمنة لنقل الملك تثبت بشهادتهما ، فالوصية بالولاية التي هي عبارة عن سلطنة التصرف أولى ، لأنها أحق من نقل الملك ، ولأن ظاهر الآية (١) لا يأبى ذلك.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

٣١٠

ولو اشهد عبدين على حمل أمته أنه منه وأنهما حران ، ثم مات فردت شهادتهما وأخذ التركة غيره ، ثم أعتقهما وشهدا قبلت للولد ورجعا رقا.

ويكره له استرقاقهما.

______________________________________________________

ومن أن قبول شهادة الكافر على خلاف الأصل ، لأنه فاسق فيجب التثبت عند خبره ، ولا يجوز الركون إليه لأنه ظالم ، وقبول الشهادة ركون.

والأقرب عند المصنف عدم القبول ، لضعف دليله ، فإن الأولوية ممنوعة.

والنص إنما نزل على الشهادة بالمال فلا يتجاوز به ذلك ، وهذا هو المختار.

قوله : ( ولو أشهد عبدين على حمل أمته أنه منه وأنهما حران ، ثم مات فردت شهادتهما وأخذ التركة غيره ، ثم أعتقتهما وشهدا قبلت للولد ورجعا رقا ، ويكره استرقاقهما ).

مستند هذا الحكم ما رواه داود بن فرقد قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل كان في سفره ومعه جارية له وغلامان مملوكان ، فقال لهما : أنتما أحرار لوجه الله تعالى ، واشهد أن ما في بطن جاريتي هذه مني. فولدت غلاما ، فلما قدموا على الورثة أنكروا ذلك واسترقوهم ، ثم أن الغلامين عتقا بعد ذلك فشهدا بعد ما أعتقا أن مولاهما الأول أشهدهما أن ما في بطن جاريته منه قال : « تجوز شهادتهما للغلام ولا يسترقهما الغلام الذي شهدا له فإنهما أثبتا نسبه » (١).

والمراد بذلك الاستحباب بدليل ما رواه الحلبي. عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل مات وترك جارية ومملوكين ، فورثهما أخ له فأعتق العبدين ، وولدت الجارية غلاما ، فشهدا بعد العتق أن مولاهما كان أشهدهما انه كان ينزل على الجارية وأن الحمل منه ، قال : « تجوز شهادتهما ويردا عبدين كما كانا » (٢)

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٠ حديث ١٦ ، الفقيه ٤ : ١٥٧ حديث ٥٤٤ ، التهذيب ٩ : ٢٢٢ حديث ٨٧٠ ، الاستبصار ٤ : ١٣٦ حديث ٥١٢.

(٢) التهذيب ٩ : ٢٢٢ حديث ٨٧١ ، الاستبصار ٤ : ١٣٦ حديث ٥١١.

٣١١

ولا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه ، ولا فيما يجر به نفعا وإن كان اتساع ولاية.

والوصية عقد جائز من الطرفين ، يجوز للموصي الرجوع فيها ، سواء كانت بمال أو ولاية. ويتحقق الرجوع بالتصريح ، وبفعل ما ينافي الوصية ، وينظمها أمور أربعة :

الأول : صريح الرجوع مثل : رجعت ، ونقضت ، وفسخت ، وهذا‌

______________________________________________________

واعلم أن عبارة الكتاب ليست بتلك الحسنة ، لأن ظاهرها أنه أشهد العبدين على الحمل وعلى أنهما حران ، ولا معنى لذلك. والمراد انه أعتقهما كما في الرواية ، لكن العبارة لا تؤديه كما ينبغي.

قوله : ( ولا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه ، ولا فيما يجر به نفعا وإن كان اتساع ولاية ).

يجوز عود الضمير في ( يجر ) إلى الشهادة والى الوصي ، فيجوز بالتاء والياء ، وقد سبق شرح ذلك فلا حاجة إلى إعادته ، بل اعادة المصنف له تكرار.

قوله : ( والوصية : عقد جائز من الطرفين ، يجوز للموصي الرجوع فيها ، سواء كانت بمال أو ولاية. ويتحقق الرجوع بالتصريح ، وبفعل ما ينافي الوصية ، وينظمها أمور أربعة ).

قد سبق في أول بحث أحكام الوصية أن الوصية بالمال والولاية عقد جائز من الطرفين ، فاعادته تكرار ، إلاّ انه إنما أعاده ليبني عليه أحكام الرجوع.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الرجوع قد يكون بالقول ، وقد يكون بالفعل. والقول قد يكون دالا على ذلك صريحا ، وقد يدل عليه ضمنا ، والمراد انه يستلزمه. وقد يدل عليه باعتبار إشعاره بإرادة الرجوع ، فهذه هي الأمور الأربعة.

قوله : ( الأول : صريح الرجوع مثل : رجعت ، ونقضت ، وفسخت ،

٣١٢

لوراثي.

ولو قال : هو من تركتي فليس برجوع على اشكال.

ولو قال : هو ميراثي ، أو : هو حرام على الموصى له ، أو هو ميراث أو إرث فهو رجوع.

الثاني : ما يتضمن الرجوع كالبيع ، والعتق ، والكتابة ، والهبة مع‌

______________________________________________________

وهذا لوارثي ).

أما قوله : ( رجعت ونقضت وفسخت ) وما جرى هذا المجرى في الصراحة فلا خلاف في أنه رجوع.

وأما قوله : ( هذا لوارثي ، أو ميراث عني ) ، فقد قال بعض الشافعية : لا يكون رجوعا ، لأنه لو أوصى بشي‌ء لزيد ثم أوصى به لعمرو لم يكن رجوعا بل يشتركان فيه ، فها هنا كذلك ، وتبطل نصف الوصية (١). وليس بشي‌ء ، لمضادة الثاني الأول ، فإنه قد حكم بكونه للورثة ، ولا يكون للورثة إلاّ إذا بطلت الوصية ، والحكم في الأصل الذي استدلوا به ممنوع.

قوله : ( ولو قال : هو من تركتي ، فليس برجوع على اشكال ).

ينشأ : من عدم التضاد ، إذ الموصى به من جملة التركة. ومن أن المتبادر من لفظ التركة ما كان حقا للورثة. وليس بشي‌ء لأن التركة اسم لكل ما يخلّفه الميت من الأموال ، وهذا أقوى.

قوله : ( ولو قال : هو ميراثي ، أو : هو حرام على الموصى له ).

وجهه أن الميراث اسم لما يصيب الورثة بالإرث فيضاد الوصية. وأما قوله : ( هو حرام على الموصى له ) فلأنه لو حرم طعامه على غيره لم يكن له أكله.

قوله : ( الثاني : ما يتضمن الرجوع كالبيع والعتق والوصية ... ).

__________________

(١) انظر : المجموع ١٥ : ٤٩٩ ، الوجيز ١ : ٢٨١.

٣١٣

الإقباض وبدونه ، لكن لا يملك هنا المتهب. وكذا الرهن والوصية بالبيع والكتابة.

ولو اوصى به لزيد ، ثم أوصى به لعمرو ، فهو رجوع ما لم ينص على التشريك.

______________________________________________________

هذا هو القسم الثاني ، وهو ما يتضمن الرجوع ـ أي يستلزمه ـ وذلك مثل‌ البيع ، لأنه يستلزم نقد الملك إلى المشتري فيمتنع معه بقاء الوصية. وكذا العتق ، لأنه يقتضي زواله ، والكتابة فإنها تقتضي انقطاع السلطنة التي من جملتها الوصية.

وكذا الهبة لكن مع الإقباض ، لأن الملك لا ينتقل إلاّ به ، أما بدونه فهو من مقدمات الأمور التي لو تحققت لناقضت الوصية إذ لا يثمر الملك ، فكان حقه أن يعده في الثالث ، ولم يعده في التذكرة مع البيع ونظائره.

وكذا الرهن ـ خلافا لبعض الشافعية (١) ـ لأنه يقتضي منع الراهن من التصرف ، وتسلط المرتهن على استيفاء حقه من القيمة. وكذا الوصية بالبيع والكتابة ، فإن الوصية بالمنافي منافية أيضا.

واعلم أن بعض العامة لم يعد البيع رجوعا ، لأنه يتضمن أخذ البدل ، بخلاف الهبة (٢) ، وليس بشي‌ء.

قوله : ( ولو أوصى به لزيد ثم أوصى به لعمرو فهو رجوع ... ).

وجهه التضاد بين الوصيتين ، لامتناع حصوله لكل منهما ، والطارية رافعة لحكم الأولى ، لأن العمل بالوصية واجب والرجوع عن الاولى محتمل ، بخلاف الثانية.

نعم ، لو نص على التشريك أو دلت عليه قرينة وجب المصير إليه ، وكذا لو دلت قرينة على صدور الوصية الثانية لنسيان الاولى وانه لم يرجع عنها فإن العمل بالأولى.

__________________

(١) المجموع ١٥ : ٤٩٩ ، المغني لابن قدامة ٦ : ٥١٩.

(٢) المغني لابن قدامة ٦ : ٥١٩.

٣١٤

ولو قال : الذي أوصيت به لزيد فقد أوصيت به لعمرو فهو رجوع ، والتدبير رجوع.

ولو أوصى له بثلث ماله ثم باع المال لم يكن رجوعا ، بخلاف ثلث معين أو عين مخصوصة.

ولو رجع عن المصرف بأن أوصى لزيد بعين ، ثم لعمرو بأخرى وقصر الثلث ، ثم أوصى بالأولى لبكر فالأقرب تقديم وصية عمرو.

______________________________________________________

قوله : ( والتدبير رجوع ).

لأنه في معنى الوصية المضادة ، فإنه إما وصية أو عتق بصفة ، وكلاهما يستلزم الرجوع.

وقال بعض الشافعية : أنه ليس برجوع ، بل يجتمع بين الوصيتين ويصير نصفه مدبرا (١) ، وليس بشي‌ء.

قوله : ( ولو أوصى بثلث ماله ثم باع ... ).

الثلث المعين كثلث المال الموجود ، والعين المخصوصة كعبد هو ثلث التركة. والفرق بين الوصيتين : ان متعلق الاولى التركة في الجملة ، ومتعلق الثانية ذلك المعيّن.

قوله : ( ولو رجع عن المصرف ... ).

أي : على الوصية لبكر. ووجه القرب تأخر وصية بكر عن وصية عمرو ، فإن الوصية لبكر وصية مستأنفة غير الاولى ، وقد بطلت الاولى ، فيدخل النقص على الأخيرة وهي التي لبكر.

ويحتمل تقديم وصية بكر ، لأن الوصية بالعين الاولى سابقة على الوصية بالعين الأخيرة ، والأسبق مقدّم عند القصور. واختلاف الموصى لهم لا يمنع تقديم الوصية ، فضعفه ظاهر ، لأن الوصية الأولى قد بطلت قطعا بالرجوع عنها ، وهذه وصية أخرى مستأنفة.

__________________

(١) المجموع ١٥ : ٤٩٩.

٣١٥

الثالث : مقدمات الأمور التي لو تحققت لناقضت الوصية كالعرض على البيع ، ومجرد الإيجاب في الرهن والهبة.

أما تزويج العبد والأمة ، وإجارتهما وختانهما وتعليمهما فليس برجوع ،

______________________________________________________

قوله : ( الثالث : مقدمات الأمور التي لو تحققت لناقضت الوصية كالعرض على البيع ، ومجرد الإيجاب في الرهن والهبة ).

هذا هو القسم الثالث من أسباب الرجوع ، وهو فعل ما يدل على ارادة الرجوع ، وذلك مقدمات الأمور المنافية للوصية ، مثل العرض على البيع لإرادة البيع ، فإنه قرينة دالة على ارادة الرجوع عن الوصية ، وهو أظهر الوجهين عند المصنف في التذكرة (١).

وينبغي أن يكون العرض على الهبة أيضا كذلك ، وقد صرح به في التذكرة (٢). وينبغي أن يكون العرض على الرهن وعلى القرض وعلى المعاوضة على الموصى به بالصلح أيضا كذلك.

ولو دلت قرينة على عدم ارادة الرجوع بذلك عوّل عليها ، وعلى مجرد الإيجاب في الرهن كالعرض على البيع ، بل العقد كله عند من يشترط القبض فيه كذلك ، ومجرد الإيجاب في الهبة كذلك. وكذا العقد كله على ما نبهنا عليه سابقا. وهذه العبارة لا تأبى إرادة العقد كله ، لإمكان كون الهبة معطوفة على الإيجاب لا على الرهن.

قوله : ( أما تزويج العبد والأمة ... ).

وكذا الإعارة ، والاذن في التجارة ، والاستخدام ، وركوب الدابة ولبس الثوب ، لأن نحو هذه التصرفات لا تنافي الوصية ، ولا تدل على ارادة الرجوع ، إذ هي إما انتفاع خاص ممن له المنفعة والرقبة فإنهما مملوكان له قبل الموت ، وإما استصلاح‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥١٦.

(٢) التذكرة ٢ : ٥١٦.

٣١٦

والوطء مع الاعتزال ليس برجوع ، وبدونه دليل على قصد الرجوع ، لأنه تسرى.

______________________________________________________

محض. وربما كانت فائدته راجعة إلى الموصى له.

قوله : ( والوطء مع الاعتزال ... ).

المراد : أنه لو وطأ الموصي الجارية الموصى بها ، فإن وطأها مع العزل عنها فليس برجوع ، لأنه كالاستخدام ، لكن لو اتفق الحبل صارت أم ولد فتبطل بالوصية ، إلاّ أن يموت الولد قبل موت الموصي فإن في بقاء الوصية وجها ، لأن الاستيلاد الذي حصل اتفاقا إنما تنافي إذا بقي الولد حيا الى أن يموت الموصي.

وإن وطأها ولم يعزل ففيه وجهان ، أصحهما عند المصنف هنا انه رجوع ، لأن الظاهر انه أراد الاستيلاد والتسري ، فكان كالعرض على البيع. والثاني لا يكون رجوعا ، لأن حصول الحبل معه ليس بلازم ولا أكثري الوقوع ، فربما أنزل ولم يحصل ، وربما عزل فسبق الماء.

وقد يجاب بأن الحكم دائر مع ارادة الرجوع لا مع حصول المنافي ، ومتى تحرز من المنافي بالعزل كان ذلك دليلا على ارادة بقاء الوصية ، بخلاف ما إذا أقدم على ما من شأنه أن يتولد عنه من غير مبالاة به.

ولقائل أن يقول : إن حصول المنافي بالوطء مع عدم العزل لما لم يكن أكثريا ، لم يكن الاقدام عليه دالا على ارادة الرجوع ، والأصل بقاء الوصية ، فيتمسك به. ولم يرجّح المصنف في التذكرة (١) شيئا من الوجهين. والمتجه أنه بمجرده من دون قرينة سواه لا يكون رجوعا.

واعلم أن المراد بالاعتزال الواقع في العبارة : العزل عند الوطء ، واستعمال هذا اللفظ في هذا المعنى غير معروف وان كان صحيحا في نفسه ، إذ الاعتزال عند الانزال‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥١٦.

٣١٧

ولو أوصى له بسكنى دار سنة ، ثم آجرها سنة لم تنفسخ فإن مات فالأقرب أن له سنة كاملة بعد انقضاء مدة الإجارة.

______________________________________________________

مؤد للمراد ، وهو صحيح عربي.

والتسري عبارة عن اتخاذ المملوكة للوطء ، وحقه أن يكون في الكتاب بغير ياء ، لأنه كالقاضي وقد وقع منكرا مرفوعا. ويمكن أن يحمل على انه فعل ماض وفاعله ضمير الموصي ، وهذا أليق لبعد حصول هذا الخلل في العبارة وبقائه.

قوله : ( ولو أوصى له بسكنى دار سنة ... ).

أي : لو أوصى له بسكنى الدار الفلانية سنة غير معينة ، ثم آجرها الموصي سنة لم تنفسخ الوصية ، ولم يكن ذلك رجوعا عنها ، إذ لا منافاة بين مجرد الإجارة والوصية المذكورتين.

ثم ينظر ، فإن مات بعد انقضاء مدة الإجارة فلا بحث. وإن مات قبله ففي بطلان الوصية وجهان ، أقربهما عند المصنف عدمه ، فيستحق الموصى له سنة كاملة بعد انقضاء مدة الإجارة.

ووجهه : أنّ الموصى به سنة على الإطلاق لا السنة الأولى ، لأنه المفروض. وإيجاب السنة الأولى للمبادرة إلى تنفيذ الوصية وإيفاء الحق ، فإذا منع من الأولى مانع تداركنا بسنة أخرى. والإجارة مانع ، لأنها ناقلة للمنفعة إلى ملك المستأجر. وهي محمولة على السنة المتصلة بالعقد ، إذ لو لا ذلك لبطلت ، لعدم تعيين المبدأ.

والثاني : بطلان الوصية ، لأن المستحق للموصى له هو السنة الأولى بعد الموت ، ومن ثم لم يكن للوارث تسليم غيرها لو امتنع الموصى له ، وقد استحقت بالإجارة ، فتبطل الوصية للمنافاة ، ولأن الإقدام على الإجارة سنة مع إمكان موته في الحال ، واتحاد زمان الإجارة والوصية المقتضي للمنافاة دليل على ارادة الرجوع. وضعفه ظاهر ، والأصح الأول.

٣١٨

الرابع : الفعل المبطل للاسم ، كما لو اوصى له بحنطة فطحنها ، أو بدقيق فعجنه ، أو غزل فنسجه ، أو قطن فغزله ، أو بدار فهدمها ، أو بزيت فخلطه بغيره ، وكذا الحنطة لو مزجها هذا مع التعيين.

______________________________________________________

ويحتمل البطلان إن لم تنقض مدة الإجارة إلاّ بعد سنة من حين الموت ، لفوات الموصى به حينئذ ، أما لو انقضت مدة الإجارة قبل مضي سنة من حين الموت فإن باقي السنة للموصى له. وهذا كله توهما أن متعلق الوصية هو السنة الأولى ، وقد عرفت بطلانه.

قوله : ( الرابع : الفعل المبطل للاسم ، كما لو أوصى له بحنطة فطحنها ... ).

القسم الرابع من أسباب الرجوع : إبطال الموصى للاسم الذي هو متعلق الوصية ، كما لو أوصى له بحنطة فطحنها ، أو بدقيق فعجنه ، أو بعجين فخبزه ، أو بغزل فنسجه ، أو بقطن فعزله ، أو بدار فهدمها ، أو بزيت فخلطه بغير جنسه أو بغير ذلك الزيت ، أو بحنطة فمزجها بغير الجنس أو بحنطة أخرى.

والحكم المذكور في الزيت إذا خلطه والحنطة إذا مزجت إنما هو مع تعيين الحنطة والزيت الموصى بهما ، فقوله : ( هذا ) إشارة إلى الحكم المذكور في الزيت والحنطة. ولا يستقيم ذلك في الوصية بالحنطة والزيت إذا خلطهما بجنسهما.

ووجه البطلان في ذلك كله : أنه بفعله ذلك قد رجع عن وصيته ، لأن اسم الموصى به قد بطل قبل استحقاق الموصى له ، وكانت الوصية متعلقة بذلك الاسم ، فإذا بطل بطل الاستحقاق. ولأن الوصية إنما تملك بعد الموت ، فلو كان على قصده الأول لاستدام الموصى به.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر عبارة الكتاب يتناول بالإطلاق الوصية بحنطة ، والوصية بهذه الحنطة المعينة. فإذا أوصى بحنطة وأطلق فطحن حنطة بطلت الوصية ، لأن الظاهر أنه لو أراد بقاء الوصية لم يفعل ما ينافيها ، وطحن الحنطة يراد للأكل ،

٣١٩

أما لو أوصى بصاع من صبرة ثم صب عليها غيرها ، فإنه لا يكون‌

______________________________________________________

وكذا لو أوصى بهذه الحنطة فطحنها.

وقد فرق المصنف في التذكرة بين ما إذا أوصى بحنطة أو دقيق فطحنها وعجنه فإنها تبطل ، وبين ما إذا أشار إلى حنطة أو دقيق فقال : أوصيت بهذا ، أو قال : أوصيت بما في البيت ، فذكر أن في بطلان الوصية هنا إشكالا أقربه العدم إذ الاسم تعلقت الوصية به هنا (١).

وأقول : إن الاشكال آت في كل من القسمين : أما في الأول : فلأن الوصية بأمر كلي حتى لو لم يوجد في التركة حنطة ولا دقيق ولا زيت وجب الشراء ، فإذا طحن الحنطة التي عنده لم يبطل متعلق الوصية ـ وكذا غيرها ـ بل يجب أن يشتري من التركة الموصي به ويصرف إلى الموصى له. نعم ، لو تعذر وجوده أصلا بطلت الوصية ، أو قال : أعطوه من حنطة تركتي فطحنها ، فإن البطلان هنا واضح ، فيمكن حمل كلامهم على ذلك.

وأما في القسم الثاني : فلأن الوصية إذا تعلقت بعين مخصوصة لم يبطل إلاّ بتلفها ، أو بحصول القرينة الدالة على الرجوع ، كطحن الموصي الحنطة ليأكلها لا بدونها. وصيرورة الحنطة دقيقا لا تعد تلفا عرفا ، فلا تبطل الوصية بمجرده.

ولو كان الفعل المبطل للاسم صلاحا له ، كطحن الحنطة لدفع الدود عنها ، أو خبز العجين محاذرة أن يفسد ، فعدم كونه رجوعا أظهر ، إذ هو كتعليم العبد والجارية.

ولو حصل الطحن والعجن من غير اذن الموصي فبقاء الوصية أظهر ، وقد صرح به المصنف في التذكرة (٢)

قوله : ( أما لو أوصى بصاع من صبرة ثم صب عليها غيرها فإنه لا‌ يكون رجوعا ... ).

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥١٦.

(٢) التذكرة ٢ : ٥١٦.

٣٢٠