فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

عند نقل كلام الشهيد ( قده ) واللغوية انما تكون إذا لم يجعل الشارع سببا ، أو لم يمض سببا أصلا ، إذ لا لغوية لو جعل سببا أو امضى سببا في الجملة ، غايته انه يلزم حينئذ الاخذ بالمتيقن ، فلزوم اللغوية لا يقتضى امضاء كل سبب ، بل يقتضى امضاء سبب في الجملة ، ويلزمه الاخذ بالمتيقن.

فالتحقيق في حل الاشكال : هو ان باب العقود والايقاعات ليست من باب الأسباب والمسببات ، ان أطلق عليها ذلك ، بل انما هي من باب الايجاد بالآلة ، والفرق بين باب الأسباب والمسببات ، وبين باب الايجاد بالآلة ، هو ان المسبب في باب الأسباب لم يكن بنفسه فعلا اختياريا للفاعل ، بحيث تتعلق به ارادته أولا وبالذات ، بل الفعل الاختياري وما تتعلق به الإرادة هو السبب ، ويلزمه حصول المسبب قهرا.

وهذا بخلاف باب الايجاد بالآلة ، فان ما يوجد بالآلة كالكتابة ، هو بنفسه فعل اختياري للفاعل ، ومتعلق لإرادته ويصدر عنه أولا وبالذات ، فان الكتابة ليس الا عبارة عن حركة القلم على القرطاس بوضع مخصوص ، وهذا هو بنفسه فعل اختياري صادر عن المكلف أولا وبالذات ، بخلاف الاحراق ، فان الصادر عن المكلف هو الالقاء في النار لا الاحراق ، وكذا الكلام في سائر ما يوجد بالآلة : من آلات النجار ، والصايغ ، والحداد ، وغير ذلك ، فان جميع ما يوجده النجار يكون فعلا اختياريا له ، والمنشار مثلا آلة لايجاده ، وباب العقود والايقاعات كلها من هذا القبيل ، فان هذه الألفاظ كلها آلة لايجاد الملكية ، والزوجية ، والفرقة ، وغير ذلك ،

__________________

القائل ( بعت ) عند الانشاء لا يستعمل حقيقة الا فيما كان صحيحا مؤثرا ولو في نظرهم ، ثم إذا كان مؤثرا في نظر الشارع كان بيعا عنده والا كان صورة بيع نظير بيع الهازل عند العرف.

فالبيع الذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل ( بعت ) عند العرف والشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر ومجاز في غيره الا ان الإفادة وثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف والشرع ، واما وجه تمسك العلماء باطلاق أدلة البيع ونحوه فلان الخطابات لما وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف أو على المصدر الذي يراد من لفظ بعت فيستدل باطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا فتأمل .. ( المكاسب ، كتاب البيع ، ص ٨١ ـ ٨٠ )

٨١

وليس البيع مثلا مسببا توليديا لهذه الألفاظ ، بل البيع هو بنفسه فعل اختياري للفاعل متعلق لإرادته أولا وبالذات ، ويكون ايجاده بيده ، فمعنى حلية البيع هو حلية ايجاده ، فكل ما يكون ايجادا للبيع بنظر العرف فهو مندرج تحت اطلاق قوله تعالى : أحل الله البيع ، والمفروض ان العقد بالفارسية مثلا يكون مصداقا لايجاد البيع بنظر العرف ، فيشمله اطلاق حلية البيع ، وكذا الكلام في سائر الأدلة وساير الأبواب ، فيرتفع موضوع الاشكال ، إذ مبنى الاشكال هو تخيل ان المنشئات بالعقود من قبيل المسببات التوليدية ، فيستشكل فيه من جهة ان امضاء المسبب لا يلازم امضاء السبب ، والحال ان الامر ليس كذلك ، فتأمل في المقام جيدا.

المبحث الثالث في المشتق

وتحقيق الحال فيه يستدعى رسم أمور :

( الامر الأول )

اختلفوا في أن اطلاق المشتق على ما انقضى عنه التلبس بالمبدء ، هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز؟ بعد اتفاقهم على المجازية بالنسبة إلى من يتلبس في المستقبل ، وعلى الحقيقة بالنسبة إلى المتلبس في الحال.

والسر في اتفاقهم على المجازية في المستقبل ، والاختلاف فيما انقضى ، هو ان المشتق لما كان عنوانا متولدا من قيام العرض بموضوعه ، من دون ان يكون الزمان مأخوذا في حقيقته ، بل لم يؤخذ الزمان في الافعال ـ كما سيأتي ـ فضلا عن المشتق ، وقع الاختلاف بالنسبة إلى ما انقضى عنه المبدء حيث إنه قد تولد عنوان المشتق لمكان قيام العرض بمحله في الزمان الماضي ، وهذا بخلاف من يتلبس بعد ، فإنه لم يتولد عنوان المشتق لعدم قيام العرض بمحله ، فكان للنزاع في ذلك مجال ، دون هذا ، إذ يمكن ان يقال فيما تولد عنوان المشتق : ان حدوث التولد في الجملة ولو فيما مضى يكفي في صدق العنوان على وجه الحقيقة ولو انقضى عنه المبدء ، كما أنه يمكن ان يقال : انه يعتبر في صدق العنوان على وجه الحقيقة بقاء التولد في الحال ، ولا يكفي حدوثه مع انقضائه. هذا فيما إذا تولد عنوان المشتق في الجملة.

واما فيما لم يتولد فلا مجال للنزاع في أنه على نحو الحقيقة ، لعدم قيام العرض

٨٢

بمحله ، فكيف يمكن ان يتوهم صدق العنوان على وجه الحقيقة ، مع أنه لم يتحقق العنوان بعد ، فلا بد ان يكون على وجه المجاز بعلاقة الأول والمشارفة.

( الامر الثاني )

لا اشكال في اختصاص النزاع بالعناوين العرضية المتولدة من قيام أحد المقولات بمحالها ، وخروج العناوين الذاتية التي يتقوم بها الذات وما به قوام شيئية الشيء ، كحجرية الحجر ، وانسانية الانسان ، وما شابه ذلك من المصادر الجعلية التي بها قوام الشيء ، فلا يصح اطلاق الحجر على ما لايكون متلبسا بعنوان الحجرية فعلا ، ولا اطلاق الانسان على ما لايكون متلبسا بالانسانية فعلا ، فلا يقال للتراب : انه انسان باعتبار انه ، أحد العناصر التي يتولد منها الانسان ، وذلك لان انسانية الانسان ليست بالتراب ، بل انما تكون بالصورة النوعية التي بها يمتاز الانسان عن غيره ، بل التراب لم يكن انسانا في حال من الحالات ، حتى في حال تولد الانسان منه ، فضلا عن حال عدم التولد. وبعبارة أخرى : في حال كون الانسان انسانا لم يكن انسانيته بالتراب الذي هو أحد عناصره ، بل انسانيته انما هي بالصورة النوعية ، فإذا لم يكن التراب في حال كونه عنصر الانسان مما يصح اطلاق اسم الانسان عليه ، فكيف يصح اطلاق اسم الانسان عليه في غير ذلك الحال ، مع أنه لا علاقة بينه وبين الانسان ، حتى علاقة الأول والمشارفة ، لان التراب لا يصير انسانا ، ولا يؤل إليه ابدا.

وهذا بخلاف العناوين العرضية ، كضارب ، فان ضاربية الضارب انما يكون بالضرب ، لمكان قيام الضرب به على جهة الصدور ، ومن المعلوم : ان من لم يكن ضاربا في الحال ، هو الذي يكون ضاربا في الغد حقيقة ، وهو الذي يتعنون بهذا العنوان ، واليه مآله ، فعلاقة الأول والمشارفة في مثل هذا ثابتة ومتحققة ، بخلاف التراب والانسان حيث لم يكن مآل التراب إلى الانسان في حال من الحالات ، بخلاف ضارب ، فان الذي يكون ضاربا هو زيد ، فصح اطلاق الضارب على زيد بعلاقة انه يؤل إلى هذا العنوان في المستقبل.

وحاصل الكلام : انه فرق ، بين أسماء الذوات : من الأجناس والأنواع

٨٣

والاعلام ، وبين أسماء العرضيات ، فإنه في الأول لا يصح اطلاق الاسم عليها الا في حال ثبوت الذات بما لها من الصور النوعية التي بها يتحقق عنوان الذات كحيوانية الحيوان وانسانية الانسان وزيدية زيد ، بخلاف الثاني ، فإنه يصح اطلاق الاسم عليها ، وان لم تكن متلبسة بالعرض فعلا بعلاقة الأول والمشارفة.

وكذا الكلام في علاقة ما كان ، فان زيدا الفاقد للضرب في الحال ، هو الذي كان ضاربا بالأمس حقيقة ، فصح اطلاق الضارب عليه بعلاقة ما كان ، وهذا بخلاف الكلب الواقع في المملحة بحيث صار ملحا ، فان هذا الملح لم يكن كلبا ، إذ الكلبية انما هي بالصورة النوعية التي لم تكن ، فظهر : سر اختصاص النزاع بالعرضيات ، دون الذاتيات (١) فتأمل.

( الامر الثالث )

ليس المراد من المشتق مطلق ما كان له مصدر حقيقي مقابل المصدر الجعلي ، بحيث يعم الافعال ، ولا خصوص اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة كما توهم ، بل المراد من المشتق كل عنوان عرضي كان جاريا على الذات متحدا معها وجودا على وجه يصح حمله عليها ، سواء كان من المشتق الاصطلاحي كضارب ومضروب ، أو لم يكن كبعض الجوامد التي تكون من العناوين العرضية مقابل العناوين الذاتية ، كالزوجية ، والرقية ، والحرية ، وغير ذلك من العناوين العرفية ، ولا موجب لتوهم الاختصاص بخصوص المشتق الاصطلاحي ، وان كان ظاهر العنوان ربما يعطى ذلك ، الا انه يظهر من بعض الكلمات التعميم لكل عنوان عرضي ، ويدل على ذلك : العبارة المحكية عن القواعد ، مع ما في الايضاح من شرحها ، والعبارة المحكية عن المسالك (٢) فيمن كان له زوجتان كبيرتان وزوجة

__________________

١ ـ وكان غرض شيخنا الأستاذ مد ظله من هذا البيان هو انه بالنسبة إلى الذاتيات لا يصح اطلاق الاسم على غير المتلبس بالذات ، لا على وجه الحقيقة ، ولا على وجه المجاز ، بل يكون الاستعمال غلطا ، ولكن الظاهر من بعض الكلمات : هو انه بالنسبة إلى الذاتيات لا يصح الاطلاق على غير المتلبس على وجه الحقيقة ، واما على وجه المجاز فكأنه لا كلام في صحة الاطلاق ، فتأمل ـ منه.

٢ ـ قال الشهيد الثاني قدس‌سره في المسالك :

٨٤

صغيرة وأرضعت الكبيرتان الصغيرة ، حيث بنوا حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق ، ولا بأس بنقل العبارة المنقولة عن الايضاح والقواعد وبيان المراد منها وان كانت المسألة فقهية.

فنقول : انه حكى من القواعد (١) « انه لو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب ، فالأقرب تحريم لجميع ، لان الأخيرة صارت أم من كانت زوجته ، ان كان قد دخل بإحدى الكبيرتين ، والا حرمت الكبيرتان مؤبدا ، وانفسخ عقد الصغيرة انتهى » وحكى عن الايضاح (٢) انه قال : « أقول تحريم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالاجماع ، واما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها ، لان هذه يصدق عليها انها أم زوجته ، لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه ، فكذا هنا ، ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه حال الحكم ، بل لو صدق قبله كفى ، فيدخل تحت قوله : وأمهات نسائكم ، ولمساوات الرضاع النسب ، وهو يحرم سابقا ولا حقا فكذا مساويه » انتهى موضع الحاجة.

أقول :

عبارة القواعد مع ما عليها من الشرح قد تكفلت لبيان فروع :

الأول : حرمة المرضعة الكبيرة الأولى على كل حال ، وعدم ابتنائها على المشتق.

الثاني : توقف حرمة المرتضعة الصغيرة على الدخول بإحدى الكبيرتين.

الثالث : انفساخ عقد الصغيرة مع عدم الدخول بإحدى الكبيرتين ، وان لم تحرم عليه مؤبدا ، فله تجديد العقد عليها.

__________________

« وبقى الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين ، فقد قيل إنها لا تحرم ، واليه مال المصنف حيث جعل التحريم أولى وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن الجنيد لخروج الصغيرة عن الزوجية إلى البنتية ، وأم البنت غير محرمة على أبيها خصوصا على القول باشتراط بقاء المعنى المشتق منه في صدق الاشتقاق كما هو رأى جمع من الأصوليين. ( مسالك الأفهام في شرح شرايع الاسلام ، الجلد الأول كتاب النكاح ، ص ٤٧٥ )

١ و ٢ ـ إيضاح الفوائد في شرح القواعد ـ الطبعة الجديدة ، الجزء ٣ ص ٥٢

٨٥

الرابع : ابتناء حرمة المرضعة الثانية الكبيرة على مسألة المشتق. ولا بأس ببيان مدرك هذه الفروع.

فنقول : اما الفرع الأول ، وهو حرمة المرضعة الأولى على كل حال ، فلصيرورتها أم الزوجة في حال اكمال الرضعة الخامسة عشر ، بداهة انه في ذلك الحال تكون المرتضعة الصغيرة زوجة ، والمرضعة الكبيرة أم الزوجة ، فيصدق عليها في ذلك الحال ـ أمهات نسائكم ـ فتحرم.

واما الفرع الثاني : وهو حرمة المرتضعة الصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين ، فلان الصغيرة تكون حينئذ ربيبته إذا لم يكن اللبن للزوج ، كما هو مفروض الكلام ، حيث إنهم ذكروا ذلك في فروع المصاهرة ، ومن المعلوم : حرمة الربيبة إذا كانت أمها مدخولا بها ، من غير فرق بين الدخول بالأولى أو الدخول بالثانية ، لأنها على كل تقدير تصير ربيبة من الزوجة المدخول بها.

واما الفرع الثالث : وهو انفساخ عقد الصغيرة فيما إذا لم يكن قد دخل بإحدى الكبيرتين وعدم حرمتها ، فلأنها وان صارت ربيبة بالارضاع ، الا انها ربيبة لم يكن قد دخل بأمها فلا تحرم ، واما انفساخ عقدها ، فلانه في حال اكمال الرضعة الخامسة عشر يلزم اجتماع الام والربيبة في عقد الازدواج ، وهو موجب لانفساخ عقد الصغيرة ، لعدم جواز الاجتماع.

واما الفرع الرابع : وهو ابتناء حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق ، فلانه في حال ارضاع الثانية لم تكن الصغيرة زوجة ، لخروجها عن الزوجية بارتضاعها من الأولى ، فإذا لم تكن في ذلك الحال زوجة ، فلا تكون المرضعة الثانية أم الزوجة فعلا ، بل تكون أم من كانت زوجة في السابق ، فلو قلنا بان المشتق حقيقة فيمن انقضى منه المبدء ، تحرم المرضعة الثانية أيضا ، لصدق أم الزوجة عليها حقيقة ، وان لم نقل فلا موجب لحرمتها.

بقى الكلام فيما ذكره في الايضاح من الوجهين الأخيرين لحرمة المرضعة الثانية.

اما الوجه الأول منهما ، وهو قوله : ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه

٨٦

حال الحكم بل لو صدق قبله كفى فيدخل تحت قوله : وأمهات نسائكم ، فربما يتخيل انه يرجع إلى الوجه الأول ، وهو صدق المشتق على من انقضى عنه المبدء ، فهو تكرار لذلك الوجه بعبارة أخرى هذا ، ولكن يمكن ان يكون مراده منه ، هو انه لا يتوقف الحكم بحرمة أم الزوجة على صدق هذا العنوان حال الحكم ، حتى يقال : ان ذلك مبنى على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى ، بل يكفي في حرمة الام تلبس البنت بالزوجة آنا ما.

والحاصل : انه وان لم يصدق على الام انها أم الزوجة فعلا لخروج الزوجة عن الزوجية ، الا انه لا يتوقف الحكم بحرمة الام على صدق الزوجية على البنت في حال صيرورتها اما لها ، بل يكفي في الحكم بحرمة أمها ثبوت الزوجية لها في زمان ، وهو الزمان الذي قبل الارتضاع من المرضعة الأولى ، نظير قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ، حيث إن التلبس بالظلم في زمان يكفي في عدم نيل العهد وان لم يكن حال النيل ظالما ، فتأمل جيدا.

واما الوجه الأخير : فحاصله ان لحمة الرضاع كلحمة النسب ، وانه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، ومن المعلوم : انه لو تزوج بابنة ثم طلقها ، يحرم عليه أمها مع زوال زوجيتها بالطلاق ، فكذلك في الام والبنت الرضاعية تحرم الام الرضاعية ولو خرجت البنت عن الزوجية ، كما في المقام. وعلى كل حال : فقد خرجنا عما هو المقصود في المقام ، من عدم اختصاص المشتق المتنازع فيه بالمشتق الاصطلاحي ، وهو ما كان له مصدر حقيقي ، بل يجرى في الجوامد التي تكون لها مصادر جعلية إذا كانت من العرضيات لا الذاتيات.

وضابط العرضي هو ما كان متولدا من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، سواء كانت من الأمور المتأصلة في عالم العين ، كما إذا كان العنوان متولدا من مقولة الكم والكيف ، كالأبيض والأسود ، أو كان متولدا من الأمور النسبية ، كسائر المقولات السبع : من مقولة الفعل والانفعال والإضافة والجدة وغير ذلك ، وسواء كان من الأمور الاعتبارية ، أو كان من الأمور الانتزاعية ، وسواء كان من

٨٧

المحمول بالضميمة ، أو كان خارج المحمول ، ولعل هذا هو مراد صاحب (١) الكفاية من تعميم محل النزاع بالنسبة إلى العرض والعرضي ، وان كان ذلك خلاف ما اشتهر من اصطلاح العرض والعرضي ، حيث إن مرادهم من العرض نفس المقولة ، أي عرضا مباينا غير محمول كالبياض ، ومرادهم من العرضي ، المتحد مع الذات المحمول عليها كالأبيض ، فالتعبير عن المحمول بالضميمة وخارج المحمول ـ بالعرض والعرضي ـ خلاف ما اشتهر من اصطلاحهم في ذلك.

وعلى كل حال : المراد من المحمول بالضميمة ، هو ما كان الحمل بلحاظ قيام أحد الاعراض التسعة بمحالها ، ولو كان العرض من مقولة الإضافة والنسبة كقولك : هذا ابيض ، هذا اسود ، هذا أب ، هذا زوج ، هذا فوق ، هذا تحت ، وغير ذلك مما كان من مقولة الكم ، والكيف ، والإضافة ، والنسبة المتكررة. والمراد من الخارج المحمول ، ما كان المحمول أمرا خارجا عن الذات ، ولكن كان من مقتضيات الذات ، كهذا ممكن ، هذا وأحب ، وغير ذلك مما لم يكن المحمول من أحد المقولات.

وربما عبر عن الأمور الانتزاعية التي تنتزع من قيام العرض بمحله بخارج المحمول ، كالسبق واللحوق والتقارن المنتزعة من تقارن الشيئين في زمان أو مكان أو سبق أحد الشيئين في المكان والزمان ، فمثل السبق واللحوق والتقارن ينتزع من قيام مقولة الأين ومتى بموضوعها ، فمثل هذا أيضا ربما يعبر عنه بخارج المحمول على ما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله ، ولكن المعروف من اصطلاح ـ خارج المحمول ـ هو ما كان من مقتضيات الذات خارجا عن حقيقتها ، كالامكان والوجوب.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الخارج عن محل النزاع هو خصوص العناوين الذاتية المنتزعة عن نفس مقام الذات ، على ما تقدم في الامر الثاني ، واما سائر العناوين المتولدة من أي مقولة كانت ، فهي داخلة في محل النزاع ، سواء كانت من خارج المحمول ، أو من المحمول بالضميمة.

__________________

١ ـ كفاية الجلد الأول ص ٥٩ « ثم انه لا يبعد ان يراد بالمشتق .. »

٨٨

ومما ذكرنا من تعريف المحمول بالضميمة ظهر : ان جعل مثل الزوجية من خارج المحمول ، كما يظهر من صاحب الكفاية (١) حيث أم بالتعميم ادراج مثل الزوجية كما يشهد بذلك سياق كلامه مما لا وجه له ، إذ الزوجية من المحمول بالضميمة ، لا خارج المحمول ، حيث إن الزوجية من مقولة النسبة التي هي من المقولات التسع ، فتكون من المحمول بالضميمة ، على ما بيناه من ضابط المحمول بالضميمة.

( الامر الرابع )

يعتبر في المشتق المتنازع فيه ، بقاء الذات مع انقضاء المبدء ، كالضارب ، حيث تكون الذات فيه باقية مع انقضاء الضرب ، ولأجل ذلك ربما يستشكل في ادراج مثل اسم الزمان في محل النزاع ، لانعدام الذات فيه كانقضاء المبدء ، لان الذات فيه انما يكون هو الزمان ، وهو مبنى على التقضى والتصرم ، فمثل مقتل الحسين عليه‌السلام لا يمكن ادراجه في محل النزاع ، لان كلا من الزمان والقتل قد انقضى ، فلا يصح ان يقال : ان هذا اليوم مقتل الحسين عليه‌السلام هذا.

ولكن يمكن ان يقال : ان المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل ، وهو اليوم العاشر من المحرم ، واليوم العاشر لم يوضع بإزاء خصوص ذلك اليوم المنحوس الذي وقع فيه القتل ، بل وضع لمعنى كلي متكرر في كل سنة ، وكان ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل فردا من افراد ذلك المعنى العام المتجدد في كل سنة ، فالذات في اسم الزمان انما هو ذلك المعنى العام ، وهو باق حسب بقاء الحركة الفلكية ، وقد انقضى عنه المبدء الذي هو عبارة عن القتل ، فلا فرق بين الضارب وبين المقتل ، إذ كما أن الذات في مثل الضارب باقية وقد انقضى عنها الضرب ، فكذا الذات في مثل المقتل الذي هو عبارة عن اليوم العاشر من المحرم باقية لتجدد ذلك اليوم في كل سنة وقد انقضى عنها القتل ، نعم لو كان الزمان في اسم الزمان موضوعا لخصوص تلك القطعة الخاصة من الحركة الفلكية التي وقع فيها القتل ، لكانت الذات فيه

__________________

١ ـ المدرك السابق ص ٦٠ « فعليه كلما كان مفهومه متنزعا .. »

٨٩

متصرمة ، كتصرم نفس المبدء ، الا انه لا موجب للحاظ الزمان كذلك ، فتأمل جيدا.

( الامر الخامس )

المراد من الحال في قولهم : اطلاق المشتق على المتلبس بالمبدء في الحال يكون حقيقة ، ليس زمان الحال المقابل لزمان الماضي والاستقبال الذي هو عبارة عن زمان التكلم والنطق ، بل المراد من الحال ، هو حال التلبس بالمبدأ أي حال تحقق المبدء وفعلية قيامه بالذات. وبعبارة أخرى : المراد بالحال ، هو وجود العنوان المتولد من قيام العرض بمحله ، سواء كان مقارنا لزمان الحال ، كما إذا كان زيد ضاربا حين قولي : زيد ضارب ، أو كان سابقا على زمان الحال ، أو لاحقا له ، كما إذا قلت : كان زيد ضاربا ، أو سيكون زيد ضاربا.

وبذلك يندفع : ما ربما يستشكل في المقام : من المنافاة ، بين الاتفاق على أن اطلاق المشتق على المتلبس في الحال يكون على وجه الحقيقة ، وبين الاتفاق على أن الأسماء مط لا تدل على الزمان ، سواء في ذلك الجوامد والمشتقات ، وانما قيل بدلالة الافعال على الزمان ، وهو أيضا محل منع كما سيأتي.

وجه المنافاة ، هو انه لو لم يكن الزمان مأخوذا في مفهوم الاسم ، ولا جزء الموضوع له ، فكيف يكون اطلاق المشتق على المتلبس في الحال على وجه الحقيقة؟ إذ معنى كونه على وجه الحقيقة ، هو انه تمام ما وضع له اللفظ ، فيكون زمان الحال جزء مدلول اللفظ ، وهذا كما ترى ينافي الاتفاق على عدم دلالة الأسماء على الزمان ، هذا.

ومما ذكرنا من معنى الحال يظهر لك وجه الدفع وعدم المنافاة بين الاتفاقين ، إذ ليس المراد من ـ الحال ـ في اتفاقهم على أن اطلاق المشتق على المتلبس في الحال يكون حقيقة هو زمان الحال حتى يكون زمان الحال جزء مدلول المشتق ، بل المراد من ـ الحال ـ هو حال فعلية المبدء وتحققه ، غايته ان فعليته لابد ان يكون في زمان لاحتياج الزماني إلى الزمان ، الا ان ذلك غير كونه جزء مد لول اللفظ.

ومما ذكرنا أيضا من معنى الحال يندفع اشكال آخر ، وهو ان النحاة قالوا : ان اسم الفاعل ان كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل المضارع ، وان

٩٠

كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل ، وهذا الكلام منهم ربما يوهم المنافاة لما اتفقوا عليه : من عدم دلالة الأسماء على الزمان ، هذا.

ولكن قد عرفت عدم المنافاة ، إذ ليس المراد من الحال والاستقبال في قولهم : يعمل عمل الفعل ـ هو زمان الحال والاستقبال ، بل المراد حال تلبسه بالمبدء أو تلبسه فيما بعد في مقابل من كان متلبسا في السابق ، مع أنه لو فرض ان مرادهم من الحال والاستقبال هو زمان الحال والاستقبال ، فلا يلازم ان يكون اسم الفاعل بنفسه يدل على زمان الحال والاستقبال ، حتى ينافي قولهم بعدم دلالة الأسماء على الزمان ، بل يمكن استفادة زمان الحال والاستقبال من وقوع اسم الفاعل في طي التركيب ، حيث إن الكلام إذا كان مشتملا على الرابط الزماني : من ـ كان وأخواتها ـ أو السين وسوف الذين لا يدخلان الا على الفعل المضارع ، فلا محالة يستفاد منه الزمان الماضي أو زمان الاستقبال ، كقولك : كان زيد ضاربا ، أو سيكون زيد ضاربا. وان لم يكن مشتملا على الرابط الزماني كقولك : زيد قائم ، أو زيد ضارب ، فيستفاد منه زمان الحال بمقتضى ظهور اطلاق الكلام في ذلك ، وهذا معنى قولهم : ان الجملة الحملية ظاهرة في زمان الحال ، حيث إن الاخبار عن شيء يقتضى تحقق المخبر به في زمان النطق إذا لم تكن الجملة مشتملة على ما يصرفها عن هذا الظهور ، من الروابط الزمانية التي يستفاد منها المضي والاستقبال ، فلا منافاة بين قولهم : بعدم دلالة الأسماء على الزمان ، وبين قولهم : ان اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل ، وقولهم : ان الجملة الخبرية ظاهرة في تحقق المخبر به في زمان النطق ، فان ظهور الجملة في ذلك انما يكون لمكان الاطلاق وعدم اقترانها بالرابط الزماني ، كما أن كون اسم الفاعل بمعنى الاستقبال انما يكون بالرابط الزماني ، لا ان نفس اسم الفاعل يدل على الزمان.

وحاصل الكلام : ان البحث في باب المشتق ، انما يكون في مفهومه الافرادي من أنه حقيقة في خصوص المتلبس ، أو الأعم منه ومما انقضى عنه التلبس؟ وكلامهم في ظهور الجملة الخبرية في تحقق المخبر به في حال النطق ، انما هو لمكان النسبة وظهور تركيب الكلام في ذلك عند خلوه عما يدل على تحقق المخبر به في

٩١

الماضي ، فلا ربط له بما نحن فيه من تعيين الفهوم الافرادي للمشتق ، كما لا يرتبط بالمقام ما حكى عن الفارابي والشيخ : من أن اتصاف الموضوع بالعنوان في القضايا الموجهة ، هل يكفي فيه الامكان؟ كما عن الفارابي ، أو يعتبر الفعلية ووجود العنوان في أحد الأزمنة الثلاثة؟ كما عن الشيخ الرئيس ، وذلك : لان كلامنا على ما عرفت ناظر إلى معنى المشتق وما هو مفهومه الافرادي ، وكلام الفارابي والشيخ ناظر إلى جهة صحة الحمل في القضية ، وانه هل يكفي في صحة الحمل امكان تحقق الوصف العنواني للموضوع في مقابل الامتناع؟ أو يعتبر تحقق الوصف في حد الأزمنة ولا يكفي الامكان؟ فالموضوع في قولنا : كل كاتب متحرك الأصابع ، هو ما يمكن ان يكون كاتبا وان لم يصدر منه الكتابة في زمان على رأى الفارابي ، أو ما يتحقق منه الكتابة في أحد الأزمنة على رأى الشيخ ، وكذا قولنا : كل مركوب زيد حمار ، هو ما أمكن ان يكون مركوب زيد وان لم يتلبس بالمركوبية في زمان من الأزمنة ، أو ما كان متلبسا في زمان ، وهذا كما ترى لا ربط له بما نحن فيه من أن معنى الكاتب والمركوب ما هو؟.

وحاصل الكلام : ان كلام الفارابي والشيخ انما هو في أن المحمول الذي يكون موجها بإحدى الجهات ، من الضرورة والامكان والفعلية هل يصح حمله على موضوع لم يتلبس بالوصف العنواني في زمان من الأزمنة الا انه ممكن التلبس؟ أو انه لا يصح الا إذا تلبس به في أحد الأزمنة؟ وهذا أجنبي عما نحن فيه من معنى المشتق وان صدقه بالنسبة إلى المستقبل مجاز وبالنسبة إلى حال التلبس حقيقة وبالنسبة إلى ما انقضى حقيقة أو مجاز على الخلاف ، فلا يتوهم المنافاة ، بين ما حكى عن الفارابي والشيخ في ذلك المقام ، وبين ما ذكرناه في هذا المقام ، كما لا يتوهم المنافاة ، بين ما ذكرناه في الامر الثاني : من اعتبار التلبس بالعنوان بالفعل في الذاتيات ولا يكفي التلبس فيما مضى فضلا عن التلبس في المستقبل ، وبين ما ذكره الفارابي : من كفاية امكان التلبس بالعنوان في عقد الوضع في صحة الحمل ، بناء على تعميم العنوان في كلامه بالنسبة إلى الذاتيات كما هو الظاهر ، وذلك لما عرفت من أن كلامه في صحة الحمل ، وكلامنا في المفهوم الافرادي ، فتأمل جيدا.

٩٢

( الامر السادس )

هل النزاع في المقام راجع إلى ناحية الاستعمال ، وان استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء حقيقة أو مجاز أو ان النزاع راجع إلى ناحية التطبيق والانطباق؟ ولا بد قبل ذلك من بيان المراد من الاستعمال ، والتطبيق ، والانطباق.

فنقول : ان الاستعمال عبارة عن القاء المعنى باللفظ وجعل اللفظ مرآة له ، فان كان ذلك هو المعنى الموضوع له اللفظ ، كان الاستعمال على وجه الحقيقة. وان لم يكن ما وضع له اللفظ ، فان كان هناك علاقة بينه وبين الموضوع له ، كان الاستعمال على وجه المجاز ، وان لم يكن علاقة كان الاستعمال غلطا ، فالاستعمال يتصف بكل من الحقيقة والمجاز والغلطية.

واما الانطباق ، فهو عبارة عن انطباق المعنى الكلي على مصاديقه وصدقه عليها ، وهذا لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل هو من الأمور الواقعية التكوينية ، يتصف بالوجود والعدم إذ الكلي اما منطبق على هذا واما غير منطبق ، هذا بحسب الواقع. واما بحسب الاطلاق فكذلك لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل بالصدق والكذب ، فلو أطلق الكلي على ما يكون مصداقا له يكون الكلام صادقا ، وان أطلق على ما لايكون مصداقا له يكون الكلام كاذبا ، فاطلاق الانسان على زيد يكون صدقا ، واطلاقه على الحمار يكون كذبا ، ومن هنا أنكر على السكاكي القائل بالحقيقة الادعائية ، بأنه لا معنى للحقيقة الادعائية ، إذ اطلاق الأسد بمعناه الحيوان المفترس على زيد الشجاع يكون كذبا ، ومجرد الادعاء لا يصحح الكلام.

والحاصل : انه لو أطلق الأسد على زيد من دون تصرف في معنى الأسد ، بل يراد منه معناه الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس ، يكون هذا الكلام كذبا ، ومجرد الادعاء بان زيدا من افراد الأسد لا يخرج الكلام عن الكذب ، بل يكون في ادعائه لها أيضا كاذبا ، فاطلاق الأسد على زيد انما يصح إذ توسع في معنى الأسد بجعل معناه مطلق الشجاع الصادق على الحيوان المفترس وعلى زيد الشجاع ، ثم بعد هذه التوسعة يطلق الأسد على زيد فيكون زيد من افراد المعنى الموسع فيه حقيقة ، ويكون من مصاديقه واقعا إذا كان شجاعا ، فالاطلاق يكون ح على نحو الحقيقة وان

٩٣

كان استعمال الأسد في مطلق الشجاع مجازا ، لأنه استعمال في خلاف ما وضع له.

وبالجملة : صحة اطلاق شيء على شيء انما يكون بتوسعة في ناحية ذلك الشيء على وجه يعم ذلك الشيء الذي أطلق عليه ، فتارة يكون الشيء هو بنفسه موسعا بلا عناية ويكون نسبته إلى المصاديق نسبة المتواطي ، كما لو أطلق الماء على ماء الدجلة والفرات ، ففي مثل هذا يكون كل من الاطلاق والاستعمال حقيقيا إذا لم يكن الاطلاق بلحاظ الخصوصية الفردية ، بل جرد الفرد عن الخصوصية وأريد به نفس تلك الحصة من الطبيعة الموجودة في ضمنه.

وأخرى : لايكون الشيء هو بنفسه بلا عناية يعم ذلك الشيء الذي أطلق عليه ، وان كان من افراده الحقيقية ، الا ان نسبته إلى ذلك الشيء نسبة المشكك لا المتواطي كاطلاق الماء على ماء الزاج والكبريت ، فان ماء الزاج والكبريت وان كان من افراد الماء حقيقة ، الا ان الماء لما كان منصرفا عن ذلك فاطلاق الماء عليه يحتاج إلى نحو عناية وتوسعة ، ولكن تلك العناية لا توجب المجازية ، بل يكون أيضا كل من الاطلاق والاستعمال على وجه الحقيقة.

وثالثة : لايكون الشيء مما يعمه على وجه الحقيقة ، بل يكون مباينا له بالهوية ، الا انه يصح تعميم دائرة الشيء على وجه يكون ذلك الشيء من افراده حقيقة بعد التعميم ، وذلك كصحة تعميم الأسد لمطلق الشجاع لمكان العلاقة ، وبعد التعميم والتوسعة في دائرة مفهوم الأسد يطلق على زيد الشجاع ، ويكون زيد من افراد المفهوم الموسع حقيقة ، وان كان استعمال الأسد في مطلق الشجاع مجازا ، لأنه خلاف ما وضع له اللفظ.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان السكاكي ان أراد من قوله : اطلاق الأسد على زيد يكون حقيقة ادعائية ، هو انه يطلق الأسد على زيد من دون توسعة في دائرة مفهوم الأسد ، فهذا مما لا معنى له ويكون الكلام كذبا ، وان أراد ان الاطلاق بعد التوسعة في دائرة مفهوم الأسد ، فهذا هو المجاز الذي يقول به المشهور ، ويكون من المجاز في الكلمة ، حيث إنه قد استعمل لفظ الأسد في مطلق الشجاع ، وهو خلاف ما وضع له فتأمل ، فان الانكار على السكاكي ربما لا يساعد عليه الشخص ابتداء و

٩٤

ان كان بعد التأمل يعترف (١) بفساد مقالته.

وعلى كل حال ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن النزاع في المقام ، هل هو في صحة الاطلاق والتطبيق؟ أو في الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء؟ ربما قيل : ان النزاع في المقام انما هو في صحة الاطلاق وتطبيق عنوان المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، لا في أن استعماله فيما انقضى عنه المبدء حقيقة أو مجاز. قلت : هذا الكلام بمكان من الغرابة ، ضرورة ان اطلاق عنوان على شيء وتطبيقه على المصاديق يتوقف على معرفة ذلك العنوان إذ لا معنى للتطبيق مع الجهل بالعنوان.

وبالجملة : صحة اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء وعدم صحته يتوقف على معرفة الموضوع له للمشتق ، والكلام بعد في أصل مفهوم المشتق وما وضع له ، فكيف يكون النزاع في الاطلاق والتطبيق؟ مع أن انطباق الكلي على مصاديقه امر خارجي تكويني لا معنى لوقوع النزاع فيه من الاعلام.

والحاصل : ان صدق عنوان الضارب على زيد الذي انقضى عنه الضرب وعدم صدقه يدور مدار مفهوم الضارب وان الموضوع له ما هو؟ فان قلنا : ان الموضوع له هو المعنى الأعم من المتلبس بالحال وما انقضى عنه المبدء ، فلا محالة يصدق على زيد عنوان الضارب ، وان قلنا : ان الموضوع له هو خصوص المتلبس ، فلا يصدق على زيد عنوان الضارب ، فالعمدة هو تعيين الموضوع له وما هو المفهوم الافرادي ، فكيف صار النزاع في صحة الاطلاق والتطبيق ، مع أنه بعد لم يتضح الموضوع له.

هذا كله ، مضافا إلى أن جعل محل النزاع هو الاطلاق والانطباق ، انما يصح فيما إذا كان هناك فرد أطلق عليه عنوان المشتق كما في زيد الضارب وعمر و

__________________

١ ـ هذا ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام ، ولكن ربما يختلج في البال ان الكذب لازم على كل حال ، سواء قلنا بالتوسعة في ناحية المفهوم ، أو قلنا بمقالة السكاكي : من الحقيقة الادعائية وان اطلاق الأسد على زيد لمكان ادعاء انه من افراد الحيوان المفترس. نعم لو قلنا بان المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له لعلاقة بين المعنيين من دون ان يكون هناك تصرف لا في ناحية المفهوم ولا في ناحية الفرد ـ كما هو المشهور في الألسن ـ لما كان يلزم كذب في الكلام أصلا ، فتأمل ـ منه.

٩٥

الراكب ، وأما إذا لم يكن هناك فرد أطلق عليه عنوان المشتق ، كقولك : جئني بضارب ، أو تحرم أم الزوجة وما شابه ذلك من العناوين الكلية التي تكون موضوعا للأحكام ، فلا اطلاق هناك ولا تطبيق وانطباق ، بل عنوان كلي وقع موضوعا لحكم ، فلابد ان يكون النزاع في هذا في نفس المفهوم الافرادي وحقيقة الضارب وأم الزوجة ، والمفروض ان عقد البحث في المشتق انما هو لمعرفة مفاهيم تلك العناوين ليصح موضوع الحكم.

والحاصل : ان التكلم في الاطلاق والتطبيق ، انما هو فيما إذا كان التطبيق مذكورا في الكلام صريحا ، كقولك زيد ضارب. وأما إذا لم يكن التطبيق مذكورا في الكلام صريحا ، سواء كان مذكورا فيه ضمنا ، كقولك : رأيت ضاربا حيث إن الرؤية لابد ان تتعلق بشخص ، أو لم يكن مذكورا فيه ولو ضمنا ، كما في العناوين المشتقة التي وقعت موضوعا للأحكام الشرعية ، كقوله عليه‌السلام مثلا يكره البول تحت الشجرة المثمرة أو تحرم أم الزوجة وما شابه ذلك ، فلا محالة ان يكون التكلم فيه من حيث الحقيقة والمجاز وتعيين ما هو الموضوع له لتلك العناوين المشتقة. وثمرة النزاع انما تظهر في مثل هذا ، إذ غالب الفروع التي رتبها الاعلام على مسألة المشتق ، انما ترتب على العناوين الكلية التي وقعت موضوعا للأحكام الشرعية ، ومع هذا كيف يصح ان يقال : ان الكلام في المقام في الاطلاق والانطباق؟ ولو كان من عادتنا إساءة الأدب ، لأسئنا الأدب بالنسبة إلى من قال بهذه المقالة كما أساء الأدب بالنسبة إلى الاعلام. فتأمل في المقام جيدا ، حتى لا تعثر بمقالته.

( الامر السابع )

في شرح الحال في الاشتقاق ومبدء الاشتقاق.

اعلم : ان بناء المتقدمين كان على أن مبدء الاشتقاق هو المصدر ، وحكى عن المتأخرين ان مبدء الاشتقاق هو اسم المصدر. والحق : انه لا هذا ولا ذلك ، وتوضيحه يتوقف على بيان المراد من المصدر واسم المصدر وما هو المايز بينهما ، وان كان قد تقدم منا في المعاني الحرفية شرح ذلك على وجه الاجمال ، ونزيده في المقام

٩٦

وضوحا.

فنقول : انه لا اشكال في أن المقولة هي بنفسها من الماهيات الامكانية في قبال الماهية الجوهرية ، وفي عالم الهوية لا ربط لاحديهما بالأخرى ، ولكن ماهية العرض تحتاج في مقام التحقق إلى محل تقوم به ، لعدم امكان قيام الماهية العرضية بنفسها ، بل وجودها انما يكون بوجود الموضوع ، ومن هنا قالوا : ان وجود العرض لنفسه وفي نفسه عين وجوده لمحله وفي محله ، والمراد من عينية الوجود للمحل هو الاتحاد في الوجود خارجا ، بحيث لايكون هناك أمران منحازان في الخارج ، ولأجل ذلك صح لحاظ العرض بما هو هو ، وبما هو قائم بالمحل ومتحد وجوده مع وجوده. وبعبارة أخرى تارة : يلاحظ بشرط لا عما يتحد معه ، وأخرى : يلاحظ لا بشرط عما يتحد معه : فان لوحظ بما هو هو وبشرط لا عما يتحد معه وبما انه شيء من الموجودات الامكانية ، يقال له العرض كالسواد والبياض ، وان لوحظ بما هو قائم بالمحل ولا بشرط عما يتحد معه في الوجود وبما انه وجود رابطي ، يقال له العرضي كالأبيض والأسود. وبعبارة أخرى تارة : يلاحظ أمرا مباينا غير محمول ، وأخرى : يلاحظ أمرا متحدا محمولا كقولك : زيد ابيض ، حيث إنه يصح ذلك ، ولا يصح قولك : زيد بياض.

ثم إن العرض ان لو حظ أمرا مباينا غير محمول ، فاما ان يلاحظ بما هو هو ، من دون لحاظ انتسابه إلى محله ، فهو المعبر عنه باسم المصدر ، حيث قيل في تعريفه : انه ما دل على نفس الحدث بلا نسبة. واما ان يلاحظ منتسبا إلى فاعله ، فتارة : يكون اللحاظ بنسبة ناقصة تقييدية ، وهو المعبر عنه بالمصدر كقولك : ضرب زيد ، وأخرى : بنسبة تامة خبرية ، وهو المعبر عنه بالفعل باقسامه الثلاثة : من الماضي والمضارع والامر ، فيشترك كل من المصدر والفعل في الدلالة على النسبة ، غايته ان هيئة المصدر تدل على النسبة الناقصة التقييدية على ما قيل ، وان كان لنا فيه كلام يأتي انشاء الله تعالى ، وهيئة الفعل تدل على النسبة التامة الخبرية ، فإذا كان معنى المصدر هو ذلك ، فلا يمكن ان يكون هو مبدء الاشتقاق ، بداهة انه يكون للمصدر ح هيئة تخصه ، ويكون بما له من المعنى مباينا لسائر المشتقات ، فكيف يكون هو مبدء

٩٧

الاشتقاق؟ مع أنه يعتبر في مبدء الاشتقاق ان يكون معرى عن الهيئة حتى يمكن عروض الهيئات المشتقة عليها ، وما يكون له هيئة مخصوصة غير قابل لذلك ، إذ لا يعقل عروض الهيئة على الهيئة ، فالمصدر بما له من المادة والهيئة لا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق. وكذا الحال في اسم المصدر ، إذ اسم المصدر على ما عرفت ، هو عبارة عن نفس الحدث بشرط انتسابه إلى محله ، والغالب اتحاد هيئته مع هيئة المصدر من دون ان يكون له هيئة تخصه ، كما في الضرب والقتل ، وغير ذلك من المصادر التي يمكن ان يراد منها الاسم المصدر ، وقد يكون له هيئة تخصه ، كما في الغسل بالضم حيث إنه اسم المصدر والمصدر هو الغسل بالفتح. وعلى كل حال : اسم المصدر أيضا بما له من المعنى والهيئة يباين معاني سائر المشتقات وهيئاتها ، فلا يصح ان يكون هو مبدء الاشتقاق ، بل لابد ان يكون مبدء الاشتقاق أمرا معرى عن كل هيئة ( كالضاد ) و ( الراء ) و ( الباء ) ولا بأس بالتعبير عنه بالضرب من دون لحاظ وضع هيئة ودلالتها على النسبة ، بل تكون الهيئة لمجرد حفظ المادة ليسهل التعبير عنها.

وحاصل الكلام : انه لابد ان يكون مبدء الاشتقاق من حيث المعنى واللفظ لا بشرط ، ليكون قابلا لان يرد على لفظه كل هيئة مع انحفاظ معناه في جميع المعاني المشتقة ، ومعنى المصدر واسم المصدر ، انما يكون بشرط شيء كما في المصدر حيث يلاحظ فيه الانتساب ، أو بشرط لا كما في اسم المصدر حيث يلاحظ فيه عدم الانتساب ، فلا يصلحان لان يكونا مبدء الاشتقاق ، فتأمل في المقام جيدا هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان ما قيل : من أن المصدر بهيئته يدل على الانتساب مما لا معنى له ، بداهة ان الانتساب انما يستفاد من إضافة المصدر إلى فاعله ، كما هو الغالب ، والى مفعوله نادرا كما في قولك : ضرب زيد عمروا حيث يكون زيد فاعلا ، أو ضرب زيد عمرو بالرفع حيث يكون عمرو فاعلا ، وعلى كل تقدير ليست هيئة المصدر موضوعة للدلالة على انتساب الحدث إلى فاعله بالنسبة الناقصة التقيدية ، كوضع هيئة الافعال للدلالة على النسبة التامة الخبرية ، بل النسبة انما تستفاد من

٩٨

الإضافة أي إضافة المصدر إلى معموله ، بحيث لولا الإضافة لما كاد يستفاد نسبة أصلا ، بل المصدر بهيئته انما وضع للدلالة على ذات المنتسب ، لكن لا بشرط عدم لحاظ الانتساب ، كما في اسم المصدر ، بل في حال قابليته للانتساب.

وبعبارة أخرى : المصدر انما وضع للحدث في حال صدوره عن فاعله ، لا بما هو هو كما في اسم المصدر ، ولا بما هو منتسب كما في الافعال ، وبهذا يباين المصدر كل من الفعل واسم المصدر. فلا يتوهم انه إذا لم تكن هيئة المصدر موضوعة للدلالة على النسبة الناقصة التقييدية بل كان المصدر بهيئته موضوعا لنفس ذات الحدث المنتسب ، فاما ان يرتفع المايز بينه وبين اسم المصدر إذا لوحظ ذات المنتسب بشرط عدم الانتساب ، واما ان لا يلاحظ ذلك بل يكون لا بشرط من هذه الجهة فيكون هو المعنى المحفوظ في جميع الصيغ المشتقة ، ويلزمه ان يكون هو مبدء الاشتقاق.

وذلك : لان اسم المصدر موضوع لنفس الحدث الغير القابل للانتساب ، فمعناه ملحوظ بشرط لا ، والمصدر بمادته وهيئته موضوع للحدث القابل لورود الانتساب عليه ، فالتباين بين المصدر واسم المصدر أوضح من أن يخفى. وكذا عدم امكان كون المصدر مبدء الاشتقاق ، لان للمصدر هيئة تخصه ، وما كان له هيئة مخصوصة لا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق ، لاعتبار ان يكون مبدء الاشتقاق معرى عن الهيئة القابل لطرو الهيئات المختلفة عليه.

فتحصل : ان كلا من المصدر واسم المصدر والافعال والمفاعيل واسم الفاعل والصفة المشبهة وغير ذلك من المشتقات ، انما يشتق من مبدء واحد محفوظ في جميع هذه الصيغ ، وهو في حدث الضرب يكون ( الضاد ) و ( الراء ) و ( الباء ) وفي حدث القتل يكون ( القاف ) و ( التاء ) و ( اللام ) وهكذا الحال في سائر الاحداث والاعراض.

هذا كله في الاشتقاق اللفظي ، وقد عرفت ان جميع الصيغ تشتق في عرض واحد من مبدء واحد ، وليست الصيغ المشتقة مترتبة في الاشتقاق لفظا ، أو تكون بعض الصيغ مشتقة من بعض آخر ، بل الكل يشتق من امر واحد.

واما المعاني التي تكفلتها الصيغ المشتقة ، فلا اشكال في أن بينها ترتبا ،

٩٩

بحيث يكون بعض المعاني متولدا من بعض آخر. وتفصيل ذلك هو انه لا اشكال في أن معنى الاسم المصدري متولد عن المعنى المصدري ، ومن هنا قيل في تعريف اسم المصدر : بأنه ما حصل من المصدر. والسر في ذلك : هو ان اسم المصدر عبارة عن نفس الحدث والعرض كما تقدم ، ومن المعلوم : ان تحقق العرض انما هو لمكان انتسابه إلى محله ، إذ لا وجود له مع قطع النظر عن الانتساب ، فلا بد ان يحصل الغسل ( بالفتح ) من الشخص حتى يتحقق الغسل ( بالضم ) وذلك واضح.

واما المصدر فقد اختلف في تقدم معناه على معنى الفعل الماضي أو تأخره ، وقد نسب إلى الكوفيين تأخره وان معناه اشتق من معنى الفعل الماضي ، وذلك لان الفعل الماضي انما هو متكفل لبيان النسبة التحققية أي كون العرض متحققا في الخارج مع انتسابه إلى فاعله بنسبة تامة خبرية ، فالماضي انما يدل على تحقق الحدث من فاعله وليس مفاده أزيد من ذلك وما اشتهر من أنه يدل على الزمان الماضي فهو اشتباه ، بل إن فعل الماضي بمادته وهيئته لا يدل الا على تحقق الحدث من فاعله ، نعم لازم الاخبار بتحققه عقلا هو سبق التحقق على الاخبار آنا ما قبل الاخبار والا لم يكن اخبارا بالتحقق ، وأين هذا من أن يكون الزمان الماضي جزء مدلول الفعل الماضي ، وكيف يعقل ذلك؟ مع أن هيئة الفعل الماضي انما وضعت للدلالة على النسبة التحققية ، وهي معنى حرفي ، ولذا كان الفعل الماضي مبنيا الذي هو لازم المعنى الحرفي ، والزمان انما يكون معنى اسميا استقلاليا ، فلا يعقل ان يكون مفاد الحرف معنى اسميا.

والحاصل : ان دلالة الفعل الماضي على الزمان ، اما ان يكون بمادته ، واما ان يكون بهيئته. اما المادة فهي مشتركة بين الافعال والأسماء المشتقة ، فليس فيها دلالة على الزمان والا كانت الأسماء المشتقة أيضا لها دلالة على الزمان ، وهو ضروري البطلان. واما الهيئة : فليس مفادها الا انتساب العرض إلى محله بالنسبة التحققية ، وذلك معنى حرفي لا يمكن ان يدل على الزمان الذي هو معنى اسمى ، فإذا كان مفاد الفعل الماضي هو تحقق العرض منتسبا إلى محله ، فهذا أول نسبة يتحقق بين العرض والمحل ، لأنه واقع في رتبة الصدور والتحقق ، وقبل ذلك لا تكون الا

١٠٠