فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

فان القيد يكون ح راجعا إلى الحكم ويكون من تقييد جملة بجملة ، على ما تقدم تفصيله في باب المفاهيم.

والقضية الشرطية مثلا بعد ما كانت ظاهرة في كون القيد راجعا إلى الحكم ، حيث إن القضية الشرطية وضعت لتقييد جملة بجملة ـ على ما عرفت سابقا ـ فتكون القضية الشرطية بنفسها ظاهرة في كونها ذات مفهوم. وأصالة العموم في طرف العام لا تصلح ان تكون قرينة على كون القيد راجعا إلى الموضوع ، لان العموم انما يستفاد من المقدمات الحكمة الجارية في مصب العموم ، وظهور القضية في المفهوم يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في طرف العام ، فيكون ظهور القضية في المفهوم حاكما على ظهور العام في العموم ، لان كون القضية ذات مفهوم وان كان أيضا بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، الا ان مقدمات الحكمة الجارية في طرف المفهوم تكون بمنزلة القرينة على أن المراد من العام هو الخاص. والعام لا يصلح لان يكون قرينة على كون القضية الشرطية سيقت لفرض وجود الموضوع ، لان كون القضية مسوقة لفرض وجود الموضوع يحتاج إلى دليل يدل عليه ، بعد ما لم يكن الشرط مما يتوقف عليه الحكم عقلا ، فتأمل جيدا. هذا إذا كان المفهوم أخص مط من العام.

وأما إذا كان أعم من وجه : فيعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم المفهوم في مورد الاجتماع ، وربما يقدم العام ، فان العام لا يزيد على الدليل اللفظي العام من حيث كونه قابلا للتخصيص ، ولا تخرج القضية عن كونها ذات مفهوم عند تقديم العام ، كما كانت تخرج عن ذلك فيما إذا كان المفهوم أخص ، بل القضية بعد تكون ذات مفهوم ، غايته انه مخصص ، وذلك واضح.

المبحث الثامن :

انه لا ينبغي الاشكال في جواز تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري ، ومجرد كون الكتاب قطعي الصدور لا يمنع عن ذلك ، بعد ما كان التعارض بين ظهور الكتاب الذي هو ظني وأدلة التعبد بالخبر الواحد ، وحكومة أدلة التعبد على أصالة الظهور. وما ورد من طرح الاخبار المخالفة للكتاب لا يشمل المخالفة بالعموم والخصوص ، فان ذلك ليس من المخالفة عرفا وذلك كله واضح.

٥٦١

المقصد الخامس : في المطلق والمقيد

وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم أمور :

الامر الأول :

الاطلاق هو الارسال ، يقال : أطلق الدابة ـ أي أرسلها وأرخى عنانها ـ في مقابل تقييدها. والظ ان لايكون للأصوليين اصطلاح خاص في الاطلاق والتقييد غير ما لهما من المعنى اللغوي والعرفي. كما أن اختلاف المط من حيث كونه : شموليا تارة ، وبدليا أخرى ، انما هو من ناحية الحكم. وليس الاطلاق الشمولي مغايرا للاطلاق البدلي ، بل الاطلاق في الجميع بمعنى واحد وهو الارسال ، غايته ان الحكم الوارد على النكرة أو الطبيعة تارة : يقتضى البدلية كالنكرة الواقعة في سياق الاثبات والحكم الوارد على الطبيعة بلحاظ صرف الوجود ، حيث إن نتيجة البدلية في المقام الامتثال والاكتفاء بفرد واحد. وأخرى : يقتضى الشمول كالنكرة أو الطبيعة الواقعة في حيز النفي ، أو الطبيعة الواقعة في حيز الاثبات بلحاظ مط الوجود ، فالبدلية والشمولية انما يستفادان من كيفية تعلق الحكم بالنكرة والطبيعة مع كون الاطلاق في الجميع بمعنى واحد.

وبذلك يظهر النظر في تعريف المط : بأنه ما دل على شايع في جنسه ، فان التعريف بذلك ينطبق على الاطلاق المستفاد من النكرة ، ولا ينطبق على الاطلاق الشمولي ، وان أمكن توجيه التعريف على وجه ينطبق على كل من قسمي الاطلاق ، الا انه يرد على التعريف على كل حال ان الظاهر منه كون الاطلاق والتقييد من صفات اللفظ ، حيث إن المراد من الموصول هو اللفظ مع أن الظاهر هو كون الاطلاق والتقييد من صفات المعنى ، كالكلية والجزئية ، واتصاف اللفظ بهما

٥٦٢

انما يكون بالتبع والعرض والمجاز. والامر في ذلك سهل بعد وضوح المراد.

ثم إن الاطلاق والتقييد كما يردان على المفاهيم الافرادية كذلك يردان على الجمل التركيبية. ومعنى اطلاق الجملة هو ارسالها وعدم تقييدها بما يوجب ظهورها في خلاف ما تكون ظاهرة فيه لولا تقييدها بذلك ، فإنه قد تكون الجملة التركيبية لو خليت ونفسها ظاهرة في معنى ، وكان تقييدها موجبا لانقلاب ظهورها كما في الجمل الطلبية ، فان اطلاق الامر والطلب يقتضى النفسية العينية التعيينية ، والتقييد يوجب الغيرية أو التخييرية أو الكفائية ، على اختلاف كيفية التقييد ، وكالعقد فان اطلاقه يقتضى نقد البلد أو التسليم والتسلم ، وتقييده يقتضى خلاف ذلك.

والفرق بين اطلاق المفاهيم الأفرادية والجمل التركيبية ، هوان اطلاق المفاهيم الأفرادية يقتضى التوسعة ، وتقييدها يقتضى التضييق. بخلاف اطلاق الجمل التركيبية ، فان اطلاقها يقتضى التضييق ، وتقييدها يقتضى التوسعة.

بل ربما يكون اطلاق الجملة موجبا لتضييق مفهوم مفرداتها ، بحيث لو لم تكن المفردات واقعة في ضمن الجملة لكان مفهومها موسعا ، الا ان وقوعها في ضمن ذلك يوجب تضييق مفهومها. وهذا كما في كون اطلاق العقد يقتضى نقد البلد ، فان الدرهم لولا وقوعه في ضمن العقد من جعله ثمنا أو مثمنا كان مفهومه عاما يعم كل درهم نقد البلد وغيره ، الا انه لما وقع في ضمن العقد اقتضى اطلاقه نقد البلد. وليس ذلك لأجل انصراف الدرهم إلى نقد البلد ، بل لأجل اطلاق العقد وعدم تقييده بالأعم من نقد البلد ، والا لكان الاقرار بالدرهم موجبا للانصراف إلى نقد البلد ، بحيث ليس له التفسير بغيره ، والظ انه لم يقل به أحد.

وعلى كل حال : لا اشكال في أن الجمل التركيبية تتصف بالاطلاق والتقييد ، كاتصاف المفاهيم الأفرادية بهما. ومحل الكلام في مبحث المط والمقيد انما هو في المفاهيم الأفرادية ، واما الجمل التركيبية فليس لها مبحث مخصوص ، وليس لاطلاقها ضابط كلي ، بل الجمل التركيبية تختلف حسب اختلاف المقامات. والبحث في باب المفاهيم كلها يرجع إلى البحث عن اطلاقها وتقييدها ، لما تقدم من

٥٦٣

ان الضابط في كون القضية ذات مفهوم ، هو رجوع الشرط أو الوصف أو الغاية إلى الحكم ، فيكون من تقييد الجملة الطلبية.

الامر الثاني :

قد عرفت ان الاطلاق هو بمعنى الارسال والشمول والمراد من الشمول هو شمول الطبيعة لما يندرج تحتها وينطبق عليها انطباق الكلي على مصاديقه. فالمعاني الحرفية لا تتصف بالاطلاق والتقييد ، لان المعاني الحرفية وان قلنا : بان الموضوع له فيها عام ، الا ان عموم الموضوع له في الحروف يكون بمعنى آخر غير عموم الموضوع له في الأسماء ، فان معنى عموم الموضوع له في الأسماء هو كون المعنى قابل الصدق على كثيرين ، وهذا انما يكون إذا كان تحت ذلك المعنى : أنواع ، أو أصناف ، أو افراد ، يكون ذلك المعنى منطبقا عليها انطباق الطبيعي على مصاديقه ، وهذا يحتاج إلى أن يكون للمعنى تقرر في وعاء العقل والتصور ، والمعاني الحرفية ـ على ما حققناه في محله ـ لايكون لها تقرر الا في موطن الاستعمال ، وتكون ايجادية محضة ، فالكلية في الحروف تكون بمعنى آخر ، قد تقدم بيانه عند البحث عن المعاني الحرفية. وذلك المعنى غير قابل لورود الاطلاق والتقييد عليه ، وذلك واضح كوضوح ان الاعلام الشخصية لا تتصف بالاطلاق والتقييد بالمعنى المتقدم ، وانما يكون اطلاقها باعتبار الطوارئ والحالات ، إذ ليس تحت الاعلام افراد قابلة الانطباق عليها.

وحينئذ ينبغي خروج الاعلام عن محل الكلام ، كخروج الجمل التركيبية ، فان محل الكلام في المقام انما هو في الاطلاق القابل لان يكون جزء مدلول اللفظ ـ على ما ينسب إلى المشهور في مقابل مقالة سلطان المحققين ـ على ما سيأتي تحقيقه. وفي الاعلام لا يمكن ان يتوهم دخول الاطلاق باعتبار الطوارئ والحالات في مدلول اللفظ ، بحيث تكون التسوية بين القيام والعقود جزء مدلول لفظ زيد ، فان هذا ضروري الفساد ، لوضوح ان لفظ زيد موضوع للذات المشخصة مع قطع النظر عن الحالات والطواري ، واطلاقها لذلك انما يكون بمقدمات الحكمة. فالاطلاق المبحوث عنه بين المشهور وسلطان المحققين في كونه جزء مدلول اللفظ أو عدم كونه جزء مدلول اللفظ ، انما هو في العناوين الكلية القابلة الصدق على

٥٦٤

كثيرين ، كأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية.

الامر الثالث :

لا اشكال في أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل السلب والايجاب ، لان تقابل السلب والايجاب انما يكون بين الوجود والعدم المحمولين على الماهيات المتصورة ، لان الماهية المتصورة في العالم اما ان يحمل عليه الوجود ، واما ان يحمل عليها العدم ، ولا يمكن اجتماعهما في الماهية ولا ارتفاعهما عنها. والاطلاق والتقييد ليسا كذلك ، لامكان ارتفاعهما عن المحل الغير القابل لهما ، كما في الانقسامات اللاحقة للمأمور به بعد ورود الامر ، كقصد التقرب ، والعلم بالامر ، والايصال في المقدمة ، فإنه في جميع هذا لا اطلاق ولا تقييد ، فإذا امتنع التقييد بأحد هذه الأمور ( كما حقق في محله ) امتنع الاطلاق بعين امتناع التقييد ، لان الاطلاق ليس الا عبارة عن تساوى وجود ذلك القيد وعدمه ، فإذا امتنع لحاظ ذلك القيد امتنع لحاظ التسوية أيضا وذلك واضح.

فالتقابل بين الاطلاق والتقييد لا يمكن ان يكون تقابل السلب والايجاب ، فلم يحتمله أحد. فيدور الامر ح بين ان يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، أو تقابل التضاد. فبناء على ما ينسب إلى المشهور : من أن الاطلاق جزء مدلول اللفظ ولا نحتاج في استكشاف الاطلاق إلى مقدمات الحكمة ، يكون الاطلاق ح أمرا وجوديا ، ويكون التقابل بينهما تقابل التضاد. وبناء على مسلك السلطان : من أن الاطلاق يستفاد من مقدمات الحكمة وليس جزء مدلول اللفظ ، يكون الاطلاق ح أمرا عدميا ، ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة. وعلى كلا المسلكين لا بد ان يردا على المحل القابل لهما ، ويمكن ح ارتفاعهما بانتفاء المحل القابل ، وان كان في المحل القابل لا يمكن ان يرتفعا ، فلا يمكن ان يكون الانسان لا أعمى ولا بصيرا ، وان كان الجدار مثلا لا أعمى ولا بصيرا ، لعدم قابلية الجدار لذلك.

والحاصل : ان التقابل بين القيام واللاقيام تقابل السلب والايجاب ، لان القيام هو بنفسه من الماهيات المتصورة مع قطع النظر عن المحل ، فهو اما موجود واما معدوم ، وقد عرفت : ان التقابل بين الوجود والعدم تقابل السلب والايجاب ، و

٥٦٥

التقابل بين قيام زيد ولا قيامه تقابل العدم والملكة ، فان عدم قيام زيد يكون من العدم النعتي ، كما أن قيام زيد يكون من الوجود النعتي.

والتقابل بين الوجود والعدم النعتي دائما يكون تقابل العدم والملكة.

والتقابل بين القيام والعقود تقابل التضاد ، لان تقابل التضاد يكون بين الوجوديين.

والتقابل بين الاطلاق والتقييد يدور امره بين ان يكون من تقابل العدم والملكة ، أو من تقابل التضاد. وسيأتي ما هو الحق انشاء الله.

الامر الرابع :

في تحرير ما هو محل البحث فيما ينسب إلى المشهور وما ينسب (١) إلى السلطان : من كون الاطلاق يتوقف على مقدمات الحكمة كما هو مقالة السلطان ، أو انه لا يتوقف كما هو مقالة المشهور.

فنقول : انه لا اشكال في أن الاختلاف لا يرجع إلى الاختلاف في معنى الاطلاق ، بحيث يكون الاطلاق عند المشهور غير الاطلاق عند السلطان ، بل ليس للاطلاق الا معنى واحد ، وهو الارسال أو تساوى كل خصوصية مع عدمها ، بحيث يكون معنى ( أعتق رقبة ) في قوة قولنا : ( أي رقبة ) وهذا مما لا نزاع فيه ولا اشكال. وانما النزاع في أن هذه التسوية هل هي جزء مدلول اللفظ؟ أو انها تستفاد من مقدمات الحكمة؟ والحق انها تستفاد من مقدمات الحكمة. ولتوضيح ذلك ينبغي تمهيد مقدمة.

وهي انهم قسموا الماهية إلى : الماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا ، والماهية بشرط شيء. واللابشرط وبشرط لا تستعمل بمعنيين.

الأول : هو ما يذكرونه في باب الفرق بين الجنس والفصل والمادة

__________________

١ ـ هذا ما افاده سلطان المحققين قدس‌سره في حاشيته على المعالم في ذيل قول صاحب المعالم « فلانه جمع بين الدليلين .. » ، في مباحث المطلق والمقيد ص ١٥٥ ، « طبعت هذه الحاشية في المعالم المطبوع سنة ١٣٧٨. المكتبة العلمية الاسلامية »

٥٦٦

والصورة ، والفرق بين المشتق ومبدء الاشتقاق. والمراد من بشرط لا في هذا الباب هو لحاظ الشيء بشرط لا عما يتحد به ، أي لحاظ الجنس بشرط عدم اتحاده مع الصورة ، وكذا لحاظ الصورة بشرط عدم اتحادها مع الجنس ، وهما بهذا الاعتبار آبيان عن الحمل ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا حملهما على ثالث. ويقابل هذا اللحاظ لحاظ الجنس لا بشرط عما يتحد معه ، وكذا الصورة. وهما بهذا الاعتبار غير آبيين عن الحمل ، ويصح حمل أحدهما على الآخر ، وحملهما على ثالث. وكذا الكلام في باب المشتق ومبدئه ، وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث المشتق. والمراد من بشرط لا ولا بشرط في تقسيم الماهية غير هذا المعنى من لا بشرط وبشرط لا ، بل اللابشرطية والبشرط اللائية في تقسيم الماهية انما يكون باعتبار الطوارئ والخصوصيات اللاحقة للماهية.

وتفصيل ذلك : هو ان الماهية تارة : تلاحظ بشرط عدم انضمام شيء من الخصوصيات إليها ، بل تكون مجردة عن كل ما عداها من الطوارئ والاعراض ، وهي بهذا المعنى تكون من الكلية العقلية ولا موطن لها الا العقل ، ويمتنع صدقها على الخارجيات وحمل شيء من الخارجيات عليها ، بل محمولاتها تكون من المعقولات الثانوية كقولنا : الانسان نوع ، أو حيوان ناطق ، وما شابه ذلك من المحمولات العقلية ، لوضوح انه لا وجود للماهية المجردة عن كل خصوصية ، وهذه هي الماهية بشرط لا.

وأخرى : تلاحظ الماهية مقيدة بخصوصية خاصة : من العلم ، والايمان ، والعدالة ، وغير ذلك من الخصوصيات الخارجية اللاحقة للماهيات ، وهذه هي الماهية بشرط شيء ، وهذا مما لا اشكال فيه ولا كلام. وانما الاشكال والكلام في معنى الماهية لا بشرط ، والفرق بينها وبين اللابشرط المقسمي ، فإنه قد اضطربت كلمات الاعلام في ذلك. فمنهم من فسر اللابشرط القسمي بما يرجع إلى الكلي العقلي ، وجعل اللابشرط المقسمي الكلي الطبيعي. ومنهم من جعل الكلي الطبيعي اللابشرط القسمي. وينبغي أولا ان يقطع النظر عما قيل في المقام ، ويلاحظ ان المعنى المتصور لللابشرط في مقابل بشرط لا وبشرط شيء ما هو؟ حيث إن

٥٦٧

البحث في المقام عقلي وأمره راجع إلى ما يتصوره العقل.

فنقول : قد عرفت الاعتبارين للماهية ، وان الماهية تارة : تكون مجردة عن كل خصوصية ، وهي الكلي العقلي. وأخرى : تكون منضمة إلى خصوصية خاصة ، هي الماهية المشروطة والمقيدة. والمعنى الثالث للماهية الذي يكون في مقابل هذا هو الماهية المرسلة المطلقة ، أي الماهية التي تكون محفوظة في جميع الخصوصيات والطواري المتقابلة والقدر المشترك الموجود في جميع ذلك ، وهو ذات الرقبة مثلا المحفوظة في ضمن الايمان ، والكفر ، والعلم ، والجهل ، والرومية ، والزنجية ، وغير ذلك من الخصوصيات والطواري ، فإنه لا اشكال في أن هناك ما يكون قدرا مشتركا بين جميع تلك الخصوصيات القابل لحمل كل خصوصية عليه كما يقال : الرقبة مؤمنة ، والرقبة كافرة ، وكذا رومية ، أو زنجية ، وغير ذلك. وهذا المعنى هو الذي يصح ان يجعل مقابلا للمعنيين الآخرين ، ويستقيم حينئذ تقابل الأقسام ويتميز بعضها عن بعض.

ومنه يتضح فساد اخذ الارسال قيدا في معنى اللابشرط القسمي ، فإنه لا معنى لاخذ الارسال قيدا ، إذ المراد من الارسال ان كان بمعنى التجرد يرجع حينئذ إلى بشرط لا ولا يكون قسما آخر ، وان كان المراد من الارسال هو عدم صلاحية الماهية للتقييد بشيء ، فهذا مما لا يرجع إلى محصل.

والحاصل : انه لا اشكال في أن التقسيم لا بد ان يكون على وجه لا تتداخل فيه الأقسام بعضها مع بعض ، فلا بد ان يكون لكل من الماهية بشرط شيء ، والماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا ، معنى يختص به ولا يرجع إلى الآخر. وقد عرفت معنى الماهية بشرط لا ، وهو بشرط التجرد عن جميع الخصوصيات الخارجية ، وان ذلك يكون كليا عقليا. وعرفت أيضا معنى الماهية بشرط شيء ، وهو بشرط الانضمام إلى خصوصية خاصة من الخصوصيات الخارجية أو الذهنية ، وان ذلك هو معنى التقييد والاشتراط. وبعد ذلك لا بد ان يكون للماهية لا بشرط معنى لا يرجع إلى الماهية بشرط ، لا ، ولا إلى الماهية بشرط شيء ، والا يلزم تثنية الأقسام لا تثليثها.

والمعنى القابل لان يكون للماهية لا بشرط ـ غير الماهية بشرط التجرد وغير

٥٦٨

الماهية بشرط عدم التجرد ـ هو ما ذكرنا. وليس المراد من لا بشرط هو اللابشرطية عن البشرط اللائية والبشرط الشيئية ، بحيث يكون بشرط لا قسما من لا بشرط ، وبشرط شيء قسما آخر ، وكان لا بشرط يجتمع مع كل منهما ، فإنه يكون حينئذ لا بشرط مقسما لهما لا قسيما ، والمفروض ان الماهية لا بشرط القسمي قسيم للماهية بشرط لا وللماهية بشرط شيء لا انها مقسم لهما بحيث صح اجتماعه مع كل منهما ، فان هذا من شان اللابشرط المقسمي ، لا اللابشرط القسمي. فلا بد ان يكون لللابشرط القسمي معنى لا يجامع بشرط لا ولا بشرط شيء.

وحاصل ذلك المعنى : هو الماهية المرسلة السارية في جميع الخصوصيات والطوارئ المجامعة لها لا على نحو يكون الارسال قيدا لها ، حتى يقال : ان ذلك يرجع إلى بشرط لا أو بشرط شيء ـ كما قيل ـ فان ذلك ضروري البطلان ، فان المراد من الماهية المرسلة ، هو نفس الماهية وذات المرسل الساري في جميع الافراد والمحفوظ مع كل خصوصية والموجود مع كل طور.

وليس الفرق بين هذا المعنى من اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي اعتباريا ـ كما قيل ـ فإنه لا معنى لكون الفرق بينهما اعتباريا مع كون بشرط لا وبشرط شيء من اقسام اللابشرط المقسمي وهما يضادان اللابشرط القسمي ، بل الفرق بين اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي لابد ان يكون واقعيا ثبوتيا لا اعتباريا لحاظيا ، فان المراد من المقسم ، هو نفس الماهية وذاتها من حيث هي ، على وجه تكون الحيثية مرآة للذات ، فتأمل ـ فإنه قد يقال : ان الماهية من حيث هي ليست الا هي لا موجودة ولا معدومة ولا يصح حمل شيء عليها ، والمقسم لابد وأن يكون قابلا لحمل الأقسام عليه ، فلا يصح ان يقال : المقسم الماهية من حيث هي هي.

وعلى كل حال : اللابشرط المقسمي هو ما يكون مقسما لكل من : لا بشرط ، وبشرط لا ، وبشرط شيء. وهذا غير اللابشرط القسمي الذي يكون مضادا وقسيما لبشرط لا وبشرط شيء. وقد عرفت : ان ارجاع اللابشرط القسمي إلى بشرط لا أو بشرط شيء مما لا يمكن ، لما عرفت : من أن الشرط لا يرجع إلى الكلي العقلي ، و

٥٦٩

الكلي العقلي قسم واحد.

ومن الغريب : ما صدر عن بعض المحققين في المقام ، حيث أشكل على المشهور القائلين : بان الاطلاق والارسال جزء مدلول اللفظ ولا يحتاج إلى مقدمات الحكمة ، بأنه يلزم ان يكون الاطلاق ح كليا عقليا ويمتنع صدقه على الخارجيات ، فلا يصح ان يتعلق طلب بالمط حيث لا يمكن امتثاله. والذي أوجب الوقوع في هذا الوهم ، هو اخذ الارسال قيدا للماهية ، فارجع اللابشرط القسمي إلى الكلي العقلي. وحيث إن المشهور ذهبوا إلى أن الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي ، فأشكل عليهم ان المط يكون ح من الكليات العقلية وانه يرجع إلى الماهية بشرط لا.

وهذا الاشكال والكلام بمكان من الغرابة ، لوضوح ان الاطلاق ليس له حقيقتان ، بل الاطلاق على ما عرفت : هو عبارة عن تساوى الخصوصيات. وقولنا مثلا ( أعتق رقبة ) بمنزلة قولنا ( أي رقبة ) غايته ان المشهور ذهبوا إلى أن هذه التسوية جزء مدلول اللفظ ، وسلطان المحققين ومن تبعه ذهبوا إلى أن هذه التسوية تستفاد من مقدمات الحكمة. فهل يمكن ان يقال : ان الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة يكون كليا عقليا؟ أو هل يمكن ان يقال : ان الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة غير الاطلاق الذي يكون جزء مدلول اللفظ؟ مع أنه ليس للاطلاق الا حقيقة واحدة ومعنى فارد.

فدعوى : ان الاطلاق الذي يقول به المشهور هو الماهية المقيدة بالارسال ويرجع إلى الماهية بشرط لا ويكون من الكلي العقلي ، مما لا محصل لها. بل الاطلاق الذي يقول به المشهور ، هو الماهية المرسلة أي ذات المرسل الموجود في ضمن جميع الخصوصيات والمحفوظ عند جميع الطوارئ ، وهو معنى اللابشرط القسمي في مقابل بشرط لا ، وبشرط شيء. وتكون أسماء الأجناس عند المشهور موضوعة للماهية اللابشرط القسمي وعند السلطان موضوعة للماهية اللابشرط المقسمي المحفوظة مع بشرط لا وبشرط شيء ، ولا بشرط. وليست التسوية والارسال داخلة في معاني أسماء الأجناس ، وانما تستفاد التسوية من مقدمات الحكمة ، ويكون المراد من اللفظ

٥٧٠

هو اللابشرط القسمي ، لكن ببركة مقدمات الحكمة. والا فنفس اللفظ لا يدل الا على الماهية المهملة التي تكون مقسما للكلي العقلي وغيره.

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

ان الاشكال على المشهور بان الاطلاق لو كان مستفادا من اللفظ يلزم ان تكون المطلقات من الكليات العقلية ، مما لا وجه له. كما أن ارجاع اللابشرط القسمي إلى بشرط لا أو بشرط شيء ، مما لا وجه له. كما أن جعل الفرق بين اللابشرط المقسمي واللابشرط القسمي بالاعتبار ، مما لا وجه له ، فان كل ذلك مما لا يمكن التصديق به.

نعم : هنا امر آخر وقع محل الكلام بين الاعلام ، وهو ان الكلي الطبيعي الذي وقع محل الكلام في وجوده وانتزاعيته ، هل هو مفاد اللابشرط المقسمي أو اللابشرط القسمي؟.

ذهب المحقق السبزواري في منظومته إلى أن الكلي الطبيعي هو اللابشرط المقسمي. (١) وذهب آخرون إلى أنه هو اللابشرط القسمي. وعلى كلا التقديرين فهو كلام آخر لا دخل له بما نحن فيه من كون اللابشرط القسمي غير اللابشرط المقسمي حقيقة ، وغير بشرط لا وبشرط شيء. وان كان الحق في ذلك المقام هو كون الكلي الطبيعي عبارة عن اللابشرط القسمي ، ولا يمكن جعله من اللابشرط المقسمي ، وذلك لان الكلي الطبيعي عبارة عن حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو والجامع بين جميع المتفقة الحقيقة من الافراد الخارجية الفعلية وما يفرض وجودها. والماهية بشرط لا ـ عبارة عن الماهية المجردة عن كل خصوصية حتى خصوصية وجودها الذهني ، وليست الماهية بشرط لا من افراد الحقيقة ، بل ليست هي الا عبارة عن المفهوم والمدرك العقلاني ، وليست هي الفرد العقلاني المجرد عن

__________________

١ ـ قال المحقق السبزواري في منظومته

كلي الطبيعي هي المهية

وجوده وجودها شخصية

إذ ليس بالكلية مرهونا

بكل الأطوار بدا مقرونا

( منظومة السبزواري ، قسم المنطق ص ٢٢ ـ ٢١ )

٥٧١

المادة فان الفرد العقلاني هو من افراد الحقيقة ، كما يقال : ان لكل حقيقة فردين : فردا خارجيا ماديا ، وفردا مجردا عقلانيا ، وهو المسمى ( برب النوع والمثل الأفلاطونية ) واما الماهية بشرط لا فليست هي الفرد العقلاني ، بل هي كما عرفت من الكليات العقلية وليست الا عبارة عن المفهوم ، والمفهوم غير المصداق.

فلو كان الكلي الطبيعي هو اللابشرط المقسمي يلزم ان تكون الماهية بشرط لا من افراد الحقيقة ، لما عرفت من أن الكلي الطبيعي عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الافراد. وليس الانسان بشرط لا مثلا من افراد حقيقة الانسان حتى يقال : ان المقسم هي الحقيقة ، وافرادها : الماهية بشرط لا ، وبشرط شيء ، ولا بشرط ، فلابد ان يكون الكلي الطبيعي هو اللابشرط القسمي الذي يكون تمام حقيقة الافراد الخارجية. وعلى كل حال : فهذا بحث آخر لا يرتبط بما نحن فيه.

وإذ قد عرفت ما ذكرناه فاعلم : ان الحق هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللابشرط المقسمي كما هو مقالة السلطان ، وليست موضوعة بإزاء اللابشرط القسمي كما هو مقالة المشهور. وذلك : لوضوح ان استعمال الانسان في الماهية بشرط لا ، كقولنا ( الانسان نوع ) وفي الماهية بشرط شيء والماهية لا بشرط كقولنا ( الانسان ضاحك ) يكون بوزان واحد وعلى نهج فارد بلا تصرف وعناية. ولو كان الانسان موضوعا لللابشرط القسمي لكان استعماله في الماهية بشرط لا على نحو التجوز والعناية. ومما يقطع به انه ليس للانسان وضعان : وضع يكون باعتبار ما يحمل عليه من المقولات الثانوية ويكون من الماهية بشرط لا ، ووضع يكون باعتبار ما يحمل عليه من الخارجيات. ويقطع أيضا انه ليس استعمال الانسان في أحدهما على نحو الحقيقة وفي الآخر على المجاز ، فلابد ان يكون موضوعا للجامع بينهما ، وليس ذلك الا اللابشرط المقسمي ، وهو المهية المبهمة المهملة القابلة للانقسامات وحينئذ فنفس اللفظ لا دلالة له على شيء من الأقسام ، واستفادة كل واحد من الأقسام يحتاج إلى امر آخر وراء مدلول اللفظ. واستفادة ان المراد هو المهية بشرط لا أو أحد القسمين الآخرين انما يكون من عقد الحمل ، فان المحمول ان كان من المعقولات الثانوية فلابد ان يكون المراد من الموضوع هو المهية بشرط لا ، وان كان من

٥٧٢

الخارجيات ـ كالعتق والاكرام والاكل والضرب ـ فلابد ان يكون المراد من الموضوع هو الماهية لا بشرط ، أو بشرط شيء.

والامر الذي يستفاد منه ان المراد من الموضوع هو اللابشرط القسمي الذي يكون هو معنى الاطلاق هو المعبر عنه بمقدمات الحكمة. فمقدمات الحكمة انما نحتاج إلهيا لاستفادة ان المراد من اللفظ الموضوع للمهية المبهمة هو المهية المرسلة التي يتساوى فيها كل خصوصية ونقيضها.

وفى أسماء الأجناس نحتاج إلى اعمال مقدمات الحكمة في موردين ، باعتبار كل من التقييد الأنواعي والتقييد الافرادي. بخلاف الألفاظ الموضوعة للعموم ، فإنه نحتاج فيها إلى مقدمات الحكمة في ناحية المصب باعتبار التخصيص الأنواعي فقط ، واما باعتبار الافرادي فنفس العام يتكفل ذلك بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. كما أن في المطلقات نحتاج إلى احراز كون المتكلم في مقام البيان من الخارج ولو بمعونة الأصل العقلائي ، كما سيأتي انشاء الله ، وفي العموم نفس أدلة العموم تقتضي كون المتكلم في مقام البيان. فالفرق بين العام الأصولي والمط يكون من جهتين. وعلى كل حال ، ان مقدمات الحكمة مركبة من عدة أمور :

الأول :

ان يكون الموضوع مما يمكن فيه الاطلاق والتقييد وقابلا لهما ، وذلك بالنسبة إلى الانقسامات السابقة على ورود الحكم. واما الانقسامات اللاحقة ـ كقصد القربة واعتبار العلم والجهل بالحكم ـ فهي ما لا يمكن فيها الاطلاق والتقييد ، فلا مجال فيها للتمسك بالاطلاق ، وفي الحقيقة هذا خارج عن مقدمات الحكمة ، بل هذا الامر يكون محققا لموضوع الاطلاق والتقييد.

الثاني :

كون المتكلم في مقام البيان ، لا في مقام الاجمال. وان لايكون الاطلاق تطفليا ، بحيث يكون الكلام مسوقا لبيان حكم آخر. كما في قوله تعالى : (١) « فكلوا

__________________

١ ـ المائدة ، ٤

٥٧٣

مما أمسكن عليكم » فان الكلام مسوق لبيان حلية ما يصطاده الكلب المعلم ، وليس اطلاق « كلوا » واردا لطهارة موضع عضه أو نجاسته ، فهو في الحقيقة من هذه الجهة يكون مجملا ليس في مقام البيان. واعتبار هذا الامر في صحة التمسك بالمطلقات مما لا شبهة فيه. ولا شبهة أيضا في عدم استفادة الاطلاق من الأدلة الواردة في بيان أصل تشريع الاحكام ، كقوله تعالى : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمثال ذلك ، فان ورود ذلك في مقام التشريع يكون قرينة على أن المتكلم ليس في مقام البيان ، كما أن الاطلاق التطفلي المسوق لبيان شيء آخر يكون كذلك ، أي يكون قرينة على أنه ليس المتكلم في مقام البيان.

واما فيما عدا هذين الموردين وفرض الكلام خاليا عن قرينة كون المتكلم ليس في مقام البيان ، فالأصل العقلائي يقتضى كون المتكلم في مقام البيان لو فرض الشك في ذلك. وعلى ذلك يبتنى جواز التعويل على المطلقات من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات ، فإنه لا طريق لنا إلى احراز كون المتكلم في مقام البيان الا من جهة الأصل العقلائي ، لمكان ان الظاهر من حال كل متكلم هو كونه في مقام بيان مراده ، وكونه في مقام الاهمال والاجمال يحتاج إلى احراز ذلك ، والا فطبع الكلام والمتكلم يقتضى ان يكون في مقام البيان ، وذلك واضح.

الثالث :

عدم ذكر القيد : من المتصل والمنفصل ، لأنه مع ذكر القيد لا يمكن ان يكون للكلام اطلاق ، وذلك أيضا واضح.

فإذا تمت هذه الأمور الثلاثة ، فلا محالة يستفاد من الكلام الاطلاق ، ولا يحتاج في استفادة الاطلاق إلى شيء آخر وراء هذه الأمور الثلاثة.

نعم : ذكر في الكفاية (١) أمرا رابعا ، وهو عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب. والمراد من وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، هو ثبوت القيد المتيقن بحسب دلالة اللفظ وظهوره ، لا بحسب الحكم وواقع الإرادة ، فان ثبوت المتيقن بحسب

__________________

١ ـ كفاية الأصول ، الجلد الأول ص ٣٨٤ « ثالثتها انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب. »

٥٧٤

واقع الإرادة مما لا يتوهم دخله في صحة التعويل على المطلقات ، وانما الذي يمكن دخله في ذلك هو عدم وجود المتيقن في مقام التخاطب ومرحلة دلالة اللفظ وظهوره.

والانصاف : ان وجود المتيقن في هذه المرحلة أيضا مما لا دخل له بالمقام ، الا إذا رجع إلى انصراف اللفظ إلى القدر المتيقن ، أو انصراف اللفظ عما عداه ، على اختلاف في كيفية الانصراف. واما مع عدم رجوعه إلى الانصراف فهو مما لا عبرة به ، كان هناك قدر متيقن في مقام التخاطب أو لم يكن ، فإنه على أي حال يصح التعويل على المطلق من غير فرق بين ان نقول : ان المراد من كون المتكلم في مقام البيان ، كونه في مقام بيان كل ما له دخل في متعلق حكمه وموضوعه النفس الأري ـ كما هو الحق والمختار ـ أو كونه في مقام بيان ما له دخل في ضرب القاعدة والقانون ، كما هو مسلكه ( قده ) من أن المطلقات انما وردت لضرب القاعدة والقانون لا لبيان المراد النفس الأمري ، فإنه على كل تقدير يكون وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا اثر له ، لأنه لو كان المراد النفس الأمري أو القانوني هو القدر المتيقن في مقام التخاطب لا خل ببيانه وما بينه ، وليس وجود المتيقن بيانا ولا يصلح للبيانية ، فان من أوضح مصاديق القدر المتيقن في مقام التخاطب هو ورود العام والمط في مورد خاص كقوله عليه‌السلام : (١) خلق الله الماء طهورا ـ في مورد السؤال عن ماء بئر بضاعة ، فان المورد هو المتيقن المراد من اللفظ المط مع أنه لا يخصص المط بالمورد ، لا قال به أحد ولا هو ( قده ) قال به.

فمن ذلك يظهر : ان وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مما لا اثر له ، ولا يصلح لهدم الاطلاق ، بل حاله حال وجود المتيقن في الحكم والمراد النفس الأمري الذي اعترف ( قده ) بأنه مما لا اثر له.

نعم : لو كان تأسيس مقدمات الحكمة لأجل خروج الكلام عن اللغوية وعدم بقاء المخاطب في حيرة بحيث لا يفهم من الكلام شيئا ، لكان لثبوت القدر المتيقن دخل في ذلك ، لان وجود المتيقن في البين يوجب خروج الكلام عن اللغوية وان المخاطب يفهم عن الكلام ذلك ، الا ان تأسيس مقدمات الحكمة ليس لأجل

__________________

١ ـ المستدرك ، الجلد ١ الباب ١٣ من أبواب الماء المطلق. الحديث ٤ ص ٢٨

٥٧٥

ذلك ، بل لأجل استخراج ما هو الموضوع النفسي الأمري ، أو لأجل استخراج ما اراده المتكلم من اللفظ بالإرادة الاستعمالية من باب ضرب القاعدة والقانون ، على ما اختاره ( قده ). وثبوت القدر المتيقن في مقام التخاطب لا دخل له في ذلك ، لأنه لايكون بيانا ولا يصلح للبيانية ، الا إذا رجع القدر المتيقن إلى حد الانصراف ، سواء كان من الانصراف إليه ، ليكون بمنزلة القيد المذكور في الكلام ويكون المتكلم كأنه بين القيد في اللفظ. أو كان من الانصراف عنه ، بحيث يكون اللفظ منصرفا عما عدى القدر المتيقن وان لم ينصرف إليه بخصوصه ، فيكون القدر المتيقن ح مما يصلح للبيانية وان لم يكن مقطوع البيانية كما في القسم الأول. ولكن مجرد وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يصلح لان يكون بيانا ولا لان يكون مما يصلح للبيانية ، والا لكان المورد أولى بذلك ، لأنه أوضح مصاديق القدر المتيقن ، مع أنه قد عرفت عدم الالتزام به.

فتحصل : ان الاطلاق يتوقف على أمرين لا ثالث لهما. الأول : كون المتكلم في مقام البيان. الثاني : عدم ذكر القيد متصلا كان أو منفصلا ، فان من ذلك يستكشف انا عدم دخل الخصوصية في متعلق حكمه النفس الأمري ، قضية تطابق عالم الثبوت لعالم الاثبات.

الامر الخامس :

بعد ما عرفت ان أسماء الأجناس موضوعة لللابشرط المقسمي ، ظهر لك : ان التقييد لا يوجب المجازية ، كما عليه المحققون من المتأخرين ، فان اللفظ لم يستعمل ح الا في معناه ، والخصوصية انما تستفاد من دال آخر.

نعم : المجازية انما تلزم بناء على مقالة المشهور : من كون الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي وان الاطلاق يستفاد من نفس اللفظ بحسب وضعه ، فالتقييد يوجب استعمال اللفظ في خلاف معناه ، لان التقييد يضاد الاطلاق من غير فرق بين التقييد المتصل أو المنفصل ، فان التقييد لا محالة يوجب انسلاخ اللفظ عن الخصوصية المأخوذة فيه التي هي الاطلاق وتساوى كل خصوصية ونقيضها ، ولا يمكن بقاء تلك الخصوصية مع التقييد متصلا كان أو منفصلا ، فالتقييد بناء على

٥٧٦

مسلك المشهور لامحة يوجب المجازية. كما أنه بناء على ما هو الحق : من وضع الألفاظ للابشرط المقسمي لا يوجب المجازية مط ، متصلا أو منفصلا. فالقول بالتفصيل بين المتصل والمنفصل ـ بعدم استلزام التقييد للمجازية في الأول واستلزامه في الثاني ـ مما لا وجه له على كل حال ، وذلك واضح ، الا ان الشأن في صحة اخذ الاطلاق مدلولا لفظيا.

إذا عرفت هذه الأمور

فاعلم : ان الكلام يقع ح في حمل المط على المقيد ، والبحث عن ذلك يقع من جهات :

الجهة الأولى :

انه إذا ورد مط ومقيد متنافيان ، فلا بد من الجمع بينهما بحمل الامر في المط على المقيد ، لا بحمل الامر في المقيد على الاستحباب وكونه أفضل الافراد ، ولا بكونه من قبيل الواجب في واجب مط ، من غير فرق بين كون ظهور الامر في المط في الاطلاق أقوى من ظهور الامر في المقيد في التقييد ، أو أضعف ، فإنه على كل حال لابد من حمل المطلق على المقيد من غير ملاحظة أقوى الظهورين. وذلك لان الامر في المقيد يكون بمنزلة القرينة على ما هو المراد من الامر في المط ، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون حاكما على الأصل الجاري في ذي القرينة.

اما كونه بمنزلة القرينة ، فلانه وان لم يتحصل لنا بعد ضابط كلي في المايز بين القرينة وذيها ، الا ان ملحقات الكلام : من الصفة ، والحال ، والتميز ، بل المفاعيل ، تكون غالبا بل دائما قرينة على أركان الكلام : من المبتدأ والخبر والفعل والفاعل.

نعم : في خصوص المفعول به مع الفعل قد يتردد الامر بينهما في أن أيا منهما قرينة والآخر ذو القرينة ، كما في قوله : لا تنقض اليقين بالشك ، فإنه كما يمكن ان يكون عموم اليقين ـ في تعلقه بما له من اقتضاء البقاء وعدمه ـ قرينة على ما أريد من النقض الذي لابد من تعلقه بما له اقتضاء البقاء ، كذلك يمكن العكس. ومن هنا وقع الكلام في اعتبار الاستصحاب عند الشك في المقتضى. وكذا في ( لا تضرب

٥٧٧

أحدا ) فإنه يمكن ان يكون عموم الأحد للاحياء والأموات قرينة على أن المراد من الضرب الأعم من المولم وغيره ، ويمكن العكس.

وبالجملة : لا يمكن دعوى الكلية في باب الفعل والفاعل والمفعول به ، بل قد يكون الفعل قرينة على الفعول به ، وقد يكون المفعول به قرينة على الفعل ، الا انه فيما عدى ذلك من المتممات وملحقات الكلام كلها تكون قرينة على ما أريد من أركان الكلام.

وإذا عرفت ذلك فنقول : ان الأصل الجاري في القرينة يكون حاكما على الأصل الجاري في ذيها من غير ملاحظة أقوى الظهورين ، كما هو الشأن في كل حاكم ومحكوم. ومن هنا كان ظهور ( يرمى ) في رمى النبل مقدما على ظهور ( أسد ) في الحيوان المفترس ، وان كان ظهور الأول بالاطلاق والثاني بالوضع والظهور المستند إلى الوضع أقوى من الظهور المستند إلى الاطلاق.

والسر في ذلك : هو ان أصالة الظهور في ( يرمى ) تكون حاكمة على أصالة الحقيقة في ( أسد ) ، لأن الشك في المراد من ( الأسد ) يكون مسببا عن الشك في المراد من ( يرمى ) ، وظهور ( يرمى ) في رمى النبل يكون رافعا لظهور ( الأسد ) في الحيوان المفترس. فلا يبقى للأسد ظهور في الحيوان المفترس حتى يدل بلازمه على أن المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، فان الدلالة على اللازم فرع الدلالة على الملزوم ، وظهور ( يرمى ) في رمى النبل يرفع دلالة الملزوم.

وبذلك يندفع ما ربما يقال : ان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، فكما ان أصالة الظهور في ( يرمى ) تقتضي ان يكون المراد من الأسد هو الرجل الشجاع ، كذلك أصالة الحقيقة في الأسد تقتضي ان يكون المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، لان لازم أصالة الحقيقة هو ذلك.

توضيح الدفع : هو ان ( يرمى ) بمدلوله الأولى يقتضى ان يكون المراد من الأسد هو الرجل الشجاع ، لان ( يرمى ) عبارة عن رامي النبل وذلك عبارة أخرى عن الرجل الشجاع. وهذا بخلاف أسد ، فإنه بمدلوله الأولى غير متعرض لحال ( يرمى ) وان المراد منه رمى التراب ، بل مدلول الأولى ليس الا الحيوان المفترس.

٥٧٨

نعم : لازم ذلك هو ان يكون المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، ودلالته على لازمه فرع دلالته على مدلوله وبقاء ظهوره فيه ، وظهور ( يرمى ) يكون مصادما لظهور ( أسد ) في الحيوان المفترس وهادما له ، فلا يبقى له ظهور في الحيوان المفترس حتى يدل على لازمه وذلك واضح.

وإذا عرفت ذلك ، ظهر لك : ان المقيد يكون بمنزلة القرينة بالنسبة إلى المطلق ، لان القيد لا يخلو : اما من أن يكون وصفا ، أو حالا ، أو غير ذلك من ملحقات الكلام ، وقد تقدم ان ملحقات الكلام كلها تكون قرينة ، وأصالة الظهور في المقيد تكون حاكمة على أصالة الظهور في المط حتى لو فرض ان ظهور المطلق في الاطلاق أقوى من ظهور المقيد في التقييد ، فلا يبقى للمط ظهور في الاطلاق حتى يحمل الامر في المقيد على الاستحباب ، أو واجب في واجب. هذا إذا كان القيد متصلا.

وأما إذا كان منفصلا ، كما لو قال : أعتق رقبة ، وقال أيضا : أعتق رقبة مؤمنة ، فتمييز ان المنفصل يكون قرينة أو معارضا ، هو ان يفرض متصلا وانه في كلام واحد ، فان ناقض صدر الكلام ذيله يكون معارضا ، وان لم يكن مناقضا يكون قرينة. ففي المثال لابد من فرض المؤمنة متصلة بقوله : ( أعتق رقبة ) الوارد أولا ، إذ الذي يوهم المعارضة هو قيد المؤمنة ، والا فالدليلان يشتركان في وجوب عتق الرقبة ، فالذي لابد من فرضه متصلا هو قيد المؤمنة ، ومعلوم : ان التقييد بالمؤمنة تكون قرينة على المراد من المطلق. فلا فرق بين المتصل والمنفصل سوى ان المتصل يوجب عدم انعقاد الظهور للمطلق ، وفي المنفصل ينعقد الظهور الا انه يهدم حجيته. ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح انشاء الله.

الجهة الثانية :

قد عرفت : ان مورد حمل المطلق على المقيد انما هو في صورة التنافي ، والتنافي لايكون الا بوحدة التكليف ، ووحدة التكليف تارة : يعلم بها من الخارج فهذا مما لا اشكال فيه. وأخرى : تستفاد وحدة التكليف من نفس الخطابين.

وتفصيل ذلك : هو انه اما ان يذكر السبب لكل من المطلق والمقيد ، واما

٥٧٩

ان لا يذكر السبب في كل منهما ، واما ان يذكر السبب في أحدهما دون الآخر. وصورة ذكر السبب في كل منهما ، اما ان يتحد السبب ، واما ان يختلف ، فهذه صور أربع لا خامس لها.

الصورة الأولى :

ما إذا ذكر السبب في كل منهما مع اختلافه ، كما إذا ورد : ان ظاهرت فاعتق رقبة ، وان أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة ، فهذا لا اشكال فيه في عدم حمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، وذلك واضح.

الصورة الثانية :

ما إذا اتحد السبب كما لو قال : ان ظاهرت فاعتق رقبة ، وان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وفي هذه الصورة أيضا لا اشكال في حمل المط على المقيد ، لأنه من نفس وحدة السبب يستفاد وحدة التكليف ، فيتحقق التنافي بينهما.

الصورة الثالثة :

ما إذا ذكر السبب في أحدهما دون الآخر ، كما لو قال : أعتق رقبة ـ بلا ذكر السبب ، وقال أيضا : ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، أو بالعكس ، بان ذكر السبب في المط دون المقيد ، وفي هذه الصورة يشكل حمل المط على المقيد ، لأنه لا يتحقق هنا اطلاقان ومقيدان : أحدهما في ناحية الواجب وهو عتق الرقبة مط وعتق الرقبة المؤمنة ، وثانيهما في ناحية الوجوب والتكليف وهو وجوب العتق غير مقيد بسبب ووجوب العتق مقيدا بسبب خاص من الظهار في المثال المذكور. وتقييد كل من الاطلاقين يتوقف على تقييد الاطلاق الاخر ، فيلزم الدور.

بيان ذلك : هو انه قد عرفت ان حمل المط على المقيد يتوقف على وحدة التكليف ، وفي المثال تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر يتوقف على وحدة المتعلق ، إذ عند اختلاف متعلق التكليف لا موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر ، كما لو ورد تكليف مطلق متعلق بشيء ، وورد تكليف مقيد متعلق بشيء آخر. ووحدة المتعلق في المقام يتوقف على حمل أحد التكليفين على الآخر ، إذ لو لم يحمل أحد التكليفين على الآخر ولم يقيد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار

٥٨٠