فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

الكتب للعمومات والاطلاقات ، وذلك معلوم لكل من راجع الكتب.

والثاني : هو ان أصالة العموم والاطلاق انما تجرى فيما إذا لم يكن دأب المتكلم والتعويل على المقيدات والمخصصات المنفصلة ، إذ لا مدرك للاخذ بأصالة العموم والاطلاق الا بناء العقلاء عليها في محاوراتهم ، وليس من بناء العقلاء عليها إذا كان العام المطلق في معرض التخصيص والتقييد ، بحيث كان المتكلم بالعام والمطلق يعتمد كثيرا على المنفصلات ولم يبين تمام مراده في كلام واحد ، فإنه لا تجرى ح مقدمات الحكمة في مصب العموم والاطلاق ، لان عمدة مقدمات الحكمة هي كون المتكلم في مقام بيان مراده. وهذه المقدمة لا تجرى بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، أي يعتمد على المنفصلات كثيرا.

ومن المعلوم لكل من راجع الاخبار ، ان الأئمة صلوات الله عليهم كثيرا ما يعتمدون في بيان المخصصات والمقيدات على المنفصلات ، فإنه كثيرا ما يكون العام واردا من امام عليه‌السلام والمخصص من امام آخر. والعام الذي يكون من شانه ذلك أي في معرض التخصيص لا تجرى فيه أصالة العموم ، وذلك أيضا واضح.

فتحصل : ان لوجوب الفحص في كل من الأصول العملية واللفظية مدركين يشتركان في أحدهما ، وهو العلم الاجمالي. ويفترقان في الآخر ، لان المدرك الآخر لوجوب الفحص في الأصول العملية هو استقلال العقل بلزوم حركة العبد على ما تقتضيه وظيفته بالبيان المتقدم. وفي الأصول اللفظية هو كون العام في معرض التخصيص والتقييد.

ثم ، انه ربما يشكل في جعل المدرك لوجوب الفحص العلم الاجمالي في كلا البابين ، وكون العام والمط في معرض التخصيص والتقييد في خصوص الأصول اللفظية. اما الاشكال على العلم الاجمالي ، فقد يقرر على وجه يختص بالأصول العملية ، وقد يقرر على وجه يشترك البابان فيه.

اما التقرير على الوجه الأول ، فحاصله : انه قد تقدم ان للعلم الاجمالي مدركين :

الأول : هو العلم بان في الشريعة أحكاما الزامية على خلاف الأصول

٥٤١

النافية.

الثاني : هو العلم بثبوت احكام الزامية فيما بأيدينا من الكتب. ودائرة العلم الاجمالي الأول أوسع من الثاني ، لان متعلقه أعم مما بأيدينا. والفحص عن الاحكام الالزامية فيما بأيدينا من الكتب يوجب انحلال العلم الثاني ، والعلم الاجمالي الأول الذي هو أوسع دائرة بعد باق على حاله لا ينحل بالفحص فيما بأيدينا من الكتب ، ولازم ذلك هو عدم جريان الأصول النافية مط حتى بعد الفحص. نظير ما إذا علم بان في هذه القطيعة من الغنم موطوء ، وعلم أيضا ان في البيض منها موطوء ، فتفحصنا عن البيض وعثرنا على مقدار من الموطوء فيها الذي تعلق علمنا به ، فان العلم الاجمالي بان في البيض موطوء وان انحل ، الا ان العلم الاجمالي بان في القطيعة الأعم من السود والبيض موطوء بعد على حاله ، ولا تخرج السود عن كونها طرف العلم ، ومقتضى ذلك هو الاحتياط في الجميع.

وهذا الاشكال ، كما ترى يختص بالأصول العملية ، ولا يجرى في الأصول اللفظية ، لان العلم الاجمالي في الأصول اللفظية لا مدرك له سوى ما بأيدينا من الكتب ، وليس هناك علمان يكون أحدهما أوسع عن الآخر ، بل العلم الاجمالي من أول الامر تعلق بان فيما بأيدينا من الكتب مقيدات ومخصصات للعمومات والمطلقات ، وبعد الفحص عما بأيدينا ينحل العلم الاجمالي قهرا. فهذا التقريب من الاشكال يختص بالأصول العملية الذي يكون للعلم الاجمال فيها مدركان ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال بأنه بعد الفحص عن الاحكام الالزامية فيما بأيدينا من الكتب والعثور على مقدار من الاحكام ينحل العلم الاجمالي الكبير أيضا ، غايته انه ليس انحلالا حقيقيا كانحلال العلم الاجمالي الصغير ، بل هو انحلال حكمي ، لان ما عثرنا عليه من الأدلة المتكفلة للأحكام الالزامية قابل الانطباق على ما علم اجمالا بان في الشريعة أحكاما الزامية ، إذ لا علم بان في الشريعة أحكاما أزيد مما تكفلته الأدلة التي عثرنا عليها على تقدير إصابة تلك الأدلة للواقع ، فالاحكام التي تضمنتها الأدلة قابلة الانطباق على ما علم اجمالا من الاحكام الثابتة في الشريعة. نظير ما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد الانائين ، ثم علم تفصيلا بنجاسة أحدهما المعين ،

٥٤٢

واحتمل ان تكون النجاسة في المعين هي تلك النجاسة المعلومة اجمالا في أحد الانائين ، فان العلم الاجمالي ح ينحل لاحتمال انطباق ما علم نجاسته تفصيلا على المعلوم بالاجمال ، غايته انه ليس انحلالا حقيقيا كما إذا علم بان النجاسة المعلومة بالتفصيل هي عين تلك النجاسة المعلومة بالاجمال فإنه يكون الانحلال ح حقيقيا ، بل الانحلال يكون حكميا.

ومما ذكرنا ظهر : ان العلم الاجمالي في المثال المتقدم في القطيع من الغنم أيضا ينحل ، وتخرج السود عن كونها طرفا للعلم الاجمالي ، ولا يجب فيها الاحتياط.

واما تقرير الاشكال على وجه يشترك فيه البابان ، فحاصله : ان العلم الاجمالي بوجود احكام الزامية وبورود مقيدات ومخصصات فيما بأيدينا من الكتب وان اقتضى عدم جريان الأصول اللفظية والعملية قبل الفحص ، الا انه بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن من الاحكام والمقيدات والمخصصات يوجب انحلال العلم ، كما هو الشأن في كل علم اجمالي ترددت أطرافه بين الأقل والأكثر ، فان بالعثور على المقدار المتيقن الذي هو الأقل ينحل العلم الاجمالي ، ويكون الأكثر شبهة بدوية يجرى فيه الأصل. كما لو علم أن في هذه القطيعة من الغنم موطوء ، وتردد بين ان يكون عشرة أو عشرين ، فإنه بالعثور على العشرة ينحل العلم الاجمالي لامحة. وفي المقام لا بد ان يكون مقدار متيقن للعلم الاجمالي بالأحكام الالزامية والمقيدات والمخصصات الواقعة في الكتب ، إذ لا يمكن ان لايكون له مقدار متيقن ، فإنه لو سئل عن مقدار معلومة الاجمالي فلا بد ان يصل إلى حد وعدد يكون الزايد عليه مشكوكا ويجيب بأنه لا علم لي بأزيد من ذلك ، ومقتضى ذلك هو انه لو عثر على ذلك المقدار المتيقن ينحل العلم الاجمالي ولا يجب الفحص في سائر الشبهات ، بل ينبغي ان تجرى فيها الأصول اللفظية والعملية بلا فحص ، مع أنهم لا يقولون بذلك ، ولا قال به أحد ، لايجابهم الفحص عند كل شبهة شبهة ، ولا يلتفتون إلى انحلال العلم الاجمالي ، فلا بد ان يكون المدرك لوجوب الفحص غير العلم الاجمالي ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال أيضا ، بان المعلوم بالاجمالي تارة : يكون مرسلا

٥٤٣

غير معلم بعلامة يشار إليه بتلك العلامة ، وأخرى : يكون معلما بعلامة يشار إليه بتلك العلامة ، وانحلال العلم الاجمالي بالعثور على المقدار المتيقن انما يكون في القسم الأول. واما القسم الثاني فلا ينحل بذلك ، بل حاله حال دوران الامر بين المتباينين. وضابط القسمين : هو ان العلم الاجمالي كليا انما يكون على سبيل المنفصلة المانعة الخلو المنحلة إلى قضيتين حمليتين.

وهاتان القضيتان تارة : تكونان من أول الامر إحديهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، بحيث يكون العلم الاجمالي قد نشأ من هاتين القضيتين ، ويكون العلم الاجمالي عبارة عن ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقنة ليس الا. كما إذا علم اجمالا بأنه مديون لزيد ، أو علم بان في هذه القطيعة موطوء ، وتردد الدين بين ان يكون خمسة دراهم أو عشرة ، أو تردد الموطوء بين ان يكون خمسة أو عشرة ، فان هذا العلم الاجمالي ليس الا عبارة عن قضية متيقنة : وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم أو ان في هذه القطيعة خمس شياه موطوئة ، وقضية مشكوكة : وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم زائدا على الخمسة المتيقنة ، أو ان في هذه القطيعة خمس شياه موطوئة زائدا على الخمسة المتيقنة ، ففي مثل هذا ، العلم الاجمالي ينحل قهرا بالعثور على المقدار المتيقن ، إذ لا علم حقيقة بسوى ذلك المقدار المتيقن ، والزايد عليه مشكوك من أول الامر ولم يتعلق العلم به أصلا ، ولا يصح جعله طرفا للعلم ، إذ لم يتعلق العلم به بوجه من الوجوه ، فلا معنى لجعله من أطراف العلم ، فالعلم الاجمالي في مثل هذا من أول الامر منحل ، وذلك واضح.

وأخرى : لا تكون القضيتان على هذا الوجه ، أي بان يكون من أول الامر إحداهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، بل تعلق العلم بالأطراف على وجه تكون جميع الأطراف مما تعلق العلم بها بوجه ، بحيث لو كان الأكثر هو الواجب لكان مما تعلق به العلم وتنجز بسببه ، وليس الأكثر مشكوكا من أول الامر بحيث لم يصبه العلم بوجه من الوجوه ، بل كان الأكثر على تقدير ثبوته في الواقع مما اصابه العلم. وذلك في كل ما يكون المعلوم بالاجمال معلما بعلامة كان قد تعلق العلم به بتلك العلامة ، فيكون كل ما اندرج تحت تلك العلامة وانطبقت عليه مما تعلق العلم به ،

٥٤٤

سواء في ذلك الأقل والأكثر. وح لو كان الأكثر هو الثابت في الواقع ، فقد تعلق العلم به لمكان تعلقه بعلامته. وذلك : كما إذا علمت انى مديون لزيد بما في الدفتر ، فان جميع ما في الدفتر من دين زيد قد تعلق العلم به ، سواء كان دين زيد خمسة أو عشرة ، فإنه لو كان دين زيد عشرة فقد اصابه العلم لمكان وجوده في الدفتر وتعلق العلم بجميع ما في الدفتر. وأين هذا مما إذا كان دين زيد من أول الامر مرددا بين الخمسة والعشرة؟ فان العشرة في مثل ذلك مما لم يتعلق بها العلم بوجه من الوجوه ، وكانت مشكوكة من أول الامر ، فلا موجب لتنجيزها على تقدير ثبوتها في الواقع.

بخلاف ما إذا تعلق العلم بها بوجه. ولو لمكان تعلق العلم بما هو من قبيل العلامة لها ، وهي بعنوان ( كونها في الدفتر ) فإنها قد تنجزت على تقدير وجودها في الدفتر. وفي مثل هذا ليس له الاقتصار على المقدار المتين ، إذ لا مؤمن له على تقدير ثبوت الأكثر في الواقع بعد ما ناله العلم واصابه. فحال العلم الاجمالي في مثل هذا الأقل والأكثر حال العلم الاجمالي في المتباينين في وجوب الفحص والاحتياط.

وان شئت قلت : كان لنا هنا علمان : علم اجمالي باني مديون لزيد بجميع ما في الدفتر ، وعلم اجمالي آخر بان دين زيد عشرة أو خمسة ، والعلم الثاني غير مقتضى للاحتياط بالنسبة إلى العشرة ، والعلم الاجمالي الأول مقتض للاحتياط بالنسبة إليها ، لتعلق العلم بها على تقدير ثبوتها في الواقع ، واللا مقتضى لا يمكن ان يزاحم المقتضى. ونظير ذلك ما إذا علم بان في البيض من هذه القطيعة موطوء ، فإنه كل ابيض موطوء في هذه القطيعة فقد تعلق العلم به وأوجب تنجزه ، فلو عثر على مقدار متيقن من البيض موطوء ليس له اجراء أصالة الحل بالنسبة إلى الزايد ، لأنه لا مؤمن له على تقدير وجود موطوء آخر في البيض.

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : ما نحن فيه يكون من العلم الاجمالي المعلم المقتضى للفحص التام الغير المنحل بالعثور على المقدار المتيقن ، لان العلم قد تعلق بان في الكتب التي بأيدينا مقيدات ومخصصات واحكاما الزامية ، فيكون نظير تعلق العلم باني مديون لزيد بما في الدفتر ، فيكون كل مقيد ومخصص وحكم الزامي ثابت فيما بأيدينا من الكتب قد اصابه العلم وتعلق به ، وقد عرفت ان مثل هذا

٥٤٥

العلم الاجمالي لا ينحل بالعثور على المقدار المتيقن ، بل لا بد فيه من الفحص التام في جميع ما بأيدينا من الكتب. فتأمل فيما ذكرناه من قسمي العلم الاجمالي فإنه لا يخلو عن دقة.

هذا حاصل الاشكال والجواب في جعل المدرك لوجوب الفحص العلم الاجمالي.

واما لو جعل المدرك لوجوب الفحص كون دأب المتكلم وديدنه التعويل على المنفصلات ، فقد يستشكل أيضا بما حاصله : ان الفحص لا اثر له حينئذ ، إذ الفحص عن المقيدات والمخصصات فيما بأيدينا من الكتب لا يغير العمومات والمطلقات عن كونها في معرض التخصيص وعن كون دأب المتكلم التعويل على المنفصلات ، إذ الفحص لا دخل له في ذلك ولا يوجب قوة أصالة الظهور والعموم التي ضعفت وسقطت بدأب المتكلم وخروجه عن طريق المحاورات العرفية من بيان تمام مراده في كلام واحد ، إذ كل عام يحتمل ان يكون قد عول فيه على المخصص المنفصل ولم يكن ذلك المخصص في الكتب التي بأيدينا ولا دافع لهذا الاحتمال ، هذا.

ولكن يمكن الذب عن الاشكال أيضا ، بان كون شأن المتكلم ذلك يوجب عدم الاطمينان والوثوق بان واقع مراده هو ظاهر العام والمط ، فلو تعلق غرض باستخراج واقع مراد المتكلم لما أمكن بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، كما يتضح ذلك بالقياس على المحاورات العرفية فإنه لو فرض ان أحد التجار كتب إلى طرفه يخبره بسعر الأجناس في بلد وكان الكاتب ممن يعتمد على القرائن في بيان مراده ، فان هذا الكتاب لو وقع بيد ثالث لا يمكنه العمل على ما تضمنه ، لأنه لا يمكن الحكم بان واقع مراد الكاتب هو ما تضمنه ظاهر الكتاب ، مع أن هذا الثالث ليس له غرض سوى استخراج واقع مراد الكاتب.

وأما إذا لم يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم ، بل كان الغرض هو الالزام والالتزام بكلام المتكلم وجعله حجة قاطعة للعذر في مقام المحاجة والمخاصمة ، فلا بد من الاخذ بما هو ظاهر كلامه ، وكون شأن المتكلم التعويل على

٥٤٦

المنفصل لا يوجب أزيد من الفحص.

والسر في ذلك : هو ان طريق الاخذ والالتزام والمحاجة انما هو بيد العقل والعقلاء ، وبناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك ، كما أن العقل يحكم بذلك أيضا. وعليك بمقايسة الأحكام الشرعية على الاحكام العرفية الصادرة من الموالى العرفية الملقاة إلى عبيدهم ، فإنه لا يكاد يشك في الزام العبد بالأخذ بظاهر كلام المولى بعد الفحص عما يخالف الظاهر واليأس عن الظفر إذ كان شان المولى التعويل على المنفصل ، وليس للعبد ترك الاخذ بالظاهر والاعتذار باحتمال عدم إرادة المولى ظاهر كلامه ، كما أنه ليس للمولى الزام العبد وتأديبه عند اخذه بالظاهر إذا لم يكن الظاهر مراده وعول على المنفصل.

والحاصل : ان كون المتكلم من دأبه التعويل على المنفصلات انما يوجب عند العقلا عدم الاخذ بالظاهر قبل الفحص عن مظان وجود المنفصل ، واما بعد الفحص فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظاهر ويكون ظاهر كلام المتكلم حجة على العبد ، ولكل من المولى والعبد الزام الآخر بذلك الظاهر.

نعم لو قلنا : بان اعتبار الظهور من باب إفادته الظن والاطمينان الشخصي بالمراد ، لكان الاشكال المذكور في محله ، إذ الفحص لا يوجب حصول الظن بالمراد بالنسبة إلى المتكلم الذي شأنه التعويل على المنفصل ، الا ان اعتبار الظهور من ذلك الباب فاسد ، بل اعتبار الظهور من باب بناء العقلاء على الاخذ ولو لمكان كشفه نوعا عن المراد ، لا من باب التعبد المحض ، وقد عرفت ان بناء العقلاء ليس أزيد من الفحص بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، فتأمل جيدا.

هذا كله في أصل وجوب الفحص ، واما مقداره : فهو وان اختلف فيه ، بين من يكتفى بالظن ، وبين من يعتبر العلم واليقين بعدم وجود مقيد ومخصص فيما بأيدينا من الكتب ، وبين من يعتبر الاطمينان وسكون النفس بعدم وجود ذلك ، الا ان الأقوى هو الأخير ، وهو اعتبار الاطمينان ، لان الاكتفاء بالظن مما لا وجه له بعد عدم قيام الدليل على اعتباره ، والاقتصار على حصول العلم واليقين يوجب الحرج وسد باب الاستنباط ، فان الاخبار وان بوبها الأصحاب ( جزاهم الله عن

٥٤٧

الاسلام وأهله خير الجزاء ) وأوردوا كل خبر في بابه ، الا انه مع ذلك قد قطعوا الاخبار وأوردوا صدر الخبر في باب وذيله في باب آخر ، كما صنع صاحب الوسائل ، وذلك أوجب الاختلال ، إذ ربما يكون ذيل الخبر قرينة على المراد من صدره ، فلو اعتبرنا العلم واليقين للزم الضيق والعسر الشديد في الاستنباط ، مع أن الاطمينان هو طريق عقلائي يعتمد عليه العقلاء كما يعتمدون على العلم الوجداني ، ويكتفون بالاطمينان في كل ما يعتبر فيه الاحراز. فالأقوى : كفاية الاطمينان.

المبحث الرابع : في الخطابات الشفاهية.

وقد وقع النزاع في أن الخطابات المصدرة بأداة الخطاب ـ كياء النداء ، وكاف الخطاب ، وأمثال ذلك مما يختص بالمشافهة ـ هل تختص بالمشافهين الحاضرين في مجلس التخاطب؟ فلا تعم الغائبين فضلا عن المعدومين ، أو لا تختص بذلك؟ بل تعم المعدومين فضلا عن الغائبين.

ومحل الكلام ، هو خصوص الألفاظ المصدرة بأداة الخطاب كما عرفت. ولا كلام فيما عدى ذلك : من أسماء الأجناس ، كقوله تعالى : لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ـ وكقوله تعالى : المؤمنون اخوة. وغير ذلك مما اخذ اسم الجنس فيه موضوعا للحكم ، فإنه لا اشكال في عموم اللفظ للحاضر والغائب والمعدوم.

ثم إن جهة البحث عن عموم الخطابات الشفاهية وعدمه ، يمكن ان تكون عقلية ويكون مرجع هذا النزاع إلى امكان مخاطبة الغائب والمعدوم وعدم امكانه عقلا ، ويمكن ان يكون لفظيا لغويا ويكون مرجع هذا النزاع ح إلى أن أداة الخطاب هل هي موضوعة لخصوص التخاطب بها مع الحاضر المشافه؟ أو انها موضوعة للأعم من ذلك ومن الغائب والمعدوم؟ ويمكن ان يكون النزاع في كلتا الجهتين عقليا ولغويا.

ثم إن ثمرة النزاع تظهر في حجية ظهور خطابات الشفاهية وصحة التمسك بها بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين في زمن الخطاب. فان قلنا : باختصاصها بالمشافهين لا يصح التمسك بها في حق الغائبين والمعدومين ، لعدم كونهم مخاطبين بما

٥٤٨

تضمنته تلك الخطابات. وتسرية ما تضمنته تلك الخطابات من الاحكام إلى الغائبين والمعدومين انما يكون بقاعدة الاشتراك في التكليف ، الذي انعقد عليه الاجماع والضرورة. وقاعدة الاشتراك في التكليف مختصة بما إذا اتحد الصنف ، ولا تجرى في مورد اختلاف الصنف ، بان كان الحاضرون في مجلس التخاطب واجدين لخصوصية يحتمل دخلها في موضوع الحكم ولو كانت تلك الخصوصية نفس حضورهم في مجلس التخاطب ، أو وجودهم في بلد الخطاب ، أو وجودهم في عصر الحضور ونزول الخطاب ، فإنه لو احتمل دخل شيء من تلك الخصوصيات لما كان ح مجال للتمسك بقاعدة الاشتراك ، لما عرفت : من اختصاصها بصورة اتحاد الصنف. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بعموم الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين ، فانا لا نحتاج إلى قاعدة الاشتراك ، بل نفس عموم الخطاب يقتضى تكليف الغائب والمعدوم بما تضمنته تلك الخطابات من الاحكام ولو مع اختلاف الصنف ، وذلك واضح ، هذا.

وعن بعض الاعلام انكار هذه الثمرة ، ودعوى : ان ذلك مبنى على مقالة من يقول بحجية الظواهر بالنسبة إلى خصوص من قصد افهامه بالكلام ، دون من لم يقصد افهامه ، كما هو مقالة (١) المحقق القمي ( قده ) ، إذ لو قلنا : بحجية الظواهر مط ولو في حق من لم يقصد افهامه فظواهر الخطابات الشفاهية تكون ح حجة ولو قلنا باختصاصها بالمشافهين ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان الثمرة لا تبتنى على مقالة المحقق القمي (ره) ، فان الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة على المشافهين ولا تعم غيرهم فلا معنى للرجوع إليها وحجيتها في حق الغير ، سواء قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل ، فلا ابتناء للثمرة على ذلك أصلا.

وقد ذكر المحقق الخراساني (٢) ( قده ) للنزاع ثمرتين ، وجعل إحدى الثمرتين

__________________

١ ـ مقالة المحقق القمي. قوانين الأصول ، قانون ٧ من الباب الثالث ( مبحث العموم والخصوص ) ص ١٣١ ص

٢ ـ كفاية الأصول الجلد الأول ص ٣٥٩ فصل : ربما قيل إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين

٥٤٩

مبتنية على مقالة المحقق القمي (ره) ولم يجعل الأخرى مبتنية على ذلك. مع أنه لم يظهر لنا الفرق بين الثمرتين بل مرجعهما إلى امر واحد ، وانما التفاوت في التعبير فقط ، فراجع وتأمل لعلك تجد فرقا بين الثمرتين. وعلى كل حال قد ظهر : ان ثمرة النزاع في المقام جلية ولا تبتنى على مقالة المحقق القمي ( قده ).

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان الكلام في اختصاص الخطابات الشفاهية بالحاضرين وعمومها لغيرهم تارة : يقع في القضايا الخارجية ، وأخرى : يقع في القضايا الحقيقية.

اما في القضايا الخارجية ـ فاختصاص الخطاب بالحاضر المشافه مما لا سبيل إلى انكاره ، لوضوح انه لا يمكن توجيه الكلام ومخاطبة الغائب الغير المتلفت إلى الخطاب ، فضلا عن المعدوم ، الا بتنزيل الغائب والمعدوم منزلة الحاضر ، كما قد ينزل غير ذوي العقول منزلة ذوي العقول فيخاطب ، كما في قول الشاعر :

الا يا ليل طلت على حتى

كأنك قد خلقت بلا صباح

وبالجملة : مخاطبة الغائب والمعدوم بلا تنزيل مما لا يمكن.

واما في القضايا الحقيقية : فحيث انها متكفلة لفرض وجود الموضوع وكان الخطاب خطابا لما فرض وجوده من افراد الطبيعة في موطنه ، كانت الافراد متساوية الاقدام في اندراجها تحت الخطاب ، فيستوى في ذلك الافراد الموجودة في زمن الخطاب الحاضرون في مجلس التخاطب أو المعدومون الغير الحاضرين ، لان في الجميع لوحظت الافراد على نحو فرض الوجود ووجه الخطاب على ذلك الفرض.

وبعبارة أخرى : التنزيل الذي كان مما لا بد منه في القضية الخارجية أعني تنزيل المعدوم منزلة الموجود في صحة الخطاب ، يكون في القضية الحقيقية مما تضمنته نفس القضية ، وكانت القضية بنفسها دالة على ذلك التنزيل ، لان شأن

__________________

ثمرتان : الأولى : حجية ظهور خطابات الكتاب للمشافهين .. » وهذه هي الثمرة التي جعلها مبتنية على مقالة المحقق القمي بقوله « وفيه انه مبنى على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم .. »

٥٥٠

القضية الحقيقية فرض وجود الموضوع ، فالخطاب في القضية الحقيقية يعم الغائب والمعدوم بلا عناية.

ودعوى : ان أداة الخطاب موضوعة لخصوص ما يكون موجودا بالفعل في مجلس صدور الخطاب ، مما لا شاهد عليها ، لأنه إذا أمكن في عالم الثبوت توجيه الخطاب إلى ما سيوجد بعد ذلك على نهج القضية الحقيقية ، فعالم الاثبات يكون على طبق عالم الثبوت ، ولا موجب لدعوى وضع الأداة لخصوص الافراد الفعلية الحاضرين في مجلس التخاطب. وكان منشأ توهم اختصاص الخطابات الشفاهية بالحاضرين هو تخيل كون القضايا الشرعية من القضايا الخارجية وان ما ورد في الكتاب والسنة من الخطابات انما تكون اخبارات عن أن الاحكام تنشأ بعد ذلك عند وجود الافراد ، فيكون لكل فرد خطاب يخصه عند وجوده. وقد تقدم منا فساد ذلك ، وان القضايا الشرعية كلها ( الا ما شذ ) تكون على نهج القضايا الحقيقية ، وح الخطابات تعم المعدومين أيضا.

المبحث الخامس :

لو تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده ، فهل ذلك يوجب تخصيص العام بخصوص ما أريد من الضمير؟ أو انه لا يوجب ذلك؟ مثاله قوله تعالى : (١) « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يكتمن ما في أرحامهن » إلى قوله تعالى : « وبعولتهن أحق بردهن » فان ضمير « وبعولتهن » يرجع إلى خصوص الرجعيات ، بقرينة قوله تعالى : « أحق بردهن » والمطلقات في صدر الآية عام للرجعيات وغيرها ، لأنه من الجمع المحلى باللام. فيقع البحث حينئذ في أن رجوع الضمير إلى خصوص الرجعيات موجب لتخصيص المطلقات وان المراد منه خصوص الرجعيات فتكون الأحكام المذكورة في الآية السابقة على قوله تعالى : « وبعولتهن » مختصة بالرجعيات ، أو انه لا يوجب ذلك ، بل المراد من المطلقات الأعم ، والاحكام السابقة تكون لمطلق المطلقات.

__________________

١ ـ البقرة : ٢٢٨

٥٥١

فقد يقال : ان أصالة العموم معارضة بأصالة عدم الاستخدام ، فان لازم إرادة العموم من المطلقات هو الاستخدام في ناحية الضمير ، لرجوعه حينئذ إلى غير ما هو المراد من المرجع ، بل إلى بعض افراد المرجع ، كما أن لازم عدم الاستخدام هو تخصيص العام وان المراد منه خصوص الرجعيات. وكما أن أصالة العموم تقتضي الاستخدام كذلك أصالة عدم الاستخدام أيضا أصل عقلائي في باب المحاورات يقتضى تخصيص العام ، فيتعارض الأصلان من الطرفين ، وحينئذ لا طريق إلى اثبات تعلق الاحكام السابقة على قوله : « وبعولتهن » الخ بمطلق المطلقات ، إذ الطريق منحصر بأصالة العموم الساقطة بالمعارضة ، هذا.

ولكن الشأن في جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يعارض أصالة العموم. الأقوى : عدم جريان أصالة عدم الاستخدام.

اما أولا : فلابتناء الاستخدام في المقام على مجازية العام المخصص ، واما بناء على الحقيقة ، فلا يلزم استخدام أصلا ، حتى تجرى أصالة عدم الاستخدام. وذلك : لان رجوع الضمير إلى المطلقات الرجعية لا يوجب المغايرة بين ما يراد من المرجع وما يراد من الضمير ، وما لم يوجب المغايرة لا يتحقق في الكلام استخدام. وحصول المغايرة بين المرجع والضمير لا بد ان تكون بأحد الوجوه الموجبة للمغايرة ، كما إذا كان المراد من المرجع بعض معاني المشترك وكان المراد من الضمير بعضا آخر ، أو يكون المراد من المرجع المعنى الحقيقي للفظ والمراد من الضمير المعنى المجازى ، أو غير ذلك من أسباب المغايرة. وفي المقام بناء على كون العام المخصص حقيقة في الباقي لا يتحقق شيء من أسباب المغايرة ، فإنه لا مغايرة بين معنى المطلقات المذكورة في صدر الآية ، وبين المطلقات الرجعيات التي يرجع الضمير إليها بعد ما كان استعمال المطلقات في الرجعيات لا يوجب المجازية ، إذ المطلقات موضوعة للطبيعة وكان العموم والشمول في مصب العموم مستفادا من دليل الحكمة على ما تقدم تفصيله ، والمعنى الموضوع له للفظ المطلقات محفوظ في المطلقات الرجعيات ، وليس المطلقات الرجعيات معنى مجازيا لمعنى مطلق المطلقات ، ولا ان المطلقات من المشتركات اللفظية حتى يكون المطلقات الرجعيات أحد المعاني ، فأين المغايرة بين

٥٥٢

المرجع والضمير حتى يتحقق الاستخدام؟ فتأمل.

واما ثانيا : فلان استفادة الرجعيات في قوله تعالى : « وبعولتهن أحق بردهن » ليس من نفس الضمير ، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل وهو قوله تعالى : « أحق بردهن » حيث إنه معلوم من الخارج ان ما هو الأحق بالرد هو خصوص الرجعيات ، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيات ، بل رجع إلى نفس المطلقات وكان استفادة الرجعيات من عقد الحمل ، فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، فأين الاستخدام المتوهم؟.

والحاصل : ان الاستخدام انما يتوهم ثبوته في المقام لو كان المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات. واما لو كان المراد من الضمير هو المطلقات ، وكان استفادة الرجعيات من عقد الحمل من باب تعدد الدال والمدلول فلا يلزم استخدام أصلا ، فتأمل.

واما ثالثا : فلان الأصول العقلائية انما تجرى عند الشك في المراد ، وفي المقام لا شك في المراد من الضمير وان المراد منه المطلقات الرجعيات ، وبعد العلم بما أريد من الضمير لا تجرى أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العام.

فان قلت :

ان عدم الاستخدام يقتضى أمرين : ( الأول ) ان المراد من الضمير هو المطلقات الرجعيات ( الثاني ) ان المراد من العام هو المعنى الخاص ليتطابق المرجع والضمير. وأصالة عدم الاستخدام وان كانت لا تجرى في الامر الأول لعدم الشك في المراد من الضمير ، الا انها تجرى لاثبات الامر الثاني ، لان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، وحيث كان لازم عدم الاستخدام هو كون المراد من العام هو الخاص ، فأصالة عدم الاستخدام تجرى لاثبات هذا اللازم.

قلت :

إرادة الخاص من العام لازم عدم الاستخدام ، فلا بد أولا من اثبات عدم الاستخدام بوجه ولو بالأصل ، ليترتب عليه لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام ،

٥٥٣

وبعد عدم جريان أصالة عدم الاستخدام لاثبات أصل الاستخدام الذي هو مؤدى الأصل ، للعلم بالمراد من الضمير ، كيف يمكن اثبات لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام؟ وأي ربط لهذا بكون مثبتات الأصول اللفظية حجة؟ فان معنى كون مثبتات الأصول حجة هو انه لو ثبت الملزوم ثبت اللازم ، والكلام في المقام في أصل ثبوت الملزوم ، وذلك واضح.

فتحصل : ان أصالة عدم الاستخدام لا تجرى حتى تعارض أصالة العموم ، بل الأصل في طرف العموم يجرى بلا معارض.

ودعوى : ان المقام يكون من باب احتفاف الكلام بما يصح للقرينية ـ لان رجوع الضمير إلى بعض افراد المطلقات يصلح ان يكون قرينة على أن المراد من العام هو الخاص ، فيكون الكلام مجملا لا يجرى فيه أصالة العموم ـ ضعيفة ، فان ضابط احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية هو ان يكون ذلك الصالح مجملا ، اما بحسب مفهومه الافرادي ، واما بحسب مفهومه التركيبي ، أي يوجب اجمال جملة الكلام وان كان مفهومه الافرادي مبينا.

وبعبارة أوضح : كان ( الصالح ) مما يصح ان يعتمد عليه المتكلم في مقام بيان مراده ولم يخرج بذلك عن طريق المحاورة ، والضمير المتعقب للعام الراجع إلى بعض افراده لايكون كذلك ، لأنه معلوم المراد ، ولا يوجب اجمال العام ، فتأمل ، فان ذلك لا يخلو عن اشكال.

المبحث السادس :

في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة.

كقوله تعالى : (١) « والذين يرمون المحصنات ولم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوا كل واحد منهم مأة جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا ». وقد اختلفوا في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة ، أو الجميع ،

__________________

١ ـ النور : ٤

٥٥٤

أو التوقف ، إلى أقوال. والتحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدمة مشتملة على الموضوع والمحمول ، وبين ما إذا حذف فيها الموضوع. ففي الأول يرجع إلى خصوص الأخيرة. وفي الثاني يرجع إلى الجميع. مثال الأول : ما إذا قال أكرم العلماء وأضف الشعراء واهن الفساق الا النحوي ، أو قال أكرم العلماء وأكرم الشعراء وأكرم السادات الا النحوي. ومثال الثاني : ما إذا قال أكرم العلماء والشعراء والسادات الا النحوي.

المبحث السابع :

في تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف.

ونعني بالمفهوم الموافق : هو ما إذا وافق المفهوم المنطوق في الكيف من الايجاب والسلب ، كقوله تعالى : « ولا تقل لهما أف ». وكقولك : أكرم خدام العلماء. حيث إن الأول يدل على حرمة الضرب والايذاء الذي يكون أشد من قول « أف ». والثاني ، يدل على وجوب اكرام العلماء. ودلالتهما على ذلك انما تكون بمقدمة عقلية قطعية ، وهي أولوية حرمة الضرب من حرمة قول « أف » ، وأولوية اكرام العلماء من اكرام خدامهم. بل يمكن ان يكون ذكر « أف » في الآية المباركة من باب ذكر الخاص للتنبيه على العام وذكر الفرد الخفي للتنبيه على الفرد الجلي فتكون دلالة الآية على حرمة الايذاء الشديد من المداليل الالتزامية اللفظية ، لا من المداليل الالتزامية العقلية. نعم في مثل أكرم خدام العلماء تكون الدلالة عقلية ، لمكان الأولوية القطعية.

والحاصل : ان المفهوم الموافق يختلف بحسب الموارد. فتارة : يكون استفادة المفهوم من باب المقدمة العقلية القطعية. وأخرى : يكون من باب دلالة نفس اللفظ ، وذلك في كل مورد يكون ذلك المنطوق للتنبيه به على العام.

ثم إن هنا قسما آخر لم يصطلحوا عليه بالمفهوم ، وهو ما إذا استفيد حكم غير المذكور من علة المذكور ، كقوله ( الخمر حرام لأنه مسكر ) حيث يستفاد منه حكم النبيذ المسكر ، وهذا هو المعبر عنه بمنصوص العلة. فيكون المفهوم الموافق مخصوصا بما إذا كان ثبوت الحكم لغير المذكور أولى من ثبوته للمذكور ، أو كان مساويا لا من

٥٥٥

جهة العلة المنصوصة المعبر عنه بلحن الخطاب. ومنصوص العلة هو ما إذا كان مساويا ، والامر في ذلك سهل إذ يرجع ذلك إلى الاصطلاح. والمقصود في المقام : هو بيان صورة تعارض العام مع المفهوم الموافق والمساوي الذي هو مورد منصوص العلة ، وتعارض العام مع المفهوم المخالف.

فنقول : اما تعارض العام مع المفهوم الموافق ، فقد نقل الاتفاق على تقديم المفهوم على العام وتخصيصه به ، ولو كانت النسبة بين المفهوم والعام العموم من وجه ، من دون لحاظ النسبة بين المنطوق والعام ، هذا.

ولكن التحقيق ، هو ان يقال : انه في المفهوم الموافق لا يمكن ان يكون المفهوم معارضا للعام من دون معارضة منطوقه ، لأنا فرضنا ان المفهوم موافق للمنطوق وان المنطوق سيق لأجل الدلالة به على المفهوم ، ومع هذا كيف يعقل ان يكون المنطوق أجنبيا عن العام وغير معارض له؟ مع كون المفهوم معارضا له. فالتعارض في المفهوم الموافق انما يقع ابتداء بين المنطوق والعام ، ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعام. ففي مثل قوله : أكرم خدام العلماء ، ولا تكرم الفساق ، يكون التعارض بين نفس وجوب اكرام خدام العلماء وبين حرمة اكرام الفاسق بالعموم من وجه ، ويتبعه التعارض بين المفهوم وهو وجوب اكرام نفس العلماء وبين العام وهو حرمة اكرام الفساق. وكذا في مثل قوله تعالى : « لا تقل لهما أف » مع قوله : اضرب كل أحد ، فان قوله : اضرب كل أحد يدل بالأولوية على جواز قول « أف » لكل أحد ، فيعارض هذا العام بما له من المفهوم مع قوله « لا تقل لهما أف » ويتبعه المعارضة لمفهوم قوله : « لا تقل لهما أف » وهو حرمة ضرب الأبوين ، بالعموم المطلق.

وبالجملة : كلما فرض التعارض بين المفهوم الموافق والعام ، فلامحة يكون التعارض بين المنطوق والعام ، ولا بد أولا من علاج التعارض بين المنطوق والعام ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام. إذا عرفت ذلك ، فنقول : ان التعارض بين المنطوق والعام تارة : يكون بالعموم المطلق مع كون المنطوق أخص ، وأخرى : يكون بالعموم من وجه. وما كان

٥٥٦

بالعموم المط فتارة : يكون المفهوم أيضا أخص مط من العام ، وأخرى : يكون أعم من وجه. ولا منافاة بين كون المنطوق أخص مط من العام وكون المفهوم أعم من وجه ، كما في مثل قوله : أكرم فساق خدام العلماء ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، فان النسبة بينهما يكون بالعموم المط ، مع أن بين مفهوم قوله : أكرم فساق خدام العلماء ( وهو اكرام فساق نفس العلماء الملازم لاكرام نفس العدول من العلماء بالألوية القطعية ) وبين العام ( وهو قوله : لا تكرم الفاسق ) يكون العموم من وجه ، إذ المفهوم حينئذ يكون اكرام مط العالم عادلا كان أو فاسقا.

فان كان بين المنطوق والعام العموم المط فلا اشكال في تقديم المنطوق على العام أو تخصيصه به على قواعد العموم والخصوص ، ويلزمه تقديم المفهوم الموافق على العام مطلقا سواء كان بين المفهوم والعام العموم المط أو العموم من وجه. أما إذا كان العموم المط ، فواضح. وأما إذا كان العموم من وجه ، فانا قد فرضنا ان المفهوم أولى في ثبوت الحكم له من المنطوق وأجلى منه ، وان المنطوق سيق لأجل إفادة حكم المفهوم ، فلا يمكن ان يكون المنطوق مقدما على العام المعارض له مع أنه الفرد الخفي والمفهوم لا يقدم عليه مع أنه الفرد الجلي.

والحاصل : ان المفهوم الموافق يتبع المنطوق في التقدم على العام عند المعارضة ولا يلاحظ النسبة بين المفهوم والعام ، بل تلاحظ النسبة بين المنطوق والعام ، فلو قدم المنطوق على العام لأخصيته فلامحة يقدم المفهوم عليه مط ، لوضوح انه لا يمكن اكرام خادم العالم الفاسق وعدم اكرام العالم الفاسق في المثال المتقدم ، وذلك واضح. وبذلك يظهر الخلل فيما أفيد في المقام ، فراجع. هذا كله في المفهوم الموافق.

واما المفهوم المخالف : فقد وقع الخلط فيه أيضا في جملة من الكلمات ، حتى أن الشيخ (١) ( قده ) توقف في تقديم المفهوم على العام أو العام عليه في آية النباء ،

__________________

١ ـ فالمحكى عن الشيخ قدس‌سره في التقريرات :

« واما مفهوم المخالفة فعلى تقدير القول بثبوته في قبال العام وعدم التصرف في ظاهر الجملة الشرطية والاخذ بظهورها ، لا اشكال في تخصيص العام به كما عرفت وانما الاشكال في أن الجملة الشرطية أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاء بينهما أو العام

٥٥٧

حيث أفاد ان مفهوم قوله تعالى : « ان جائكم فاسق بنبأ » الخ معارض بعموم التعليل ، وهو قوله تعالى : « لئلا تصيبوا قوما بجهالة » لان المفهوم يدل على حجية قول العادل الذي لا يفيد العلم ، وعموم التعليل يدل على عدم اعتبار قول من لم يفد العلم ، لأنه من إصابة القول بجهالة ، سواء كان ذلك قول العادل أو لم يكن. والنسبة بين المفهوم والتعليل العموم المطلق ، لان المفهوم لا يعم الخبر المفيد للعلم

__________________

أظهر في إرادة الافراد منه ، فمرجع الكلام إلى تعارض الظاهرين ، ربما يقال ان العام أظهر دلالة في شموله لمحل المعارضة كما قلنا بذلك في معارضة منطوق التعليل في آية النبأ مع المفهوم على تقدير القول به بالنسبة إلى خبر العدل الظني ، فان قضية عموم التعليل عدم الاعتماد على الخبر الظني ، ومقتضى المفهوم ثبوته ، وعموم التعليل أظهر ولا سيما إذا كان العام متصلا بالجملة الشرطية. وربما يقال بتقديم الظهور في الجملة الشرطية كما قلنا في تعارض المفهوم مع العمومات الناهية عن العمل بغير العلم.

وبالجملة : فالانصاف ان ذلك تبع الموارد ، ولم نقف على ضابطة نوعية يعتمد عليها في الأغلب كما اعترف بذلك سلطان المحققين. » ( مطارح الأنظار ، مباحث العام والخاص. ص ٢٠٨ ).

وذكر قدس‌سره في الفرائد :

« الثاني ( مما أورد على دلالة الآية بما ليس قابلا للذب عنه ) ما أورده في محكى العدة والذريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها ، من انا لو سلمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن نقول : ان مقتضى عموم التعليل وجوب التبين في كل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وان كان المخبر عادلا ، فيعارض المفهوم والترجيح مع ظهور التعليل. » ثم ذكر بعد سطور في جواب لا يقال ، بقوله :

« .. لأنا نقول ، ما ذكره أخيرا من أن المفهوم أخص مطلقا من عموم التعليل مسلم الا انا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر الواحد الغير العلمي وظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في ثبوت المفهوم ، فطرح المفهوم والحكم بخلو الجملة الشرطية عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل ، واليه أشار في محكى العدة بقوله : لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل والتعليل دليل ، وليس في ذلك منافاة لما هو الحق وعليه الأكثر من جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة ، لاختصاص ذلك أولا بالمخصص المنفصل ، ولو سلم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلة والمعلول ، فان الظاهر عند العرف ان المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص ..

وذكر في مقام الجواب عن الايراد الأول من الايرادات القابلة للدفع ، بقوله :

« ان المراد بالنبأ في المنطوق مالا يعلم صدقه ولا كذبه ، فالمفهوم أخص مطلقا من تلك الآيات ( أي الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ) فيتعين تخصيصها بناء على ما تقرر من أن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم أقوى من ظهور العام في العموم ، واما منع ذلك فيما تقدم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم فلما عرفت من منع ظهور الجملة الشرطية المعللة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه في إفادة الانتفاء عند الانتفاء فراجع. » ( فرائد الأصول ، مباحث حجية الظن ، ص ٦٦ ـ ٦٥

٥٥٨

لخروج ذلك عن الآية بالتخصيص ، فالمفهوم مختص بالخبر العدل الغير المفيد للعلم ، والتعليل يعم خبر العدل وغيره. ومقتضى القاعدة تخصيص عموم التعليل بالمفهوم ، الا ان قوة التعليل وابائه عن التخصيص يمنع عن ذلك. وهذا بخلاف الآيات الناهية عن العمل بالظن ، فان النسبة بينها وبين المفهوم وان كانت العموم المطلق أيضا ، الا انه لا مانع من تخصيص تلك الآيات بالمفهوم لعدم اباء تلك الآيات عن التخصيص. هذا حاصل ما افاده الشيخ ( قده ) في تعارض المفهوم المخالف مع العام في آية النبأ.

ولكن لا يخفى عليك ضعف ذلك ، لان التعليل مهم بلغ من القوة لايكون أقوى من المفهوم الخاص ، والآيات الناهية عن العمل بالظن أيضا آبية عن التخصيص ، وكيف يمكن تخصيص مثل قوله تعالى : « ان الظن لا يغنى من الحق شيئا »؟.

فالانصاف : انه في مثل الآية لا يلاحظ النسبة ، بل المفهوم يكون مقدما على الآيات الناهية عن العمل بالظن وعن عموم التعليل بالحكومة ، لان خبر العدل بعد ما صار حجة يخرج عن كونه ظنا وعن كونه إصابة القوم بالجهالة ، ويكون علما ، كما حققناه في محله. فينبغي اخراج مثل الآية الشريفة عما هو المبحوث عنه في المقام : من تعارض المفهوم المخالف والعام ، لكون المفهوم حاكما على العام. ولو قطع النظر عن الحكومة ، فالمفهوم أيضا يقدم على العام. ولا يصغى إلى أن العام في مثل الآية يكون متصلا بالقضية الشرطية فلا تكون القضية ظاهرة في المفهوم ، لصلاحية كل من القضية الشرطية والعام للتصرف في الآخر ، بخلاف ما إذا لم يكن العام متصلا بالقضية الشرطية ، حيث إن العام يخصص بالمفهوم ولكن لا مط ، بل يختلف باختلاف الموارد ، فرب مورد يكون العام قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم ، وربما ينعكس الامر ويكون ظهور القضية في المفهوم قرينة على التصرف في العام وتخصيصه به.

هذا حاصل ما افاده بعض الاعلام في باب تعارض المفهوم الخالف مع العام.

ولكن الانصاف : ان ذلك كله خلاف التحقيق ، بل التحقيق هو ان المفهوم المخالف مهما كان أخص مط من العام يقدم على العام ، سواء كان بين

٥٥٩

المنطوق والعام العموم المط ، أو العموم من وجه. ومهما كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل مهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم العام وربما يقدم المفهوم في مورد التعارض ، من غير فرق في ذلك أيضا بين ان يكون بين المنطوق والعام العموم المط أو العموم من وجه.

والحاصل : ان الفرق بين المفهوم الموافق والمخالف من وجهين :

الأول :

ان في المفهوم الموافق يلاحظ التعارض والعلاج أولا بين المنطوق والعام ، ويتبعه العلاج بين المفهوم والعام ، بخلاف المفهوم المخالف ، فان التعارض وعلاجه أولا وابتداء انما يكون بين المفهوم والعام ، إذ المنطوق ربما لايكون معارضا أصلا.

الثاني :

ان المنطوق في المفهوم الموافق لو قدم على العام لأخصيته ، فالمفهوم أيضا يقدم على العام مط ولو كان نسبته مع العام العموم من وجه كما عرفت. بخلاف المفهوم المخالف ، فإنه لو كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم العام على المفهوم في مورد التعارض ويخصص المفهوم به ، إذ المفهوم العام قابل للتخصيص ولا تخرج القضية بذلك عن كونها ذات مفهوم ، وذلك كله واضح.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ان المفهوم المخالف ، مهما كان أخص من العام يقدم على العام ويخصص به مط ، سواء كان العام متصلا بالقضية التي تكون ذات مفهوم أو منفصلا ، ولا يصلح العام ان يكون قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم ، وذلك لما تقدم منا في باب المفاهيم : من أن العبرة في كون القضية ذات مفهوم هو ان يكون القيد راجعا إلى الحكم ، لا إلى الموضوع.

وبعبارة أخرى : يكون التقييد في رتبة الاسناد ، لا في الرتبة السابقة على الاسناد ، فإنه لو كان التقييد قبل الاسناد كان القيد راجعا إلى الموضوع وتكون القضية مسوقة لفرض وجود الموضوع ، بخلاف ما إذا كان التقييد في رتبة الاسناد ،

٥٦٠