فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

والجمعة وغيرهما في الغسل.

والثاني : كقوله عليه‌السلام (١) « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزء عنه ذلك عن كل غسل يلزمه في ذلك اليوم » فان اطلاقه يشمل ما لو لم يلتفت الجنب حين غسل الجنابة إلى أسباب آخر. وبالجملة : لو قام الدليل كذلك لكشف عن كفاية نية الشيء عن اتيانه عن الأسباب المتعددة ، ويصير المميز للأسباب هو النية.

الفصل الثاني : في مفهوم الوصف

ولا يخفى : ان عنوان محل البحث ، وان جعل في كلمات الأساطين ـ كالكفاية بل التقرير ـ هو الأعم ، ولكن الحق هو اختصاص محل النزاع بالوصف المعتمد على الموصوف دون غيره ، فان غيره ليس الا كمفهوم اللقب ، فان اثبات حكم لموضوع بعد فرض كونه لا يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير هذا الموضوع لا فرق فيه ، بين ان يكون الموضوع في القضية شخصيا كأكرم زيدا ، أو كليا كجئ بانسان ، أو اشتقاقيا كأكرم عالما ، فكما لا يدل اثبات حكم لزيد على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غيره ، فكذلك اثبات حكم للعالم لا يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير العالم. وتوهم ان المشتق مأخوذ فيه الذات بناء على قول ، أو متضمن لها على آخر ـ فكان الموضوع قد ذكر في القضية ـ من أعجب الغرائب.

وبالجملة : الالتزام بالمفهوم فيما إذا ذكر الموصوف صريحا ، انما هو لخروج الكلام عن اللغوية ، وتقريبه : ان الحكم لو لم يختص بمورد الوصف وكان ثابتا له وللفاقد لما كان لذكر الوصف وجه. وهذا لا يجرى في مثل أكرم عالما ، فان ذكر موضوع الحكم لا يحتاج إلى نكتة غير اثبات الحكم له ، لا اثباته له وانتفائه عن غيره. وبالجملة : الوصف الغير المعتمد على الموصوف ليس الا اللقب.

فالأولى ان يجعل العنوان هكذا : لو نعت موضوع القضية بنعت ، فهل يدل ذكر النعت بعد المنعوت على انتفاء الحكم عن ذات المنعوت الغير المتصف بهذا

__________________

١ ـ الوسائل ـ الجزء الباب ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ الحديث ١ ـ ٢ ـ ص ٥٢٦

٥٠١

الوصف مطلقا؟ أو لا يدل مطلقا؟ أو يفصل بين ما إذا كان مبدء الاشتقاق للوصف علة للحكم فله الدلالة وبين ما لم يكن كذلك؟ أي التفصيل بين الوصف المشعر بعلية مبدء اشتقاقه للحكم ، وعدمه.

والحق : عدم الدلالة مطلقا ، وذلك لما ظهر في مفهوم الشرط : من أن كون القضية ذات مفهوم انما يتصور فيما إذا كان القيد راجعا إلى الحكم ، بالمعنى المعقول الذي بيناه ، وهو تقييد المتحصل من الجملة ، لا ذات الانتساب الذي هو معنى حرفي. واما لو كان القيد راجعا إلى عقدي الوضع والحمل ـ أي لو كان القيد واردا قبل الانتساب وكان مقيدا لاحد المنتسبين ـ فلا يتصور ثبوت المفهوم للقضية ، وفي المقام لا يمكن ارجاع القيد الا إلى الموضوع ، فيكون كالشرطية التي سيقت لفرض وجود الموضوع ، فلا مجال لتوهم المفهوم فيها. وبالجملة : القيد في المقام ليس كالقيد في باب القضية الشرطية ، ولا كالغاية التي يمكن ان تكون غاية للحكم.

ان قلت :

فلا وجه على هذا ، لحمل المطلق على المقيد ، فإنه لا وجه للحمل الا كون التقييد بالمنفصل كالتقييد بالمتصل ، ولا شبهة ان التقييد بالمتصل يوجب اختصاص الحكم بالمقيد ، فكذلك المنفصل ، ولو لم يكن الوصف ذا مفهوم لما كان وجه لحمل المطلق على المقيد وبعبارة أخرى : من اجل ظهور المقيد في اختصاص الحكم به ، لان الأصل في القيد الاحترازية ، يحمل المطلق على المقيد.

قلت :

حمل المطلق على المقيد ليس من جهة المفهوم ، بل من جهة التنافي بين التعين الذي يكون المقيد نصا فيه ، والتخيير الذي يكون المطلق ظاهرا فيه مع وحدة التكليف. والا فان مجرد اختصاص الحكم بالرقبة المؤمنة في المقيد ليس الا مثل ان يذكر المقيد ابتداء من دون ذكر المطلق ، فلا يفيد التقييد الا تضييق دائرة موضوع الحكم. وهذا ليس معنى المفهوم ، فإنه يجب ان يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير هذا الموضوع بأي سبب فرض.

وبعبارة أخرى : كون الموضوع خاصا وامرا مخصوصا غير دلالة القضية على

٥٠٢

انتفاء الحكم من غير هذا الموضوع. ومن هنا ظهر : ان كون الأصل في القيد احترازيا ـ لا للفوائد الاخر التي تذكر لمجيئ القيد ـ لا يفيد اثبات المفهوم ، فان الاحترازية ان كانت بمعنى دلالة القيد على انتفاء الحكم عن ذات المقيد الخالي عن هذا القيد ، فالمسلم منها انما هو في الحدود ، لان بناء التعريف على الاطراد والانعكاس ، دون غيرها ، وان كانت بمعنى دلالته على اختصاص الحكم بالمقيد ، فهذا لا يفيد الا اختصاص هذا الحكم بهذا الموضوع الخاص ، لا نفيه عن غيره.

فان قلت :

حمل المطلق على المقيد في المطلق المطلوب منه صرف وجوده وان لم يكن من باب المفهوم ، الا انه في المطلق الانحلالي يكون التقييد مستلزما للمفهوم لامحة ، فان تقييد وجوب الزكاة في مطلق الغنم بالسائمة ، معناه نفيها عن المعلوفة ، فكون القيد احترازيا لا يستقيم الا باخراج المعلوفة من دليل المطلق ، وهذا عين المفهوم.

قلت :

أولا : لا موجب للتقييد في المطلق الانحلالي لو كان القيد منفصلا ، نعم في المتصل لا مناص عن اختصاص الحكم بمورد القيد ، وذلك لعدم التنافي بين تعلق الزكاة بمطلق الغنم وتعلقها بالسائمة.

وثانيا : على فرض تسليم التقييد ، ان التقييد ليس الا قصر دائرة الحكم على الموضوع المقيد ، لا نفيه عما عداه. وفرق بين اثبات حكم لموضوع خاص مع سكوته عن غير هذا الموضوع ، واثباته له ونفيه عما عداه ، والثاني هو المفهوم ، لا الأول. ولذا لو دل دليل ثالث على تعلق الزكاة بالمعلوفة ، فبناء على التقييد لا تعارض بين المقيدين ، ونتيجة تقييد الحكم بكليهما هو الاطلاق ، لاستيعابهما جميع افراد المطلق. وبناء على المفهوم يتعارضان ، لان اثبات الحكم في السائمة مع القول بالمفهوم معناه : عدم ثبوت الزكاة في المعلوفة.

ثم انه لا اشكال في أن محل البحث هو فيما لو كان بين الموصوف والصفة عموم مطلقا أي كان الموصوف عاما والصفة أخص منه ، ويلحق به ما لو كان بينهما العموم من وجه مع الافتراق من جانب الموضوع ، أي وجد الموصوف كالغنم ولم يكن

٥٠٣

سائمة. واما الافتراق من جانب الوصف ، أي وجدت السائمة ولم تكن غنما ، فهذا غير داخل في محل النزاع ، لان كون الوصف ذا مفهوم معناه تخصيص موصوفه به واخراج سائر افراد الموصوف عن ثبوت هذا الحكم لها ، لا تخصيص موصوف خارج عن هذين التركيبين. فلا بد من ملاحظة التقييد بالنسبة إلى الإبل السائمة وعدم وجوب الزكاة في معلوفها من ملاحظة نفس دليل تعلق الزكاة بالإبل ، وهذا واضح. وقول الشافية لا يعتنى به. واستفادة العلية من وصف خاص خارج عن ظهور الكلام بحسب طبعه.

الفصل الثالث : في مفهوم الغاية

وتنقيحه يتوقف على تحرير نزاع آخر وقع في باب الغاية ، وهو انه. هل الغاية داخلة في المغيى مطلقا ، أم لا مطلقا ، أو التفصيل بين أدواتها ، أو التفصيل بين كون الغاية من جنس المغيى وعدمه؟ ولا يخفى : انه لا يمكن اثبات وضع ولا قرينة عامة في الدخول أو الخروج. وكون لفظة الغاية والنهاية دالة على دخول الغاية ـ لان نهاية الشيء كابتدائه من حد الشيء ، وحد الشيء من اجزائه لا انه أول جزء من خارج الشيء ـ لا يفيد اثبات الوضع ( لحتى والى ) فإنهما لم يوصفا لما يستفاد من هذا اللفظ الأسمى. والأمثلة التي تذكر للدخول أو الخروج لا تفيد اثبات الوضع ، فان استفادة الدخول أو الخروج من هذه الأمثلة انما هي لقرائن خاصة خارجية. فدعوى ظهور الأداة في الدخول أو الخروج أو التفصيل دعوى بلا برهان. وليس هنا أصل لفظي يدل على الدخول أو الخروج ، فالمرجع عند الشك هو الأصول العملية.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في ثبوت المفهوم للغاية ، وقد ذكرنا في مفهوم الشرط : ان كون القضية ذات مفهوم مرجعه إلى تقييد الحكم ، وعدم كونها كذلك مرجعه إلى رجوع القيد إلى أحد عقدي الوضع أو الحمل. وبعبارة أخرى : لو كان التقييد ـ سواء كان للموضوع أو المحمول ـ قبل الاستناد فهذا يرجع إلى مفهوم اللقب. ولو كان في رتبة الاسناد ـ أي قيد الحكم وهو اسناد المحمول إلى الموضوع أي تقييد الجملة لا تقييد المفردات ـ فهذا يرجع إلى ثبوت المفهوم ، فهذان الأمران مما لا نزاع فيهما. فالأليق في النزاع ان يكون البحث في احراز الصغرى ، وان الغاية غاية للحكم

٥٠٤

أو الموضوع.

والظاهر : ان الغاية قيد للحكم ، الا ان تقوم قرينة على خلافه ، لان قوله عليه‌السلام : كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام ، مع قوله (١) « عز اسمه » : وأتموا الصيام إلى الليل ـ بنسق واحد. فكما ان الحكم لو جعلت غايته المعرفة تكون الغاية قيدا للحكم ، فكذلك سائر الأمثلة التي جعلت فيها الغاية غاية بعد اسناد المحمول إلى موضوعه.

وكون الغاية قيد للموضوع ـ وأخرت عن الجملة لعدم امكان تقديمها ـ لا يصغى إليه ، لامكان تبديل هذا التركيب إلى آخر بان يقال : الصيام إلى الليل أتمه ، والسير من البصرة إلى الكوفة أوجده ، فجعل الغاية بعد اسناد المحمول إلى الموضوع كاشف عن رجوعها إلى الجملة ، لا إلى مفردات الكلام.

وبالجملة : ظاهر القضية بحسب القواعد العربية رجوع الغاية إلى اسناد المحمول إلى الموضوع ، فكأنه جعل وجوب اتمام الصيام مغيى بغاية الليل ، فيقتضى رجوع الغاية إلى الحكم انتفائه عما بعد الغاية ، وينفى ثبوت حكم آخر من سنخ هذا الحكم لليل.

الفصل الرابع : في مفهوم الحصر

لا يخفى : ان النزاع فيه أيضا يرجع إلى أن الحصر حصر للحكم ، أو للموضوع. ولا اشكال في أن مثل ( الا ) يفيد حصر الحكم في المستثنى منه واخراج المستثنى عنه بعد الاسناد. وما نقل عن نجم الأئمة : ان رفع التناقض المتوهم في باب الاستثناء منحصر بان يخرج المستثنى قبل الاسناد ، كلام لا ينبغي صدوره عن جنابه ، لأنه لا تناقض ابدا بين المستثنى منه والمستثنى حتى يتوقف رفعه على جعل الاخراج قبل الاسناد ، لان الكلام يحمل على ما هو ظاهر فيه بعد تماميته بمتمماته : من لواحقه وتوابعه ، بل لو عول المتكلم على بيان مرامه بقرينة منفصلة لا تعد القرينة مناقضة لذي القرينة.

__________________

١ ـ البقرة ، ١٧٨

٥٠٥

وبالجملة : هذا التناقض المتوهم يجرى بين قرائن المجازات والتخصيصات والتقييدات ، مع ذي القرائن والعمومات والمطلقات ، ولا اختصاص له بباب الاستثناء ، مع أنه لا وقع لهذا التوهم أصلا. فاخذ الاخراج قبل الاسناد الذي يرجع في المآل إلى أن كلمة ( الا ) صفتية وبمعنى الغير لا استثنائية ، لا وجه له ، بعد ظهورها في الاستثنائية في القضايا المتعارفة ، لأنها لو كانت صفتية لاقتضى مجيء الاستثناء قبل الحكم ، بان يقال : القوم الا زيد أي الموصوف بغير زيد جاؤوا ، كما ورد هكذا في الآية المباركة : لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا.

وبالجملة : فالنزاع في الحقيقة راجع في قوله : جاء القوم الا زيد ـ إلى أن قوله ( الا زيد ) من قيود القوم؟ حتى تكون ( الا ) صفتيه ، فيكون محصل المعنى : ان القوم الذين هم غير زيد جاءوا ، فلا يكون لهذه القضية مفهوم ، لان اثبات حكم لموضوع خاص لا يدل على انتفاء سنخه عن غير هذا الموضوع. أو من قيود الحكم؟ حتى تكون ( الا ) استثنائية ويكون للقضية مفهوم ، لان اثبات حكم القوم واخراج زيد عن هذا الحكم الثابت لعشيرته مع أنه منهم موضوعا عين المفهوم ، لان المدعى ليس الا دلالة القضية على عدم ثبوت الحكم المذكور للقوم نفيا واثباتا لزيد وخروج حكمه عن حكمهم. وعلى هذا فلا اشكال انه إذا قال : له على عشرة الا درهما فهو اقرار بالتسعة ، ولو قال : له على عشرة الا درهم بالرفع فهو اقرار بالعشرة ، لان مقتضى القواعد العربية التي يجب حمل كلام المتكلم عليها لا على الغلط ان يجعل الدرهم بالرفع صفة للعشرة ، فكأنه قال : العشرة التي هي غير الدرهم على ، هذا في الاثبات. واما في النفي فحيث انه يجوز الوجهان في الاستثناء الواقع بعده ، فلو قال : ما له على عشرة الا درهم أو الا درهما ، فيحمل على اقراره بالدرهم ، فما أفادوه في أنه على النصب لم يكن اقرارا بشيء لا وجه له.

والعجب مما يحكى عن (١) المسالك ، فإنه مع اعترافه بان كلمة الا

__________________

١ ـ راجع المسالك ، المجلد الثاني ، كتاب الاقرار ، المقصد الرابع في صيغ الاستثناء ، ما افاده في شرح قول المحقق قدس‌سره في الشرايع « ولو قال : ماله عندي شيء الا درهم كان اقرارا بدرهم .. » ص ١٧١

٥٠٦

استثناء حمله على الاخراج قبل الاسناد فكان النفي دخل على المستثنى والمستثنى منه ، ومرجع الكلام إلى أن المقدار الذي هو عشرة الا درهما ليس على ، وبعبارة أخرى : التسعة ليس على ، لان العشرة الا الدرهم هي التسعة. ولا يخفى : انه مع كون كلمة ( الا ) استثنائية لا يعقل ان يكون الاخراج قبل الاسناد ، فإنها يكون حينئذ وصفية ، ورفع اشكال التناقض ليس باخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الاسناد. وبالجملة : مع أن القواعد العربية تساعد النصب بعد النفي أيضا ، فحمل ( الا ) على الوصفية لا وجه له. ومجرد كونه مطابقا لأصل البراءة لا يقتضى صرف الكلام عن ظاهره واخراجه عن كونه اقرارا ، فما افاده في الجواهر (١) هو الأقوى ، وهو ثبوت الدرهم على كل تقدير من الرفع والنصب.

ثم لا يخفى : انه يمكن ان يكون منشأ توهم أبي حنيفة : كون الموضوع له للفظة ( الا ) هو الأعم من الصفتية والاستثنائية ، والا فإنها لو كانت موضوعة للاستثناء لم يمكن توهم عدم ثبوت المفهوم للقضية. والأمثلة التي ذكرها لعدم الإفادة هي في الإفادة أظهر من عدمها ، لان قوله عليه‌السلام (٢) لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ، أو الا بطهور ـ مثلا ـ لو كان المراد من الصلاة هي الجامعة لجميع الشرائط الا الطهور ، فيفيد نفى الصلواتية عن فاقدة الطهور كون الصلاة المفروضة ( أي الجامعة مع الطهور ) صلاة ، ولا محذور فيه. ولو كان المراد من الصلاة الأعم من الجامع والفاقد فاثبات الصلواتية بمجرد وجدان الطهارة وحدها أيضا لا محذور فيه ، لان معناه ان الصلاة من هذه الجهة صلاة ، ولا ينافي عدم كونها كذلك من جهة فقد سائر الشروط والاجزاء. وبعبارة أخرى : بناء عليه ، الحصر إضافي ولا بأس به.

فتحصل مما ذكرنا : ان القيد لو كان راجعا إلى عقد الوضع والحمل ، أي كان التقييد قبل الاسناد ، فبانتفاء الموضوع المقيد أو المحمول المقيد لا ينتفى الحكم عن موضوع آخر ، وانتفاء الحكم عن هذا الموضوع عقلي لا ربط له بالمفهوم. والسر في

__________________

١ ـ جواهر الكلام الجزء ٣٥ ، كتاب الاقرار ، المقصد الرابع في صيغ الاستثناء ص ٨٨

٢ ـ المستدرك الجلد الأول الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة الحديث ٥ ص ٢٧٤

٥٠٧

ذلك : ان التقييد لا يوجب الا تضييق دائرة الموضوع أو المحمول ، وثبوت حكم لموضوع خاص لا يلازم انتفائه عن موضوع آخر. ولو كان راجعا إلى الحكم ـ أي المتحصل من الجملة أي كان التقييد في رتبة الاسناد ـ فالحكم المقيد ينتفى بانتفاء قيده بالملازمة ، وهذا هو المفهوم. ولا فرق فيما ذكرنا بين مفهوم الغاية ، والحصر ، أو غيرهما.

نعم : لا يمكن في باب الشرط ارجاع القيد إلى الموضوع ، لان أداة التعليق وضعت لتعليق جملة على جملة ، فمرجع النزاع فيه إلى كون القضية مسوقة لغرض وجود الموضوع ، أو لتحديد الحكم. فعلى هذا لو رجع الحصر إلى الاسناد ـ وكان الاخراج في رتبة قوله : جاء القوم الا زيدا ـ يدل على انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ، ومحل النزاع انما هو في ( الا ) الاستثنائية لا الوصفية ، فالقول بعدم دلالة القضية على المفهوم مرجعه إلى استعمال ( الا ) الاستثنائي في الوصف ، والمصير إليه من دون قرينة عليه لا وجه له.

ثم إن هنا اشكالا ، في إفادة كلمة ( لا إله إلا الله ) التوحيد ، وحاصله : ان خبر ( الا ) لو قدر ( موجود ) فلا دلالة لهذه الكلمة على عدم امكان اله آخر ، ولو قدر ( ممكن ) فلا دلالة لها على وجود الباري تعالى وان دلت على عدم امكان آلهة أخرى.

ولا يخفى : ان هذا الاشكال انما نشأ من قول أكثر النحويين ان خبر ( لا ) مقدر ، ولذا عدوها من نواسخ المبتدأ والخبر ، وجعلوا الفرق بين لا النافية للجنس ولا المشبهة بليس ، هو الفرق بين لولا الغالبية ولولا الغير الغالبية ، فان لولا الغالبية حيث إن خبرها من أفعال العموم أي الوجود المطلق ، فيجب ان يكون محذوفا كقوله : لولا علي لهلك عمر ، ومنشأ وجوب حذفه دلالة الكلام عليه ، فيكون ذكره لغوا ، كحذف الفاعل في فعل الامر ، والمضارع المخاطب منه ، والمتكلم وحده ، ومع الغير. ولولا الغير الغالبية حيث إن خبرها فعل خاص وجب ذكره كقوله عليه‌السلام : لولا قومك حديثوا عهد بالاسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين. وقالوا : ان لولا الغالبية هي لا النافية للجنس المركبة مع لو ، وغيرها هي المشبهة بليس المركبة مع لو.

٥٠٨

وبالجملة : ( لولا ) على قسمين : قسم يمتنع فيها جوابها بمجرد وجود المبتدأ بعدها ، وهذا القسم لا بد ان يكون خبر المبتدأ وهو الكون المطلق ، نحو لولا على ، ويجب ان يكون محذوفا لتعيين المحذوف. وقسم يمتنع فيها جوابها لا بمجرد وجود المبتدأ ، بل لنسبة الخبر إلى المبتدأ ، وهذا القسم خبر المبتدأ امر خاص ، ويجب ان يذكر ، الا ان يدل قرينة عليه. ولا النافية للجنس هي لولا الغالبية ، فيجب ان يكون خبره الوجود المطلق المحذوف ، فيكون معنى ( لا إله إلا الله ) لا اله موجود.

وحاصل الكلام : حيث إنهم عدوا كلمة ( لا ) من نواسخ المبتدأ والخبر فالتجأوا إلى تقدير الخبر. ولكن الالتزام بذلك بلا موجب ، فان كلمة ( لا ) كما وضعت لمعنى حرفي رابطي ، كذلك وضعت لمعنى استقلالي ، وهو نفى الحقيقة والهوية ، أي وضعت تارة : للنفي الربطي وعدم وصف لموضوع ، وأخرى : لنفى المحمول ، أي عدم الشيء. كما أن الافعال الناقصة ، مثل ( كان ) قد تكون ناسخة وهي الرابطة الزمانية ، وقد تكون تامة وغير محتاجة إلى الخبر ، بل قيل ( ان ) النافية من الافعال الناقصة كليس أيضا لها جهتان : ربطي ، وهو ليس الناقصة ، وغير ربطي ، وهو ليس التامة. وهذا الكلام في ( ليس ) وان لم يكن بصحيح ، بل ليس وضعها الا وضع الحروف ، ربطي صرف وضعت لنفى شيء عن موضوع في الحال ، واستعمالها في نفى الوجود مسامحة ، الا ان هذا التقسيم للأفعال الناقصة التي وضعها وهيئتها كهيئة الافعال تام ، فإنها قد تكون زمانية ، وأخرى منسلخة عنها وتكون أداة ربطية. وعلى أي حال : فلا النافية للجنس ، حيث إنها وضعت لنفى هوية الشيء المعراة عن الوجود والعدم ، فلا خبر لها ، لا انه محذوف دل عليه الكلام ، فيصير معنى الكلمة الشريفة نفى هوية واجب الوجود واثباته لذاته تعالى ، ونفى واجب الوجود واثبات فرد منه هو عين التوحيد ، لان غيره لو كان واجب الوجود لوجب وجوده لوجوبه ذاتا ، فلو لم يكن غيره تعالى واجب الوجود ، فاما : ممتنع الوجود ذاتا ، واما : ممكن الوجود ذاتا ، وكلاهما ليسا بواجب الوجود ذاتا ، فانحصر الواجب فيه تعالى.

وعلى أي حال : سواء قلنا بتقدير خبر لا ، أو لم نقل به لعدم احتياجه إليه ، لا يرد الاشكال على كلمة التوحيد ، اما بناء على عدم التقدير فلما ذكرنا ، واما بناء

٥٠٩

عليه فكذلك ، سواء قدر ممكن ، أو موجود ، لان المراد من الاله المنفى هو واجب الوجود. فلو قدر ممكن فنفى الامكان عن غيره تعالى واثبات الامكان له مساوق لوجوده تعالى ، لأنه لو أمكن وجوده لوجب ، لأن المفروض انه واجب الوجود ، فلو لم يمتنع لوجب. ولو قدر موجود فنفى الوجود عن غيره ملازم لامتناع غيره ، لأنه لو لم يمتنع لوجب وجوده بالملازمة التي بيناها : من أنه لو خرج الشيء عن الامتناع وأمكن لوجب وجوده ، لأن المفروض انه واجب الوجود.

ثم انه لا اشكال في إفادة كلمة ( انما ) الحصر ، كإفادة الاستثناء له ، اما : لأنه بمعنى ما والا ، واما : لأنها مركبة من كلمة ( ان ) التي للتحقيق واثبات الشيء وكلمة ( ما ) التي لنفى الشيء ، والنفي يرد على تالي انما ، والاثبات على الجزء الآخر. وقوله عليه‌السلام : انما الأعمال الخ بمنزلة لا عمل الا بنية. نعم سائر أداة الحصر مثل ( بل ) وتعريف المسند إليه ، فأفادتها له انما هي بقرائن المقام ، لا الوضع ، ولا القرينة العامة.

٥١٠

المقصد الرابع : في العام والخاص

وفيه مباحث. وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :

الامر الأول :

العموم هو الشمول وسريان المفهوم لجميع ما يصلح الانطباق عليه. وهذا الشمول والسريان قد يكون مدلولا لفظيا ، وقد يكون بمقدمات الحكمة. والمقصود بالبحث في المقام هو الأول ، لان المتكفل للبحث عن الثاني هو مبحث المطلق والمقيد. ولا فرق بين هذين القسمين من الشمول سوى انه عند التعارض يقدم الشمول اللفظي على الشمول الاطلاقي ، لان الشمول اللفظي يصلح ان يكون بيانا للمطلق الذي علق الحكم فيه على الطبيعة ، فلا تجرى فيه مقدمات الحكمة. وسيجيئ توضيحه في بعض المباحث الآتية. والغرض في المقام : هو بيان ان البحث انما هو في الشمول الذي يكون مدلولا لفظيا ، المعبر عنه بالعام الأصولي ، في مقابل الاطلاق الشمولي ، كلفظة ( كل ) وما رادفها ، من أي لغة كان ، حيث إن الشمول في مثل ذلك مدلول للفظ بحسب الوضع. وبعد ما عرفت : من أن معنى العموم هو الشمول اللفظي ، فلا حاجة إلى اتعاب النفس وتعريف العموم بما لا يسلم عن اشكال عدم الاطراد والانعكاس ، فان مفهوم العموم أجلى وأوضح من أن يحتاج إلى التعريف.

الامر الثاني :

قد تقدم في بعض المباحث السابقة الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، ونزيده في المقام وضوحا ، لابتناء كثير من المباحث الآتية على ذلك.

فنقول : القضية الحقيقية ، هي ما كان الحكم فيها واردا على العنوان

٥١١

والطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج ، بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع لها. وبذلك تمتاز القضية الحقيقية عن القضية الطبيعية ، حيث إن الحكم في القضية الطبيعية وارد على نفس الطبيعة ، لا بلحاظ وجودها الخارجي ، بل بلحاظ تقررها العقلي ، كما في قولك : الانسان نوع ، أو كلي ، وغير ذلك من القضايا الطبيعية. وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فان الحكم فيها وان رتب على الطبيعة لكن لا بلحاظ تقررها العقلي ، بل بلحاظ تقررها الخارجي ، وهو معنى لحاظ العنوان مرآة لما في الخارج.

ومما ذكرنا ظهر : المايز بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية أيضا ، فان الحكم في القضية الحقيقية كما عرفت مترتب على الخارج بتوسط العنوان ، واما في القضية الخارجية فالحكم فيها ابتداء مترتب على الخارج بلا توسط عنوان ، سواء كانت القضية جزئية أو كلية ، فان الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضا انما يكون مترتبا على الافراد الخارجية ابتداء ، من دون ان يكون هناك بين الافراد جامع اقتضى ترتب الحكم عليها بذلك الجامع ، كما في القضية الحقيقية. ولو فرض ان هناك جامعا بين الافراد الخارجية فإنما هو جامع اتفاقي ، كما في قولك : كل من في العسكر قتل ، وكل ما في الدار نهب ، فان قولك : كل من في العسكر قتل ، بمنزلة قولك : زيد قتل ، عمرو قتل ، وبكر قتل ، وليس بين قتل زيد وعمرو وبكر جامع عنواني اقتضى ذلك الجامع قتل هؤلاء ، بل اتفق ان كلا من زيد وعمرو وبكر كان في المعركة ، واتفق انهم قتلوا ، وأين هذا من القضية الحقيقية التي يكون فيها جامع بين الافراد؟ بحيث متى تحقق ذلك الجامع ترتب الحكم ، سواء في ذلك الافراد الموجودة والتي توجد بعد ذلك. ولأجل ذلك تقع القضية الحقيقية كبرى لقياس الاستنتاج ، وتكون النتيجة ثبوتا واثباتا موقوفة على تلك الكبرى ، بحيث يتوصل بتلك الكبرى بعد ضم الصغرى إليها إلى امر مجهول يسمى بالنتيجة ، كما يقال : هذا خمر وكل خمر يحرم ، فان حرمة هذا الخمر انما يكون ثبوتا موقوفا على حرمة كل خمر ، كما أن العلم بحرمة هذا الخمر يكون موقوفا على العلم بحرمة كل خمر ، فالعلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، اما العلم بكلية الكبرى فلا يتوقف

٥١٢

على العلم بالنتيجة ، بل العلم بكلية الكبرى يكون موقوفا على مباد اخر : من عقل ، أو كتاب ، أو سنة.

وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فإنها لا تقع كبرى القياس بحيث تكون النتيجة موقوفة عليها ثبوتا ، وان كان قد يتوقف عليها اثباتا ، كما يقال للجاهل بقتل زيد : زيد في العسكر ، وكل من في العسكر قتل ، فزيد قتل ، فان العلم بقتل زيد وان كان يتوقف على العلم بقتل كل من في العسكر الا انه لا يتوقف على ذلك ثبوتا ، إذ ليس مقتولية كل من في العسكر علة لمقتولية زيد ، بل علة مقتولية زيد هو امر آخر بملاك يخصه ، فالقضية الكلية الخارجية ليست كبرى لقياس الاستنتاج بحيث تكون كليتها علة لتحقق النتيجة.

ومما ذكرنا ظهر : اندفاع الدور الوارد على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج ، فان منشأ توهم الدور ليس الا تخيل توقف العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة ، مع أن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والحال انه قد عرفت ان العلم بكلية الكبرى في القضايا الحقيقية لا يتوقف على العلم بالنتيجة ، بل يتوقف على مباد أخر : من عقل أو كتاب ، أو سنة ، أو اجماع.

والقضايا المعتبرة في العلوم انما هي القضايا الحقيقية ، ولا عبرة بالقضايا الخارجية ، لان القضية الخارجية وان كانت بصورة الكلية ، الا انها عبارة عن قضايا جزئية لا يجمعها عنوان كلي ، كما عرفت. فالقياس الذي يتألف من كبرى كلية على نهج القضية الحقيقية لايكون مستلزما للدور ، لما تقدم من أن النتيجة ثبوتا واثباتا تتوقف على كلية الكبرى ، ولا عكس. والقياس الذي يتألف من قضية خارجية أيضا لا يستلزم الدور ، فان النتيجة ثبوتا لا يتوقف على الكبرى ، بل ثبوت النتيجة له مبادئ أخر لا ربط لها بالكبرى ، على عكس نتيجة القضية الحقيقية.

وكان من توهم الدور في الشكل الأول قد خلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، والحال انه قد عرفت انه لا ربط لإحدى القضيتين بالأخرى. وقد وقع الخلط في عدة موارد بين القضيتين ، قد أشرنا إلى جملة منها في الشرط المتأخر ، وسيأتي جملة منها في محله أيضا.

٥١٣

ثم إن العموم والكلية كما تكون على نهج القضية الحقيقية وعلى نهج القضية الخارجية ، كذلك التخصيص تارة : يكون تخصيصا أنواعيا ، وأخرى : يكون تخصيصا افراديا ، سواء كان التخصيص بالمتصل أو بالمنفصل. والتخصيص الانواعي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الحقيقية ، كما أن التخصيص الافرادي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الخارجية ، بل القضية الخارجية لا تصلح الا للتخصيص الافرادي ، لما عرفت : من أن القضية الخارجية ما ورد الحكم فيها على الافراد ، فالتخصيص فيها انما يكون تخصيصا أفراديا ، ولو فرض ان المخصص سيق بصورة الأنواعي ، كما لو قال : كل من في العسكر قتل الا من كان في الجانب الشرقي ، فالمراد به أيضا الافرادي ، فهو بمنزلة قوله : الا زيد وعمرو وبكر ، كما أن أصل القضية كانت بهذا الوجه.

نعم : القضية الحقيقية تصلح لان يرد عليها المخصص الافرادي ، كما تصلح لان يرد عليها المخصص الأنواعي. ولا اشكال في أن التخصيص الأنواعي انما يهدم اطلاق مصب العموم ومدخوله ، واما التخصيص الافرادي فهو كذلك ، أي يرد على مصب العموم ، أو انه يرد على نفس العموم ويوجب هدمه ، ويكون التصرف في ( كل ) لا في ( العالم ) في قولك : أكرم كل عالم. والنتيجة وان كانت واحدة الا ان الصناعة اللفظية تختلف. وعلى كل حال : لما كانت الأحكام الشرعية كلها على نهج القضايا الحقيقية ، كان التخصيص الوارد في الأحكام الشرعية كلها من التخصيصات الأنواعية ، الا ما كان من قبيل خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الامر الثالث :

قسموا العموم إلى : عموم استغراقي ، وعموم مجموعي ، وعموم بدلي الذي هو بمعنى أي. وتسمية العموم البدلي بالعموم مع أن العموم بمعنى الشمول والبدلية تنافى الشمول لا تخلو عن مسامحة. وعلى كل تقدير : العموم بمعنى الشمول ليس الا الاستغراقي والمجموعي ، وتقسيم العموم إلى هذين القسمين ليس باعتبار معناه الافرادي بحيث يكون التقسيم إلى ذلك باعتبار وضع العموم بمعناه الافرادي ، بل التقسيم إلى ذلك انما يكون باعتبار الحكم ، حيث إن الغرض من الحكم تارة : تكون

٥١٤

على وجه يكون لاجتماع الافراد دخل ، بحيث تكون مجموع الافراد بمنزلة موضوع واحد ، وله إطاعة واحدة باكرام جميع افراد العلماء ، في مثل قوله : أكرم كل عالم ، وعصيانه يكون بعدم اكرام فرد واحد. وأخرى : يكون الغرض على وجه يكون كل فرد فرد من العالم موضوعا مستقلا ، وتتعدد الإطاعة والعصيان حسب تعدد الافراد ، وذلك أيضا واضح ، لان العموم بمعناه الافرادي بحسب الوضع ليس الا الشمول ، فالتقسيم إلى المجموعية والاستغراقية انما هو باعتبار ورود الحكم على العموم.

ثم انه ان كان هناك قرينة على أن المراد هو الاستغراقي أو المجموعي فهو ، والا فالأصل اللفظي الاطلاقي يقتضى الاستغراقية ، لان المجموعية تحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعا واحدا. وهذا من غير فرق بين اقسام العموم ، سواء كان العموم مدلولا اسميا للأداة ، ككل وما شابها ، أو عرفيا ، كالجمع المحلى باللام ، بناء على أن العموم وتعيين أقصى مراتب العلماء في قوله : أكرم العلماء ، انما هو لإفادة الألف واللام ذلك ، حيث لايكون هناك عهد ـ ويلحق بذلك الأسماء التي تتضمن المعنى الحرفي ، كأسماء الاستفهام والشرط ـ أو سياقيا كالنكرة الواقعة في سياق النفي بلاء النافية للجنس ، فان العموم في جميع هذه الأقسام انما يكون على نحو العموم الاستغراقي الانحلالي ، ولا يحمل على المجموعي الا إذا قامت قرينة على ذلك ، والسر في ذلك واضح.

اما في مثل ـ أكرم كل عالم ـ مما كان العموم فيه معنى اسميا ، فان مفاد ( كل ) انما هو استيعاب ما ينطبق عليه مدخولها ، والمدخول ينطبق على كل فرد فرد من افراد العالم ، فهي تدل على استيعاب كل فرد فرد من افراد العالم ، وهو معنى الاستيعاب الانحلالي.

واما العموم السياقي فكذلك ، فان العموم انما يستفاد من ورود النفي أو النهى على الطبيعة وهو يقتضى انتفاء كل ما يصدق عليه الطبيعة وتنطبق عليه ، وكل فرد فرد من افراد الجنس مما تنطبق عليه الطبيعة ، فيقتضى انتفاء كل فرد فرد ، وهو معنى الاستغراق.

واما العموم المستفاد من الجمع المحلى باللام وما يلحق به من الأسماء

٥١٥

المتضمنة للمعاني الحرفية ، فقد يتوهم ان ظاهره يقتضى المجموعي ، لان مدخول اللام هو الجميع ، فان مثل زيدون ، أو علماء ، لا ينطبق على كل فرد فرد ، بل ينطبق على كل جماعة جماعة من الثلاثة فما فوق ، وغاية ما يستفاد من اللام ، هو أقصى مراتب الجمع التي تنطوي فيه جميع المراتب مع حفظ معنى الجمعية ، فاللام توجد معنى في المدخول كان فاقدا له ، وهو أقصى المراتب ، كما هو الشأن في جميع المعاني الحرفية التي توجد معنى في الغير ، وذلك يقتضى العموم المجموعي ، لا الاستغراقي.

وقد أفاد شيخنا الأستاذ مد ظله في دفع التوهم بما حاصله : ان أداة العموم من الألف واللام ان كان نفس الجمع ، بحيث كان ورود أداة العموم متأخرا عن ورود أداة الجمع : من الألف والتاء ، والواو والنون ، على المفرد لكان للتوهم المذكور مجال ، ولكن كيف يمكن اثبات ذلك؟ بل ورود أداة العموم وأداة الجمع على المفرد انما يكون في مرتبة واحدة ، فالألف واللام تدل على استغراق افراد مدخولها ، وهو المفرد ، غايته انه لا مطلق المفرد حتى يقال : ان المفرد المحلى باللام لا يدل على العموم ، بل المفرد الذي ورد عليه أداة الجمع عند ورود أداة العموم. والحاصل : ان مبنى الاشكال انما هو ورود أداة العموم على الجمع ، واما لو كانت أداة العموم واردة على المفرد الذي يرد عليه أداة الجمع ، فأداة العموم تدل على استغراق افراد ذلك المفرد ، ويكون حال الجمع المحلى باللام حال ( كل ) في الدلالة على استغراق الافراد على نحو الانحلال ، فتأمل. فان المقام يحتاج إلى بيان آخر.

الامر الرابع :

ذهب بعض إلى أن تخصيص العام يوجب المجازية مطلقا ، وبعض قال بذلك في خصوص المنفصل. وعليه رتبوا عدم حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، لاجماله بعد تعدد مراتب المجاز.

والحق : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، كما أن تقييد المطلق لا يقتضى ذلك ، وان قال به من تقدم على سلطان المحققين (ره) وقد استقرت طريقة المحققين من المتأخرين على عدم اقتضاء التخصيص والتقييد للمجازية. اما تقييد المطلق : فسيأتي الكلام فيه في محله انشاء الله.

٥١٦

واما تخصيص العام : فقد أفيد في وجه عدم استلزامه للمجازية ان العام لم يستعمل الا في العموم ، غايته ان العموم ليس بمراد بالإرادة الجدية النفس الامرية ، فالتخصيص انما يقتضى التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ، والحقيقة المجاز انما تدور مدار الاستعمال ، لا مدار الإرادة الواقعية ، ففي مثل أكرم كل عالم لم تستعمل أداة العموم الا في الاستغراق واستيعاب جميع افراد العالم ، غايته انه لم تتعلق الإرادة الجدية باكرام جميع الافراد ، بل تعلقت الإرادة باكرام ما عدى الفاسق ، والمصلحة اقتضت عدم بيان المراد النفس الأمري متصلا بالكلام فيما إذا كان المخصص منفصلا ، ويكون العام قد سيق لضرب القاعدة ، ليكون عليه المعول قبل بيان المخصص والعثور عليه.

وبذلك وجه الشيخ ( قده ) (١) في مبحث التعادل والتراجيح ، العمومات الواردة في لسان الأئمة السابقين عليهم‌السلام ، والمخصصات الواردة في لسان الأئمة اللاحقين عليهم‌السلام ، هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله لم يرتض هذا الوجه. وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان حقيقة الاستعمال ليس الا القاء المعنى بلفظه ، بحيث لايكون الشخص حال الاستعمال ملتفتا إلى الألفاظ ، بل هي مغفول عنها ، وانما تكون الألفاظ قنطرة ومرآة إلى المعاني ، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي ، فالمستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو ، والا كان هازلا. ودعوى : ان العام قد سيق لبيان ضرب القاعدة مما لا محصل لها ، فان أداة

__________________

١ ـ فرائد الأصول ، مبحث التعادل والتراجيح المقام الرابع المسألة الأولى ، ص ٤٣٣.

قال قدس‌سره :

« فالأوجه هو الاحتمال الثالث ( كون المخاطبين بالعام تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا ) فكما ان رفع مقتضى البراءة العقلية ببيان التكليف كان على التدريج كما يظهر من الاخبار والآثار مع اشتراك الكل في الاحكام الواقعية ، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ، فيجوز ان يكون الحكم الظاهري للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات الذي يقتضيه العمل بالعمومات وان كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك. »

٥١٧

العموم والمدخول انما سيقت لبيان الحكم النفس المري ، وليست القاعدة جزء مدلول الأداة ولا جزء مدلول المدخول.

نعم : قد يعبر عن العام بالقاعدة ، الا ان المراد من القاعدة هي القاعدة العقلائية : من حجية الظهور ، وأصالة العموم. وقد تكون القاعدة مجعولة شرعية ، كاصالة الطهارة والحل ، وأمثال ذلك من الاحكام الظاهرية. وأين هذا من العام المسوق لبيان الحكم الواقعي؟ والحاصل : ان تفكيك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية مما لا محصل له ، بل العام قبل ورود التخصيص عليه وبعده يكون على حد سواء في تعلق الإرادة به وان هناك إرادة واحدة متعلقة بمفاده ، فهذا الوجه ليس بشئ.

بل التحقيق ، هو ان يقال : ان كل من أداة العموم ومدخولها لم يستعمل الا في معناه ، والتخصيص سواء كان بالمتصل أو بالمنفصل ، وسواء كان التخصيص أنواعيا أو أفراديا ، وسواء كانت القضية حقيقية أو خارجية ، لا يوجب المجازية ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

اما في الأداة : فلان الأداة لم توضع الا للدلالة على استيعاب ما ينطبق عليه المدخول ، وهذا لا يتفاوت الحال فيها بين سعة دائرة المدخول ، أو ضيقه. فلا فرق بين ان يقال : أكرم كل عالم ، وبين ان يقال : أكرم كل انسان ، فان لفظة ( كل ) في كلا المقامين انما تكون بمعنى واحد ، مع أن الثاني أوسع من الأول وذلك واضح.

واما في المدخول : فلان المدخول لم يوضع الا للطبيعة المهملة المعراة عن كل خصوصية ، فالعالم مثلا لايكون معناه الا من انكشف لديه الشيء ، من دون دخل العدالة ، والفسق ، والنحو ، والمنطق فيه أصلا. فلو قيد العالم بالعادل أو النحوي أو غير ذلك من الخصوصيات والأنواع ، لم يستلزم ذلك مجازا في لفظ العالم ، لأنه لم يرد من العالم الا معناه ولم يستعمل في غير من انكشف لديه الشيء ، والخصوصية انما استفيدت من دال آخر. وعلى هذا لا يفرق الحال بين ان يكون القيد متصلا بالكلام ، أو منفصلا ، أو لم يذكر تقييد أصلا لا متصلا ولا منفصلا ، ولكن كان المراد من العالم هو العالم العادل مثلا ، فإنه في جميع ذلك لم يستعمل العالم الا في

٥١٨

معناه ، فمن أين تأتى المجازية؟ وأي لفظ لم يستعمل في معناه؟ حتى يتوهم المجازية فيه. وهذا في التخصيص الأنواعي واضح لا سترة فيه.

نعم : في التخصيص الافرادي ربما يتوهم استلزامه المجازية ، سواء كان ذلك في القضية الحقيقية أو في القضية الخارجية ، من جهة ان التخصيص الافرادي لا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة كما في التخصيص الأنواعي ، من جهة ان المدخول كما تقدم لم يوضع الا للطبيعة ، فالتخصيص الافرادي انما يصادم نفس الأداة ، حيث إن الأداة موضوعة لاستيعاب افراد المدخول ، والتخصيص الافرادي يوجب عدم استيعاب الافراد ، فيلزم استعمال لفظ الأداة في خلاف ما وضع له. والذي يدل على وضع الأداة لاستيعاب افراد المدخول هو تقديم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، بعد اشتراكهما في الحاجة إلى مقدمات الحكمة لسريان الحكم إلى جميع الأنواع ، ولكن بالنسبة إلى افراد النوع الواحد يكون السريان مدلولا لفظيا في العام الأصولي ، وبحسب مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي ، فيكون زيد العالم الفاسق الذي تعارض فيه قوله : أكرم عالما ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، مندرجا تحت العام الأصولي بالدلالة اللفظية ، وتحت الاطلاق الشمولي بمقدمات الحكمة التي من جملتها عدم ورود ما يصلح للبيان ، والدلالة اللفظية في العام الأصولي تصلح ان تكون بيانا ، فيحكم في المثال المتقدم بعدم وجوب اكرام زيد العالم الفاسق ، فتأمل.

وهذا لايكون الا من جهة ان لفظ ( كل ) يدل على استيعاب الافراد. فيكون التخصيص الافرادي مصادر ما لمفاد الأداة واستعمالا لها في خلاف ما وضعت له. هذا. ولكن الأقوى : ان التخصيص الافرادي أيضا لا يوجب المجازية. اما في القضية الحقيقية : فلان الافراد ليست مشمولة للفظ ابتداء ، بحيث يكون مثل أكرم كل عالم بمدلوله اللفظي يدل على اكرام زيد ، وعمرو ، وبكر ، وغير ذلك ، والا لما احتجنا في القضية الحقيقية إلى تأليف القياس ، واستنتاج حكم الافراد من ضم الكبرى إلى الصغرى.

والحاصل : ان كل فرد في القضية الحقيقية انما يعلم حكمه وبواسطة تأليف القياس وتطبيق الكبرى الكلية عليه ، فهذا يدل على أن اللفظ بنفسه ابتداء لا يدل على

٥١٩

حكم الافراد ، بل التخصيص الافرادي أيضا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة. والسر في تقدم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، ليس من جهة ان العام الأصولي بنفسه متكفل لحكم الافراد ابتداء ، بل التقدم من جهة ان القضية الشرطية التي تتكفلها القضية الحقيقة في الاطلاق الشمولي انما تكون بمقدمات الحكمة ، وفي العام الأصولي انما تكون مفاد نفس اللفظ. مثلا في مثل أكرم العالم اللفظ لا يدل على أزيد من وجوب اكرام الطبيعة ، واما الشمول والاستيعاب ، بحيث كلما وجد في العالم عالم يجب اكرامه فإنما يستفاد من مقدمات الحكمة ، واما مفاد مثل أكرم كل عالم فهو بنفسه يدل على أنه كلما وجد في العالم عالم فأكرمه بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. فالفرق بين العام الأصولي والاطلاق الشمولي هو هذا ( فتأمل ) لا ان العام الأصولي ابتداء يدل على شمول الافراد ، حتى يكون التخصيص الافرادي موجبا لاستعمال أداة العموم في غير ما وضعت له ، بل التخصيص الافرادي كالأنواعي يرد على المصب ويضيق دائرته. هذا في القضية الحقيقية.

واما التخصيص الافرادي في القضية الخارجية : فالتوهم المذكور وان كان فيها أمس من جهة ان القضية الخارجية ابتداء متكفلة لحكم الافراد ، بلا حاجة إلى تأليف القياس ثبوتا وان احتاج إليه في بعض الأحيان اثباتا ، كما تقدم ، الا انه مع ذك التخصيص الافرادي في القضية الخارجية لا يوجب المجازية أيضا ، للعلم بان استعمال أداة العموم ومدخولها في القضية الحقيقية الخارجية انما يكون بنهج واحد ، وليس للأداة في القضية الخارجية وضع واستعمال مغاير لوضع الأداة واستعمالها في القضية الحقيقية. وانقسام القضية إليهما ليس باعتبار اختلاف الوضع والاستعمال ، بل الاختلاف انما يكون باعتبار اللحاظ ، حيث لحاظ الافراد الموجودة الفعلية في القضية الخارجية ، وعدم لحاظ الموجودة بالفعل في القضية الحقيقية. واختلاف اللحاظ انما يكون باختلاف الملاك في القضيتين ، حيث إن الملاك الذي أوجب ترتب المحمول على الموضوع في القضية الحقيقية انما يكون مطردا في جميع افراد الموضوع ، ليس هناك الا ملاك واحد قائم بالجميع ، سواء كانت موجودة بالفعل أو الذي توجد بعد ذلك. بخلاف الملاك في القضية الخارجية ، فان

٥٢٠