فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

الظاهرية المنتزعة عن حكم الشارع بانطباق المأتى به على المأمور به انما تكون إذا لم ينكشف الخلاف ، وأما إذا انكشف الخلاف وتبين عدم الانطباق فالصحة تنعدم ، بناء على ما هو الحق من عدم اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء.

نعم : للشارع أيضا بعد انكشاف الخلاف الحكم بالصحة ، ومرجع الصحة في مثل هذا إلى الاكتفاء بما اتى به امتثالا للواقع عن الواقع وهذه ترجع إلى الصحة الواقعية بوجه.

وعلى كل حال : الصحة والفساد أينما كانا فإنما يكونان من الانتزاعيات.

ودعوى انها في المعاملات من الاحكام المجعولة فاسدة ، فان المجعول في باب المعاملات هو ترتب الأثر عند تحقق سببه ، وهذا لا يتصف بالصحة والفساد ، بل المتصف بهما هو الفرد المأتى به من المعاملة. وهذا الفرد انما يتصف بالصحة عند انطباقه على ما يكون مؤثرا ، وقد عرفت : ان الانطباق يكون أمرا واقعيا ومنه ينتزع الصحة ، فحال الصحة في المعاملات حالها في العبادات.

الامر الرابع :

البحث عن اقتضاء النهى للفساد لا يتوقف على ثبوت مقتضى الصحة للمنهى عنه لولا النهى ، بحيث كان صحيحا لولا النهى لمكان اندراجه تحت اطلاق دليل العبادة أو المعاملة ، كما يظهر من المحقق القمي (ره) بل يصح البحث عن اقتضاء النهى للفساد ولو كان المنهى عنه لولا النهى مشكوك الصحة والفساد من جهة الشبهة الحكمية أو المفهومية ، وكان الأصل العملي فيه يقتضى الفساد. مثلا لو كان ( صوم الوصال ) أو ( المقامرة ) مشكوك الصحة والفساد من جهة : عدم الدليل ، أو تعارض الدليلين ، أو غير ذلك من أسباب الشك ، فلا اشكال في أن الأصل عند الشك في ذلك هو الفساد ، لأصالة عدم مشروعية صوم الوصال ، وأصالة عدم ترتب الأثر من النقل والانتقال في المقامرة ، إذا فرض ان أوفوا بالعقود لا يعم المقامرة ، وعمومات الصوم لا تشمل صوم الوصال. ولكن مع ذلك لو تعلق النهى عن صوم الوصال أو المعاملة القمارية ، كان للبحث عن اقتضاء مثل هذا النهى للفساد مجال.

٤٦١

ولا يتوهم : انه لا معنى للبحث عن ذلك بعد ما كان مقتضى الأصل الفساد ، لأنه بناء على اقتضاء النهى للفساد يكون الفساد مستندا إلى الدليل الاجتهادي الحاكم على الأصل العملي ، وان كان موافقا له في المؤدى كما حقق في محله. فدعوى ان مورد البحث يختص فيما إذا كان هناك مقتض للصحة مما لا شاهد عليها.

الامر الخامس :

لا أصل في نفس الجهة المبحوث عنها لو شك فيها ، سواء كان البحث عن اقتضاء النهى الفساد من حيث الدلالة اللفظية ، أو كان من حيث الملازمات العقلية ، إذا لملازمة العقلية لو كانت فهي أزلية فليس لها حالة سابقة ، فلا أصل يحرز الملازمة وعدم الملازمة ، وكذلك لا أصل لنا يعين دلالة اللفظ وعدم دلالته لو شك في الدلالة ، وذلك واضح. هذا بالنسبة إلى المسألة الأصولية المبحوث عنها في المقام.

واما بالنسبة إلى المسألة الفرعية المستنتجة عن المسألة الأصولية ، ففي العبادات يرجع الشك فيها إلى الشك في المانعية ، لأن الشك في اقتضاء النهى للفساد يستتبع الشك في مانعية المنهى عنه عن العبادة ، ويندرج في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، ويكون المرجع هو البراءة فيها أو الاشتغال ، كل (١) على مسلكه.

هذا إذا كان هناك امر بالعبادة مع قطع النظر عن النهى. واما لو لم يكن امر بها فالشك في اقتضاء النهى للفساد يوجب الشك في مشروعية العبادة ، والأصل يقتضى عدم المشروعية ، فتأمل.

واما في المعاملات : فالشك في اقتضاء النهى للفساد يستتبع الشك في

__________________

١ـ وقد أطلق شيخنا الأستاذ مد ظله القول باندراج المقام في مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر ، ولكن ينبغي التفصيل ، بين ما إذا تعلق النهى بنفس العبادة ، وبين ما إذا تعلق بجزئها أو شرطها ، فإنه لو تعلق بنفس العبادة لا يرجع الشك فيها إلى الشك في المانعية ، لاقتضاء النهى حرمة العبادة على كل حال وان شك في اقتضائه الفساد ، ومع حرمة العبادة لا يمكن تصحيحها ، إذ ليس هناك شيء وراء العبادة تعلق النهى به يشك في مانعية ، حتى ينفى بالأصل ، فتأمل جيدا. منه

٤٦٢

صحة المعاملة ، والأصل يقتضى عدم الصحة ، لأصالة عدم ترتب الأثر عليها ، الا إذا كان هناك اطلاق أو عموم يقتضى الصحة وترتب الأثر فتدبر جيدا.

وإذ تمهدت هذه المقدمات ، فالكلام في اقتضاء النهى للفساد يقع في مقامين :

المقام الأول :

في اقتضاء النهى عن العبادة للفساد.

وتعلق النهى عن العبادة يتصور على وجوه : إذ قد تكون العبادة منهيا عنها لذاتها ، وقد تكون منهيا عنها لجزئها على وجه يكون الجزء واسطة في الثبوت ، وقد تكون منهيا عنها لشرطها كذلك ، وقد تكون لوصفها الخارج كذلك. وقد يكون نفس الجزء ، أو الشرط ، أو الوصف منهيا عنه ، وكان النهى عن العبادة المشتملة على ذلك الجزء ، أو الشرط ، أو الوصف ، بالعرض والمجاز.

وقبل ذكر حكم هذه الأقسام ، لا بأس بالإشارة إلى ما ربما يستشكل في تعلق النهى بالعبادة.

فمنها : انه كيف يعقل ان تكون العبادة منهيا عنها؟ مع أن العبادة ما توجب القرب إليه تعالى ، ولا يعقل النهى عن ذلك.

ومنها : ان النهى عن العبادة لا يجتمع مع الامر بها ، ومع عدم الامر بها تكون العبادة فاسدة لعدم مشروعيتها ، فلا تصل النوبة إلى اقتضاء النهى للفساد ، بل الفساد يستند إلى أسبق علله ، وهو عدم المشروعية.

ومنها : انه لا يمكن النهى عن العبادة لذاتها ، حيث إن ذات العبادة بما انها ذات لم يتعلق بها النهى ، بل لا بد ان تكون هناك خصوصية أوجبت النهى ، كصلاة الحايض ، وصوم العيدين ، وأمثال ذلك مما كانت نفس العبادة منهيا عنها. فجعل النهى عن العبادة لذاتها قسيما للنهي عن العبادة لوصفها لا يستقيم ، بل دائما يكون النهى عن العبادة لوصفها ، ولو كان ذلك مثل الحيض في الحائض والزمان في العيدين ، هذا. ولكن لا يخفى عليك ضعف جميع ذلك.

اما الأول :

فلانه ، ليس المراد من تعلق النهى بالعبادة الفعلية ، بل المراد تعلق النهى بما

٤٦٣

كان من سنخ الوظائف التي يتعبد بها ، بحيث لو لم يتعلق بها نهى وتعلق بها امر كان أمرها أمرا عباديا لا يسقط الا بالتعبد به والتقرب إليه تعالى ، من غير فرق بين ما كان ذاتا عبادة ، كالسجود لله ـ لو فرض تعلق النهى به ـ وما لم يكن كذلك ، كالصوم والصلاة ، فان السجود لله بوصف كونه مما يتقرب به إليه تعالى فعلا لا يعقل تعلق النهى به ، بل تعلق النهى به موجب لعدم كونه مقربا ، وان كان مقربا لولا النهى ، كما هو الحال في مثل الصلاة والصوم.

واما الثاني :

فلانه قد تقدم ان الفساد لولا النهى كان من جهة أصالة عدم المشروعية ، واما لو تعلق النهى بها كان الفساد من جهة قيام الدليل الاجتهادي عليه ، والأصل لا يقاوم الدليل ، مضافا إلى أنه ربما تكون العبادة مندرجة تحت اطلاق ما دل على مشروعيتها في نوعها ، فيكون الفساد مستندا إلى النهى ليس الا ، كما لا يخفى.

واما الثالث :

فلان ذلك مناقشة مثالية. والمقصود : ان النهى قد يتعلق بذات العبادة لأجل خصوصية نوعية قائمة بذاتها ، وان كانت تلك الخصوصية من قبيل أوصاف المكلف الآتي بالعبادة ، كالحيض. وأخرى : يتعلق النهى بالعبادة لأجل خصوصية صنفية أو شخصية خارجة عن الذات لاحقة لها. والمناقشة بان الحيض ليس من الخصوصيات المنوعة للذات لا أهمية لها.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : ان النهى المتعلق بالعبادة يقتضى الفساد مطلقا ، سواء كان لذاتها ، أو لجزئها ، أو لشرطها ، أو لوصفها ، إذا كانت هذه من الوسائط الثبوتية ، سواء قلنا : بكفاية عدم الامر لفساد العبادة ـ كما يحكى عن الجواهر ـ أو عدم كفاية ذلك بل يتوقف الفساد على عدم الملاك أيضا ـ كما هو المختار ـ وسواء كان اطلاق الامر بدليا ( كصل ) أو شموليا ( كأكرم العالم ) لو فرض انه امر عبادي فإنه على جميع هذه التقادير النهى يقتضى الفساد ، فإنه لا محيص عن تقييد اطلاق متعلق الامر بما عدا مورد النهى بعد ما كانت النسبة بين المتعلقين العموم المطلق وكان متعلق النهى أخص ، فإنه لولا التقييد يلزم الغاء النهى بالمرة ، أو اجتماع

٤٦٤

الضدين ، وكلاهما لا يمكن. فالتقييد مما لا بد منه ، فلا امر ، ومع عدم الامر ، فان قلنا بمقالة صاحب الجواهر ، ففساد العبادة المنهى عنها واضح لا يحتاج إلى تجشم برهان.

واما بناء على المختار : فكذلك أيضا لأنه وان قلنا بكفاية الملاك في صحة العبادة ، الا انه ليس كل ملاك مصححا للعبادة ، بل لا بد ان يكون الملاك تاما في عالم ملاكيته ، بحيث انه لم يكن مغلوبا ومقهورا بما هو أقوى منه ، إذا الملاك المغلوب غير صالح للعبادية ، والا لما صار مغلوبا. ومن المعلوم : ان النهى عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة في العبادة أقوى من مصلحتها لو فرض انه كان فيها جهة مصلحة ، والا فمن الممكن ان لايكون في العبادة المنهى عنها جهة مصلحة أصلا ، وعلى تقدير ثبوتها فهي مغلوبة بما هو أقوى منها الذي أوجب النهى عنها ، إذ لو كانت مساوية أو أقوى من مفسدة النهى لما تعلق بها النهى ، فإذا كانت المصلحة مغلوبة سقطت عن صلاحيتها للتقرب ، وكانت العبادة فاسدة لا محالة. وينحصر تصحيح العبادة بالملاك بما إذا كان عدم الامر بها لأجل عدم القدرة عليها لمكان المزاحمة ، لا ما إذا كان عدم الامر بها من جهة التقييد والتخصيص.

هذا إذا تعلق النهى بنفس العبادة

وأما إذا تعلق بجزئها : فالأقوى انه كذلك أي يقتضى الفساد ، سواء كان الجزء من سنخ الافعال ، أو كان من سنخ الأقوال. وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهى عنه ، كما إذا اقتصر على قرائة سورة العزيمة بناء على كونها منهيا عنها ، أو لم يقتصر ، كما إذا قرء سورة أخرى بعد قرائة العزيمة أو قبلها. وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا ، كما إذا قلنا بحرمة القران بين السورتين في الصلاة ، أو كان لا بشرط ، كما إذا قلنا بجواز القران. فإنه على جميع هذه التقادير يكون المنهى عنه مفسدا للعبادة ، لان النهى عن جزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء ، وتكون بالنسبة إليه بشرط لا لا محالة. ونفس اعتبار العبادة بشرط لا عن شيء يقتضى فساد العبادة الواجدة لذلك الشيء ، لعدم كون الواجد له من افراد المأمور به بل المأمور به غيره ، فالآتي بالمنهى عنه غير آت بالمأمور به. مضافا إلى أنه يعمه أدلة الزيادة ، و

٤٦٥

يكون قد زاد في صلوته مثلا فتفسد. ومضافا إلى أنه يعمه أيضا أدلة التكلم إذا كان المنهى عنه من سنخ الأقوال ، فإنه وان لم يخرج بالنهي عن كونه قرآنا مثلا ولا يدخل في كلام الآدمي ، الا انه بعد النهى عنه يخرج عن أدلة جواز القرآن والذكر في الصلاة ، وبعد خروجه عن ذلك يندرج في اطلاقات مبطلية مطلق التكلم من غير تقييد بكلام الآدمي ، والقدر الخارج عن هذا الاطلاق هو التكلم بالقرآن والذكر الجائز ، ويبقى الذكر أو القرآن المنهى عنه داخلا تحت الاطلاق.

وبما ذكرنا يظهر : انه لا فرق في بطلان الصلاة بقرائة العزيمة ، بين ما إذا قرئها بعد الحمد في مكان السورة ، أو قرئها في حال التشهد ، أو الركوع ، أو غير ذلك ، إذ مناط الفساد مطرد بعد ما كانت العزيمة منهيا عنها في الصلاة مطلقا وفي جميع الحالات ، فتأمل جيدا.

هذا إذا تعلق النهى بالجزء. وأما إذا تعلق بالشرط فهو كتعلقه بالوصف ، إذ الشرط يرجع إلى الوصف. ومجمل القول في ذلك : هو ان الوصف المنهى عنه تارة : يكون متحدا مع العبادة في الوجود وليس له وجود استقلالي مغاير للموصوف ، كالجهر والاخفات في القراءة ، حيث إنه ليس للجهر وجود مغاير لوجود القراءة ، بل هو من كيفياتها. وأخرى : يكون للوصف وجود مغاير ، كالتستر والاستقبال في الصلاة. فان كان على الوجه الأول ، فالنهي عنه في الحقيقة يرجع إلى النهى عن العبادة الموصوفة بذلك الوصف ، ويندرج فيما تقدم من اقتضاء النهى للفساد ، كما لا يخفى. وأما إذا كان على الوجه الثاني ، فالنهي عنه لا يقتضى فساد العبادة ، حيث إنه لا موجب له ، إذ أقصى ما يقتضيه ذلك النهى هو حرمة ذلك الوصف والشرط ، ووقوع شيء محرم في أثناء العبادة لا يوجب فسادها إذا لم تقيد العبادة بالخالي عنه ، فيكون حال الوصف المنهى عنه في العبادة حال النظر إلى الأجنبية في أثناء العبادة ، وغير ذلك من المقارنات.

نعم : إذا كان الشرط المنهى عنه عبادة يكون الشرط فاسدا وبفساده تفسد العبادة المشروطة به أيضا ، والسر في ذلك واضح. هذا كله فيما إذا كان النهى عن العبادة نفسيا. وأما إذا كان غيريا تبعيا ، كالنهي المتولد من الامر بالشيء ، فقد تقدم

٤٦٦

في مبحث الضد انه لا يقتضى الفساد ، الا إذا قلنا بتوقف العبادة على الامر ولم نقل بالامر الترتبي ، على ما تقدم.

هذا تمام الكلام في النهى عن العبادة. وينبغي التنبيه على أمرين :

الامر الأول :

ان مقتضى القاعدة كون النهى عن العبادة موجبا لفسادها مطلقا ، وانه مانع من صحتها ، من غير فرق بين صورة الاضطرار والنسيان الموجب لارتفاع الحرمة واقعا ، لان المعانعية ليست معلولة للحرمة حتى تدور مدارها ، بل هي والحرمة كلاهما معلولان للجهة التي أوجبت النهى : من المفسدة والمبغوضية الواقعية التي لا ترتفع بالاضطرار والنسيان.

هدا ، ولكن المحكى عن المشهور خلاف ذلك ، حيث حكى عنهم : انه لو اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة صحت صلوته ، وكذا في صورة النسيان. وكذا حكى عنهم : انه لو شك في كون اللباس حريرا ، أو كون الشيء ذهبا ، المستتبع للشك في حرمة لبسه المستتبع للشك في مانعيته ، فبأصالة الحل والبرائة يرتفع الشك في المانعية ، كما هو الشأن في كل شك سببي ومسببي ، حيث إن الأصل الجاري في الشك السببي رافع للشك المسببي ، ولا يجرى الأصل فيه موافقا كان أو مخالفا ، هذا.

ولنا في كل من المحكى عن المشهور نظر. اما في الأول : فلما فيه.

أولا : ان الموجب للمانعية ليس الا التضاد بين اطلاق الامر والحرمة ، إذ لولا التضاد لما كان وجه للمانعية وفساد العبادة ، وقد تقدم في مبحث الضد ان الضدين في عرض واحد ، ليس بينهما طولية وترتب ، وليس وجود أحدهما مقدمة لعدم الآخر ، ولا عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر. فيكون في المقام عدم الامر بالعبادة مع حرمتها في رتبة واحدة ، وليست الحرمة مقدمة لعدم الامر ، ولا عدم الامر مقدمة للحرمة ، فلو كان عدم الحرمة وارتفاعها في صورة الاضطرار والنسيان موجبا للامر بالعبادة ، يلزم كون عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر. وكان المشهور غفلوا عن مبناهم من عدم المقدمية في باب الضد ، والتزموا في المقام بان ارتفاع الحرمة

٤٦٧

عن العبادة موجب لثبوت الامر بالعبادة ، مع أن هذا عين القول بالمقدمية ، فتأمل جيدا.

وثانيا : انه هب ان الحرمة في طول الامر وبينهما ترتب ، الا ان المانعية ليست معلولة للحرمة ومسببة عنها ، حتى يكون ارتفاعها موجبا لارتفاع المانعية ، بل المانعية والحرمة معا معلولان لعلة ثالثة ، وهي الملاك والمفسدة التي أوجبت الحرمة وأوجبت المعانعية ، ومن المعلوم : ان ارتفاع أحد معلولي علة ثالثة لا يوجب ارتفاع المعلول الآخر الا إذا ارتفعت نفس العلة. والاضطرار والنسيان لا يوجبان الا رفع الحرمة ، واما الملاك والمفسدة فهو بعد على حاله.

الا ان يقال : ان الاضطرار والنسيان حيث وردا في حديث الرفع كان رفعهما في الدليل كاشفا عن عدم لملاك. ولكن هذا لا يستقيم ، لورود حديث الرفع مورد الامتنان فهو لا ينافي بقاء الملاك والمفسدة ، ويكون المرفوع هو الحرمة فقط.

واما في الثاني : فلما فيه أولا : ما عرفت من أن المانعية ليست مسببة عن الحرمة ، حتى يكون جريان أصالة الحل عند الشك في الحرمة موجبا لرفع الشك في المانعية ، بل الشك في المانعية بعد على حاله ، ولا بد ان يجرى الأصل في نفس المانعية ، ولا يكفي جريان الأصل في الحرمة.

وثانيا : هب ، ان المعانعية مسببة عن الحرمة ، الا انه ليس كل أصل جار في السبب يكون رافعا للشك المسببي ، بل لا بد ان يكون المسبب من الآثار الشرعية المترتبة على السبب ، بحيث يكون التعبد بالسبب تعبدا بالمسبب ، كما في طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرية. وهذا المعنى غير متحقق فيما نحن فيه ، لان الحلية المجعولة بأصالة الحل تكون من سنخ الحلية المجعولة في حال الاضطرار إلى اكل ما هو محرم الاكل ، كالأرنب ، غايته ان الحلية المجعولة في حال الاضطرار تكون واقعية ، والمجعولة بأصالة الحل تكون ظاهرية. ومن المعلوم : ان حلية اكل لحم الأرنب عند الاضطرار لا توجب عدم مانعية المتخذ منه من اللباس للصلاة ، لان الأرنب بعد محرم الاكل ، أي خلقه الله تعالى محرم الاكل ، كما خلق الغنم محلل الاكل ، وهذه الحرمة الاقتضائية المجعولة لذات الأرنب لا ترتفع بالحلية المجعولة في حال الاضطرار ، كما أن

٤٦٨

الحلية المجعولة للغنم بحسب الذات لا ترتفع بالحرمة العارضة له بسبب الجلل أو الوطي ، إذ لا تنافي بينهما ، فان أحدهما حلية أو حرمة اقتضائية وضعية ذاتية ، والأخرى حلية أو حرمة تكليفية فعلية عارضية. والمانعية في غير المأكول على تقدير كونها معلولة للحرمة ، فإنما هي معلولة لتلك الحرمة الذاتية الاقتضائية ، وهي كما لا ترتفع بالاضطرار ، كذلك لا ترتفع بأصالة الحل عند الشك في كون الحيوان محلل الاكل أو محرمه ، لما عرفت : من أن الحلية المجعولة بأصالة الحل من سنخ الحلية المجعولة في حال الاضطرار المجامعة للحرمة الذاتية. فاجراء أصالة الحل لا ينفع في رفع الشك في المانعية ، بل إن الشك في المانعية بعد على حاله ، الا ان يدعى ان أصالة الحل تثبت الحلية الواقعية الاقتضائية ، وهو بمكان من الفساد بحيث لا يخفى. وهذا بالنسبة إلى مانعية غير المأكول واضح.

واما فيما نحن فيه. من مانعية الحرير والذهب ، فان كانت حرمة لبس الحرير والذهب في الصلاة ( نظير حرمة اكل لحم الأرنب ) المحفوظة في حال الاضطرار إلى لبس الحرير والذهب ، فأصالة الحل لا تنفع في رفع الشك في المانعية ، كما في غير المأكول. وأما إذا لم يكن للبس الحرير والذهب الا حرمة واحدة وحكم فارد ترتفع في حال الاضطرار إلى لبسهما ، فبجريان أصالة الحل يرتفع الشك في المانعية ، على تقدير تسليم كون المانعية معلولة للحرمة. وقد مال شيخنا الأستاذ مد ظله إلى أن الحرمة في لبس الحرير والذهب نظير الحرمة في غير المأكول ، وحينئذ تكون المانعية المستفادة من الحرمة كالمانعية المستفادة من النهى الغيري ، في أنها لا ترتفع بالاضطرار والنسيان ، وعند الشك فيها من جهة الشبهة الموضوعية لا بد ان يجرى الأصل في نفس المانعية ، ولا تنفع أصالة الحل ، فتأمل في المقام جيدا.

الامر الثاني :

محل الكلام في اقتضاء النهى للفساد ، انما هو فيما إذا كان النهى متعلقا بالعبادة ابتداء ، أي كانت العبادة محرمة ذاتا. وأما إذا كان النهى عنها من جهة قبح التشريع ، أي الحرمة المأتية من قبل قبح التشريع ، فهل هو كذلك؟ أي يقتضى الفساد ، أو انه لا يقتضيه؟ أو التفصيل بين العبادة فيقتضيه ، والمعاملة فلا

٤٦٩

يقتضيه ، ومحل الكلام انما هو في العبادة أو المعاملة التي كانت في الواقع مشروعة وممضاة ، أي كانت مما تعلق بها الامر والامضاء ولكن المكلف لم يعلم بذلك وأسندها إلى الشارع تشريعا.

والحق في مثل هذا ، التفصيل بين العبادة والمعاملة ، ففي المعاملة : حرمة التشريع لا تقتضي الفساد ، لأنه هب انه كان اصدارها قبيحا عقلا ومحرما شرعا ، الا ان حرمة الاصدار ومبغوضية الايجاد لا تقتضي الفساد ، على ما سيأتي في المقام الثاني.

واما في العبادة : فالحرمة التشريعية كالحرمة الذاتية تقتضي الفساد لقبح التشريع عقلا المستتبع بقاعدة الملازمة للحرمة الشرعية. وحكم العقل بقبح التشريع لا يدور مدار الواقع ، بحيث إذا كانت العبادة في الواقع مشروعة كان المكلف متجريا ، بل تمام مناط حكم العقل بقبح التشريع هو الاسناد إلى المولى ما لم يعلم أنه منه ، من غير فرق بين ان يعلم أنه ليس منه ، أو يظن ، أو يشك. وليس حكم العقل بقبح التشريع كحكمه بقبح التصرف في مال الغير ، بحيث يكون له حكم واقعي وحكم طريقي في صورة الشك ، على ما بيناه في محله. فنفس عدم العلم بان الشارع لم يأمر بالعبادة يتحقق تمام موضوع حكم العقل بقبح التشريع ، ويتبعه الحرمة الشرعية. وليس حكم العقل بقبح التشريع كحكمه بقبح المعصية مما لا يستتبع حكما شرعيا فان قبح المعصية من جعل بذاته كحجية العلم ، ليس يقبل جعلا شرعيا ، موافقا أو مخالفا. بخلاف قبح التشريع ، فإنه قابل لجعل حكم مخالف ولا محذور فيه ، إذ يصح للشارع تجويز التشريع ، فهذا يدل على أن قبح التشريع ليس مما لا يستتبع بقاعدة الملازمة حكما شرعيا ، فحكم العقل بقبح التشريع يقتضى الحرمة الشرعية. وليس قبح التشريع أيضا من الآثام القلبية ، بحيث لا يسرى إلى العمل والفعل المتشرع به ، بل الفعل يكون مبغوضا وقبيحا ، غايته انه لا لذاته ، بل القبيح هو جهة الاصدار والايجاد ، وهذا المقدار يكفي في فساد العبادة لجهة بغضها الفاعلي. وقد تقدم منا : ان العبادة تحتاج إلى حسنها الفعلي والفاعلي معا ، ولا يكفي حسنها الفعلي ، فالحرمة التشريعية وان لم تناف المطلوبية الذاتية لكونهما في مرتبتين ،

٤٧٠

الا انها تنافى حسنها الفاعلي فتفسد ، فتأمل.

المقام الثاني في النهى عن المعاملة

ومجمل القول في ذلك : ان النهى عن المعاملة تارة يكون للارشاد إلى عدم حصولها ، فهذا لا اشكال في كونه موجبا لفسادها ، سواء تعلق بناحية السبب ، أو بناحية المسبب. فان تعلق بناحية السبب فهو يقتضى عدم ترتب المسبب على ذلك السبب ، وان تعلق بناحية المسبب فهو يقتضى عدم حصوله في الخارج. وهذا مما لا اشكال فيه ، فان النهى الارشادي حيث ما تعلق يقتضى الفساد ، حيث إنه ارشاد إلى الفساد.

وأما إذا كان النهى عن المعاملة مولويا مفاده الحرمة ، فتارة : يتعلق بالسبب ، وأخرى : يتعلق بالمسبب ، وثالثة : يتعلق بآثار المسبب : من التصرف في الثمن والمثمن ، وغير ذلك من الآثار المترتبة على المعاملة. والتعبير بالسبب والمسبب لا يخلو عن مسامحة ، لما تقدم من أنه ليس باب العقود والايقاعات من الأسباب والمسببات ، بل هي من باب الايجاديات ، والايجاب والقبول بمنزلة الآلة لذلك ، ويكون المنشأ بنفسه هو الصادر عن المكلف ابتداء ، وهو الموجد له في وعاء الاعتبار ، لا ان الصادر عنه هو السبب ، حتى يكون النقل والانتقال من المسببات التوليدية. وقد تقدم تفصيل ذلك. فالمراد من تعلق النهى بالسبب تعلقه بالايجاد بمعناه المصدري ، ويكون المحرم المنهى عنه هو ايجاد المعاملة وانشائها والاشتغال بها ، كالبيع وقت النداء ، حيث إن المحرم هو الاشتغال بالبيع وقت النداء ، لا النقل والانتقال. والمراد من تعلقه بالمسبب تعلقه بالموجد ، بمعناه الاسم المصدري ، ويكون المحرم المبغوض هو المنشأ والنقل والانتقال ، كبيع المسلم والمصحف للكافر ، حيث إن المبغوض هو نقل المسلم والمصحف للكافر ، لا انشاء النقل ، ومبغوضية الانشاء لمكان ما يستتبعه من الأثر ، وهو النقل والانتقال.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان النهى لو كان عن نفس الايجاد والانشاء والاشتغال بالمعاملة ، فهو لا يقتضى الفساد ، إذ حرمة الايجاد لا يلازم مبغوضية الموجد وعدم تحققه. واما لو تعلق النهى بنفس المنشأ والموجد ، فهو يقتضى الفساد

٤٧١

لخروج المنشأ حينئذ عن تحت سلطانه ، ولا قدرة عليه في عالم التشريع ، والمانع التشريعي كالمانع العقلي.

والحاصل :

ان الأمر والنهي الشرعيين موجبان لخروج متعلقهما عن سلطة المكلف ، ويكون في عالم التشريع مقهورا على الفعل أو الترك ، ومن هنا كان اخذ الأجرة على الواجبات حراما ، لخروج الفعل بالايجاب الشرعي عن تحت قدرته وسلطانه ، فليس يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ الأجرة عليه ، الا إذا تعلق الايجاب بنفس الايجاد والاصدار كما في الصناعات النظامية ، فإنه له اخذ الأجرة على عمله ، لعدم خروج عمله بمعناه الاسم المصدري عن تحت سلطانه ، لعدم تعلق الايجاب به ، بل تعلق الايجاب بنفس الايجاد والاصدار وعدم احتكار العمل. وأما إذا تعلق الامر بنفس العمل بمعناه الاسم المصدري فقد خرج العمل عن تحت سلطانه ، كما أنه لو تعلق النهى بنفس العمل فإنه أيضا يخرج عن تحت سلطانه ، ويكون النهى مخصصا لعموم ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى ذلك يبتنى عدم جواز بيع منذور الصدقة ومشروطها في ضمن العقد ، أو نذر البيع من زيد أو شرط ذلك ، فإنه لا يصح بيعه من غير زيد.

والسر في جميع ذلك : هو ان النذر ، والشرط ، والامر والنهى ، موجب لخروج المتعلق عن دائرة السلطنة ، ومخصص لعموم ( الناس مسلطون على أموالهم ) ومن شرائط صحة المعاملة السلطنة وعدم الحجر. ودعوى ان الوجوب والحرمة لا ينافيان السلطنة ضعيفة غايته ، فإنه لا معنى لبقاء السلطنة مع المنع الشرعي ، كما لا معنى لبقاء السلطنة مع سلبها عن نفسه بنذر أو شرط ، بعد ما دل الدليل على لزوم الوفاء بالنذر والشرط. وقد عرفت : ان جميع ذلك مندرج تحت جامع واحد وملاك فارد ، وهو ان الممنوع عنه شرعا موجب لسلب السلطنة. وبعض ما يترتب على ذلك من الفروع كأنه متسالم عليه عند الأصحاب ، وان كان بعضه الآخر لا يخلو عن خلاف. هذا إذا تعلق النهى بنفس المنشأ. وأما إذا تعلق بآثاره ، كقوله : ثمن العذرة أو الكلب سحت ، فهو يكشف أيضا انا عن عدم ترتب المنشأ وعدم تحققه. و

٤٧٢

من الغريب : ان بعض الاعلام سلم دلالة النهى عن الآثار على الفساد ، وأنكر دلالة النهى عن نفس المنشأ على الفساد ، مع أن الثاني أولى ، فتأمل جيدا.

ثم انه ربما يستدل على الفساد ، ببعض الاخبار (١) المعللة لعدم فساد نكاح العبد بدون اذن مولاه : بأنه لم يعص الله وانما عصى سيده.

تقريب الاستدلال : هو ان الظاهر من الرواية ، ان الشيء إذا كان معصية لله تعالى فهو فاسد ، ولا يصححه إجازة الغير ، والنهى التحريمي المتعلق بالمعاملة يوجب كون المعاملة معصية لله فتفسد. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن المعاملة مما نهى عنها الشارع ابتداء ، بل كان نهيه عنها يتبع حق الغير ، لكونها تصرفا في سلطان الغير وتضييعا لحقه ، فهذا لا يقتضى الفساد ، لان الحق راجع إلى الغير ، فله اسقاط حقه وإجازة المعاملة. فهذه الرواية تكون من أدلة جريان الفضولي في كل ما يكون متعلقا لحق الغير ، ولا يختص الفضولي بما إذا كانت الرقبة ملكا للغير ، بل مطلق تعلق حق الغير بالرقبة ، ولو لأجل الرهانة ، أو الخيار ، أو الجناية ، يوجب كون المعاملة معصية لذلك الغير المستتبع لمعصية الله تعالى ، لمكان تضييع حق الغير ، وليست معصية الله تعالى فيما إذا كانت المعاملة مما تعلق بها حق الغير سوى كونه تضييعا لحق الغير وتفويتا لسلطنته. وهذا بخلاف ما إذا كانت المعاملة بنفسها معصية الله تعالى وتصرفا في سلطنته تعالى ، لمكان النهى عنها والبعث إلى تركها ، فان مثل هذه المعصية توجب الفساد.

فيكون متحصل مفاد الرواية : ان المعاملة ان كانت معصية الله تعالى ابتداء ولم تكن معصية لغيره تعالى فهي فاسدة ولا تتحقق. وان كانت معصية للغير ، لمكان كونها تصرفا في سلطنة الغير ، فهي لا تقع فاسدة ، بل أمرها يرجع إلى ذلك الغير ، فان أجاز نفذت. وبذلك يندفع ما يقال : من أن معصية السيد أيضا معصية الله ، فتدل الرواية على أن معصية الله لا توجب فساد المعاملة ، والمراد من قوله : لم يعص الله ، هو انه ليس نكاح العبد مما لم يشرع الله تعالى كالنكاح في العدة ، فأقصى ما تدل عليه

__________________

١ ـ الوسائل ، الجزء ١٤ الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ص ٥٢٣

٤٧٣

الرواية هو ان المعاملة ان كانت مما لم يشرعها الله تعالى فهي تقع فاسدة ، وان كانت مما شرعها الله تعالى في نوعها ولكن نهى عن بعض افرادها لخصوصية هناك ، كالنكاح بلا اذن السيد ، فهذه المعاملة لا تقع فاسدة ، فالرواية أدل على الصحة من دلالتها على الفساد.

وجه الدفع : هو ان معصية السيد وان كانت معصية الله تعالى الا انه قد عرفت ان المراد من كونها معصية الله ليس الا كون المعاملة تضييعا لحق السيد وتصرفا في سلطنته ، حيث إن العبد مملوك للمولى وليس له سلطنة على شيء ، فالرواية تدل على أن كل ما يكون تصرفا في سلطنة الغير. فأمره راجع إلى الغير ، وكل ما يكون تصرفا في سلطان الله تعالى فهو يقع فاسدا. والمعاملة المنهى عنها شرعا تكون تصرفا في سلطانه تعالى ومعصية له فتقع فاسدة ، لكونها خروجا عن وظيفة العبودية. كما أن اطلاق المعصية على معصية السيد تكون بهذه العناية ، حيث إن العبد خرج عن وظيفته بنكاحه بلا اذن سيده ، فتأمل جيدا.

تنبيه

حكى عن أبي حنيفة : دلالة النهى عن العبادة والمعاملة على الصحة ، وقد تبعه في خصوص المعاملة بعض أصحابنا ، بتقريب : ان متعلق النهى كمتعلق الامر لا بد ان يكون مقدورا بعد النهى ، ليمكن موافقة النهى ومخالفته ، ومعلوم : ان النهى لم يتعلق بالعبادة أو المعاملة الفاسدة ، إذ لا حرمة في اتيان العبادة أو المعاملة الفاسدة ، فالمنهى عنه لا بد ان يكون صحيحا حتى بعد النهى ليمكن مخالفة النهى ، فلو اقتضى النهى الفساد يلزم ان يكون النهى سالبا لقدرة المكلف ، وموجبا لرفع قدرة المكلف على مخالفته ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد الاشكال. اما في العبادات : فلان النهى فيها لم يتعلق بما هو عبادة فعلية ، بل تعلق بشيء لو امر به لكان امره عباديا ، على ما تقدم بيانه ، والمكلف قادر على فعل متعلق النهى ومخالفته ولو بعد النهى. والذي لايكون قادرا عليه ، هو فعل ما يكون عبادة فعلية ، وليس هذا متعلق النهى ، وذلك واضح. واما في المعاملة : فلان متعلق النهى هو المبادلة التي يتعاطاها العرف وما

٤٧٤

هي بيدهم ، لا المبادلة الصحيحة ، فان المبادلة العرفية لا تتصف بالصحة والفساد ، بل الصحة والفساد انما ينتزعان من امضاء الشارع لتلك المبادلة وعدم امضائها ، وما ينتزع عن الحكم الشرعي لا يعقل ان يؤخذ في متعلق ذلك الحكم ، والمبادلة العرفية مقدورة للمكلف ولو بعد النهى الشرعي ، كما هو المشاهد ان بايع الخمر مع علمه بالفساد والنهى الشرعي حقيقة يبيع الخمر ويقصد المبادلة ، بحيث يكون بيعه للخمر مع علمه بالفساد كبيعه له مع عدم علمه به ، بل مع علمه بالصحة. وكذا سائر المبادلات العرفية التي تكون منهيا عنها ، فان جميعها مقدورة ومما يتعلق بها القصد حقيقة ، والنهى الشرعي يوجب فسادها ، أي عدم تحقق المبادلة خارجا شرعا ، وان تحققت عرفا. فدعوى ان النهى من المعاملة يقتضى الصحة ضعيفة جدا ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في في النهى عن العبادة والمعاملة. وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الجمعة ٢٥ ج ١ سنة ١٣٤٧.

٤٧٥

المقصد الثالث : في المفاهيم

وقبل الخوض في المقصد ينبغي تقديم مقدمة.

وهي : ان المفهوم ـ على ما عرفت منا مرارا ـ عبارة عن المدرك العقلاني الذي يدركه العقل عند الالتفات إلى الشيء ، حيث إن لكل شيء وجودا عقلانيا على طبق وجوده الخارجي ، سواء كان ذلك الشيء من الماديات ، أو المجردات. وسواء كان جزئيا ، أو كليا. وذلك المدرك العقلاني يكون بسيطا ، وليس مركبا من مادة وصورة ، إذ المادة والصورة تكون من شؤون الوجود الخارجي ، واما الوجود العقلاني فهو مجرد عن ذلك لا تركيب فيه. وذلك المدرك هو المعبر عنه : بالمفهوم ، والمدلول ، والمعنى ، والمقصود ، كل من جهة ، الا ان الجميع يشير إلى امر فارد وشيء واحد.

والمفهوم ، كما يكون في الألفاظ ، الأفرادية ، كذلك يكون في الجمل التركيبية ، حيث إنه كما أن للمفردات معنى ومفهوما مدركا عقلانيا ، كزيد ، وعمرو ، وانسان ، وشجر ، كذلك يكون للجمل التركيبية معنى ومفهوم ، كزيد قائم ، والنهار موجود ، وغير ذلك. وكما أن للألفاظ المفردة معنى مطابقيا ومعنى التزاميا ، فكذلك يكون للجمل التركيبية معنى مطابقي ومعنى التزامي. وكما أن لازم المعنى الافرادي تارة : يكون بينا أخص ، وأخرى : يكون أعم ، فكذلك لازم المعنى التركيبي ينقسم إلى هذين القسمين.

واما الدلالة التضمنية فهي لا واقع لها ، سواء في الألفاظ الأفرادية أو الجمل التركيبية لما عرفت : من أن المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني الذي يكون بسيطا مجردا عن المادة وليس له جزء ، فالدلالة التضمنية لا أساس لها وان كانت مشهورة في الألسن ، بل الدلالة اما ان تكون مطابقية ، واما ان تكون التزامية.

٤٧٦

واللازم في الدلالة الالتزامية ، اما ان يكون لازما بالمعنى الأخص ، واما ان يكون لازما بالمعنى الأعم. واللازم بالمعنى الأعم ، سواء كان في المعاني الأفرادية أو في الجمل التركيبية ، ليس من المداليل اللفظية لان اللفظ لا يدل عليه ولا ينتقل الذهن إليه بواسطة اللفظ ، بل يحتاج إلى مقدمة عقلية.

ومن هنا قلنا : ان مسألة مقدمة الواجب ، ومسألة الضد ، ليست من المباحث اللفظية ، لكون اللازم فيها لازما بالمعنى الأعم ، لتوقف اللزوم على توسيط حكم العقل. ولعل دلالة الاقتضاء كقوله تعالى : واسئل القرية ، ودلالة الإشارة والايماء كدلالة الآيتين على أن أقل الحمل يكون ستة أشهر ، ودلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كفر ، عقيب قول السائل ( هلكت وأهلكت جامعت أهلي في نهار شهر رمضان ) على علية الجماع للتكفير ـ إذ لو العلية لبطل الاقتران ـ كل ذلك يكون اللازم فيه من اللازم بالمعنى الأعم ، فلا يكون من الدلالة اللفظية. وعلى تقدير تسليم كون بعضها من الدلالة اللفظية فهو ليس من المنطوق والمفهوم المبحوث عنه في المقام ، إذ المراد من المنطوق : هو ما دل عليه الجملة التركيبية بالدلالة المطابقية ، والمراد من المفهوم : هو ما دلت عليه الجملة التركيبية بالدلالة الالتزامية بالمعنى الأخص. فما لم يكن مدلولا مطابقيا للجملة ولا مدلولا التزاميا بالمعنى الأخص ، لايكون من المنطوق والمفهوم ، سواء قلنا : بأنه مدلول اللفظ ـ كما قيل في مثل دلالة الإشارة ـ أو قلنا : بأنه خارج عن مدلول اللفظ وكان من اللازم بالمعنى الأعم. فما يظهر من بعض من ادراج مثل دلالة الإشارة في المنطوق فاسد. كما أن ما يظهر من بعض من ادراجها في المفهوم فاسد أيضا ، فإنها وان قلنا بأنها من الدلالة اللفظية تكون خارجة عن المفهوم والمنطوق ، ولا مانع من ثبوت الواسطة بين المنطوق والمفهوم.

وعلى كل حال : الامر في ذلك سهل ، من جهة انه بحث يرجع إلى الاصطلاح.

والمقصود في المقام بيان ان المراد من المنطوق : هو المدلول المطابقي للجملة التركيبية ، والمراد من المفهوم : هو المدلول الالتزامي لها على وجه يكون بينا بالمعنى الأخص. ولعله إلى ذلك يرجع ما عن بعض من تعريف المنطوق بما دل عليه اللفظ

٤٧٧

في محل النطق ، والمفهوم : بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، بان يكون المراد من محل النطق ولا محله هو المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي. وبعد ذلك لا يهمنا البحث وإطالة الكلام في التعريفات التي ذكروها للمنطوق والمفهوم ، مع ما يرد عليها من عدم الانعكاس والاطراد ، فإنها تعاريف لفظية قلما تسلم عن الاشكال. كما لا يهمنا البحث عن أن المنطوق والمفهوم من صفات الدال أو المدلول ، وانما المهم هو البحث عن الجمل التي يكون لمدلولها المطابقي لازم بالمعنى الأخص ، المعبر عنه بالمفهوم.

وينبغي ان يعلم : ان النزاع في المقام انما يكون صغرويا ، أي انه بحث عن أصل ثبوت المفهوم واللازم ، لا عن حجيته ، لان حجيته بعد ثبوته مفروع عنها ولا كلام فيها.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان هناك جملا تركيبية وقع النزاع في ثبوت اللازم والمفهوم لها.

الفصل الأول في مفهوم الشرط

والبحث عن القضية الشرطية تارة : يقع في معنى الشرط ، وأخرى : في مفاد القضية الشرطية أي المدلول المطابقي لها ، وثالثة : في ثبوت المفهوم لها أي المدلول الالتزامي.

اما معنى الشرط : فهو يطلق على معنيين :

أحدهما : المعنى الحدثي ( أي الجعل ) وهو بهذا المعنى يكون متصرفا يشتق منه الشارط والمشروط وغير ذلك ، وهو المراد من قوله عليه‌السلام : (١) شرط الله قبل شرطكم ، وقوله عليه‌السلام : في الدعاء ولك شرطي ان لا أعود في معصيتك. ولا يختص هذا المعنى من الشرط بان يكون في ضمن عقد ، وان كان يظهر من القاموس ذلك.

وثانيهما : ما يلزم من عدمه العدم ، مع قطع النظر عن استلزام وجوده

__________________

١ ـ الوسائل ، الجزء ١٧ الباب ٢٢ من أبواب موانع الإرث الحديث ١ ص ٤٠٩

٤٧٨

الوجود ، وهو بهذا المعنى جامد لا يتصرف. ولتفصيل الكلام في ذلك محل آخر ، إذ البحث عن ذلك لا ربط له بالمقام.

واما مفاد الجملة الشرطية ، وان الشرط إلى أي شيء يرجع ، فقد تقدم البحث عن ذلك مفصلا في الواجب المشروط (١) وقلنا : ان التعليق لا يرجع إلى النسبة ، وان كان يظهر من عبارة التهذيب ذلك ، حيث عرف القضية الشرطية : بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى. بل التعليق والشرط يرجع إلى المحمول المنتسب ، لا نفس المحمول بمعناه الافرادي ، حتى يرجع التقييد إلى المادة ويكون شرط الواجب ، بل يرجع إلى المحمول المنتسب. وبذلك دفعنا اشكال : ان النسبة معنى حرفي والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد لان التقييد يستدعى لحاظ المقيد معنى اسميا ، فراجع ما تقدم منا في الواجب المشروط. والمهم في المقام ، هو البحث عن المدلول الالتزامي للقضية الشرطية ، المعبر عنه بالمفهوم.

فاعلم : ان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية يتوقف :

على كون الترتب بين الجزاء والشرط ناشئا عن علاقة ثبوتية في نفس الامر والواقع ، وليس الترتب بينهما لمجرد الاتفاق والمصادفة ، كما في قولك : إذا كان الانسان ناطقا فالحمار ناهق ، إذ لا علاقة بين نهيق الحمار ونطق الانسان في نفس الامر ، بل العلاقة بينهما تكون علاقة جعلية لحاظية.

وعلى ان يكون الترتب ترتب العلية والمعلولية ، بان تكون العلاقة بين الجزاء والشرط علاقة العلية والمعلولية لا علاقة التلازم والتضايف ، وأن تكون العلة هو المقدم والشرط لا التالي والجزاء ، وأن يكون الشرط علة منحصرة لا يخلفه شرط آخر ، ولا يكون لشيء آخر دخل في عليته.

فإذا تمت هذه الأمور للقضية الشرطية كان لها مفهوم ، وإذا انتفى أحد هذه الأمور لم يكن للقضية مفهوم. والسر في اعتبار هذه الأمور واضح ، فإنه لو لم يكن بين

__________________

١ ـ راجع الجزء الأول من الكتاب مبحث تقسيمات الواجب. الامر الثاني من بحث الواجب المشروط ص ١٧٨

٤٧٩

الجزاء والشرط علقة ثبوتية وكانا متقارنين من باب الاتفاق ، لم يكن انتفاء الشرط مستتبعا لانتفاء الجزاء ، إذ لا مدخلية للشرط حينئذ في وجود الجزاء.

وكذا لو فرض ان بينهما علاقة ثبوتية ولكن لم تكن تلك العلاقة علاقة العلية والمعلولية بل كانت علاقة التلازم ، فإنه أيضا لا يقتضى انتفاء الشرط انتفاء الجزاء ، لان انتفاء أحد المتلازمين لا يستلزم انتفاء اللازم الآخر. الا إذا كان التلازم دائميا ، بحيث كانا معلولين لعلة ثالثة منحصرة ، فان انتفاء أحد المتلازمين في مثل هذا يقتضى انتفاء الآخر ، الا ان القضية الشرطية حينئذ لا تدل على هذا الوجه من التلازم ، فان العلة لم تكن مذكورة في القضية حتى يستفاد منها الانحصار أو عدم الانحصار ، وأقصى ما تقتضيه القضية الشرطية ـ بناء على عدم استفادة علية الشرط للجزاء ـ هو مجرد التلازم بين الشرط والجزاء ، واما كونه على هذا الوجه أو على ذلك الوجه فليس للقضية الشرطية دلالة عليه ، ولا بد في اثبات ذلك من الخارج ، فيخرج عما نحن فيه : من دلالة نفس القضية الشرطية على المفهوم. وكذا لو فرض عدم دلالة القضية الشرطية على كون الشرط علة منحصرة ، فان انتفاء الشرط في مثل ذلك أيضا لا يقتضى انتفاء الجزاء ، لامكان ان يخلفه شرط آخر. فالمهم هو اثبات ظهور القضية الشرطية في كون الشرط علة منحصرة ، اما وضعا واما اطلاقا.

فنقول : اما دلالة القضية الشرطية على ثبوت العلقة بين الشرط والجزاء وانه ليس ذلك محض الاتفاق ، فمما لا ينبغي الاشكال فيها ، بل لا يبعد كون دلالتها على ذلك بالوضع ، لعدم صحة مثل ـ إذا كان الانسان ناطقا كان الحمار ناهقا ـ بلا عناية ، بل يتوقف على لحاظ عناية وعلاقة جعلية لحاظية. والا فان نفس القضية الشرطية تقتضي ان يكون بين الشرط والجزاء علاقة لزومية ، فان لم يكن ذلك بالوضع ـ كما هو ليس ببعيد ـ فلا أقل من ظهورها العرفي في ذلك.

واما دلالة القضية الشرطية على كون العلقة بين الجزاء والشرط علقة الترتب وعلية الشرط للجزاء ، فهي وان لم تكن بالوضع وليس لنفس القضية الشرطية ظهور عرفي في ذلك ، الا انه لا يبعد دعوى الظهور السياقي في ذلك ، حيث إن سوق الكلام من جعل الشرط مقدما والجزاء تاليا ، هو ان يكون الكلام على وفق

٤٨٠