فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

والمقام بعينه يكون من هذا القبيل ، حيث إن الامر الاستحبابي انما يكون متعلقا بذات الصوم في يوم عاشوراء ، أو الصلاة عند طلوع الشمس. والنهى التنزيهي غير متعلق بذلك ، بل تعلق بالتعبد بالصوم والصلاة في ذلك اليوم والوقت ، لما في التعبد بهما من التشبه ببني أمية وعبدة الشمس ، حيث إن بنى أمية لعنهم الله انما كانوا يتعبدون بصوم يوم عاشوراء ويتقربون به إلى الله ، وكذا عبدة الشمس كانوا يتعبدون بعملهم في أول الشمس ، فيكون المنهى عنه بالنهي التنزيهي هو ما كان عليه عمل أولئك ، وليس هو الا التعبد ، فيكون التعبد مكروها مع كون العمل مستحبا ، إذ لا منافاة بين كراهة التعبد ورجحان تركه وبين استحباب العمل ورجحان فعله.

نعم : لو كان النهى تحريميا ، كان ذلك منافيا لاستحباب العمل ، لان حرمة التعبد لا يجامع صحة العمل. بخلاف كراهة التعبد المتضمن للرخصة ، فتأمل في ما ذكرناه جيدا.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالعبادات المكروهة.

ثم إن شيخنا الأستاذ مد ظله ، أراد ان يتعرض للتنبيه الثالث ، المتعلق بالمضطر والمتوسط في الأرض المغصوبة ، ولكنه اعرض عن ذلك واخره ، لان له تعلقا بكلا المقامين المبحوث عنهما في مسألة اجتماع الأمر والنهي. والأولى عطف عنان الكلام إلى المقام الثاني ، وهو انه هل وجود المندوحة يكفي في رفع غائلة التزاحم والتكليف بما لا يطاق ، أو انه لا يكفي؟ والأقوى في هذا المقام عدم الكفاية. وان كان مقتضى ما تقدم عن المحقق الكركي ( قده ) ـ من كفاية القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في بعض الافراد في صحة تعلق التكليف بها وانطباقها على الفرد المزاحم للمضيق أو الأهم ويتحقق الاجزاء عقلا ـ هو كفاية وجود المندوحة في المقام أيضا. وان كان فرق بين المقام وبين ما افاده المحقق ( قده ) من حيث إن المراد بالمندوحة في المقام انما هي بالنسبة إلى الافراد العرضية ، حيث إن للمكلف ايجاد الصلاة في الدار المباحة وفي المسجد وفي الدار الغصبية ، فتكون الصلاة في الدار الغصبية من أحد افراد الصلاة العرضية. والمراد من المندوحة في مقالة

٤٤١

المحقق ( قده ) هي المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، لان كلامه انما كان في الواجب المضيق المزاحم لبعض افراد الواجب الموسع في بعض الوقت. ولكن هذا الفرق لايكون فارقا في المناط ، فان مناط كفاية المندوحة في الافراد الطولية ، هو القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في غير الفرد المزاحم للمضيق ، وهذا المقدار يكفي في حسن التكليف عقلا ، إذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق لقدرة الفاعل على ايجاد الطبيعة ولو في الجملة. فلا مانع من شمول اطلاق الامر بالصلاة للفرد المزاحم للإزالة ، وتنطبق الطبيعة المأمور بها عليه قهرا فيتحقق الاجزاء عقلا. وهذا الكلام كما ترى يجرى في الافراد العرضية أيضا ، لتمكن المكلف من ايجاد الصلاة مثلا في غير الدار الغصبية ، وهذا المقدار يكفي في صحة التكليف بالصلاة ، ويكون الفرد المأتى به من الصلاة في الدار الغصبية مما تنطبق عليه الطبيعة ، هذا.

ولكن أصل المبنى عندنا فاسد ، كما تقدم في مبحث الترتب ، حيث إن القدرة المعتبرة في التكاليف لا ينحصر مدركها بحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، بل القدرة معتبرة ولو لم يحكم العقل بذلك ، لمكان اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقه ، حيث إن حقيقة الخطاب هو البعث على أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفي الممكن ، فيعتبر في التكليف ـ مضافا إلى قدرة الفاعل التي يحكم بها العقل ـ القدرة على الفعل التي يقتضيها الخطاب. والفرد المزاحم للإزالة أو للغصب فيما نحن فيه ليس مقدورا عليه ، لان المانع الشرعي كالمانع العقلي ، فلا تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها بما انها مأمور بها ، لان الانطباق من حيث السعة والضيق يدور مدار سعة القدرة وضيقها ، وليس للقدرة سعة تشمل الفرد ، على ما تقدم تفصيله في مبحث الترتب. وعليه لا تصح الصلاة في الدار الغصبية باطلاق الامر بالصلاة كما أنه لا يمكن تصحيحها بالامر الترتبي كما تقدم أيضا في ذلك المبحث ، لاستلزامه الامر بتحصيل الحاصل ، أو الامر بالمحال ، إذ لا معنى لقوله : لا تغصب وان غصبت بالصلاة فصل ، لأنه يكون من تحصيل الحاصل ، أو ان غصبت بغير الصلاة فصل ، لأنه يكون من طلب المحال ، على ما مر تفصيله.

واما تصحيحها بالملاك فربما يتوهم انه لا مانع عنه ، ولازم ذلك صحة

٤٤٢

الصلاة في الدار الغصبية ، ولو عن علم وعمد ، مع أن الظاهر تسالم الاعلام على عدم الصحة حينئذ ، كتسالمهم على الصحة في صورة الجهل والنسيان. فيتوجه في المقام اشكال ، من حيث إنه لو بنينا على الامتناع في المقام الأول ، يلزم القول ببطلان الصلاة في صورة الجهل والنسيان ، ولو بنينا على الجواز ، يلزم القول بصحتها في صورة العلم والعمد ، ولا يمكن الالتزام بكل من القولين ، لتسالمهم على الخلاف ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال ، بأنه ليس لازم القول بالجواز في المقام الأول ، هو الصحة في صورة العمد ، لان الصلاة في الدار الغصبية وان كانت مشتملة على الملاك ، الا انها لمكان اتحادها مع الغصب في الايجاد والصدور كان ذلك مانعا عن التقرب بها ، لبغضها الفاعلي وعدم اتصاف صدورها منه بالحسن الفاعلي ، لخلطه بين المأمور به والمنهى عنه في الايجاد والصدور. والحسن الفعلي لا يكفي في التقرب ما لم ينضم إليه الحسن الفاعلي ، بحيث يصدر من الفاعل حسنا. وليس خلط الصلاة بالغصب واتحادها معه في الايجاد كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة ، فان النظر إلى الأجنبية لا ربط له بجهة ايجاد الصلاة ، بخلاف الغصب المتحد معها في الايجاد. فالقول بجواز اجتماع الأمر والنهي لا يلازم القول بصحة الصلاة في صورة العلم والعمد ، كما كان القول بالامتناع يلازم القول بالبطلان في صورة الجهل والنسيان ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا كان للمكلف مندوحة ، بحيث كان يمكنه فعل الصلاة في المكان المباح. وأما إذا لم يكن للمكلف مندوحة بل انحصر مكان الصلاة في الدار الغصبية ، فترجيح الغصب بكونه مما لا بدل له لا يجرى في الفرض ، لان الصلاة أيضا مما لا بدل لها حسب الفرض ، بل لابد من اعمال سائر مرجحات باب التزاحم. وقبل بيان ذلك ، لابد من التنبيه على امر ، وان كان حقه ان يذكر في المقام الأول ، الا انه قد فاتنا ذكره هناك.

وحاصل ذلك الامر : هو انه لو فرض تعلق الامر بعنوان وتعلق النهى بعنوان آخر ، وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وكان التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، ولكن كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا ، فهل

٤٤٣

يندرج ذلك في المسألة المبحوث عنها؟ ويتأتى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق في الفرض المذكور ، أو انه لا يندرج في ذلك؟ بل لابد من القول بتعارض الأمر والنهي في مورد التصادق وأعمال قواعد التعارض.

الحق هو الثاني ، لان التلازم بين متعلق الامر ومتعلق النهى في مورد التصادق دائمي ، ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم إذا كان التلازم دائميا ، لعدم قدرة العبد على امتثالهما ، كما في الضدين. فكما لا يجوز الامر بالقيام والقعود في زمان واحد ، كذلك لا يجوز الامر باستقبال المشرق والنهى عن استدبار المغرب في زمان واحد ، لأنه لا يعقل امتثال كل من الأمر والنهي ، والتكليف الغير القابل للامتثال لا يعقل تشريعه ، وذلك واضح.

فالأقوى اعمال قواعد التعارض ، فيما إذا كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا وكانت النسبة بينهما العموم من وجه ، سواء كان التركيب في مورد الاجتماع من التركيب الاتحادي ، أو من التركيب الانضمامي ، وبعد هذا لا تصل النوبة إلى اعمال مرجحات باب التزاحم.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه ، وهو انه لو لم يكن للمكلف مندوحة وانحصرت الصلاة في الدار الغصبية ، فهذا تارة : يكون بسوء اختياره كمن توسط في الأرض المغصوبة اختيارا وضاق الوقت الا عن الصلاة فيها. وأخرى : يكون لا بسوء اختياره كالمحبوس في الدار الغصبية. فان كان عدم المندوحة لا بسوء اختياره فهذا مما لا اشكال في صحة الصلاة منه في الدار الغصبية وسقوط قيدية لزوم عدم ايقاعها في المكان المغصوب مطلقا ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ كما هو المختار ـ أو قلنا بامتناعه.

اما بناء على القول بالامتناع : فلان القيدية انما استفيدت من تعلق النهى بالصلاة في الدار الغصبية ، لما عرفت : من أنه بناء على الامتناع يكون مورد التصادق من صغريات النهى في العبادة ، والقيدية المستفادة من الحرمة النفسية تدور مدار الحرمة. وليست كالقيدية المستفادة من النواهي الغيرية ، مثل قوله : لا تصل في غير المأكول ، حيث قلنا ان الظاهر منها هو القيدية المطلقة ، سواء تمكن المكلف منها

٤٤٤

أولم يتمكن ، غايته انه مع عدم التمكن من القيد يسقط التكليف عن المقيد ، الا ان يقوم دليل على عدم سقوطه بسقوط القيد ، فيستفاد منه كون القيدية مخصوصة بحال التمكن ، كما ربما يستفاد ذلك من قوله : الصلاة لا تسقط بحال ، ولكن هذا في القيدية المستفادة من النهى أو الامر الغيري. واما القيدية المستفادة من النهى النفسي فهي تابعة للنهي ، وبعد سقوط النهى بالاضطرار تسقط القيدية فقط ، ولا موجب لسقوط المقيد ، هذا.

ولكن للتأمل في ذلك مجال ، لان القيدية وان استفيدت من النهى ، الا انها ليست معلولة للنهي ، بل هي معلولة للملاك الذي أوجب النهى. فالحرمة والقيدية معلولان لعلة ثالثة ، وهو الملاك ، وسقوط أحد المعلولين بالاضطرار لا يوجب سقوط المعلول الآخر.

فالأولى ان يقال : ان القيدية المستفادة من النهى النفسي أيضا تقتضي القيدية المطلقة. وقد ذكرنا شطرا من الكلام في ذلك في رسالة المشكوك. وسيأتي انشاء الله البحث عنه أيضا في مسألة النهى في العبادات.

ولكن هذا لا اثر له في باب الصلاة ، لان الظاهر من قوله عليه‌السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، هو كون قيدية كل قيد مقصورة بحال التمكن ، سواء كانت القيدية مستفادة من النهى الغيري ، أو من النهى النفسي. هذا كله بناء على الامتناع. واما بناء على الجواز فسقوط القيدية عند الاضطرار أولى ، من جهة انه بناء على الجواز تكون المسألة من صغريات التزاحم كما عرفت. والقيدية المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة ، وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيدية لا محالة. وليس هناك ملاك اقتضى القيدية في صورة التزاحم ، حتى يقال : انه لا موجب لسقوط القيدية بسقوط المزاحم ، كما كان الامر في النهى النفسي كذلك ـ على ما عرفت ـ بل القيدية في باب التزاحم انما تكون معلولة للمزاحم ، وبعد سقوط المزاحم تسقط القيدية لا محالة ، ففساد الصلاة في الدار الغصبية لم يكن لها موجب الا حرمة الغصب ومزاحمة الصلاة للغصب ، بناء على الجواز ، وبعد الاضطرار إلى الغصب لايكون هناك مزاحم حتى يقتضى فساد الصلاة ، فالمحبوس في الدار الغصبية تصح

٤٤٥

صلوته.

وتقييد بعض بما إذا لم تستلزم الصلاة تصرفا زائدا لم يظهر لنا وجهه ، فان شاغلية الشخص للمكان لا يختلف بين كونه قائما أو قاعدا أو نائما ، ولا يزيد بذلك أو ينقص ، فليس صلاة المحبوس تصرفا زائدا على ما إذا كان قاعدا ، بل لا يعقل ان يكون تصرفه في حال الصلاة زائدا على تصرفه في حال العقود ، وان كان العرف ربما يعد الصلاة لمكان اشتمالها على الهوى والجلوس والركوع والسجود تصرفا زائدا على ما إذا كان ساكنا ، الا ان لا عبرة بالنظر العرفي ، بعد ما كان تصرفه بحسب الدقة لا يزيد ولا ينقص.

هذا إذا كان محبوسا في الدار المغصوبة. وأما إذا دخل في الدار الغصبية لا عن اختيار ، ولكن كان مختارا في الخروج عنها ، فاللازم هو الصلاة في حال الخروج ماشيا إذا ضاق وقتها ، وليس له المكث فيها للصلاة ، لأنه اختياري محرم ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك : ان المراد من عدم المندوحة هو عدم المندوحة في الغصب ، بحيث كان غير متمكن من ترك الغصب ، كالمحبوس. واما لو كان متمكنا من ترك الغصب ، ولكن كان غير متمكن من الصلاة الا في المغصوب ، بحيث دار الامر بين ترك الصلاة وبين ترك الغصب ، فهذا خارج عما نحن فيه ، وفي مثل هذا لا بد من ملاحظة الأهمية والمهمية ، ولا يجرى فيه قوله عليه‌السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، لأنه انما يكون بالنسبة إلى القيود الغير المحرمة ذاتا ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا لم يكن عدم المندوحة بسوء الاختيار ، وأما إذا كان ذلك بسوء الاختيار ، كمن توسط أرضا مغصوبة باختياره ، فالكلام فيه تارة : يقع من حيث الحكم التكليفي وان خروجه هل يكون مأمورا به أو منهيا عنه؟ وأخرى : يقع من حيث صحة الصلاة في حال الخروج وعدمها.

اما الجهة الأولى :

فقد وقعت معركة الآراء وتعددت فيها الأقوال.

فقول : بان الخروج واجب ليس الا ولا يعاقب عليه ، وهو المنسوب

٤٤٦

إلى الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (١).

وقول : بأنه واجب وحرام بمعنى انه مأمور به ومنهي عنه ، وهو المنسوب إلى أبى هاشم ، وحكى أيضا عن المحقق القمي (٢).

وقول : بأنه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه ، بمعنى انه يعاقب عليه لا بالنهي الفعلي ، بل بالنهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج ، وهو المنسوب إلى صاحب الفصول (٣).

وقول : بأنه غير مأمور به ولا منهي عنه بالنهي الفعلي ، ولكن يعاقب عليه ويجرى عليه حكم المعصية مع الزام العقل بالخروج لكونه أقل محذورا ، من دون ان يكون مأمورا به شرعا ، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني في كفايته (٤).

وقول : بأنه منهي عنه بالنهي الفعلي وليس بمأمور به شرعا.

والأقوى من هذه الأقوال هو القول الأول الذي اختاره الشيخ ( قده ) : فان مبنى سائر الأقوال هو كون المقام من صغريات قاعدة ـ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ـ وسيتضح فساد ذلك ، وان المقام ليس مندرجا في ذلك.

ولكن لو بنينا على كون المقام من صغريات تلك القاعدة فالحق ما عليه المحقق الخراساني ( قده ) : من أنه ليس بمأمور به شرعا ولا منهيا عنه مع كونه يعاقب عليه ، وذلك لان الامتناع بالاختيار انما لا ينافي الاختيار عقابا ، لا خطابا ، فإنه

__________________

١ ـ مطارح الأنظار ، ص ١٥١ قوله قدس‌سره « والأقوى كونه مأمورا به فقط ولا يكون منهيا عنه ولا يفترق فيه النهى السابق واللاحق »

٢ ـ قوانين الأصول ، التنبيه الثاني ص ٨٦ قوله قدس‌سره « الثالث انه مأمور به ومنهى عنه أيضا ، ويحصل العصيان بالفعل والترك كليهما ، وهو مذهب أبي هاشم وأكثر أفاضل متأخرينا ، بل هو ظاهر الفقهاء وهو الأقرب .. »

٣ ـ الفصول ، ص ١٤٠ قوله قدس‌سره « والحق انه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلص ، وليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به ، لكنه عاص به بالنظر إلى النهى السابق .. »

٤ ـ كفاية الأصول ، الجلد الأول ص ٢٦٣ « والحق انه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكاد يكون مأمورا به .. »

٤٤٧

يستحيل الخطاب بالممتنع وان كان امتناعه بسوء الاختيار ، حيث إنه لا يصلح الخطاب للداعوية والباعثية ، ومع هذا كيف يصح الخطاب؟.

ودعوى ان الخطاب في مثل هذا يكون تسجيليا ليس فيه بعث حقيقي مما لا نعقلها ، فان الخطاب التسجيلي من المولى الحكيم مما لا يعقل ، بل يتوقف صحة الخطاب من الحكيم على امكان ان يكون داعيا ومحركا لعضلات العبد ، وان لم يكن بمحرك فعلى ، كالخطابات المتوجهة إلى العصاة والكفار. واما الخطاب الذي لا يمكن ان يكون داعيا ومحركا فهو مستحيل من الحكيم. فدعوى : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا ، فاسدة جدا.

ومنه يظهر فساد القول بكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، مضافا إلى اقتضاء ذلك للامر بالنقيضين والنهى عنهما كما لا يخفى.

واما القول بكونه مأمورا به فعلا مع جريان حكم المعصية عليه ـ لمكان النهى السابق الساقط ـ فهو أيضا مما لا يعقل ، لان اختلاف زمان الأمر والنهي مع تواردهما على شيء واحد بلحاظ حال وجوده مما لا اثر له ، لوضوح ان النهى عن الخروج في الزمان السابق على الدخول انما يكون بلحاظ حال وجود الخروج ، ومع كونه بهذا اللحاظ منهيا عنه كيف يكون مأمورا به؟ وهل هذا الا توارد الأمر والنهي على شيء واحد؟.

ودعوى : انه لا مانع من كون الخروج منهيا عنه قبل الدخول على نحو المعلق ـ بان يكون النهى فعليا وكان المنهى عنه استقباليا ـ لا تصحح هذا القول ، فان المعلق انما يقتضى تقدم زمان فعلية الحكم على زمان امتثاله ، ولكن مع استمرار الحكم إلى زمان الامتثال لا مع انقطاعه ، والمفروض من صاحب هذا القول هو سقوط النهى في حال الخروج ، وانما يجرى عليه حكم المعصية.

فظهر : انه بناء على كون المقام من صغريات قاعدة ـ الامتناع بالاختيار ـ لا محيص عن القول بان الخروج غير مأمور به ولا منهى عنه في الحال ، وان كان منهيا عنه قبل الدخول. ويجرى على الخروج حكم المعصية من حيث العقاب ، الا ان الشأن في كون المقام مندرجا تحت تلك القاعدة ، فان دعوى ذلك في غاية السقوط لما

٤٤٨

فيها : (١).

أولا : ان الخروج غير ممتنع للتمكن من تركه ، والذي امتنع عليه هو مقدار من الكون في المغصوب ، الذي يحصل بالخروج تارة وبتركه أخرى ، ولكن ذلك لا يوجب امتناع الخروج ، لان الاضطرار إلى الجامع لا يلازم الاضطرار إلى ما يحصل به.

والحاصل : ان الاضطرار إلى مقدار من الغصب غير الاضطرار إلى الخروج ، ومحل الكلام هو امتناع الخروج. واما الاضطرار إلى الكون الغصبي في الجملة فسيأتي الكلام فيه ، فدعوى : ان الخروج مما يكون من الامتناع بالاختيار ، واضحة الفساد.

وثانيا : ان مورد قاعدة الامتناع بالاختيار ، هو ان يكون التكليف بالممتنع بالنسبة إلى المقدمة الاعدادية ، التي بتركها حصل الامتناع مطلقا ، بحيث تكون تلك المقدمة من المقدمات الوجودية ، على وجه لايكون الخطاب مشروطا بها ولا الملاك ، كالسير بالنسبة إلى الحج ، فان الحج وان كان مشروطا بالزمان من يوم عرفة امتثالا وخطابا ـ على ما هو الحق عندنا من امتناع الواجب المعلق ـ الا انه غير مشروط بالنسبة إلى السير. ومن هنا قلنا : ان السير واجب لا بالوجوب المقدمي الآتي من قبل وجوب الحج ، بل بالوجوب الطريقي الناشئ عن ملاك وجوب الحج ، على وجه يكون من قبيل متمم الجعل ، حيث إنه لا يمكن للآمر استيفاء ملاك الحج الا بأمرين : امر بالحج ، وامر بالسير إليه. وعلى كل حال ، ليس السير مقدمة وجوبية للحج ، بحيث يكون الملاك والخطاب مشروطا به ، فتركه حينئذ يوجب امتناع الحج عليه في يوم عرفة ، ويكون من الامتناع بالاختيار.

وأما إذا كان الواجب بالنسبة إلى تلك المقدمة الاعدادية مشروطا خطابا

__________________

١ ـ ولا يخفى عليك : ان صاحب الكفاية لم يجعل الخروج مما امتنع على المكلف ، وانما يكون الخروج منهيا عنه قبل الدخول ، وبعد الدخول لمكان الزام العقل به لا يعقل بقاء النهى ، بل لا بد من سقوطه ، وان يعاقب عليه. فالمهم في رد مقالة الكفاية ، هو اثبات ان الخروج لم يكن منهيا عنه قبل الدخول فتأمل ـ منه

٤٤٩

وملاكا ، فترك تلك المقدمة الاعدادية وان كان يوجب امتناع الواجب ، الا انه ليس من صغريات تلك القاعدة. مثلا لو فرض ، ان السير كان مقدمة وجوبية للحج ، بحيث كان الحج واجبا إذا كان الشخص في الحرم واتفق وقوع السير منه ، فترك مثل هذا السير لا يوجب العقاب على ترك الحج ، وان امتنع عليه. وفي المقام يكون الدخول في الدار الغصبية من المقدمات التي يتوقف عليها أصل الخطاب بالخروج ، إذ لا يعقل الخروج الا بالدخول ، فلا يعقل النهى من الخروج الا مشروطا بالدخول ، ولا يتحقق للخروج ملاك النهى الا بعد الدخول ، فهو مشروط بالدخول خطابا وملاكا ، والمفروض انه بعد الدخول ليس الخروج منهيا عنه حسب تسليم الخصم. فمتى كان الخروج منهيا عنه؟ حتى يندرج تحت تلك القاعدة.

وبعبارة أخرى : الدخول يكون موضوعا للخروج ، حيث إنه لا موضوع للخروج بدون الدخول ، فكيف يعقل النهى عنه قبل الدخول؟ حتى يندرج تحت قاعدة الامتناع بالاختيار.

وبتقريب آخر : ( وان شئت فاجعله وجها ثالثا لفساد كون المقام من صغريات تلك القاعدة ) وهو ان امتناع الخروج انما يكون بترك الدخول لا بفعل الدخول ، فهو عكس قاعدة ـ الامتناع بالاختيار ـ لان مورد تلك القاعدة هو ما إذا كان مخالفة الامر المقدمي يوجب امتناع ذي المقدمة ، كترك السير في مثال الحج. واما في المقام ، فامتثال النهى المقدمي وترك الدخول يوجب امتناع الخروج لعدم تحقق موضوعه ، لا فعل الدخول فان فعل الدخول موجب للتمكن من الخروج ، لا انه موجب لامتناعه.

وثالثا أو رابعا : انه يعتبر في مورد القاعدة ، ان يكون الفعل الممتنع عليه بالاختيار حال امتناعه غير محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع ، بل لا بد ان لايكون محكوما بحكم ، أولو كان محكوما بحكم لكان هو الحكم السابق على الامتناع ، كما يدعيه القائل بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وملاكا. مثلا الحج حال امتناعه على الشخص بترك المسير ، اما غير محكوم بحكم أصلا ، كما هو مقالة من يقول : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكا فقط ،

٤٥٠

أو محكوما بحكم الوجوب كما هو مقالة من يقول : انه لا ينافي الاختيار خطابا وملاكا.

واما لو فرض ان الفعل الممتنع حال امتناعه محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع فهو لايكون من صغريات تلك القاعدة ، كما في المقام ، حيث إن الخروج عن الدار الغصبية مما يحكم بلزومه العقل. وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه ، سواء قلنا : انه حكمه من باب اختيار أقل المحذورين ، كما قيل : أو قلنا : انه من باب وجوب رد المغصوب ، كما هو الأقوى على ما سيأتي. وعلى كل حال : يكون الخروج حال وقوعه مما يلزم به العقل ، ومعه كيف يندرج في قاعدة ـ الامتناع بالاختيار ـ.

هذا كله إذا كانت الدعوى ان الخروج مما يكون ممتنعا بالاختيار.

وأما إذا كانت الدعوى ان مقدارا من الكون الغصبي ممتنع ، فهي حق ، إذ لا محيص من مقدار من الكون الغصبي ، سواء مكث في الدار الغصبية أو خرج ، الا ان الكون الغصبي المتحقق في ضمن الخروج لايكون منهيا عنه بوجه من الوجوه وفي زمان من الأزمنة ، بل هو يكون واجبا في جميع الحالات ، لوجوب رد المغصوب إلى صاحبه بالضرورة من الدين. وكونه هو الذي أوقع نفسه في هذا التصرف الغصبي بسوء اختياره ـ حيث دخل في الدار عن اختيار ـ لا يوجب كون الخروج حال وقوعه مبغوضا ، كمن شرب دواء مهلكا وانحصر حفظ نفسه بشرب الخمر ، فان شرب الخمر في هذا الحال يكون واجبا عقلا وشرعا ، لتوقف حفظ النفس عليه ، وان كان بسوء اختياره أوقع نفسه في شرب الخمر. لمكان شربه الدواء المهلك. فالعقاب ( لو كان ) انما يكون في شرب ذلك الدواء لو كان شرب الخمر من الأمور التي لم يرد الشارع وقوعها في الخارج لما فيه من المفسدة ، فإنه ح يحرم على الشخص ادخال نفسه في موضوع يوجب شرب الخمر.

وليس ذلك كشرب المرأة الدواء الموجب للحيض المستلزم لعدم أمرها بالصلاة ، حيث إنه يمكن القول بجواز شربها للدواء ، إذ لم يعلم من مذاق الشارع مبغوضية ايقاع الشخص نفسه في موضوع يوجب عدم تكليفه بالصلاة. وهذا بخلاف

٤٥١

شرب الخمر ، فان ادخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليف بشرب الخمر مبغوض للشارع ، كما أن ادخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليفه بالتصرف في مال الغير مبغوض للشارع ، فالدخول في الدار الغصبية يكون مبغوضا ومحرما من جهتين : من جهة كونه هو بنفسه تصرفا في ملك الغير ، ومن جهة استلزامه للتصرف الخروجي ، بخلاف مثل شرب الدواء الموجب لشرب الخمر فإنه محرم من جهة استلزامه شرب الخمر ، وليس له جهة أخرى إذا كان الدواء في حد نفسه مما يجوز شربه.

والحاصل : انه ينبغي ان يقع التكلم في الدخول من جهة ان حرمته تكون من جهتين ، لا في الخروج فان الخروج واجب على كل حال. وليس وجوبه من باب حكم العقل باختيار أقل المحذورين ، فان مناط حكم العقل بلزوم الخروج عن ملك الغير في صورة ما إذا كان الدخول فيه بالاختيار ، وفي صورة ما إذا كان الدخول فيه بلا اختيار امر واحد ، وهو لزوم فراغ ملك الغير ورده إلى صاحبه ، الذي يحصل بالتخلية في غير المنقول. وليس حكم العقل بلزوم الخروج فيما إذا كان الدخول بالاختيار بمناط يغاير مناط حكمه بلزوم الخروج فيما إذا كان الدخول بغير الاختيار ـ حيث إنه في الأول يكون من باب أقل المحذورين ، وفي الثاني يكون من باب رد المغصوب ورفع اليد عنه ـ حتى يكون الثاني واجبا شرعا وعقلا دون الأول ، بل مناط حكم العقل معلوم عندنا مطرد في جميع اقسام الغصب من المنقول وغيره ، وانه في الجميع يجب رد المغصوب إلى أهله شرعا وعقلا ، غايته انه في المنقول يكون الرد بالقبض ، وفي غيره يكون برفع اليد والتخلية.

فظهر : انه لا محيص عن القول بان الخروج عن الدار الغصبية فيما إذا توسطها بالاختيار مأمور به ليس الا ، ولا يجرى عليه حكم المعصية. هذا تمام الكلام في الحكم التكليفي.

واما الحكم الوضعي :

وهو صحة الصلاة في حال الخروج عند ضيق الوقت ، فمجمل الكلام فيه : هو انه ان قلنا بان الخروج مأمور به ولا يجرى عليه حكم المعصية ، فلا اشكال في

٤٥٢

صحة الصلاة في حال الخروج وكونها مأمورا بها ، نعم لا بد من ملاحظة عدم وقوع تصرف زائد على الخروج ، فيؤمى للركوع والسجود.

واما ان قلنا بجريان حكم المعصية عليه ، فبناء على جواز اجتماع الأمر والنهي يقع التزاحم بين المأمور به والمنهى عنه ، حيث إن القيام في حال المشي يكون واجبا من جهة كونه من اجزاء الصلاة ، والساقط هو الاستقرار في حال القيام لا أصل القيام ، ولمكان انه يقتضى اشغال ملك الغير يكون منهيا عنه ، ولو بالنهي السابق الساقط ، حيث إن الكلام فيما إذا كان الخروج معصية حكمية ، فيقع التزاحم بين الامر بالقيام وبين النهى عن اشغال المكان حاله ، ولمكان ـ ان الصلاة لا تسقط بحال ـ يمكن ان يقال بوجوب الصلاة وسقوط قيدية القيام ، فتكون الصلاة في مثل هذا خالية عن القيام ، ان نقول ببقاء القيام على جزئيته للصلاة ويكون مأمورا به وان كان من جهة شاغليته لمكان الغير معصية ، أو نقول بأنه لا يجرى عليه حكم المعصية في مثل هذا الفرض لأهمية الصلاة ، فتأمل.

واما بناء على الامتناع ، فيكون نفس هذا القيام بما انه قيام معصية ومبغوضا للشارع ، ومعه ينبغي ان نقول بعدم صحة الصلاة ، وان كان يمكن ان يقال بسقوط قيدية القيام ، لمكان ان الصلاة لا تسقط بحال ـ فتأمل في المقام ، فإنه بعد لا يخلو عن اشكال ، ويحتاج إلى زيادة بيان. وشيخنا الأستاذ مد ظله لم يستوف الكلام في الحكم الوضعي على ما ينبغي. ونسئل الله حسن العاقبة والتوفيق لما يحب ويرضى. وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق المتعلقة بمبحث اجتماع الأمر والنهي في ليلة الثلثا غرة جمادى الأولى سنة ١٣٤٧.

٤٥٣

فصل في اقتضاء النهى عن العبادة أو المعاملة للفساد

وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

قد أطالوا البحث في الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي مع أنه ما كان ينبغي إطالة البحث عن ذلك ، فان الفرق بين المسئلتين جلى لا يكاد يخفى ، لما عرفت : من أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي هو ما إذا تعلق الامر بعنوان والنهى بعنوان آخر وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، والبحث فيه يكون عن اتحاد المتعلقين وعدم اتحادهما. والموضوع في هذه المسألة هو ما إذا تعلق النهى ببعض ما تعلق الامر به على وجه تكون النسبة بين المتعلقين العموم المطلق ، ويكون البحث فيها عن اقتضاء النهى للفساد. فموضوع كل من المسئلتين مع جهة البحث فيه يفترق عن موضوع الأخرى وعن جهة البحث فيها.

نعم : من لم يعتبر في موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي كون النسبة العموم من وجه انحصر الفرق بين المسئلتين عنده في جهة البحث ، لا في الموضوع ، الا انه قد تقدم فساد ذلك وانه لابد في مسألة اجتماع الأمر والنهي من كون النسبة هي العموم من وجه.

نعم : بناء على القول بالامتناع وتقديم جانب النهى تندرج مسألة الاجتماع في صغرى مسألة النهى عن العبادة وتكون من افرادها ، الا ان ذلك لا يوجب اتحاد المسئلتين.

ثم انه لا اشكال في كون المسألة من مسائل علم الأصول وليست من المبادئ ، فإنها تقع كبرى في قياس الاستنباط ابتداء. وليست كمسألة اجتماع

٤٥٤

الأمر والنهي ، حيث تقدم انها تكون من مبادئ مسألة التعارض والتزاحم وليست هي بنفسها من المسائل. واما مسألة النهى عن العبادة والمعاملة فهي بنفسها من المسائل ، ويستنتج منها فساد العبادة أو المعاملة.

وبذلك يظهر فرق آخر بين المسئلتين وذلك واضح ، كوضوح ان المسألة ليست من مباحث الألفاظ ، بل البحث فيها انما يكون عن الملازمات العقلية للأحكام ، خصوصا بناء على ما هو التحقيق عندنا من أن الفساد يدور مدار عدم الامر والملاك معا ، ولا يكفي فيه عدم الامر كما حكى عن الجواهر ، فإنه لا دخل للفظ بالملاك ، بل الملاك امر واقعي تكويني لا بد من استكشاف عدمه في العبادة من مقدمات ، على ما سيأتي بيانها. والنهى بنفسه لا يكفي في الفساد مع قطع النظر عن كونه كاشفا عن عدم الملاك ، سواء كان مدلول اللفظ أو لم يكن ، كالنهي المستفاد من الاجماع والعقل.

نعم : لو قلنا بأنه يكفي في الفساد عدم الامر ولا يحتاج إلى عدم الملاك كان النهى بنفسه دالا على عدم الامر ، ومع ذلك لا دخل للفظ ، فان النهى الواقعي يدل على عدم الامر ، سواء كان الدال على النهى لفظا أو عقلا أو اجماعا ، فلا موجب لعد المسألة من مباحث الألفاظ. وكان حق الاعلام ان يعقدوا بابا مستقلا للبحث عن الملازمات العقلية ، ويبحثوا فيه عن هذه المسألة وما شابهها مما يكون البحث فيه عن الملازمات العقلية للأحكام الشرعية ، كمسألة مقدمة الواجب ، ومسألة الضد. الا انهم لما لم يعقدوا لذلك بابا مستقلا ادرجوا هذه المسائل في مباحث الألفاظ.

الامر الثاني :

ينبغي خروج النهى التنزيهي عن حريم النزاع ، فإنه قد تقدم في مسألة الأمر والنهي انه لا يقتضى الفساد ، لان الرخصة الوضعية بالنسبة إلى الاتيان بأي فرد ( المستفادة من تعلق الامر بالطبيعة ) لا تنافى النهى التنزيهي المتضمن للرخصة أيضا ، على ما عرفت سابقا.

نعم : لو تعلق النهى التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه

٤٥٥

الفساد مجال ، من جهة ان ما يكون مرجوحا ذاتا لا يصلح ان يتقرب به ، الا ان النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلقة بالعبادات لم تتعلق بذات العبادة على وجه يتحد متعلق الأمر والنهي ، على ما تقدم تفصيله. فالقول بان النهى التنزيهي كالنهي التحريمي داخل في حريم اقتضاء النهى للفساد ضعيف جدا.

ثم انه لا اشكال في دخول النهى النفسي في حريم النزاع ، وهل يختص النزاع به أو يعم النهى الغيري أيضا؟ والذي ينبغي ان يقال : هو ان النهى الغيري المسوق لبيان المعانعية كالنهي عن الصلاة في غير المأكول خارج عن مورد النزاع ، لأنه بنفسه يقتضى الفساد ، حيث يدل على دخل عدم ما تعلق النهى به في حقيقة المأمور به ، وانتفاء الشيء بوجود مانعه ضروري غير قابل للنزاع فيه.

واما النهى الغيري التبعي المستفاد من الامر بالشيء ـ بناء على اقتضائه النهى عن ضده ـ وأمثال ذلك من النواهي التبعية المتعلقة بالعبادة ، ففي دخوله في محل النزاع كلام ، من جهة كونه غير كاشف عن عدم الملاك ، بل غايته انه يوجب عدم الامر مع قطع النظر عن الامر الترتبي ، ومع عدم كشفه عن عدم الملاك لا يوجب الفساد ، بناء على كفاية الملاك في صحة العبادة ، وسيأتي البحث في ذلك.

فظهر : ان المراد من النهى في عنوان النزاع هو النهى التحريمي النفسي ، أو الغيري التبعي ، على ما فيه من الكلام.

واما العبادة : فالمراد بها في المقام معناها الأخص ، أي الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها ويتقرب بها منه تعالى.

والمراد من المعاملة : هي الانشائيات الأعم من العقود والايقاعات ، لا خصوص العقود ، ولا المعاملة بالمعنى الأعم الشاملة لمثل احياء الموات ، والحدود ، والمواريث ، وغير ذلك من الموضوعات لآثار شرعية ، فان النهى التحريمي فيها لا يوجب الفساد ، فان النهى عن الاحياء بالآلة الغصبية مثلا لا يوجب فساد الاحياء ، وذلك واضح. الا إذا كان النهى ارشاد إلى عدم كون المحياة ملكا للمحيى ، وهذا خارج عما نحن فيه.

واما المراد من الفساد : فهو عبارة عن عدم ترتب الأثر المطلوب من الشئ

٤٥٦

عليه. ومن هنا كان التقابل بين الصحة والفساد تقابل العدم والملكة لا التضاد ، على ما سيأتي بيانه.

الامر الثالث :

للصحة اطلاقان : اطلاق في مقابل العيب ، واطلاق في مقابل الفساد ، كما يقال : ان هذا الجوز صحيح ، أي غير معيوب ، وأخرى يقال : صحيح ، أي غير فاسد. والمراد من الصحة في المقام هو ما يقابل الفساد. وحيث كانت الصحة والفساد من المحمولات المترتبة على الماهيات بعد وجودها ، فلا محالة لايكون التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب ، وحيث لم يكن الفساد أمرا وجوديا فلا محالة لايكون التقابل بينهما تقابل التضاد ، وانحصر ان يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فيكون المراد من الصحيح هو ما يترتب عليه الأثر المطلوب منه ، والفاسد ما لم يترتب عليه ذلك الأثر. وحينئذ لا بد ان يكون المورد قابلا لان يتصف بالصحة والفساد ، فيحمل عليه الصحيح تارة ، والفساد أخرى. فالبسائط لا تتصف بالصحة والفساد ، بل تتصف بالوجود والعدم ، إذ فساد الشيء انما هو باعتبار عدم ترتب الأثر ، وذلك انما يكون باعتبار فقدانه بعض ما اعتبر فيه : من جزء ، أو شرط. وهذا انما يتصور في المركبات. واما البسائط ، فهي ان كانت موجودة فلامحة تكون صحيحه ، إذ ليس لها جزء أو شرط ، حتى يتصور فقدانه. وان لم تكن موجودة فلا تتصف ، لا بالصحة ، ولا بالفساد ، لما عرفت : من أن الصحة والفساد من المحمولات المترتبة على وجود الشيء.

ثم انه ليس كل مركب ذي حكم شرعي مما يتصف بالصحة والفساد ، فان موضوعات التكاليف مع كونها مركبة لا تتصف بالصحة والفساد ، فمثل قوله : العاقل البالغ المستطيع يحج ، مع كون الموضوع فيه مركبا من العقل والبلوغ والاستطاعة ، لا يتصف بالصحة والفساد ، بل بالوجود والعدم ، كالبسائط. والذي يتصف بالصحة والفساد هي متعلقات التكاليف وما يلحق بها من الأسباب كالعقد المركب من الايجاب والقبول ، والايقاع المشتمل على الشرائط المعتبرة فيه ، حيث إن المتعلق أو العقد يمكن ان يكون صحيحا باعتبار انطباقه على ما يترتب عليه الأثر ، ويمكن ان يكون فاسدا باعتبار عدم الانطباق. كما أن اجزاء المتعلق والعقد

٤٥٧

أيضا تتصف بالصحة والفساد باعتبار اثرها الاعدادي ، ولا يلزم ان يكون الشيء صحيحا باعتبار كونه علة تامة للأثر المطلوب منه والمرغوب فيه ، بل يكفي ان يكون على وجه الاعداد ، كما هو الشأن في جميع متعلقات التكاليف ، حيث تكون من المعدات للمصالح التي من اجلها امر بها ، وليست هي علة تامة لذلك ، بحيث تكون المصالح من قبيل المسببات التوليدية لتلك المتعلقات ، والا كانت نفس الملاكات متعلقة للتكليف ، وكان فعل المكلف من قبيل المحصل والسبب لذلك ، وذلك يكون بمراحل عن الواقع وان توهمه بعض الاعلام ، وقد تقدم منا مرارا فساد التوهم.

فظهر : انه ليس المراد من الصحيح هو ما يكون علة تامة لترتب الأثر الذي لأجله صار متعلقا للتكليف ، بل يكفي ان يكون معدا لذلك. وان شئت قلت : ان المراد من الصحيح هو كون المأتى به في مقام الامتثال والخروج من عهدة التكليف مطابقا لما تعلق التكليف أو الوضع به ، لوضوح ان الذي يتصف بالصحة والفساد هو ما يوجد في الخارج من الافراد ، لا العنوان الكلي المتعلق للتكليف أو الوضع ، فان ذلك لا يتصف بالصحة والفساد ، واما المتصف بهما هو المأتى به في وادى الفراغ ، وما يلحق بذلك مما يأتي به في وادى الانشاء.

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : انه بعد ما كان الصحيح عبارة عما ترتب الأثر والملاك عليه في باب العبادات ، فكيف قلتم بكون الأثر والملاك لم يتعلق به التكليف وكان متعلق التكليف هو الاجزاء والشرائط؟ فان ذلك ينافي لحاظ الصحة باعتبار ترتب الأثر.

وجه الدفع : هو ان لحاظ الصحة بهذا الاعتبار لا ينافي خروج الأثر عن دائرة التكليف ، بل يكفي في ذلك كون الأثر حكمة التشريع ، فإنه بعد ما كان الصحيح عبارة عن كون المأتى به مطابقا لما تعلق التكليف به أو الوضع به ، فلا فرق بين كون الأثر مما تعلق التكليف به ، أو لم يتعلق.

نعم يبقى في المقام اشكال : وهو ان ألفاظ المعاملات انما تكون موضوعة لنفس المسببات ، لا للأسباب ، فالبيع اسم للنقل ، والنكاح اسم للازدواج ، وهكذا سائر ألفاظ المعاملات. ومن المعلوم : ان المسببات تكون بسائط لا تتصف بالصحة

٤٥٨

والفساد ، بل بالوجود والعدم ، فان النقل مثلا اما ان يكون حاصلا واما ان لايكون ، ولا معنى لحصوله فاسدا. وحينئذ ينبغي خروج المعاملات عن حريم النزاع ، لان الذي يتصف بالصحة والفساد هو الأسباب ، حيث تكون مركبة من الايجاب والقبول ، وهذا ليس بيعا ، والذي يكون بيعا لا يتصف بالصحة والفساد ، هذا.

ولكن يمكن ان يدفع ، بما تقدم منا في الصحيح والأعم عند دفع اشكال التمسك بالاطلاقات لنفى شرطية ما شك في المعاملات بناء على كونها موضوعة للمسببات.

وحاصل ما ذكرناه في ذلك المقام ، هو ان العقد المؤلف من الايجاب والقبول في باب المعاملات ليس من قبيل العلل والأسباب ويكون النقل والانتقال في البيع معلولا له ، بل الايجاب والقبول انما يكون آلة لحصول النقل ، ويكون النقل هو الصادر عن المنشى ابتداء ، غايته انه لا بنفسه بل بآلته ، ويكون قوله ( بعت ) ايجادا للنقل بنفس القول ، لا ان القول علة لحصول النقل ، بحيث يكون هناك أمران ممتازان ، بل ليس هناك الا شيء واحد وفعل فارد صادر عن المنشى ، ويكون ذلك الفعل بما انه فعل صادر عن الشخص بمعناه المصدري ايجابا للبيع والنقل ، وبمعناه الاسم المصدري يكون بيعا ونقلا. ومن المعلوم : انه لا فرق بين المصدر واسم المصدر الا بالاعتبار ، فهذا القول ( ايجاب ) باعتبار صدوره وايجاده عن الشخص ، و ( نقل ) باعتبار انه اثر ذلك الصدور والايجاد. فحصول النقل من قوله ( بعت ) نظير حصول الكتابة من مد القلم على القرطاس ، وحصول قطع الخشب من اعمال النجار المنشار ، واشتراك الكل في كونها من الايجاد بالآلة. غايته ان القلم والمنشار آلة تكوينية ، بخلاف قوله ( بعت ) وحينئذ يكون المتصف بالصحة والفساد هو نفس الايجاب والقبول بما انه آلة لحصول النقل وبذلك يدخل في حريم النزاع في المقام. كما أنه بذلك يظهر وجه التمسك بالاطلاقات ، فراجع ما ذكرناه (١) في مبحث

__________________

١ ـ راجع الجزء الأول من الفوائد ، بحث الصحيح والأعم ص ٧٩ ـ ٨٠. « واما المعاملات .. »

٤٥٩

الصحيح والأعم.

فظهر : ان المعاملات تتصف بالصحة والفساد ، وان قلنا بكونها أسماء للمسببات.

ثم انه ربما يتوهم : ان الصحة والفساد في المعاملات من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ، بخلاف الصحة والفساد في العبادات ، فإنهما منتزعان عن مطابقة المأتى به للمأمور به وعدم المطابقة. وربما يقال : بأنهما مطلقا من المنتزعات الغير المتأصلة بالجعل في العبادات والمعاملات. وقد يقال : أيضا بأنهما مطلقا من المتأصلات في الجعل ، كالملكية والزوجية.

والأقوى : كونهما من الأمور الانتزاعية مطلقا في العبادات والمعاملات ، كالسببية والشرطية والجزئية والعانعية ، وانما المجعول هو منشأ الانتزاع. وهذا أيضا ليس على اطلاقه ، بل ربما يكون منشأ الانتزاع أيضا غير مجعول شرعي.

وتفصيل ذلك : هو ان الاتيان بكل من متعلق الامر الواقعي الأولى ، والواقعي الاضطراري الثانوي ، والظاهري ، يكون مجزيا كل عن امره عقلا ، وينطبق عليه تكوينا ، ومن هذا الانطباق ينتزع وصف الصحة وكون ما اتى به صحيحا ، فالصحة في مثل هذا تنتزع عن كون المأتى به منطبقا على ما هو المأمور به ، حسب اختلاف المأمور به من كونه : واقعيا أوليا ، أو ثانويا ، أو ظاهريا. وكون المأتى به منطبقا على المأمور به ليس أمرا مجعولا شرعيا ، وانما المجعول الشرعي هو تعلق الامر بما ينطبق على المأتى به ، واما كون المأتى به منطبقا عليه أو غير منطبق فهو يدور مدار واقعه ، والصحة والفساد تنتزع من نفس الانطباق وعدمه. فلا الصحة والفساد في مثل هذا مجعولان شرعيان ، ولا منشأ الانتزاع مجعول شرعي.

هذا إذا كان الشيء منطبقا على المأمور به أو غير منطبق. وأما إذا شك في الانطباق وعدم الانطباق ، فللشارع حينئذ الحكم بالبناء على الانطباق ، كما هو شأن الأصول الجارية في وادى الفراغ ، ومن حكم الشارع بالانطباق ينتزع وصف الصحة ، فيكون منشأ الانتزاع في مثل هذا مجعولا شرعيا ، حيث إن الشارع حكم بكون المأتى به منطبقا على المأمور به حسب ما أدى إليه الأصل. ولكن هذه الصحة

٤٦٠