فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

ذلك. وليس مرادهم ان هناك لفظا منويا في الكلام ومقدرا فيه ، بل الظرف المستقر هو بنفسه يفيد ذلك من دون ان يكون هناك تقدير في الكلام ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو وجود زيد في الدار ، وانه كائن فيها. وهذا بخلاف قولك : ضرب زيد في الدار ، فإنه يفيد نسبة الضرب الحاصل من زيد إلى الدار ، فالظرف اللغو ما أفاد نسبة المبدء إلى ملابسات الفعل بعد فرض تحقق المبدء وصدوره عن الفاعل. وهكذا الكلام في كلمة ( على ) حيث إنها تارة : تفيد نسبة قيام العرض ، وأخرى : تفيد نسبة الملابسات ، فيقال زيد على السطح ، وضرب زيد على السطح ، وكذا الكلام في كلمة ( من ) فإنها تارة يكون الظرف فيها مستقرا كقوله (ص) : حسين منى وانا من حسين ، وأخرى : يكون لغوا كقولك : سرت من البصرة ، حيث إنها تفيد نسبة السير إلى ملابسه من المكان المخصوص.

وحاصل الفرق بين الظرف اللغو والمستقر ، هو ان الظرف المستقر ما كان بنفسه محمولا كقولك : زيد في الدار ، والظرف اللغو يكون من متممات الحمل. فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان النسبة على اقسام ، والمتكفل لبيانها أمور : من هيئات التراكيب ، والحروف الجارة. وليكن هذا على ذكر منك لعله ينفعك في مبحث المشتق.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن الهيئات والحروف المفيدة للنسبة أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية.

فنقول :

قد تقدم ان منشأ توهم ذلك هو تخيل ان هذه الحروف انما تكون حاكية عن النسبة الخارجية المتحققة من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، ومن هنا تتصف بالصدق والكذب ، إذ لولا حكايتها عن النسبة الخارجية لما كانت تتصف بذلك ، بداهة ان الايجاديات لا تتصف بالصدق والكذب ، بل بالوجود والعدم ، وما يتصف بالصدق والكذب هي الحواكي ، حيث إنه ان طابق الحاكي للمحكي يكون الكلام صادقا ، والا فلا ، فكلمة ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون حاكية عن النسبة الخارجية الواقعة بين السير والبصرة ومخطرة لها في ذهن

٤١

السامع.

هذا ولكن التحقيق :

ان معاني الحروف كلها ايجادية حتى ما أفاد منها النسبة.

وبيان ذلك : هو ان شأن أدوات النسبة ليس الا ايجاد الربط بين جزئي الكلام ، فان الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهوية والذات ، لوضوح مباينة لفظ زيد بما له من المعنى للفظ القائم بما له من المعنى ، وكذا الفظ السير مباين للفظ الكوفة والبصرة بما لها من المعنى ، وأداة النسبة انما وضعت لايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، على وجه يفيد المخاطب فائدة تامة يصح السكوت عليها ، فكلمة ( من ) و ( إلى ) انما جيئ بهما لايجاد الربط ، واحداث العلقة بين السير والبصرة والكوفة الواقعة في الكلام ، بحيث لولا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط وعلقة أصلا.

ثم بعد ايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، يلاحظ المجموع من حيث المجموع ، أي يلاحظ الكلام بما له من النسبة بين اجزائه ، فان كان له خارج يطابقه يكون الكلام صادقا ، أي كانت النسبة الخارجية على طبق النسبة الكلامية ، والا يكون الكلام كاذبا ، وذلك فيما إذا لم تطابق النسبة الكلامية للنسبة الخارجية ، وأين هذا من كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية؟ بل النسبة الكلامية انما توجد الربط بين اجزاء الكلام ، والمجموع المتحصل يكون اما مطابقا للخارج ، أو غير مطابق. وفرق واضح بين كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية ومخطرة لها في ذهن السامع وبين ان تكون النسبة موجدة للربط بين اجزاء الكلام ، ويكون المجموع المتحصل من جزئي الكلام بما لهما من النسبة له خارج يطابقه أو لا يطابقه ، فظهر : ان الحروف النسبية أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية.

الامر الثالث :

قد ظهر مما ذكرنا وجه المختار من امتياز معاني الحروف بالهوية عن معاني الأسماء تمايزا كليا ، لما تقدم : من أن معاني الأسماء متقررة في وعاء العقل ، ثابتة

٤٢

بأنفسها ، مع قطع النظر عن الاستعمال ، بخلاف معاني الحروف ، فإنها معان ايجادية تتحقق في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها سبق تحقق قبل الاستعمال ، نظير المعاني الانشائية التي يكون وجودها بعين انشائها ، كايجاد الملكية بقوله بعت ، حيث إنه لم يكن للملكية سبق تحقق مع قطع النظر عن الانشاء ، ومعاني الحروف تكون كذلك بحيث كان وجودها بنفس استعمالها ، وان كان بين الانشائيات والايجاديات فرق على ما سيأتي بيانه ، فالحروف وضعت لايجاد معنى في الغير ، على وجه لايكون ذلك الغير واجدا للمعنى من دون استعمال الحرف ، كما لايكون زيد منادى من دون قولك يا زيد ، ويكون النسبة بين ما يوجده الحرف من المعنى وبين المعاني الاسمية المتقررة في وعاء العقل نسبة المصداق إلى المفهوم.

مثلا يكون النداء مفهوم متقرر عند العقل مدرك في وعاء التصور وهو من هذه الجهة يكون معنى اسميا ، وقد جعل لفظة النداء بإزائه ، واما الندا الحاصل من قولك يا زيد ، فهو انما يكون مصداقا لذلك المفهوم ، ويتوقف تحققه على التلفظ بقولك يا زيد ، بحيث لا يكاد يوجد مصداق النداء وصيرورة زيد منادى الا بقولك يا زيد ، فلفظة ( ياء النداء ) انما وضعت لايجاد مصداق النداء ، لا انها وضعت بإزاء مفهوم النداء ، كما يدعيه من يقول بعدم الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وكذا الحال في سائر الحروف ، حيث إنها بأجمعها وضعت لايجاد المصاديق. مثلا لفظة ( الابتداء ) وضعت بإزاء المفهوم المتقرر عند العقل ، واما لفظة ( من ) فلم توضع بإزاء ذلك المفهوم ، بل وضعت لايجاد نسبة ابتدائية بين المتعلقين. وقول النحاة : من أن ( من ) وضعت للابتداء لا يخلو عن تسامح ، بل حق التعبير ان يق : ان لفظة ( من ) وضعت لايجاد النسبة الابتدائية ، وتلك النسبة الابتدائية التي توجدهما لفظة ( من ) لا يكاد يمكن ان يكون لها سبق تحقق في عالم التصور نعم يمكن تصورها بوجه ما ، أي بتوسط المفاهيم الاسمية ، كان يتصور الواضع النسبة الابتدائية الكذائية التي توجد بين السير والبصرة ، وهذه كلها مفاهيم اسمية قد توصل بها إلى معنى حرفي فوضع لفظة ( من ) بإزاء ذلك المعنى الحرفي المتصور بتلك المفاهيم.

فتحصل : ان النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية ، هي النسبة بين

٤٣

المصداق والمفهوم ، وكم بين المفهوم والمصداق من الفرق ، بداهة تغاير المفهوم والمصداق بالهوية ، وبالاثر والخاصية ، إذ المفهوم لا موطن له الا العقل ، وموطن المصداق هو الخارج ، ولا يعقل اتحاد ما في العقل مع ما في الخارج الا بالتجريد والقاء الخصوصية ، ولا يمكن القاء الخصوصية في الحرف ، لان موطنه الاستعمال وهو قوامه ، فالتجريد والقاء الخصوصية يوجب خروجه عن كونه معنى حرفيا ، هذا بحسب الهوية. وكذا الحال في الآثار والخواص ، فان الرافع للعطش مثلا مصداق الماء ، لا مفهومه ، والمحرق هو مصداق النار ، لا مفهومها.

وحاصل الكلام :

ان الحروف بأجمعها ، وما يلحق بها مما يتكفل معنى نسبيا رابطيا ، انما وضعت لايجاد مصاديق الربط والنسبة ، على ما بين النسب والروابط من الاختلاف من النسبة الابتدائية والانتهائية والظرفية وغير ذلك ، والأسماء وضعت بإزاء مفاهيم تلك الروابط ، فلا ترادف بين لفظة ( ياء ) النداء وبين لفظة ( النداء ) بما لهما من المعنى ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، لان لفظة ( يا ) موجدة لمعنى في الغير ، ولفظة ( النداء ) حاكية عن معنى متقرر في وعائه.

ولا يتوهم انه لو كانت نسبة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم لكان اللازم صحة حمل أحدهما على الاخر ، كصحة حمل الانسان على زيد ، فلازمه صحة حمل ( النداء ) على ( ياء ).

وذلك لان صحة الحمل في قولك زيد انسان انما هو لأجل حكاية زيد عن معنى متحد في الخارج مع الانسان ، وهذا بخلاف ( يا ) فإنها ليست حاكية عن معنى متحد مع ( النداء ) بل هي موجدة لمعنى في الغير. نعم ما يوجد بياء النداء يحمل عليه انه نداء من باب حمل الكلي على المصداق فتأمل في المقام جيدا.

الامر الرابع :

قد ظهر مما ذكرنا ان قوام المعنى الحرفي يكون بأمور أربعة :

الأول : ان يكون المعنى ايجاديا ، لا اخطاريا.

الثاني : ان يكون المعنى قائما بغيره لا بنفسه ، كالمعاني الموجدة في باب العقود

٤٤

والايقاعات ، على ما يأتي بيانه.

الثالث : ان لايكون لذلك المعنى الايجادي نحو تقرر وثبوت بعد ايجاده ، بل كان ايجاده في موطن الاستعمال ، ويكون الاستعمال مقوما له ، ويدور حدوثه وبقائه مدار الاستعمال.

الرابع : ان يكون المعنى حين ايجاده مغفولا عنه غير ملتفت إليه ، وهذا لازم كون المعنى ايجاديا وكون موطنه الاستعمال ، بداهة انه لو كان المعنى الحرفي بما انه معنى حرفيا ملتفتا إليه قبل الاستعمال أو حين الاستعمال لما كان الاستعمال موطنه ، بل كان له موطن غير الاستعمال ، إذ لا يمكن الالتفات إلى شيء من دون ان يكون له نحو تقرر في موطن ، فحيث انه ليس للمعنى الحرفي موطن غير الاستعمال ، فلا بد من أن يكون غير ملتفت إليه ومغفولا عنه حين الاستعمال ، نظير الغفلة عن الألفاظ حين تأدية المعاني بها لفناء اللفظ في المعنى وكونه مرآة له ، ولا يمكن الالتفات إلى ما يكون فانيا في الشيء حين الالتفات إلى ذلك الشيء ، كما لا يمكن الالتفات إلى الظل حين الالتفات إلى ذي الظل والمرآة حين الالتفات إلى المرئي.

وبالجملة :

لما كان قوام المعنى الحرفي هو الاستعمال ، ولا موطن له سواه ، فلا بد من أن يكون المعنى غير ملتفت إليه ، بل يوجد مصداق النداء بنفس قولك يا زيد مثلا ، من دون ان يكون هذا المصداق ملتفتا إليه عند القول ، إذ قوامه بنفس القول ، فكيف يكون له سبق التفات. نعم ما يكون ملتفتا إليه هو تنبيه زيد واحضاره وما شابه ذلك ، وهذه كلها معاني اسمية ، والمعنى الحرفي هو ما يتحقق بقولك يا زيد ، ولا يمكن سبق الالتفات إلى ما لا وجود له الا بالقول كما لا يخفى. فهذه أركان أربعة بها يتقوم المعنى الحرفي ويمتاز عن المعنى الأسمى. وبذلك يظهر الفرق بين المعاني الايجادية في باب الحروف ، والمعاني الايجادية في باب المنشآت بالعقود والايقاعات.

وتوضيح ذلك :

هو ان للصيغ الانشائية كبعت وطالق جزء ماديا وجزء صوريا. اما

٤٥

الجزء المادي : فهو مبدء الاشتقاق ، وهو معنى اسمى وله مفهوم متقرر في وعاء العقل. واما الجزء الصوري فهو عبارة عن الهيئة التي وضعت لايجاد انتساب المبدء إلى الذات ، واما الأخبارية والانشائية فهما خارجان عن مدلول اللفظ ، وانما يستفادان من المقام والسياق وقرائن الحال ، لا ان لفظ بعت مثلا يكون مشتركا بين الأخبارية والانشائية. وحينئذ إذا كان المتكلم في مقام الاخبار بحيث استفيد من السياق انه في ذلك المقام ، كان اللفظ موجبا لاخطار المعنى في الذهن من دون ان يوجد باللفظ معنى أصلا ، كما في الأسماء ، وإذا كان المتكلم في سياق الانشاء فايضا يكون موجبا لاخطار المعنى في ذهن السامع ، الا انه مع ذلك يكون موجدا للمنشأ من الملكية ، وموجبا لايجاد شيء لم يكن قبل التلفظ ببعت من ملكية المشترى للمال ، ولكن الذي يوجده اللفظ امر متقرر في حد نفسه ، لا ان تقرره يكون منحصرا في موطن الاستعمال ، بل بالاستعمال يوجد معنى متقرر في الوعاء المناسب له من وعاءات الاعتبار ، حيث كانت الملكية من الأمور الاعتبارية.

والحاصل : ان استعمال صيغ العقود في معانيها يوجب حدوث امر لم يكن إذا كان في مقام الانشاء ، واما بقاء ذلك الامر فلا يدور مدار الاستعمال ، بل يدور مدار بقاء وعائه من وعاء الاعتبار ، فملكية المشترى للمال تبقى ببقاء الاعتبار ، ولا تدور مدار بقاء الانشاء والاستعمال ، بل الملكية هي بنفسها متقررة بعد الانشاء ، وهذا بخلاف المعنى الموجد بالحرف ، فان المعنى الحرفي قراره وقوامه يكون في موطن الاستعمال ، بحيث يدور مدار الاستعمال حدوثا وبقاء ، مثلا ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة انما توجد الربط والنسبة بين لفظة السير بما لها من المفهوم ، ولفظة البصرة كذلك ، ومن المعلوم : ان هذا الربط يدور مدار الاستعمال ، فما دام متشاغلا بالاستعمال يكون الربط محفوظا ، وبمجرد خروج المتكلم عن موطن الاستعمال ينعدم الربط ، وكذلك النداء في قولك : يا زيد انما يكون قوامه بنفس الاستعمال ، ويكون قائما بقولك : يا زيد ، وليس للنداء الحاصل من القول نحو تقرر وثبوت في وعاء من الأوعية غير وعاء الاستعمال ، بخلاف الملكية الحاصلة من قولك بعت ، حيث إن لها تقررا في وعاء الاعتبار ، فالمعنى الحرفي حدوثا وبقاء متقوم

٤٦

بالاستعمال.

وبالجملة : هناك فرق بين المعنى المنشأ بقولك بعت ، والمعنى الموجد بهيئة بعت ، فان الهيئة انما توجد النسبة بين المبدء والفاعل ، وهذا قوامه بالاستعمال ، فما دام متشاغلا بقوله بعت تكون النسبة بين المبدء والفاعل محفوظة ، وبمجرد الخروج عن موطن الاستعمال تنعدم النسبة ، ويكون لفظ البيع بما له من المعنى مباينا للبايع من دون ان يكون بينهما ربط ، وهذا بخلاف الموجد بالانشاء ، فإنه لا يقوم بالاستعمال وان كان يوجد بالاستعمال ، بل يقوم في الوعاء المناسب له.

فتحصل : ان صيغ العقود وان اشتركت مع الحروف في ايجادها المعنى ، الا انها تفترق عنها في أن المعنى الحرفي يكون قائما بغيره والمعنى الانشائي يكون قائما بنفسه ، والمعنى الحرفي لا موطن له الا الاستعمال والمعنى الانشائي موطنه الاعتبار ، والمعنى الحرفي مغفول عنه عند الاستعمال والمعنى الانشائي ملتفت إليه فتأمل جيدا.

وإذا عرفت مباينة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى ، ظهر لك ضعف ما قيل : من أنه ليس للحروف معنى أصلا بل انما هي علامات لإفادة ما أريد من متعلقاتها ، كما حكى نسبة ذلك إلى الشيخ الرضى ره.

وجه الضعف : هو ان العلامة لم تحدث في ذي العلامة معنى يكون فاقدا له لولا العلامة ، بل يكون ذو العلامة على ما هو عليه ، وتكون العلامة لمجرد التعريف ، وشأن الحروف ليس كذلك لوضوح انها تحدث معنى في الغير كان فاقدا له لولا دخول الحرف عليه ، بداهة ان زيدا لم يكن منادى ويصير منادى بسبب ياء النداء ، ومع ذلك كيف يمكن القول بأنها علامة؟.

وكذلك ظهر ضعف ما قيل أيضا : من أنه لا مايز بين معاني الحروف ومعاني الأسماء في ناحية الوضع والموضوع له ، وانما لم يصح استعمال أحدهما مكان الاخر ، لاعتبار الواضع قيد ( ما قصد لنفسه ) في الأسماء في ناحية الاستعمال ، و ( ما قصد لغيره ) في الحروف في تلك الناحية.

وبعبارة أخرى : الأسماء وضعت لتستعمل في المعاني الاستقلالية ، و

٤٧

الحروف وضعت لتستعمل في المعاني الغيرية ، فلا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى بالهوية.

وجه الضعف : هو ان صاحب هذا القول تتركب دعواه من أمرين :

الأول : دعوى ان كلا من الحرف والاسم وضع للقدر المشترك ، بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل.

الثاني : دعوى كون عدم صحة استعمال الحرف في مقام الاسم وبالعكس انما هو لأجل منع الواضع عن ذلك في مقام الاستعمال واخذ كل من قيد الآلية والاستقلالية شرطا في ناحية الاستعمال ، ولكن لا يخفى فساد كل من الامرين.

اما الأول : فلان المعنى في حاق هويته ، اما ان يستقل بالمفهومية ، واما ان لا يستقل ، فالامر يدور بين النفي والاثبات من دون ان يكون في البين جامع ، إذ ليس في المعنى تركيب من جنس وفصل حتى يتوهم وضع كل من الحرف والاسم بإزاء الجنس ، وتكون الآلية والاستقلالية من الفصول المنوعة للمعنى كالناطقية والصاهلية ، لما تقدم في الامر الأول من أن المعنى بسيط غاية البساطة ، ليس فيه شائبة التركيب ، وعليه يبتنى عدم الدلالة التضمنية ، كما نوضحه في محله انشاء الله.

فالمعاني في وعاء العقل ، كالأعراض في وعاء الخارج في كونها بسيطة لا تركيب فيها ، ولذا كان ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك ، كما في السواد والبياض ، أو السواد الشديد والضعيف ، حيث كان امتياز السواد الشديد عن الضعيف بنفس السواد ، وكذا امتياز السواد عن البياض انما يكون بهوية ذاته لا بالفصول المنوعة ، كما في المركبات ، بل السواد بما انه لون يمتاز عن البياض في حد ذاته ، وكذا الشديد والضعيف مع اشتراكهما في الحقيقة يمتاز ان بنفس الحقيقة ، من دون ان يكون هناك مايز خارجي ، هذا حال الاعراض. وكذا الحال في المعاني ، حيث إن المعاني عبارة عن المدركات العقلية التي لا موطن لها الا العقل وهي من أبسط البسائط ، وامتياز بعضها عن بعض يكون بنفس الهوية ، لا بالفصول المنوعة ، وليس لها جنس وفصل ، فدعوى كون ألفاظ الحروف والأسماء موضوعة للقدر

٤٨

الجامع بين الالية والاستقلالية مما لا محصل لها ، إذ لا يعقل ان يكون المعنى لا مستقل ولا غير مستقل ، فإنه يكون من ارتفاع النقيضين ، فتأمل جيدا.

واما الثاني : فهو أوضح فسادا لما فيه.

أولا : من أن ذلك مبنى على أن يكون للألفاظ واضع خاص حتى يتأتى منه اشتراط ذلك ، وقد تقدم امتناع ذلك في أول المبحث ، مع أنه لو فرض ثبوت واضع خاص فمن المقطوع انه لم يشترط ذلك في مقام الوضع ، لان ذلك خارج عن وظيفة الواضع ، إذ وظيفة الواضع انما هو تعيين مداليل الألفاظ ، لا تعيين تكليف على المستعملين ، لأنه لا ربط للاستعمال بالواضع.

وثانيا : هب ان الواضع اشترط ذلك ، وفرض ان هذا الشرط مما يلزم العمل به ، فما الذي يلزم من مخالفة الشرط باستعمال الحروف مقام الأسماء ، إذ غاية ما يلزم هو مخالفة الواضع ، وهذا لا يوجب كون الاستعمال غلطا ، إذ لا يقصر عن المجاز ، بل ينبغي ان يكون هذا أولى من المجاز ، لان المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، وهذا استعمال في ما وضع له ، غايته انه على غير جهة ما وضع له ، وهذا لا يوجب استهجان الاستعمال ، مع أنه من الواضح استهجان استعمال كلمة ( من ) في مقام كلمة ( الابتداء ) و ( إلى ) في مقام ( الانتهاء ) و ( في ) في مقام ( الظرفية ).

الا ترى : انه لو أراد المتكلم ان يتكلم بألفاظ مفردة بلا نسبة ، يصح ان يتكلم بلفظة الابتداء ، والانتهاء ، والظرف ، والنداء ، والخطاب ، وغير ذلك من الألفاظ المفردة التي يكون لكل منها معنى متحصل في نفسه ، بحيث يسبق إلى ذهن السامع لتلك الألفاظ معانيها ، ولا يصح ان يق للمتكلم : انه ليس لمفردات كلامه معنى متحصل ، وان صح ان يق له : انه ليس لكلامه نسبة يصح السكوت عليها. وهذا بخلاف التكلم بلفظة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) و ( يا ) و ( كاف ) وغير ذلك من الحروف ، فأنه لا يسبق إلى ذهن السامع من هذه الألفاظ معنى أصلا ، ويصح ان يق للمتكلم بذلك : انه ليس لمفردات كلامه معنى ، بل يعد هذا الوجه من التكلم مستهجنا ومستبشعا ، فهذا أقوى شاهد على مباينة الحروف للأسماء ، وعدم اتحاد معانيهما ، بداهة ان الاتحاد في المعنى يوجب صحة استعمال كل منهما في مقام الاخر ، و

٤٩

المفروض انه لا يصح ، فلابد من أن يكون هناك مايز بينهما على وجه يختلف هوية كل منهما عن هوية الاخر ، بحيث لا يصح استعمال كل منهما في مقام الاخر ولو على نحو المجازية ، لعدم ثبوت علاقة بين المعنيين مصححة للاستعمال.

فتحصل

من جميع ما ذكرنا انه لا جامع بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وان الحروف وضعت لايجاد معنى في الغير بالقيود الأربعة المتقدمة ، والأسماء وضعت بإزاء المفاهيم المقررة في وعاء العقل ، فتأمل في المقام فإنه مما زلت فيه الاقدام. وبما ذكرنا ظهر : الخلل في ما عرف به الحرف ، من أنه ما دل على معنى في الغير.

وجه الخلل : هو ان الدلالة تستدعى ثبوت المدلول وتقرره ، والمفروض انه ليس للمعنى الحرفي تقرر وثبوت. ونحن لم نجد في تعاريف القوم ما يكون مبينا لحقيقة المعنى الحرفي ، على وجه يكون جامعا لأركانه الأربعة ، الا ما روى (١) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله : الاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره ، على بعض النسخ ، وفي بعض آخر : والحرف ما أنبأ عن معنى ليس بفعل ولا اسم ، والظاهر أن يكون الأول هو الصحيح ، لأنه هو المناسب لان يكون عن إفاداته (ع) التي يفتتح منها الف باب ، و

__________________

١ ـ نقلت هذه الرواية من مآخذ متعددة بعبارات مختلفة : منها : فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ به والحرف ما جاء لمعنى. ومنها : فالاسم ما دل على المسمى والفعل ما دل على حركة المسمى والحرف ما أنبأ عن معنى وليس باسم ولا فعل. ومنها : الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره. راجع لتحقيق مأخذ هذه الرواية « تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام » تصنيف العالم الجليل السيد حسن الصدر. ص ٤٦ إلى ٦١ وصنف العالم الجليل السيد على البهبهاني (ره) كتابا مستقلا في تحقيق معنى الرواية وسماه ( بالاشتقاق ) وذكر فيه : « الرواية مشتهرة بين أهل العربية اشتهار الشمس في رابعة النهار ».

٥٠

قد جمع عليه‌السلام في هذا لحديث تمام علم النحو ، ومن هنا اعترف المخالف بأنه عليه‌السلام هو المبتكر لعلم النحو ، ولا باس بشرح الحديث المبارك على وجه الاختصار.

فنقول : اما قوله عليه‌السلام الاسم ما أنبأ عن المسمى ، فهو عين ما ذكرناه : من أن المعاني الاسمية اخطارية ، والأسماء وضعت لاخطار تلك المعاني في الذهن ، فان الانباء بمعنى الاظهار والاخطار.

واما قوله (ع) : والحرف ما أوجد معنى في غيره فكذلك أي انه منطبق على ما ذكرناه : من أن معاني الحروف ايجادية بقيودها الأربعة ، إذ لازم كونهما أوجد معنى في غيره ، هو ان يكون المعنى ايجاديا ، وأن يكون ذك المعنى قائما في غيره ، وان لايكون له موطن غير الاستعمال ، وأن يكون مغفولا عنه ، على ما عرفت : من أن القيدين الأخيرين من لوازم كون المعنى في الغير.

واما قوله (ع) : والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، فتوضيحه يتوقف على معرفة حقيقة معنى الفعل ، وما يكون المايز بينه وبين الاسم والحرف ، إذ ربما يستشكل في تصوير معنى لايكون باسم ولا حرف ، مع أن الفعل مركب من مادة وهيئة ، والمادة معنى اسمى ، والهيئة معنى حرفي ، فالفعل يكون مركبا من اسم وحرف ، وليس خارجا عنهما ، فما وجه تثليث الأقسام؟ وجعل الفعل مقابلا للاسم والحرف؟ وليس تثليث الأقسام من كلام النحويين حتى يقال : أخطأوا في تثليث الأقسام ، بل هو من كلام أمير المؤمنين (ع) الذي كلامه ملوك الكلام ، فلابد من بذل الجهد لمعرفة معنى يقابل المعنى الأسمى والمعنى الحرفي ، بان يكون متوسطا بين المعنيين ، ولا بد أولا من معرفة مبدء الاشتقاق والأصل فيه.

فنقول : انه قد اختلفت الكلمات في مبدء الاشتقاق ، فقيل : انه المصدر ، وقيل : انه اسم المصدر ، والحق انه لا هذا ولا ذاك.

وذلك لان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون أمرا محفوظا في تمام الهيئات الاسمية والفعلية ، ويكون بالنسبة إليها من قبيل المادة والصورة ، فلا بد ان يكون

٥١

مبدء الاشتقاق معرى عن الهيئة ، حتى يكون معروضا لكل هيئة ، ومن المعلوم ان لكل من المصدر واسم المصدر هيئة تخصه ، ويكون ما يستفاد من اسم المصدر بهيئته مباينا لما يستفاد من المصدر بهيئته ، كالغسل والغسل ، فلا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق المصدر أو اسم المصد (١) بل لابد من أن يكون مبدء الاشتقاق أمرا معرى عن الهيئة قابلا لعروض كل هيئة عليه ، كالضاد والراء والباء في ضرب ، ولا يمكن ان يتلفظ به ، لان كل ملفوظ لابد ان يكون ذا هيئة.

وحاصل الكلام : ان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون أمرا غير متحصل في عالم اللفظ والمعنى ، ويكون تحصله في كلتا المرحلتين بواسطة الهيئة ، فنسبة المبدء إلى الهيئات كنسبة المادة إلى الصور النوعية ، حيث إن المادة تكون صرف القوة ، ويكون فعليتها بالصور النوعية ، كذلك مبدء الاشتقاق يكون معنى غير متحصل بالذات ، ويكون في عالم المفهومية صرف قوة ، ويتوقف فعليته وتحصله على الهيئة ، فمبدء الاشتقاق في الافعال أسوء حالا من الحروف ، إذ الحروف وان لم يكن لها معنى في حد أنفسها ، ولكن يمكن التلفظ بها ، وهذا بخلاف مبدء الاشتقاق فإنه لا يمكن التلفظ به ، كما عرفت ، الا بتوسط الهيئات ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث المشتق انشاء الله تعالى.

ثم إن الهيئات اللاحقة لمبدء الاشتقاق.

منها :

ما يكون مفادها معنى افراديا استقلاليا لا يحتاج في تحصله إلى ضم نسبة تركيبية ، وذلك كالأسماء المشتقة كضارب ومضروب ، وما شابه ذلك ، فان لكل منها معنى افراديا استقلاليا متحصلا بهوية ذاته بلا ضم نسبة ، على ما هو الحق من بساطة معاني الأسماء المشتقة ، كما يأتي تفصيله. فللضارب معنى متحصل افرادي اسمى ، والتلفظ به موجب لاخطار ذلك المعنى في الذهن ، ومن هنا صار معربا يقبل

__________________

١ ـ وربما يظهر من بعض الكلمات ان مبدء الاشتقاق هو اسم المصدر ولا دخل لهيئته في معناه ، وانما تكون الهيئة حافظة للمادة ، بخلاف هيئات سائر المشتقات ، فان لها دخلا في المعنى ، فتأمل ـ منه.

٥٢

الحركات الاعرابية ، إذ لو كان مفاد هيئته معنى حرفيا لكان مبنيا ولم يقبل الحركات الاعرابية ، كما هو الشأن في هيئات الافعال ، حيث كان مفادها معنى حرفيا ، ولأجل ذلك صارت مبنية. وليس مفاد هيئة ضارب نسبة تركيبية ، حتى يكون معنى ضارب هو ذات ثبت لها الضرب كما زعم من يقول : بان المشتقات مركبة.

ومنها :

ما يكون مفادها معنى حرفيا نسبيا ، وذلك كهيئات الافعال من الماضي والمضارع والامر ، فان هيئاتها تفيد معنى نسبيا أعني انتساب المبدء إلى الذات ، فهيئات الافعال تغاير هيئات الأسماء ، حيث كان مفاد هيئات الافعال النسبة ، وهيئات الأسماء معراة عن النسبة.

إذا عرفت ذلك

ظهر لك : تغاير معاني الافعال لمعاني الأسماء والحروف ، وان الفعل له معنى متوسط بين الاسم والحرف ، فان له حظا من المعنى الأسمى ، حيث يكون موجبا لاخطار المعنى في الذهن عند اطلاق لفظ الفعل ، ويكون له معنى استقلالي تحت قالب لفظه ، غايته انه ليس بافرادي بل هو تركيبي ، وله حظ من المعنى الحرفي ، حيث لم يكن لمبدئه تحصل ولا لهيئته معنى متحصل ، بل كان المبدء صرف القوة ومفاد الهيئة معنى حرفي نسبي ، فكلا جزئي الفعل لايكون لهما معنى متحصل بهوية ذاته.

وحاصل الكلام : ان تثليث الأقسام ، انما هو لأجل ان للفعل حقيقة ثالثة غير حقيقة الاسم والحرف ، فان مفاد الفعل وان كان اخطاريا ، الا انه اخطار نسبة تركيبية بين المبدء والفاعل. وهذا بخلاف مفاد الأسماء ، فان مفادها معان افرادية استقلالية ، ومفاد الحروف ايجادية ، على ما عرفت. إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى شرح الحديث المبارك.

فنقول : انه قد اختلفت الأنظار في شرح قوله (ع) : والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى. والذي يقتضيه النظر الدقيق ، هو ان يقال : ان المراد من الحركة هو

٥٣

الحركة من القوة إلى الفعل ، لا بمعنى الحركة من العدم إلى الوجود ، كما ذهب إليه بعض الأوهام ، بل المراد الحركة في عالم المفهومية ، حيث إن المبدء خرج عن اللاتحصلية وتحرك من القوة إلى التحصلية والفعلية ، فالمراد من المسمى هو مبدء الاشتقاق ، والفعل بجملته يظهر وينبأ عن حركة ذلك المسمى من القوة إلى الفعلية ، ومن اللاتحصلية إلى التحصلية في عالم المفهومية ، حيث كان غير متحصل فصار بواسطة هيئة الفعل متحصلا فتأمل ، في المقام فإنه بعد يحتاج إلى مزيد توضيح.

المقام الثاني : في عموم الموضوع له وخصوصه

والأقوال فيه ثلاثة.

قول : بان كلا من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عام.

وقول : بان الوضع والموضوع له عام والمستعمل فيه خاص.

وقول : بان الوضع عام والموضوع له والمستعمل فيه خاص.

وقبل تحقيق الحال ينبغي تمهيد مقدمة لتحرير محل النزاع ، وبيان الفارق بين الكلية والجزئية المبحوث عنهما في الحروف ، والكلية والجزئية التي تتصف الأسماء بهما.

وحاصل المقدمة :

هو ان ما يقال في تفسير الكلية والجزئية : من أن المفهوم ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي والا فكلي ، انما يستقيم في المفاهيم الاسمية ، واما المعاني الحرفية ، فلا يمكن اتصافها بالكلية والجزئية بهذا المعنى ، لما عرفت : من أنه ليس للحروف مفاهيم متقررة يمكن لحاظها ، حتى يحكم عليها بامتناع الصدق وعدم الامتناع ، بل الحروف انما وضعت لايجاد المعاني في الغير في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها وعاء غير وعاء الاستعمال ، ومن المعلوم ان وصف الشيء بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدم امتناعه ، انما هو بعد تقرر ذلك الشيء في وعاء من الأوعية ، والمعنى الحرفي لم يكن له تقرر الا في وعاء الاستعمال ، فلا معنى لان يتصف بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدم امتناعه.

والحاصل : ان الشيء الموجود الخارجي بما انه موجود خارجي لا يتصف

٥٤

بالكلية والجزئية ، إذ الكلية والجزئية انما تعرضان المفاهيم ، والمفروض ان المعنى الحرفي قوامه بايجاده ، فلا يتصور فيه الكلية والجزئية بذلك المعنى بل الكلية والجزئية المبحوث عنهما في باب الحروف انما تكون بمعنى اخر ، وهو ان الموجد في الحروف في جميع مواطن الاستعمالات ، هل هو امر واحد بالهوية ، وتكون الخصوصيات اللاحقة لها في تلك المواطن خارجة عن حريم المعنى الحرفي ، وانما هي من خصوصيات الاستعمالات؟ أو ان تلك الخصوصيات داخلة في حريم المعنى الحرفي ، ومقومة له؟

وتوضيح ذلك

هو انه لا اشكال في أن كل استعمال متخصص بخصوصية خاصة يكون الاستعمال الاخر فاقدا لها ، فقولك : سرت من البصرة إلى الكوفة مغاير لقولك : سرت من الكوفة إلى البصرة ، بل مغاير لنفس قولك : سرت من البصرة إلى الكوفة ثانيا عقيب القول الأول ، ويكون المعنى الذي وجد بأداة النسبة الابتدائية في كل استعمال متخصصا بخصوصية خاصة ، فيرجع النزاع في المقام حينئذ إلى أن تلك الخصوصيات اللاحقة للمعنى الحرفي عند كل استعمال ، هل هي مقومة للمعنى الحرفي وداخلة في هويته حتى يكون الموضوع له في الحروف خاصا؟ أو انها خارجة عن حقيقة المعنى الحرفي ، وانما هي من لوازم تشخص المعنى فيكون الموضوع له عاما كالوضع؟.

والى ذلك يرجع ما افاده (١) في الفصول : من أن التقييد والقيد كلاهما خارجان ، فإنه بناء على كلية المعنى الحرفي يكون كل من نفس القيد الذي هو المتعلق في قولك : سرت من البصرة مثلا والتقييد وهو الخصوصية اللاحقة للنسبة الابتدائية التي أوجدتها كلمة ( من ) في خصوص ذلك الاستعمال خارجين من المعنى الحرفي ، فلا يرد على صاحب الفصول (ره) : انه كيف يكون القيد والتقييد

__________________

١ ـ الفصول ص ١٤ « فهي عند التحقيق موضوعة بإزاء المفاهيم المقيدة بأحد افراد الوجود الذهني الآلي من غير أن يكون القيد والتقييد داخلا ، فيكون مداليلها جزئيات حقيقية متحدة في مواردها ذاتا ومتعددة تقييدا وقيدا ».

٥٥

خارجين؟ وأي معنى لهذا التقييد حينئذ وما فائدته؟ ولكن بالبيان الذي بيناه ، اتضح مراده ( قده ) من كون كل من التقييد والقيد خارجين.

وحاصله : انه بعد ما كان قوام المعنى الحرفي بالغير ، وكان وجوده بعين استعماله ، فالخصوصية اللاحقة له باعتبار ذلك الغير ، كالبصرة في قولك : سرت من البصرة ، ومكة في قولك : سرت من مكة ، هل هي مما يتقوم بها المعنى الحرفي ولاحقة له بالهوية؟ على نحو التقييد داخل والقيد خارج ، لان نفس ذلك الغير خارج عن المعنى الحرفي قطعا ، لأنه معنى اسمى فالذي يمكن هو دخول التقيد ، أو ان تلك الخصوصية خارجة عن المعنى الحرفي؟ على نحو خروج القيد ، وهي من لوازم التحقق في موطن الاستعمال ، حيث لا يمكن ايجاد المعنى الحرفي الا باحتفافه بخصوصية خاصة لاحقة له في موطن الاستعمال ، نظير المحل الذي يحتاج إليه العرض في التحقق مع أنه خارج عن هوية ذاته ومما لا يتقوم به معنى العرض ، فان كان على الوجه الأول فيكون الموضوع له خاصا ، ان كان على الوجه الثاني فيكون الموضوع له عاما كالوضع.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين عموم الموضوع له في الأسماء ، وبين عموم الموضوع له في الحروف ، فان عموم الموضوع له في الأسماء ، انما يكون على وجه يصح حمله على ماله من الافراد الخارجية ، نحو حمل الكلي على الفرد بالحمل الشايع الصناعي الذي يكون ملاكه الاتحاد في الوجود ، كما يقال : زيد انسان ، وهذا فرس ، وما شابه ذلك. وهذا بخلاف عموم الموضوع له في الحروف ، فإنه ليس له افراد خارجية يصح حمله عليها ، إذ قوام المعنى الحرفي بالايجاد ، بحيث لا موطن له الا الاستعمال على ما تقدم ، والشيء الذي يكون قوامه بالوجود ليس له وراء ذلك خارج يمكن حمله عليه ، كما كان للمفهوم الكلي الأسمى خارج من افراده الموجودة يمكن حمله عليه.

وبالجملة : فرق بين اتصاف المعنى الحرفي بالكلية ، واتصاف المعنى الأسمى بالكلية ، فان الكلية في الأسماء عبارة عما كان ينطبق على الخارجيات ، ويحمل عليها بالحمل الشايع الصناعي ، كزيد انسان. واما الكلية في الحروف

٥٦

فليست بمعنى ان لها افراد يمكن حمل الكلي عليها ، إذ المعنى الحرفي انما يكون ايجاديا موطنه الاستعمال ، ولا معنى لحمل ما يكون موطنه الاستعمال وما يكون ايجاديا على غيره ، إذ ليس هناك خارج وراء نفسه يمكن ان يحمل عليه ، بل هو بنفسه من الخارجيات ، والخارجيات ليس لها خارج وراء نفسها ، كما كان للمفاهيم الاسمية خارج يصح حملها عليه.

وحاصل الكلام : ان المفاهيم الاسمية انما تقع في عقد الحمل ، ويكون عقد الوضع مصداقا من مصاديقه الخارجية ، كما يقال : زيد انسان. واما المفاهيم الحرفية ، فلا يصح ان تقع في عقد الحمل ، إذ هي بنفسها من الايجاديات الخارجية ، وليس لها مصداق خارجي يصح حملها عليه ، بل المعاني الحرفية دائما تقع في عقد الوضع ، ويكون المحمول مفهوما اسميا. كما يقال عند قولك يا زيد ، هذا نداء ، أي ما وجد بقولك يا زيد مصداق من مصاديق كلي النداء ، وهذا لا ينافي كلية المعنى الحرفي ، إذ قد عرفت المراد من الكلية في المعنى الحرفي مع حفظ أركانه الأربعة المتقدمة : من كونه ايجاد معنى في الغير في موطن الاستعمال مغفولا عنه ، وهذه القيود الأربعة كلها لا تنافى كلية المعنى الحرفي ، بعد ما عرفت المراد من الكلية : من أن الذي يوجد ب‍ ( من ) مثلا في جميع مواطن الاستعمالات معنى واحد بالهوية الذي لا يمكن تصوره ولا التعبير عنه الا بتوسط المفاهيم الاسمية ، بحيث لا يمكن ان يقع ذلك المعنى بنفسه في جواب ما هو ، بل الذي يصح ان يقع في جواب ما هو ، هو وجه المعنى وعنوانه من المعاني الاسمية. كما يقال : في جواب السؤال عما يوجد ب‍ ( من ) نسبة ابتدائية ، ومعلوم ، ان كلا من لفظة ( النسبة ) و ( الابتدائية ) له مفهوم اسمى ، ولكن ذلك المفهوم الأسمى يصلح ان يكون معرفا للمعنى الحرفي الذي يوجد ب‍ ( من ) لما عرفت : من أن نسبة المعنى الحرفي إلى المفهوم الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم ، ومن المعلوم : ان المفهوم يكون وجها وعنوانا لمصاديقه ، ومعرفة الشيء بوجهه بمكان من الامكان.

وبالجملة : الكلية المتنازع فيها في الحروف ، انما هي بمعنى ان ما توجده لفظة ( من ) في جميع الاستعمالات معنى واحد بالهوية والحقيقة ، وتكون الخصوصيات

٥٧

اللاحقة لذلك المعنى بتوسط الاستعمالات خارجة عن حقيقة المعنى ، لازمة لتحققه في موطن الاستعمال ، نظير خصوصية القيام بالمحل الذي هي من لوازم وجود العرض مع عدم قوام هويته به. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بجزئية المعنى الحرفي ، فإنه تكون تلك الخصوصيات حينئذ مقومة لهوية المعنى الحرفي وداخلة في حقيقته.

إذا عرفت المتنازع فيه في المقام فنقول :

ان الحق هو كلية المعنى الحرفي ، وكون الموضوع له في الحروف عاما كالوضع ، إذ لا منشأ لتوهم الجزئية وكون الموضوع له خاصا الا أحد أمرين.

الأول : اعتبار كون المعنى الحرفي قائما بالغير ، فيتوهم ان الخصوصية اللاحقة للمعنى بتوسط ذلك الغير مما يتقوم بها هوية المعنى الحرفي.

الثاني : اعتبار كونه ايجاديا ، ومن المعلوم ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، والتشخص مساوق للجزئية هذا.

ولكن كلا من هذين الوجهين لا يصلح ان يكون مانعا عن كلية المعنى الحرفي.

اما الامر الأول : فلوضوح ان وجود المعنى الحرفي خارجا يتقوم بالغير ، لا هويته وحقيقته ، وفرق بين ما كان من لوازم الوجود ، وبين ما كان من لوازم الهوية. والحاصل : ان المعنى الحرفي لما كان ايجاد معنى في الغير ، فتوهم ان الخصوصية اللاحقة للمعنى بتوسط الغير مقومة لهوية المعنى الحرفي ، وكانه غفل من أن خصوصية الغير ليست مقومة لهوية المعنى ، بل هي من لوازم وجود ذلك المعنى ، كما كان القيام بالغير في العرض من لوازم وجوده ، وليس مقوما لهويته.

واما الامر الثاني : فلوضوح ان كونه ايجاديا لا ينافي كلية المعنى الا بناء على القول بعدم وجود الكلي الطبيعي ، والا فبعد البناء على وجوده لا يبقى مجال لتوهم ان كون المعنى ايجاديا ينافي كليته ، وسيأتي انشاء الله تعالى ان الحق هو وجود الكلي الطبيعي ، بحيث يكون التشخص والوجود يعرضان له دفعة ، لا انه يتشخص فيوجد كما حكى القول به ، ولا انه انتزاعي صرف لا وجود له.

نعم بناء على سبق التشخص أو عدم الوجود يتم التنافي بين الايجادية و

٥٨

الكلية.

فتحصل : انه لا الحاجة إلى قيام المعنى الحرفي بالغير ينافي كليته ، ولا كونه ايجاديا ينافي ذلك ، ومن المعلوم انه لا نرى اختلافا بين ما يوجد ( بمن ) في جميع موارد استعمالاتها ، كما نرى الاختلاف بين ما يوجد ( بمن ) وما يوجد ( بإلى ) حيث إن ما يوجد ( بمن ) نسبة ابتدائية وما يوجد ( بإلى ) نسبة انتهائية ، وهذا بخلاف ما يوجد ( بمن ) فإنه معنى واحد في جميع الاستعمالات. ولو كان المعنى جزئيا لكان ما يوجد بقولك : سرت من البصرة مباينا لما يوجد بقولك : سرت من الكوفة ، كمباينة زيد مع عمرو ، بداهة تباين الجزئيات بعضها مع بعض ، وحيث نرى انه لايكون هناك اختلاف وتباين في النسب الابتدائية التي توجدها لفظة ( من ) في جميع موارد الاستعمالات ، فيعلم ان لفظة ( من ) موضوعة للقدر الجامع بين ما يوجد في تلك الموارد ، ولا نعنى بكلية المعنى الحرفي الا ذلك فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في المعاني الحرفية.

ثم إن شيخنا الأستاذ قد أسقط بعض المباحث التي قد تعرض لها القوم في المقدمة التي يبحث فيها عن نبذة من المباحث اللغوية ، ونحن نقتفي اثره. والحمد لله أولا وآخرا.

المبحث الثاني في الصحيح والأعم

وتنقيح البحث في ذلك يستدعى رسم مقدمات :

( الأولى )

لا يختص النزاع في الصحيح والأعم بالقول بثبوت الحقيقة الشرعية ، بل يجرى حتى على القول بعدمها ، إذ لا اشكال في اطلاق الشارع ألفاظ العبادات والمعاملات على مالها من المعاني عند المتشرعة ، فيقع الكلام في ذلك المعنى الذي أطلق اللفظ عليه حقيقة أو مجازا ، وانه هل هو خصوص الصحيح ، أو الأعم منه ومن الفاسد؟ وبعبارة أخرى : لو لم نقل بالحقيقة الشرعية ، فلا اشكال في ثبوت الحقيقة المتشرعية ، فيقع الكلام في المسمى عند المتشرعة ، وانه هل هو الصحيح أو الأعم؟ ومن المعلوم ان ما هو المسمى عند المشترعة هو المراد الشرعي عند اطلاق تلك الألفاظ ،

٥٩

سواء كان الاطلاق على نحو الحقيقة ، أو على نحو المجاز ، فدعوى اختصاص النزاع في المقام بالقول بثبوت الحقيقة الشرعية مما لا وجه لها.

( الثانية )

قد عرف الفقهاء الصحة والفساد بما يوجب سقوط الإعادة والقضاء وعدمه ، والمتكلمون بما وافق الشريعة وعدمه ، هذا.

ولكن الظاهر : انه ليس للصحة والفساد معنى مغاير لما هو عند العرف واللغة ، وتعريف الفقيه أو المتكلم بذلك انما يكون تعريفا باللازم ، كما هو الشأن في غالب التعاريف ، غايته ان المهم في نظر الفقيه لما كان سقوط الإعادة والقضاء فسر الصحة بذلك ، ولما كان المهم في نظر المتكلم هو موافقة الشريعة فسر الصحة بذلك ، والا فمعنى الصحة والفساد أوضح من أن يخفى ، بل لا يمكن تعريفهما بما يكون أجلى أو مساويا لما هو المرتكز عند العرف من معناهما ، فالصحة ليس الا عبارة عما يعبر عنها بالفارسية ب‍ ( درست ) في مقابل ( نادرست ) الذي هو عبارة عن الفساد. واختلاف الآثار في العبادات والمعاملات والمركبات الخارجية انما هو باعتبار اختلاف الموارد وما هو المطلوب منها ، لا ان الصحة في العبادات تكون بمعنى مغاير لمعنى الصحة في المعاملات ، أو في ساير المركبات الخارجية كما لا يخفى.

( الثالثة )

اتصاف الشيء بالصحة والفساد تارة : يكون باعتبار الاجزاء الخارجية ، وأخرى : يكون باعتبار الاجزاء الذهنية ، المعبر عنها بالشروط ، مثلا الصلاة تارة : تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على تمام مالها من الاجزاء وان كانت فاقدة للشرائط ، وأخرى : تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على الشرائط وان كانت فاقدة للاجزاء ، إذ الصحة من جهة لا تنافى الفساد من جهة أخرى ، إذ الصحة والفساد من الأمور الإضافية ، ومن هنا ذهب بعض إلى وضع ألفاظ العبادات للصحيح بالنسبة إلى الاجزاء ، وللأعم بالنسبة إلى الشرائط.

ثم إن وصف الصلاة مثلا بالصحة باعتبار الشرائط تارة : يكون باعتبار خصوص الشرائط الملحوظة في مرحلة الجعل وتعيين المسمى التي يمكن الانقسام

٦٠