فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

عبارة أخرى عن استمرار القدرة المعتبرة فيها التي لا يمكن الا بكون الشرط هو عنوان التعقب ، لمكان اعتبار الوحدة في الاجزاء التدريجية ، وأين هذا مما نحن فيه؟ من جعل عصيان الواجب المتأخر شرطا للمتقدم ، فان هذا لا ربط له بباب اشتراط الواجب بالقدرة حتى نلتجي إلى ارجاع الشرط إلى عنوان التعقب كما لا يخفى ـ ان ذلك لا يجدى في رفع المزاحمة ، فان المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر ولو كان أهم ، بل المزاحم له هو الخطاب المتولد منه ، وهو لزوم حفظ القدرة له وعدم صرفها في غيره ، إذ لولا ذلك لما كاد يقع مزاحمة بين المتقدم ، والمتأخر ، لعدم اجتماعهما في الزمان ، فالمزاحم هو خطاب وجوب حفظ القدرة ، ومعلوم : انه من فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة ، لعدم سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه ، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب ـ احفظ قدرتك ـ فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها ، وخطاب ـ احفظ قدرتك ـ موجب للتعجيز عن المتقدم ، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر ، فتأمل.

وان كان الثاني ، أي لو حظ الخطاب الترتبي بالنسبة إلى خطاب ـ احفظ قدرتك ـ فهو وان كان يسلم عن اشكال الشرط المتأخر الا انه يرد عليه : ان عدم حفظ القدرة للمتأخر لايكون الا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة إليه ، وذلك الفعل الوجودي اما نفس المتقدم ، أو فعل آخر. فان كان الأول يلزم طلب الحاصل ، وان كان الثاني يلزم تعلق الطلب بالممتنع ، فإنه مع صرف قدرته في المتقدم يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك إلى الركعة المتأخرة مثلا وقمت في الركعة الأولى فقم فيها. وهذا كما ترى يلزم تحصيل الحاصل.

وان صرف قدرته في فعل آخر كما إذا صار حمالا بحيث يمتنع عليه القيام في الركعة الثانية مع ذلك الفعل ، يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك للقيام في الركعة الثانية وصرت حمالا فقم في الركعة الأولى. وهذا أيضا كما ترى يلزم طلب الممتنع ، لأنه مع صرف قدرته في ذلك يتعذر عليه القيام في الركعة الأولى.

وان كان المراد من عدم حفظ القدرة في المتأخر : المعنى الجامع بين صرف

٣٨١

القدرة إلى المتقدم أو فعل وجودي آخر مضاد لذلك ، يلزم كلا المحذورين ، من طلب الحاصل ، والتكليف بالممتنع.

ولا يقاس المقام بالإزالة والصلاة ، حيث قلنا : انه يصح الامر بالصلاة عند ترك الإزالة ، ولا يلزم من ذلك طلب الحاصل ، ولا التكليف بالممتنع. مع أنه يمكن هذا التقريب في ذلك أيضا ، بان يقال : ان تركت الإزالة واشتغلت بالصلاة فصل ، فيلزم طلب الحاصل ، وان اشتغلت بغيرها يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. فان قياس المقام بذلك فاسد جدا ، لوضوح ان ترك الإزالة لا يلازم الصلاة ، ولا فعلا آخر مضادا لها ، بل كل فعل وجودي يفرض فإنما هو مقارن لترك الإزالة ، لا عينه ولا يلازمه ، لتمكن المكلف من عصيان الامر بالإزالة مع عدم اشتغاله بفعل وجودي أصلا ، كما تقدم في رد شبهة الكعبي. وليست الافعال الوجودية من مصاديق ترك الإزالة ، إذ الوجود لايكون مصداقا للعدم ، فمع فرض تركه للإزالة يمكنه ان لا يشتغل بفعل وجودي ، فلا مانع من امره بالصلاة ح عند ترك الإزالة ، ولا يكون من طلب الحاصل أو الطلب بالممتنع ولو فرض انه اشتغل بفعل وجودي آخر ، لأنه لم يقيد الامر الصلواتي بصورة الاشتغال بالصلاة ، أو صورة الاشتغال بفعل وجودي آخر حتى يلزم ذلك ، بل الامر الصلواتي كان مقيدا بترك الإزالة فقط ليس الا. وقد عرفت ان الافعال الوجودية ، لا هي عين ترك الإزالة مفهوما أو مصداقا ، ولا ملازمة بينهما.

وهذا بخلاف المقام ، فان ترك حفظ قدرته للمتأخر لايكون الا بالاشتغال بفعل وجودي يوجب سلب القدرة عن المتأخر ، لوضوح انه لو لم يشتغل بفعل وجودي كذلك تكون قدرته إلى المتأخر محفوظة ، فالفعل الوجودي يكون ملازما لعدم انحفاظ القدرة ، ولا يكون الفعل الوجودي مقارنا. وحينئذ يرجع الكلام السابق : من أن ذلك الفعل الوجودي ، اما ان تفرضه هو المتقدم ، أو فعل آخر مضاد ، أو الجامع بين الافعال الوجودية الموجبة لسلب القدرة عن المتأخر ، وعلى كل تقدير يلزم أحد المحاذير المتقدمة.

وبتقريب آخر : ان الحكم في المقام عقلي ، وليس هناك دليل لفظي. و

٣٨٢

العقل يستقل بقبح صرف القدرة إلى غير المتأخر الذي فرضناه أهم وبلزوم حفظ القدرة إلى المتأخر. ومعلوم ان كل فعل وجودي يفرض كونه موجبا لعدم القدرة على المتأخر ، فإنما هو من مصاديق صرف القدرة إلى غير المتأخر ، ومعلوم ان قبح الشيء يسرى إلى مصاديقه ، ولا مجال للامر الترتبي في مثل هذا.

فالمقام نظير ما سيأتي من عدم جريان الترتب في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، حيث نقول في ذلك : انه لا يمكن تصحيح الصلاة بالامر الترتبي بعد تقديم جانب النهى ، فلا يصح ان يقال : لا تغصب وان غصبت فصل. فان المراد من قوله ( ان غصبت ) ان كان خصوص الغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل ، وان كان غير ذلك يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. وليس ذلك الا لمكان ان كل فعل وجودي يفرض فإنما يكون من مصاديق الغصب ، فالصلاة أيضا تكون مصداقا للغصب ، لا مقارنة له ، كما في الصلاة والإزالة. فالصلاة تكون منهيا عنها بنفس النهى عن الغصب. ويرجع الامر الترتبي في ذلك إلى قوله : لا تغصب الغصب الصلواتي وان فعلت ذلك فصل ، وهو كما ترى يلزم طلب الحاصل. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في محله إن شاء الله.

وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الامر الترتبي لا يجرى في المسألة الثانية من مسائل التزاحم ، وهي ما كان التزاحم فيه لقصور قدرة المكلف ، لا لتضاد المتعلقين.

المسألة الثالثة :

من مسائل الترتب هي : ما إذا كان التزاحم واقعا بين المقدمة وذيها. والأقوى جريان الترتب فيها.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو ان المقدمة ، اما ان تكون سابقة في الوجود على ذيها كالتصرف في ارض الغير لانقاذ الغريق. واما ان تكون مقارنة في الوجود لذيها كالتصرف في الماء الذي وقع الغريق فيه لانقاذه ، وكترك أحد الضدين لوجود الآخر ، بناء على مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر فينبغي عقد الكلام في مقامين :

٣٨٣

( المقام الأول )

في المقدمة السابقة في الوجود على ذيها. والكلام فيها يقع من جهات :

الجهة الأولى :

قد تقدم ان المقدمة المحرمة ذاتا بحسب حكمها الأولى لا تسقط حرمتها بمجرد كونها مقدمة لواجب ، بل إن كان وجوب ذي المقدمة أهم من حرمة المقدمة ، ففي مثل هذا تسقط حرمتها وتجب بالوجوب المقدمي. وان لم تكن أهم فحرمة المقدمة باقية على حالها ، ولا تصل النوبة إلى التخيير في صورة التساوي. وقد تقدم أيضا ان ذلك من ثمرات كون التخيير في الواجبين المتزاحمين المتساويين عقليا أو شرعيا ، وانه بناء على المختار : من كون التخيير عقليا ، لا يتحقق التخيير بين المقدمة وذيها ، بل إن كان ذو المقدمة أهم كان بأهميته موجبا للتعجيز عن المقدمة وسلب القدرة عنها فتجب. وان لم تكن أهم فلا معجز مولوي يوجب سقوط الحرمة عن المقدمة ، بل يكون حرمتها الحالية معجزا عن وجوب ذيها ، فلا يجب وتبقى الحرمة على حالها. ولا يختص هذا بالمقدمة السابقة في الوجود على ذيها ، بل يجرى في المقدمة المقارنة أيضا ، لوضوح ان التصرف في ماء الغير انما يجب إذا توقف عليه واجب أهم : من انقاذ نفس محترمة أو تلف مال كثير. وأما إذا لم يكن الواجب أهم ، فحرمة التصرف تبقى على حالها ، إذ ليس له معجز مولوي عن ذلك ، فتأمل.

هذا إذا كانت المقدمة محرمة ذاتا ، وأما إذا كانت مباحة أو مستحبة أو مكروهة ، فلا اشكال في سقوط كل من هذه الأحكام عند كونها مقدمة لواجب ، لان الوجوب لا يمكن ان يزاحمه الإباحة والاستحباب والكراهة.

الجهة الثانية :

قد تقدم في مبحث مقدمة الواجب : ان الذوق والاعتبار يأبى عن وقوع المقدمة المحرمة الذاتية على صفة الوجوب والمطلوبية الغيرية مطلقا ولو لم يقصد بها فعل ذي المقدمة ولا ترتب عليها ذلك ، لوضوح انه لا يمكن الالتزام بكون التصرف في ارض الغير واجبا لمجرد انه توقف انقاذ الغريق عليه ، مع أن الشخص لم يتصرف لأجل ذلك ، بل قصد في تصرفه النزهة والعدوان والتفرج. فان دعوى كون

٣٨٤

التصرف مع هذا واجبا ومطلوبا يكذبها الوجدان والاعتبار ، ولأجل ذلك تشتتت الآراء فيما هو الواجب من المقدمة ، وسلك كل مسلكا. فذهب صاحب المعالم إلى أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها ، وذهب صاحب الفصول إلى المقدمة الموصلة ، وذهب الشيخ ( قده ) إلى اعتبار قصد التوصل. (١) كل ذلك لأجل استبعاد كون المقدمة واجبة مط. وقد تقدم منا بيان فساد ذلك كله ، وانه لا يمكن اعتبار قيد التوصل أو قصد التوصل في وجوب المقدمة ، أو في وقوعها على صفة الوجوب بحيث يكون قيدا للواجب ، لاستلزام تلك المحاذير المتقدمة.

ولنا في المقام مسلك آخر به يحسم مادة الاشكال ، ويوافق عليه الذوق والاعتبار وهو : ان الحرمة الذاتية التي كانت للمقدمة لم تسقط مطلقا ، بل سقط اطلاقها لحالتي فعل ذي المقدمة وتركها مع انحفاظ الحرمة في صورة ترك ذي المقدمة ، بل انحفاظ كل حكم كان للمقدمة ذاتا ولو لم يكن الحرمة ، بل كان الحكم هو الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب.

وبالجملة : الدعوى هو ان كل حكم كان للمقدمة مع قطع النظر عن عروض وصف المقدمية عليها فهو محفوظ في حال ترك ذي المقدمة ، أعني الواجب الذي فرضناه أهم. وذلك لايكون الا بالامر الترتبي الذي قد تقدم الكلام عنه ، وعن امكانه بل وقوعه. نعم : يختص الامر الترتبي في المقام ببعض الاشكالات ، التي لا ترد على الامر الترتبي في سائر المقامات. وحاصل تلك الاشكالات يرجع إلى أمرين :

الأول : ان الامر الترتبي في المقام يوجب اجتماع الوجوب والحرمة في نفس المقدمة ، والوجوب والحرمة متضاد ان لا يمكن اجتماعهما.

الثاني : ان الامر الترتبي في المقام يتوقف على القول بالشرط المتأخر ، لان الحرمة ح تكون مشروطة بعصيان ذي المقدمة المتأخر زمانا عن المقدمة ، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخر في المقام ، حتى نرجعه إلى وصف التعقب. هذا

__________________

١ ـ قدم تحقيق ذلك في هامش ص ٢٨٦ من هذا الكتاب

٣٨٥

وسيتضح لك دفع الاشكالين بما سنذكره في الجهة الثالثة التي نذكره فيها مقدمتين لبيان جريان الامر الترتبي في المقام.

( المقدمة الأولى )

لا اشكال في أن الامر بالمقدمة انما يكون في رتبة كون المولى بصدد تحصيل مراده من ذي المقدمة وفي مرتبة الوصول إلى غرضه ومطلوبه النفسي ، فإنه في هذه المرتبة تنقدح إرادة المقدمة في نفس المولى ، لوضوح ان إرادة المقدمة لا تكون الا لمكان الوصول إلى ذيها ، فتكون واقعة في رتبة الوصول إلى ذي المقدمة وكون المولى بصدد تحصيله ، لا في رتبة اليأس عن ذي المقدمة وعدم الوصول إليه ، فان هذه المرتبة ليست مرتبة انقداح إرادة المقدمة في نفس المولى ، وذلك واضح.

( المقدمة الثانية )

قد تقدم في المقدمة الرابعة من مقدمات الترتب : انه لا يعقل الاطلاق والتقييد لحاظا ونتيجة بالنسبة إلى حالتي فعل الواجب وتركه ، وان هذا الانقسام ليس كسائر الانقسامات اللاحقة للمتعلق مما يمكن فيها الاطلاق والتقييد اللحاظي أو نتيجة الاطلاق والتقييد ، لاستلزامه طلب الحاصل ، أو طلب النقيضين ، على ما تقدم تفصيله. ولكن هذا في كل واجب بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه.

واما بالنسبة إلى حالتي فعل واجب آخر وتركه ، فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، بل لا محيص عنه إذ لا يعقل الاهمال الثبوتي بالنسبة إلى ذلك ، الا ان هذا انما يكون في الواجبين الملحوظين على جهة الاستقلالية والاسمية ، كالصوم والصلاة ، حيث لا محيص : اما من اطلاق الامر بالصوم لحالتي فعل الصلاة وتركها ، واما من تقييده بإحدى الحالتين. وكذا الامر بالصلاة.

وأما إذا كان أحد الواجبين ملحوظا على جهة التبعية والحرفية ، كالأمر المقدمي فهو في الاطلاق ، والاشتراط ، والاهمال ، تابع للامر بذى المقدمة. وانه كل ما يكون الامر بذى المقدمة مطلقا أو مقيدا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا يكون مطلقا أو مقيدا بالنسبة إلى ذلك الشيء وكل ما يكون الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا مهمل بالنسبة إليه. والسر في ذلك واضح ، لان

٣٨٦

الامر المقدمي انما يتولد من الامر بذى المقدمة ، ويكون معلولا له ومترشحا منه ، وليس ناشئا عن مبادئ استقلالية ، بل يكون انشائه قهرا على المولى ، بحيث لا يمكن ان لا ينشأه بعد انشاء الامر بذى المقدمة ، على ما تقدم بيانه في مقدمة الواجب. فإذا كان كذلك ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي تابعا في الاطلاق والاشتراط والاهمال للامر بذيها ، كما يكون تابعا في أصل وجوده ، فلا يقاس الامر بالمقدمة مع الامر بذيها بالامر بالصلاة والصوم حيث قلنا : انه في مثل الصلاة والصوم لا بد من الاطلاق أو التقييد ، من دون ان يكون الاطلاق في أحدهما تابعا للاطلاق في الآخر ، فان بين الامر المقدمي وذيها وبين الامر بالصلاة والصوم بونا بعيدا.

نعم : ان لوحظ الامر المقدمي معنى اسميا صح القياس ، الا ان الامر المقدمي لم يلاحظ معنى اسميا ، فلا بد ح من التبعية المذكورة. وحيث كان الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي أيضا مهملا بالنسبة إلى حالتي فعل ذي المقدمة وتركه ، فلا يكون فيه اطلاق ولا تقييد بالنسبة إلى ذلك ، بل يكون الامر المقدمي كالأمر بذيها مقتضيا في عالم التشريع لرفع الترك عن ذي المقدمة وطاردا له. وبعد ما عرفت ذلك ، يتضح جريان الامر الترتبي في باب المقدمة وذيها ، وانه لا مانع من انحفاظ حرمة المقدمة أو كل حكم فرض لها ولو كان هو الإباحة في مرتبة ترك ذي المقدمة وعصيان امره ، بحيث يكون الحكم الأصلي لها مترتبا على عصيان ذي المقدمة ، فان هذه الرتبة ليست رتبة الامر بالمقدمة. لأنا قد فرضنا ان الامر بالمقدمة مهمل بالنسبة إلى حالة ترك ذي المقدمة وعصيانه ، بل الامر بالمقدمة يكون في الرتبة السابقة على ذلك ، وهي رتبة الوصول إلى ذي المقدمة ، لا على وجه يكون مقيدا بذلك ، حتى يرجع إلى المقدمة الموصلة ، بل هو واقع في تلك الرتبة مع كونه مهملا بالنسبة إلى حالتي الفعل والترك. فارتفع الاشكال الأول الذي ذكرنا انه مختص بالامر الترتبي في المقام ، وهو لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في المقدمة ، لان الحكمين وان اجتمعا في المقدمة زمانا الا انهما قد اختلفا بالرتبة ، حيث إن الامر واقع في رتبة الوصول ، والنهى واقع في رتبة الياس وترك الوصول بعصيان ذي المقدمة. ولا مانع من اجتماع الحكمين

٣٨٧

المتضادين في الزمان مع اختلافهما بالرتبة ، إذ ليس عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين مما قام عليه دليل لفظي ، حتى نتمسك باطلاقه ونقول : لا يكفي اختلاف الرتبة بل الحكم في المقام عقلي والعقل لا يمنع عن الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة. إذ امتناع اجتماع الضدين انما هو لمكان انه يرجع إلى اجتماع النقيضين ، ويعتبر في النقيضين الممتنعي الجمع وحدة الرتبة.

فتحصل : انه لا مانع من كون المقدمة محكوما بحكمين متضادين ، مع كونهما مختلفي الرتبة.

نعم : يبقى اشكال استلزام الامر الترتبي في المقام للشرط المتأخر الذي لم يقم عليه دليل بالخصوص. ولكن هذا الاشكال أيضا مندفع بان الشرط المتأخر في المقام مما يحكم به العقل ويستقل به ، بعد ما بينا سابقا : من اباء الذوق والاعتبار عن اتصاف المقدمة بالمطلوبية مط على أي وجه اتفقت ولو كان التصرف في ارض الغير مثلا لأجل التنزه والتفرج ، وبعد ما بيناه من أن الامر بالمقدمة واقع في رتبة الوصول إلى ذيها ، لا في رتبة اليأس عنه ، وبعد ما كان كل مقدمة منقسمة في حد ذاتها إلى ما يتعقبها وجود ذي المقدمة وما لا يتعقبها ، فان هذه الأمور توجب استقلال العقل باعتبار الشرط المتأخر ، فهو مما قام عليه دليل بالخصوص ، غايته انه ليس شرعيا بل عقليا.

والحاصل : انه لا يختص اعتبار الشرط المتأخر بمعنى التعقب بباب القدرة ، بل يجرى في المقام أيضا ، لان صريح العقل والوجدان حاكم باعتبار الشرط المتأخر ( بمعنى التعقب ) بعد ما كان الوجدان شاهدا على عدم وقوع المقدمة على صفة المطلوبية كيف ما اتفقت. وهذا الوجدان هو الذي أوجب الشرط المتأخر ، وأوجب الامر الترتبي. فليس اعتبار الشرط المتأخر في المقام من جهة اقتضاء الامر الترتبي ذلك ، حتى يقال : انه لم يقم دليل بالخصوص في المقام على الامر الترتبي ليقتضي بدلالة الاقتضاء اعتبار الشرط المتأخر ، بل الموجب للذهاب إلى الامر الترتبي في المقام هو الموجب لاعتبار الشرط المتأخر فيه ، وهو تلك المقدمات العقلية فلا تغفل.

٣٨٨

ولا تقس المقام بالمسألة المتقدمة التي أنكرنا جريان الامر الترتبي فيها لمكان استلزام الشرط المتأخر ، وهي ما إذا كان التزاحم لأجل قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، وذلك لان المقدمات العقلية الجارية في المقام لم تكن جارية في تلك المسألة. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

( المقام الثاني )

ما إذا كانت المقدمة مقارنة بحسب الزمان لذيها ، وله أمثلة كثيرة ، ولكن المثال المهم الذي يترتب عليه الأثر ، هو باب الضدين ، بناء على مقدمية ترك أحدهما لفعل الآخر. والأقوى جريان الامر الترتبي فيه أيضا. واشكال استلزام الامر الترتبي للشرط المتأخر لا يجرى في المقام ، لأن المفروض كون المقدمة مقارنة بحسب الزمان.

نعم : اشكال استلزام اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد يجرى ، كالمقدمة المتقدمة بحسب الزمان. ويزداد الاشكال في الضدين ، حيث إنه يلزم اجتماع الحكمين في كل من طرف الأهم والمهم ، حيث إنه كما أن ترك المهم يكون مقدمة لفعل الأهم فيجب من باب المقدمة مع أنه حرام لغرض وجوب فعل المهم بمقتضى الامر الترتبي ، فيكون ترك الصلاة واجبا بالوجوب الغيري وحراما نفسيا لغرض وجوب الصلاة. كذلك يكون ترك الأهم مقدمة لفعل المهم الذي فرضناه واجبا بالامر الترتبي ، فيجب ترك الأهم بالوجوب المقدمي مع أنه يحرم لوجوب فعل الأهم. فاشكال اجتماع الحكمين المتضادين يأتي في كل من الأهم والمهم بناء على المقدمية. ولكن يندفع الاشكال في طرف المهم بما دفعنا به الاشكال في المقدمة المتقدمة بحسب الزمان.

وحاصله : ان ترك المهم وان كان حراما نفسيا وواجبا مقدميا ، الا ان وجوبه المقدمي انما يكون في مرتبة الوصول إلى الأهم ، والحرمة انما تكون في مرتبة تركه وعصيانه ، فتختلف رتبة الوجوب والحرمة ولا مانع من الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة.

واما الاشكال في طرف الأهم فلا يندفع بذلك ، لان الامر في طرف الأهم

٣٨٩

ليس ترتبيا حتى يتحقق اختلاف الرتبة ويصح اجتماع كل من الوجوب والحرمة لمكان اختلاف الرتبة ، بل إن الامر في طرف الأهم هو الامر الأولى الذاتي. الا ان الذي يسهل الخطب هو ان ترك الأهم لايكون واجبا بالوجوب المقدمي أصلا ، بل ليس حكمه الا الحرمة ، فان ترك الأهم وان كان مقدمة وجودية لفعل المهم ، الا انه مع ذلك يكون مقدمة وجوبية له أيضا ، لان وجوب المهم مشروط بترك الأهم ، ومعلوم ان المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي ، فترك الأهم حرام ليس الا ، ولا يجتمع فيه الحكمان المتضادان.

نعم لو قيل : بان المقدمة الوجوبية أيضا تجب بالوجوب المقدمي يلزم ذلك ، الا انه لا يعقل القول بذلك لما فيه :

أولا : من أن المقدمة الوجوبية تكون علة لثبوت الوجوب على ذيها ، ولا يعقل ان يؤثر المعلول في علته ، لان التأثير يستدعى سبق الرتبة ، والمعلول لا يعقل ان يسبق علته في الرتبة ، بل هو متأخر عنها.

وثانيا : ان المقدمة الوجوبية لا بد ان تؤخذ مفروضة الوجود ، ومع اخذها مفروضة الوجود لا يعقل ان تجب بالوجوب المقدمي لاستلزامه طلب الحاصل.

وثالثا : انه يلزم من وجوب المقدمة الوجوبية ان يتقدم زمان وجوب ذيها على موطنه ، وذلك في كل مقدمة تكون سابقة التحقق في الزمان على موطن وجوب ذي المقدمة ، مثلا لو كان قيام زيد في أول طلوع الشمس مقدمة وجوبية لوجوب الصلاة في أول الزوال ، فلو وجب قيام زيد مع ذلك بالوجوب المقدمي يلزم تقدم وجوب الصلاة على موطنه ، وان يتحقق من أول الشمس ليترشح منه الوجوب إلى المقدمة. وهذا خلف ، لأنا فرضنا ان موطن وجوب الصلاة هو الزوال. فالمقدمة الوجوبية لا يمكن ان تتصف بالوجوب المقدمي لهذه الجهات الثلث. فترك الأهم الذي يكون مقدمة وجوبية للمهم لا يجب بالوجوب المقدمي من الجهات الثلث.

نعم : الجهة الأخيرة لا ترد ، بناء على القول بالتقدير وفرض سبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم آنا ما ، على ما تقدم تفصيله. فإنه لا يلزم من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي تقدم وجوب ذي المقدمة على موطنه وزمانه ، لأنا قد

٣٩٠

فرضنا ان موطن وجوب ذي المقدمة الذي هو المهم سابق على مقدمته الوجوبية الذي هو ترك الأهم ، فلا يلزم الخلف من وجوب المقدمة الوجوبية.

ولكن مع ذلك لا يعقل ان يكون ترك الأهم واجبا بالوجوب المقدمي ، لكفاية الجهتين الأوليين في امتناعه ، وهما العمدة لاطرادها في جميع المقدمات الوجوبية واختصاص الجهة الثالثة بالمقدمة السابقة في الزمان على ذيها.

وكان المحقق الرشتي (ره) لم يلتف إلى الجهتين الأوليين ، واقتصر على الأخيرة ، فأنكر على المحقق صاحب الحاشية الذي أجاب (١) عن اشكال لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في ترك الأهم بناء على المقدمية والامر الترتبي بما ذكرنا : من أن ترك الأهم مقدمة وجوبية فلا تجب ، بما حاصله : انه لا مانع من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي ، بعد القول بالتقدير وسبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم ، لأنه لا يلزم بناء على هذا القول سبق وجوب ذي المقدمة على موطنه. وحيث إن المحقق صاحب الحاشية من القائلين بالتقدير ، فأنكر (٢) عليه المحقق الرشتي : بأنه يلزمك القول بوجوب ترك الأهم مقدمة لوجود المهم ، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين في ترك الأهم. وجعل المحقق الرشتي هذا هو المانع عن الامر الترتبي ، وكانه سلم ان الامر الترتبي لا مانع عنه سوى ذلك ، وتخيل ان هذا المانع مما لا دافع عنه. وأنت خبير بأنه لو انحصر المانع عن الامر الترتبي بذلك فالامر فيه هين ، لأنه أولا مبنى على التقدير الذي قد تقدم فساده بما لا مزيد عليه ، وثانيا ان المانع عن وجوب المقدمة الوجوبية لا ينحصر بالجهة الثالثة ، بل الجهتان الأوليان هما العمدة في المنع ، فترك الأهم لا يعقل ان يجب بالوجوب المقدمي ، حتى يجتمع فيه الحكمان المتضادان. فتحصل : انه لا مانع من الامر الترتبي ، حتى بناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده من جهة المقدمية ، فتأمل جيدا.

__________________

١ ـ راجع هداية المسترشدين ـ بحث الضد ـ في بيان الثمرة المتفرعة ـ على الخلاف في المسألة. « فان قلت : ان المنافاة حاصلة في المقام .. »

٢ ـ بدايع الأفكار ـ المقصد الأول من المقاصد الخمسة ـ بحث الضد ، القول في ثمرات المسألة ، اما الاشكال الخامس .. » ص ٣٩١

٣٩١

المسألة الرابعة :

من مسائل الترتب ، ما إذا كان التزاحم لأجل لملازمة بين المتعلقين. والأقوى عدم جريان الامر الترتبي في ذلك ، لأنه يلزم منه طلب الحاصل. فإنه لو كان استقبال القبلة الملازم لاستدبار الجدي هو المأمور به الأصلي ، وأريد اثبات وجوب استقبال الجدي بالامر الترتبي عند عصيان استقبال القبلة ، لزم من ذلك طلب استقبال الجدي بعد فرض حصوله. فلا يصح ان يقال : ان لم تستقبل القبلة فاستقبل الجدي لان عدم استقبال القبلة ملازم لاستقبال الجدي خارجا ، فيلزم طلب استقبال الجدي بعد حصوله. وان ناقشت في المثال فعليك بمثال الجهر والاخفات ، وقد تقدم الكلام عن ذلك في الامر الثاني في رد مقالة الشيخ كاشف الغطاء (١).

المسألة الخامسة :

من مسائل الترتب ، ما إذا كان التزاحم لأجل اتحاد المتعلقين خارجا ، ولا يمكن جريان الامر الترتبي فيه أيضا ، لأنه يلزم اما طلب الممتنع ، واما طلب الحاصل. فإنه لو قال : لا تغصب وان غصبت فصل ، فالمراد من ( ان غصبت ) ان كان العزم والقصد على الغصب ، فهذا لايكون من الامر الترتبي ، لان شرط الامر الترتبي هو التلبس بالعصيان ، لا العزم على العصيان ، والا لزم الامر بالضدين على وجه المحال كما لا يخفى. وان كان المراد منه التلبس بالعصيان خارجا وفعلية الغصب منه ، فان كان المراد التلبس بالغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل بالعينية لا بالملازمة ، وان كان المراد التلبس بغير الصلاة يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين ، وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا في طي المباحث السابقة. (٢)

فتحصل : ان الامر الترتبي لا يجرى الا في مسئلتين من مسائل التزاحم ، إحديهما مسألة الضدين ، وثانيهما مسألة المقدمة وذيها. واما فيما عدى ذلك من

__________________

١ ـ راجع الامر الثاني من تنبيهات الترتب ، ص ٣٦٩

٢ ـ تقدم تفصيل هذا البحث في المسألة الثانية ص ٣٨٠

٣٩٢

المسائل الثلث الآخر فلا يعقل فيها الترتب أصلا.

والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين.

وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الثلثا تاسع عشر من شهر ربيع المولود سنة ١٣٤٧.

وانا الأحقر الجاني محمد على بن حسن الكاظمي الخراساني.

٣٩٣

المقصد الثاني في النواهي

وفيه مباحث : المبحث الأول : في مفاد صيغة النهى لا اشكال في أن متعلقات النواهي كمتعلقات الأوامر انما هي الطبايع الكلية ، وان كان المطلوب في باب الأوامر هو وجود الطبيعة ، وفي باب النواهي هو الترك. وليس المطلوب في باب النواهي هو الكف ، بتوهم ان نفس الترك امر عدمي ، والعدم خارج عن الاختيار ، فلا يصح ان يتعلق التكليف به. وذلك لان نفس العدم الأزلي وان كان خارجا عن الاختيار الا ان ابقاء العدم واستمراره امر اختياري ، وهو المطلوب في النواهي ، وهذا لا اشكال فيه.

انما الاشكال في أن المطلوب في باب النواهي ، هل هو السلب الكلي على نحو العام المجموعي؟ بحيث يتحقق عصيانه بأول وجود الطبيعة ويسقط النهى حينئذ رأسا ، أو ان المطلوب هو العام الاستغراقي الانحلالي؟ بحيث تكون جميع وجودات الطبيعة مبغوضة ويكون لكل وجود عصيان يخصه. ولا اشكال في امكان كل من الوجهين في عالم الثبوت ، بل قد ذكرنا في رسالة المشكوك ، انه يتصور وجهان آخران في باب النواهي.

أحدهما : ان يكون المطلوب هو ترك مجموع الافراد ، بمعنى ان ارتكاب جميع الافراد مبغوض ، فلا يتحقق عصيانه الا بارتكاب الجميع. كما ربما يدعى ظهور مثل قوله ـ لا تأكل كل رمانة في البستان ـ في ذلك ، فلو اكل جميع رمانات البستان الا واحدة لم يكن فاعلا للمنهي عنه.

ثانيهما : ان يكون المطلوب في النهى على نحو القضية المعدولة المحمول ، بحيث يكون المطلوب في مثل لا تشرب الخمر هو كون الشخص لا شارب الخمر ، على وجه

٣٩٤

يكون وصفا للمكلف. ففي عالم الثبوت يمكن ان يكون المطلوب بالنهي على أحد وجوه أربعة. واما في مقام الاثبات والاستظهار ، فلا اشكال في أن الوجهين الأخيرين خلاف ظواهر النواهي. واما الوجهان الأولان ، فاستظهار كون المطلوب بالنهي هو السلب الكلي على نحو العام المجموعي مبنى على استظهار كون المطلوب بالنهي هو خلو صفحة الوجود عن الطبيعة المنهى عنها ، بحيث يلاحظ خلو الصفحة معنى اسميا ، ويكون المبغوض هو اشتغال صفحة الوجود بالطبيعة ، فيكون مفاد النهى ح هو السلب الكلي.

ومقتضى مقابلة النهى للامر ، هو ان يكون مفاد النهى السلب الكلي ، حيث إن المطلوب في باب الأوامر هو صرف الوجود على نحو الايجاب الجزئي ، لا مطلق الوجود على نحو الايجاب الكلي ، فان ظاهر تعلق الامر بالطبيعة يقتضى ان يكون المطلوب ايجاد الطبيعة وخروجها عن كتم العدم إلى عرصة الوجود ، وذلك يتحقق بأول وجود الطبيعة ، الا ان تقوم قرينة على إرادة مطلق الوجود. والايجاب الجزئي انما يقابل السلب الكلي ، حيث إن نقيض الموجبة الجزئية هو السالبة الكلية ، هذا.

ولكن الظاهر في باب النواهي ، ان يكون النهى لأجل مبغوضية متعلقه لقيام المفسدة فيه ، لا ان المطلوب هو خلو صفحة الوجود عنه ، بل مبغوضية الطبيعة بافرادها أوجبت النهى عنها ، ومبغوضية الطبيعة تسرى إلى جميع افرادها ، فينحل النهى حسب تعدد الافراد ويكون لكل فرد معصية تخصه ، من غير فرق بين ان يكون للنهي تعلق بموضوع خارجي ، كقوله : لا تشرب الخمر ، أو ليس له تعلق بموضوع خارجي ، كقوله : لا تكذب. غايته ان الانحلال فيما إذا كان له تعلق بموضوع خارجي يكون بالنسبة إلى كل من الموضوع والمتعلق ، فيكون كل فرد من افراد الشرب الذي يمكن ان يقع الشرب عليه لكل فرد من افراد الخمر مبغوضا ومتعلقا للنهي. وفيما إذا لم يكن له تعلق بموضوع خارجي يكون الانحلال في ناحية المتعلق فقط. وعلى كل حال ، لا ينبغي التأمل في أن الظاهر في باب النواهي هو ان يكون المطلوب فيها هو ترك كل فرد فرد ، على نحو العام الاستغراقي. ودلالة النهى

٣٩٥

على ذلك في الافراد العرضية مما لا اشكال فيه.

واما الافراد الطولية : فدلالة النهى عليها مبنية على أن يكون نفس تعلق النهى بالطبيعة يقتضى نهى جميع الافراد العرضية والطولية ، بحيث يكون مفاد صيغة النهى في مثل قوله : لا تشرب الخمر ، هو ان يكون شرب الخمر في كل آن آن مبغوضا ، فيدل النهى على المنع في الافراد الطولية أيضا ، ويكون العموم الزماني مستفادا من نفس تعلق النهى بالطبيعة ، بلا حاجة إلى استفادة العموم الزماني من دليل الحكمة بل النهى وضعا يدل على ذلك ، ويكون مصب العموم الزماني هو المتعلق لا الحكم.

وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، في ـ التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب ـ عند تعرض الشيخ ( قده ) لمقالة المحقق الكركي (ره) في مفاد أوفوا بالعقود ، من أن المرجع بعد تخصيص العام في بعض الأزمنة بالنسبة إلى بعض الافراد والشك في الزمان الزائد هل هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص ، وبينا الفرق بين استفادة العموم الزماني من نفس مفاد النهى ، أو من دليل الحكمة. وقد اختار شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام كون العموم الزماني في باب النهى مستفادا من دليل الحكمة ، وفي ذلك المقام اختار كونه مستفادا من نفس تعلق النهى بالطبيعة. فراجع ذلك المقام لكي تكون على بصيرة.

ثم إن القوم قد تعرضوا في باب النواهي لبعض المباحث التي لا يهمنا البحث عنها. فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، التي وقعت معركة الآراء قديما وحديثا فنقول : ومن الله التوفيق.

المبحث الثاني : في جواز اجتماع الأمر والنهي.

والقوم وان عنونوا النزاع على هذا الوجه ، الا انه ليس ظاهر العنوان مرادا قطعا ، فان ظاهر العنوان يعطى ان يكون النزاع في تضاد الأمر والنهي وعدمه ، مع أن تضاد الاحكام بأسرها امر مفروغ عنه غير قابل للنزاع فيه. بل المبحوث عنه في المقام ، هو أصل لزوم الاجتماع وعدمه ، لا جوازه وعدمه. فالأولى تبديل العنوان بان يقال : إذا اجتمع متعلق الأمر والنهي من حيث الايجاد والوجود ، فهل يلزم من

٣٩٦

الاجتماع كذلك ان يتعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر؟ كما هو مقالة القائل بالامتناع ، أو لا يلزم ذلك؟ كما هو مقالة القائل بالجواز. وسيأتي ما هو المراد من الاجتماع ايجادا ووجودا.

ثم إن البحث عن مسألة اجتماع الأمر والنهي يقع في مقامين.

المقام الأول :

هو ما عنونا به المسألة ، من أن اجتماع متعلق الأمر والنهي من حيث الايجاد والوجود هل يوجب ان يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ولو لمكان اطلاق كل منهما لمتعلق الآخر؟ فيمتنع صدور مثل هذا الأمر والنهي وتشريعهما معا بلحاظ حال الاجتماع ، ويكون بين الدليلين المتكفلين لذلك تعارض العموم من وجه. أو انه لا يلزم من الاجتماع المذكور تعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فلا يمتنع تشريع مثل هذا الأمر والنهي ، ولا يكون بينهما تعارض. وبعبارة أخرى : البحث في المقام الأول ، انما هو في أن جهة الأمر والنهي هل تكون تقييدية مكثرة للموضوع؟ فلا تعلق لأحدهما بالآخر ، أو ان الجهة تعليلية؟ فيتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر.

المقام الثاني :

هو انه بعد ما كانت الجهتان تقييديتين ولا يتعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ولا يكون بين الدليلين تعارض ، فهل وجود المندوحة للمكلف وتمكنه من ايجاد الصلاة خارج الدار الغصبية يجدى في رفع غائلة التزاحم بين الامر والنهى؟ ويكفي في انطباق المأمور به والمنهى عنه على الجامع وهو الصلاة في الدار الغصبية فتصح الصلاة. أو ان وجود المندوحة لا يجد في ذلك؟ ولا ينطبق المأمور به على المجمع. والبحث عن المقام الثاني هو عين البحث المتقدم مع المحقق الكركي (ره) من أن القدرة على الطبيعة المأمور بها في الجملة ولو في ضمن فرد ما يكفي في انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المزاحم بالأهم فيكون الاجزاء عقليا ـ على ما (١)

__________________

١ ـ راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مبحث الضد ص ٣١٢ ـ ٣١٣

٣٩٧

تقدم تفصيله في بعض مقدمات الترتب ـ والمحقق الكركي (ره) وان كانت مقالته في وجود المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، الا ان جهة البحث مشتركة بين الافراد الطولية والعرضية ، حيث إن العبرة بوجود المندوحة وتمكنه من فعل ما لايكون مزاحما بالأهم منه ، سواء في ذلك الافراد الطولية كتمكنه من الاتيان بالفرد من الصلاة الذي لايكون مزاحما لأداء الدين أو إزالة النجاسة ، أو الافراد العرضية كتمكنه من الاتيان بالفرد من الصلاة الذي لايكون مجامعا للغصب.

وعلى كل حال : البحث عن المقام الثاني ، انما يكون بعد الفراغ عن المقام الأول كما عرفت ، إذ لا يتفاوت الحال في البحث عن المقام الأول بين وجود المندوحة وعدمه ، فان البحث في ذلك المقام يكون بحثا عن عالم التشريع والثبوت ، الذي لا يتفاوت الحال فيه بين وجود المكلف والمندوحة وعدمه ، فاعتبار المندوحة انما تنفعنا في البحث عن المقام الثاني.

ومن هنا يمكن ان يستظهر من اخذ قيد المندوحة في عنوان النزاع ـ كما عليه قاطبة المتقدمين ـ ان النزاع انما كان في المقام الثاني ، وان المقام الأول كأنه كان مفروغا عنه ، وانه لا كلام في جواز الاجتماع من الجهة الأولى. ولكن المتأخرين كأنهم أهملوا البحث عن المقام الثاني ، وخصوا النزاع بالمقام الأول. ولكن نحن نتكلم في كل من المقامين على حده.

والأقوى عندنا في المقام الأول الجواز ، وان الاتحاد لا يوجب تلعق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ، وفي المقام الثاني عدم كفاية المندوحة في رفع التزاحم. ولنقدم امام المقصود مقدمات : منها ما يشترك فيها كلا المقامين ، ومنها ما تختص بالمقام الأول ، ومنها ما تختص بالمقام الثاني.

اما المقدمات المشتركة.

فمنها :

ان الظاهر كون المسألة من المبادئ ، لا من المسائل الأصولية ، ولا من مسائل علم الكلام ، ولا من المسائل الفقهية.

اما عدم كونها من المسائل الكلامية والفقهية فواضح ، فلان البحث في

٣٩٨

المقام ليس عن امكان الاجتماع وامتناعه ، حتى يكون البحث عن مسألة كلامية ، حيث إن علم الكلام هو المتكفل لبيان حقايق الأشياء من واجباتها وممكناتها وممتنعاتها. وكان توهم ، كون المسألة كلامية نشأ عن ظاهر العنوان ، حيث إن ظاهره يعطى كون البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، فتخيل كون البحث راجعا إلى مسألة كلامية ، الا انه قد تقدم ان البحث في المقام راجع إلى أصل الاجتماع وعدمه ، لا إلى جوازه وامتناعه.

وكذا ليس البحث في المقام راجعا إلى صحة الصلاة في الدار الغصبية وعدم الصحة أو حرمتها وعدم الحرمة حتى تكون المسألة فقهية ، فان جهة البحث ليست ذلك ، وان كانت النتيجة تنتهي بالآخرة إلى ذلك ، الا ان مجرد ذلك لا يكفي في كون المسألة فقهية ما لم تكن الجهة المبحوث عنها مما تتعلق بفعل المكلف بلا واسطة ، وذلك واضح.

واما عدم كون المسألة من المسائل الأصولية ، فلان البحث فيها وان كان راجعا إلى باب الملازمات العقلية للخطابات الشرعية ، كالبحث عن مقدمة الواجب ، واقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ـ وان كان الفرق بين المسألة وتلك المسائل ، هو ان البحث في تلك المسائل عن لازم خطاب واحد ، وفي هذه المسألة عن لازم خطابين أعني خطاب الامر وخطاب النهى ـ الا ان مجرد ذلك لا يكفي في كون المسألة أصولية ما لم تكن الكبرى المبحوث عنها بنفسها واقعة في طريق الاستنباط ، بحيث تصلح ان تكون كبرى لقياس الاستنباط ويستنتج منها حكم كلي فقهي. والكبرى المبحوث عنها في المقام لا تصلح ان تكون كبرى لقياس الاستنباط ، فان الكبرى المبحوث عنها انما هي اقتضاء اتحاد المتعلقين من حيث الايجاد والوجود وتعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر. وهذا كما ترى يكون بحثا عن صغرى التعارض. وفي المقام الثاني أعني كفاية المندوحة يكون بحثا عن صغرى التزاحم ، فتكون المسألة من مبادئ مسائل التعارض والتزاحم. فان حقيقة البحث في المقام ، يرجع إلى البحث عما يقتضى تعارض الأمر والنهي ـ في مورد الاجتماع واتحاد المتعلقين من حيث الايجاد والوجود ـ وعدم ما يقتضى تعارضهما ، أو تزاحم

٣٩٩

الأمر والنهي عند وجود المندوحة وعدم التزاحم. وهذا بحث عن وجود ما هو الموضوع لمسائل التعارض والتزاحم ، وأين هذا من المسألة الأصولية؟.

والحاصل : ان البحث عن الملازمات العقلية للخطابات الشرعية ، تارة : يكون بحثا عن المسألة الأصولية ، كالبحث عن مسألة الضد ومقدمة الواجب ، فان المبحوث عنه في هذه المسألة عن اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، واقتضاء ايجاب الشيء لايجاب مقدماته يكون بحثا عن كبرى قياس الاستنباط ، ويستنتج منه حكم كلي فقهي ، وهو فساد الضد إذا كان عبادة ، ووجوب مقدمة الواجب. وأخرى : لايكون البحث عن الملازمات العقلية بنفسه بحثا عن مسألة أصولية ، لعدم وقوع المبحوث عنه كبرى لقياس الاستنباط ، كما في المقام.

فان المبحوث عنه فيما نحن فيه في المقام الأول انما هو استلزام تعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر عند اتحاد المتعلقين ، فيكون الأمر والنهي متعارضين ، أو عدم استلزام ذلك فلا تعارض. وثبوت التعارض وعدمه لا يقع بنفسه كبرى القياس ، ما لم ينضم إليه قواعد التعارض من الترجيح والتخيير. وفي المقام الثاني : انما هو في كفاية وجود المندوحة في رفع غائلة التزاحم وعدم كفايته ، فيكون بحثا عما يقتضى وجود التزاحم وعدمه وهو أيضا ليس بنفسه كبرى القياس ، ما لم ينضم إليه قواعد التزاحم.

فالانصاف : ان البحث في المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصديقية ، لرجوع البحث فيه إلى البحث عما يقتضى وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم ، وليس بحثا عن المسألة الأصولية ، ولا عن المبادئ الاحكامية التي هي عبارة عما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية المستنبطة ، ككون الحكم تكليفيا أو وضعيا ، وان الحكم الوضعي قابل للجعل أو غير قابل. وقد كان بناء شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) سابقا على أن البحث في المقام راجع إلى البحث عن مسألة أصولية ، الا انه عدل عن ذلك وجعل البحث راجعا إلى المبادئ. والامر في ذلك سهل.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام ليست هي المفاهيم والعناوين الكلية ، التي يكون

٤٠٠