فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

مضافا إلى أن البرهان المنطقي يقتضى أيضا عدم ايجاب الجمع ، فان الامر الترتبي المبحوث عنه في المقام إذا أبرزناه بصورة القضية الحملية يكون من المنفصلة المانعة الجمع لا مانعة الخلو. وذلك لان الضابط في كون القضية مانعة الجمع ، هو كون الحكم فيها بتنافي النسبتين بحيث يمتنع اجتماعهما ، كقولك : ان فاض ماء الشط فاما ان يغرق الزرع واما ان يسيل الماء إلى الأودية ، حيث يمتنع اجتماع كل من غرق الزرع وسيلان الماء إلى الأودية ، فان سيلان الماء إلى الأودية يوجب عدم غرق الزرع ، لنقصان ماء الشط بتوجه مائه إلى الأودية ، فلا يصل الماء إلى الزرع ليغرقه ، فغرق الزرع ينافي سيلان الماء إلى الأودية ، ولا يمكن اجتماعهما ، بل غرق الزرع مترتب على عدم السيلان ولا غرق مع السيلان.

وحينئذ نقول في المقام : ان امر الأهم له نسبتان ، كما تقدم منا في أول مبحث الأوامر من أن هيئة افعل تتضمن نسبتين : نسبة المادة إلى الآمر بالنسبة الطلبية ، ونسبتها إلى الفاعل بالنسبة التلبسية. والتنافي في الامر الترتبي انما يكون بين النسبة الطلبية في جانب المهم والنسبة الفاعلية في جانب الأهم ، لا النسبة الطلبية في جانبه فان المفروض انحفاظ طلب الأهم عند طلب المهم. فلا تنافى بين النسبتين الطلبيتين ، كما في باب الوضوء والتيمم ، حيث إن التنافي هناك بين النسبة الطلبية للتيمم والنسبة الطلبية للوضوء ، وكان طلب التيمم مترتبا على عدم طلب الوضوء. وهذا بخلاف المقام ، فان التنافي فيه انما يكون بين النسبة الطلبية من جانب المهم والنسبة الفاعلية من جانب الأهم. فصورة القضية الحملية تكون هكذا : اما ان يكون الشخص فاعلا للأهم ، واما ان يجب عليه المهم ، فهناك تناف بين وجوب المهم وفعل الأهم ، ومع هذا التنافي كيف يعقل ايجاب الجمع؟ مع أن ايجاب الجمع يقتضى عدم التنافي بين كون الشخص فاعلا للأهم وبين وجوب المهم عليه. بل لا بد ان يكون كذلك فضلا عن عدم التنافي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

ان الامر الترتبي لا يعقل اقتضائه لايجاب الجمع ، حتى يقال باستحالته وانه تكليف بالمحال لعدم القدرة على الجمع بين الضدين ، وذلك لوجوه ثلاثة :

٣٦١

الأول :

ان الامر الترتبي لا يختص بالضدين الذين لا يمكن جمعهما في الوجود ، بل يجرى في ممكني الجمع أيضا ، كما في مثل الإقامة والصوم ، والدين والزكاة ، وغير ذلك من الأمثلة المتقدمة. فكما ان الامر الترتبي في ممكني الجمع لا يتقضى ايجاب الجمع ، فكذلك في ممتنعي الجمع كالضدين.

ودعوى ان الأمثلة المذكورة مجرد فرض لا تحقق له في الخارج فلا تصلح ان تجعل دليلا على امكان الخطاب الترتبي واضحة الفساد ، فان مبنى الاستنباط على فرض الاحكام على نهج القضايا الحقيقية. فهذه الدعوى أشبه شيء بما يقال : من أن الغراب لا يقع في البئر فلا معنى لتقدير ما ينزح له عند فرض وقوعه في البئر.

الثاني :

ان الامر الترتبي لو اقتضى ايجاب الجمع يلزم من الجمع بين المتنافيين في كل من طرف الوجوب والواجب ومن الخلف في طرف الوجوب ، ما لا يخفى ، على ما تقدم تفصيله.

الثالث :

ان ايجاب الجمع ينافي البرهان المنطقي ، كما تقدم. فهذه الوجوه الثلاثة كلها تقتضي ان الامر الترتبي لا يوجب ايجاب الجمع ، وبعد ذلك لا ينبغي لمن هو من أفضل العلماء الاصغاء إلى دعوى امتناع الخطاب الترتبي من جهة استلزامه ايجاب الجمع.

نعم بقى في المقام : بعض الاشكالات التي ربما تختلج في الذهن ونحن نوردها بلسان ( ان قلت ) ونجيب عن كل واحد منها.

فان قلت :

ان ايجاب الجمع لا يتوقف على ثبوت الاطلاق من الطرفين ، بل يكفي فيه ثبوت الاطلاق من طرف واحد. وفي المقام وان كان خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، الا ان خطاب الأهم مطلق ويعم كلتا حالتي فعل المهم وعدمه. ففي رتبه تحقق خطاب المهم وهي رتبة عصيان الأهم ، يكون خطاب

٣٦٢

المهم مقتضيا لايجاد متعلقه وباعثا نحوه ، وفي تلك الرتبة يكون خطاب الأهم محفوظا حسب الفرض فيقتضى ايجاد متعلقه والبعث إليه ، فتكون نتيجة الخطابين البعث نحو الضدين ، ونتيجة ذلك هو ايجاب الجمع ، فإنه حال اشتغال المكلف بفعل المهم المطالب به يطالب بفعل الأهم أيضا حسب اطلاقه ، ومع هذا كيف لا يلزم ايجاب الجمع؟.

قلت :

دعوى ان ايجاب الجمع لا يتوقف على ثبوت الاطلاق من الطرفين ويكفي فيه الاطلاق من طرف واحد ، مساوقة لدعوى جواز اجتماع النقيضين ، لما عرفت : من أن ايجاب الجمع معناه انه في حال الاشتغال بكل من متعلقي الخطابين يطالب بالآخر ويؤمر به ، وفي المقام في حال الاشتغال بالأهم لا يطالب بالمهم ولا يتعلق الامر به ، فيكون نسبة المهم إلى الأهم في حال الاشتغال بالأهم كنسبة المباحات إليه ، ومع هذا كيف يلزم ايجاب الجمع؟.

والحاصل : ان ايجاب الجمع لايكون الا إذا كان هناك مطلوبان ، بحيث لو فرض محالا امكان الجمع بينهما ، كان كل منهما مطلوبا ويقع محبوبا. وفي المقام لو فرض محالا انه جمع المكلف بين الأهم والمهم كان المهم لغوا ، ولا يقع على صفة المطلوبية ، لعدم تحقق ملاك وجوبه من ترك الأهم ، فإذا لم يكن هناك الا مطلوب واحد في جميع الحالات ، غايته انه في حال فعل الأهم يكون هو المطلوب ، وفي حال تركه يكون المهم مطلوبا وان كان طلب الأهم لم يسقط ، فكيف يقال انه يجب الجمع ، وهل هذا الا تناقض؟.

فان قلت :

لا يصح الخطاب المولوي الشرعي الا إذا أمكن ان يكون داعيا نحو الفعل ، وباعثا إليه. وداعوية الخطاب بالنسبة إلى غالب نفوس البشر انما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب ، إذ قل ما يكون نفس الخطاب بما هو خطاب صادرا من المولى المنعم داعيا نحو الامتثال ، الا بالنسبة إلى الأوحدي ، بل ينحصر ذلك بالأولياء المقربين الذين لا يعبدون الله خوفا من النار أو طمعا في الجنة بل وجدوه

٣٦٣

اهلا للعبادة فعبدوه. واما ما سوى ذلك فالعبادة انما تكون للخوف من العقاب والطمع في الثواب ، فلا بد ان يكون كل خطاب الزامي مولوي مستتبعا لاستحقاق العقاب ليصلح ان يكون داعيا ، والا خرج عن المولوية إلى الارشادية.

وحينئذ نقول : ان الخطابين المترتبين ، اما ان يستتبعا عقابين ، واما ان لا يستتبعا الا عقابا واحدا. فان استتبعا عقابين يلزم ان يكون العقاب على غير المقدور ، وهو في الاستحالة كالخطاب بغير المقدور ، لوضوح انه لا يمكن للمكلف امتثال الخطابين المترتبين ، لتضاد متعلقهما ، فلا يمكنه الجمع في الامتثال. فإذا امتنع امتثالهما امتنع بالعقاب على تركهما ، لاستلزام العقاب على الممتنع وغير المقدور ، فلا بد ح من الالتزام بوحدة العقاب عند ترك امتثال الخطابين ، ومعلوم ان العقاب حينئذ يكون على ترك الأهم لا على ترك المهم ، فيخرج خطاب المهم عن كونه مولويا ، لامتناع ما يستتبعه من العقاب ، ويكون ارشاديا محضا لادراك مصلحته. فظهر ان الخطاب الترتبي لو لم يكن محالا من جهة اقتضائه لايجاب الجمع ، فهو محال من جهة ما يستتبعه من العقاب.

قلت :

منشأ امتناع تعدد العقاب في المقام ليس الا من جهة انه ليس هناك الا مطلوب واحد في جميع الحالات ، لا مطلوبان ، لعدم الامر بالجمع حتى يكون هناك مطلوبان ، كما تقدم من أنه حال فعل الأهم لايكون المطلوب الا هو ، وفي حال تركه لايكون المطلوب الا المهم ، وان لم يسقط طلب الأهم بعد ، والمطلوب الواحد لا يستتبع الا عقابا واحدا.

وحينئذ نقول : ان المطلوب الواحد لا يستلزم وحدة العقاب دائما لما فيه.

أولا : نقضا بالواجبات الكفيائة ، وتعاقب الأيادي ، فإنه ليس هناك الا مطلوب واحد وهو دفن الميت مثلا أو تكفينه ، أو أداء مال الناس في تعاقب الأيادي. وهذا المطلوب الواحد لا يمكن ان يجتمع المكلفون على امتثاله ، بل لا يصلح الخطاب الكفائي أو خطاب أداء مال الناس الا لامتثال واحد. وذلك الامتثال الواحد لا يمكن ان يصدر الا من مكلف واحد ، ومع ذلك عند ترك الجميع يتعدد

٣٦٤

العقاب ، حسب تعدد المكلفين وذوي الأيادي ، فكيف تعدد العقاب مع عدم امكان تعدد الامتثال؟ فما يجاب به عن ذلك في ذلك المقام ، نجيب به في المقام.

وثانيا : حلا وحاصله : ان العبرة في استحقاق العقاب هو ملاحظة كل خطاب بالنسبة إلى كل مكلف في حد نفسه وبحيال ذاته ، بمعنى انه يلاحظ الخطاب هو وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر ، ويلاحظ كل مكلف أيضا هو وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع مكلف آخر ، فان كان متعلق ذلك الخطاب الملحوظ وحده مقدورا بالنسبة إلى ذلك المكلف الملحوظ وحده ، فعند تركه وعصيانه يستحق العقاب ، والا فلا. واما ملاحظة اجتماع الخطاب لخطاب آخر ، أو اجتماع المكلف مع مكلف آخر ، واعتبار القدرة على المجموع من متعلقي الخطابين ، أو مجموع المكلفين ، فهو مما لا عبرة به ولا موجب لهذا اللحاظ ، بل العبرة انما هي بالقدرة على متعلق كل خطاب من حيث نفسه لكل مكلف كذلك.

نعم : لو تعلق التكليف في مكان بالجمع بين الشيئين ، أو اجتماع المكلفين في شيء واحد ، فلا بد حينئذ ان يكون الجمع بين الشيئين مقدورا ، ليصح التكليف به ، وكذا اجتماع المكلفين. الا ان هذا يحتاج إلى دليل بالخصوص على اعتبار الجمع. ومع عدم قيامه ، فالعبرة بالقدرة على متعلق كل خطاب من حيث نفسه مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر وكل مكلف كذلك. ومن المعلوم : تحقق القدرة في كل من متعلق الخطابين المترتبين في حد نفسه وكل مكلف في الواجب الكفائي وفي أداء مال الناس من حيث نفسه ، فعند ترك كلا المتعلقين يستحق عقابين. وكذا عند ترك الكل للواجب الكفائي أو أداء مال الناس يستحق الجميع للعقاب ، لتحقق شرط استحقاق العقاب ، وهو القدرة على كل متعلق في حد نفسه وقدرة كل مكلف على امتثال الواجب الكفائي وأداء الدين. وان لم تتحقق القدرة على الاجتماع بعد عدم تعلق التكليف بالاجتماع ، فضم لفظ الاجتماع في المقام مما لا معنى له. مع أنه لو فرض ان للاجتماع دخلا في العقاب ، فالذي له دخل هو الجمع في العصيان لا الجمع في الامتثال ، فان العقاب انما يكون مترتبا على العصيان ، لا على الامتثال.

٣٦٥

فالذي يعتبر فيه القدرة هو الجمع في العصيان ، والمفروض انه قادر على الجمع في العصيان بترك الأهم والمهم ، إذ ليس الكلام في الضدين الذي لا ثالث لهما ، فعند جمعه في العصيان لابد ان يتعدد عقابه ، كما أنه لابد عند اجتماع المكلفين في ترك الواجب الكفائي من استحقاق كل منهم العقاب. فلا محيص في المقام من الالتزام بتعدد العقاب عند ترك كل من الأهم والمهم ، ولا محذور فيه أصلا.

فان قلت :

هب انه أمكن الخطاب الترتبي من حيث الخطاب والعقاب ، الا انه مجرد الامكان لا يكفي في الوقوع ، بل لابد من إقامة الدليل عليه. نعم : الخطاب الترتبي في مثل الإقامة والصوم لا يحتاج إلى دليل ، بل نفس أدلة وجوب الصوم على من كان مقيما في أول الفجر إلى الزوال يكفي في اثبات الامر الترتبي عند عصيان حرمة الإقامة ، ولكن في مثل الضدين لم يقم دليل على وجوب المهم عند عصيان الأهم. فالقائل بالترتب لابد له من إقامة الدليل على ذلك.

قلت :

نفس الأدلة الأولية المتعرضة لحكم المتزاحمين مع قطع النظر عن تزاحمهما كافية في اثبات الامر الترتبي ، لأن المفروض ان لكل من الأهم والمهم حكما بحيال ذاته مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بينهما ، وكان الدليل المتكفل لذلك الحكم مط يعم حالتي فعل الآخر وعدمه ، فإذا وقع التزاحم بينهما من حيث قدرة المكلف وعدم تمكنه من الجمع الذي كان يقتضيه الاطلاق ، فان لم يكن لاحد الحكمين مرجح من أهمية أو غيرها ، فلابد من سقوط كلا الاطلاقين ، لان سقوط أحدهما ترجيح بلا مرجح ، وتكون نتيجة الخطابين بعد سقوط اطلاقهما ( لمكان اعتبار القدرة ) هو التخيير عقلا. وان كان لأحدهما مرجح ، كالأهمية فيما نحن فيه ، فالساقط هو اطلاق المرجوح فقط ، مع بقاء اطلاق الراجح على حاله. واما أصل الخطاب بالمرجوح فلا موجب لسقوطه إذ من اطلاقه نشئت المزاحمة لا من أصل وجوده ، والضرورات تتقدر بقدرها ، فإذا سقط اطلاقه يبقى مشروطا بترك الراجح ، وهو المراد من الامر الترتبي. فالمتكفل لاثبات الامر الترتبي هي الأدلة الأولية المتعرضة لحكم المتزاحمين من

٣٦٦

حيث أنفسهما ، بضميمة حكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة وقبح ترجيح المرجوح على الراجح أو مساواته له. فإنه من هذه الأمور الثلاثة ينتج اشتراط خطاب المهم بترك الأهم ، كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، وهي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن تضاد المتعلقين.

وينبغي التنبيه على أمور :

الامر الأول :

قد عرفت في أول البحث ، ان مورد البحث في الامر الترتبي انما هو فيما إذا كان الملاك لكل من الامرين ـ من المترتب والمترتب عليه ـ ثابتا ومتحققا عند التزاحم ، بحيث لو منعنا عن الامر الترتبي أمكن تصحيح العبادة بالملاك ، بناء على كفاية ذلك في صحة العبادة ، وعدم القول بمقالة صاحب الجواهر : من توقف الصحة على الامر وعدم كفاية الملاك على ما هو المحكى عنه. والسر في اعتبار الملاك في الامر الترتبي واضح ، فإنه لو لم يكن ملاك امتنع الامر ، لتوقف الامر على الملاك ، على ما عليه العدلية.

ومن ذلك يظهر : امتناع الامر الترتبي في المتزاحمين الذي كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان المزاحم المشروط بذلك يكون خاليا عن الملاك ، لما تقدم : من أن القدرة الشرعية لها دخل في الملاك ، فعند انتفائها ينتفى الملاك ، ومع انتفائه يمتنع الامر الترتبي.

وهذا من غير فرق بين استفادة اعتبار القدرة الشرعية من دليل متصل كما في الحج ، أو بدليل منفصل كما في الوضوء ، حيث إن الامر الوضوئي وان لم يقيد بالقدرة في لسان دليله ، الا انه من تقييد الامر التيممي بذلك يستفاد تقييد الامر الوضوئي بالقدرة. وهذا بعد تفسير الوجدان المأخوذ في آية التيمم بالتمكن ، فان مقتضى المقابلة بين الوضوء والتيمم من حيث تقييد التيمم بعدم التمكن من الماء يستفاد ان الوضوء مشروط شرعا بالتمكن ، والا لم تتحقق المقابلة بين الوضوء والتيمم ، ولزم ان يكون ما في طول الشيء في عرضه ، وأن يكون التفصيل غير قاطع للشركة ، وبطلان كل ذلك واضح. مع أن نفس بدلية التيمم للوضوء يقتضى

٣٦٧

اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعية ، على ما تقدم في مرجحات التزاحم : من أن لازم البدلية الشرعية ذلك. فاستفادة اعتبار القدرة الشرعية في الوضوء تكون من وجهين : من تقييد التيمم بعدم التمكن ، ومن بدلية التيمم للوضوء. وح لو فرض انتفاء القدرة الشرعية للوضوء ، بحيث انتقل تكليفه إلى التيمم ـ كما لو وجب صرف ما عنده من الماء لحفظ النفس المحترمة ـ كان وضوئه خاليا عن الملاك ، فلو عصى وتوضأ كان وضوئه باطلا ، ولا يمكن تصحيحه لا بالملاك ، ولا بالامر الترتبي. ومن الغريب ما حكى عن بعض الأعاظم في حاشيته على النجاة : من القول بصحة الوضوء والحال هذه ، ولا يخفى فساده.

الامر الثاني : (١).

قد عرفت أيضا ان مورد الخطاب الترتبي انما هو في التكليفين المتزاحمين الذين لا يمكن الجمع بينهما لمكان عدم القدرة ، وتزاحم التكاليف انما يكون بعد تنجزها ووصولها إلى المكلف وكونها محرزة لديه بأنفسها ، اما بالاحراز الوجداني العلمي ، واما بالطرق المحرزة للتكاليف : من الطرق والامارات والأصول المحرزة ، فلا يتحقق التزاحم فيما إذا لم تكن التكاليف واصلة إلى المكلف وكانت مجهولة لديه ، وان كان بالجهل التقصيري ، بحيث كان الواجب عليه الاحتياط أو التعلم ، فان مجرد ذلك لا يكفي في التزاحم لعدم خروج التكليف بذلك عن كونه مجهولا. والعقاب انما يكون على ترك التعلم عند مصادفته لترك الواقع ، لا مطلقا كما هو المحكى من المدارك ، على ما فصلنا القول في ذلك في محله.

والحاصل : انه في صورة الجهل بالتكليف لا يعقل الخطاب الترتبي ، لعدم المزاحمة بين التكليفين ، وان فرض استحقاق العقاب على ترك التكليف المجهول في

__________________

١ ـ لا يخفى عليك : ان شيخنا الأستاذ مد ظله عدل عما افاده في هذا التنبيه بكلا التقريبين الآتيين ، والتزم بالآخرة بجريان الخطاب الترتبي في كل ما يكون منجزا ، ولو كان من جهة وجوب التعلم ، سواء في ذلك الشبهات الموضوعية والحكمية. نعم : في خصوص مسئلتي الجهر والاخفات وما شابههما لا يجرى الخطاب الترتبي لكون التضاد فيهما دائميا وكونه يلزم الامر بالحاصل ، على ما بيناه في المتن ، فراجع ـ منه.

٣٦٨

صورة كون الجاهل مقصرا. وكيف يعقل الخطاب الترتبي مع أنه عبارة عن اخذ عصيان أحد التكليفين شرطا للتكليف الآخر؟ ومعلوم ان الجاهل بالتكليف وان كان عن تقصير لا يرى نفسه عاصيا ولا يلتفت إلى ذلك ، إذ الالتفات إلى كونه عاصيا يتوقف على العلم بالتكليف ، فيخرج عن كونه جاهلا ، فلا يعقل ان يقال : أيها العاصي للتكليف المجهول يجب عليك كذا ، فإنه بمجرد التفاته إلى كونه عاصيا ينقلب جهله بالتكليف إلى كونه عالما به.

وهذا نظير ما قلنا في محله : من أنه لا يعقل تكليف الناسي لجزء بالفاقد له ، لأنه بمجرد الالتفات إلى كونه ناسيا يخرج عن كونه ناسيا. ومن هنا ظهر : ان تصحيح عبادة تارك الجهر أو الاخفات والقصر أو الاتمام بالخطاب الترتبي ـ كما عن الشيخ الكبير كاشف الغطاء ـ (١) مما لا يستقيم. إذ لا يعقل ان يقال : أيها العاصي بترك الجهر أخفت أو بالعكس ، لان التفاته إلى كونه عاصيا يستدعى العلم بوجوب الجهر عليه ومع علمه بوجوب الجهر لا يصح الاخفات منه ، إذ صحة الاخفات مقصورة بصورة الجهل بوجوب الجهر عليه.

ولا يتوهم : ان لا يتوقف صحة التكليف بالاخفات على الالتفات إلى كونه عاصيا للجهر ، بل يكفي كونه عاصيا في الواقع ، كما حكى عن الشيخ ( قده ) نظير هذا في الناسي (٢) وقال بصحة تكليف الناسي وان لم يلتفت إلى كونه ناسيا ، بل يرى نفسه ذاكرا إلى أنه يقصد الامر المتوجه إليه واقعا ، غايته انه يتخيل انه ذاكر

__________________

١ ـ قال في مقدمة كشف الغطاء :

« ان انحصار المقدمة بالحرام بعد شغل الذمة لا ينافي الصحة وان استلزم المعصية ، وأي مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والاخفات والقصر والاتمام .. » ( مقدمات كشف الغطاء ، البحث الثامن عشر من المقصد الأول من الفن الثاني ، ص ٢٧

٢ ـ ذكر المحقق المقرر قدس‌سره في المجلد الثاني من الفوائد ، في الامر الأول من تنبيهات الأقل والأكثر « هذا ما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس‌سره في مسائل الخلل وهو إلى الان لم يطبع » الامر الأول من تنبيهات الأقل والأكثر ، الجهة الأولى من المقام الثاني ص ٧٠ الطبعة القديمة

٣٦٩

فيكون من قبيل الخطاء في التطبيق. وفي المقام يجرى هذا الكلام أيضا.

وذلك لأنه لا يصح التكليف الا فيما إذا أمكن الانبعاث عنه ، ولا يمكن الانبعاث عن التكليف الا بعد الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف والعنوان الذي رتب التكليف عليه. وفي المقام لا يعقل الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف بالاخفات الذي هو كون الشخص عاصيا للتكليف الجهري ، وكذا الكلام في الناسي. وقد أوضحنا الكلام في ذلك وفساد كون المقام من باب الخطاء في التطبيق في تنبيهات الأقل والأكثر ، فراجع.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله في الليلة الأولى تحت عنوان ( الامر الثاني ) وفي الليلة الثانية قرر ما يلي :

الامر الثاني : يعتبر في الخطاب الترتبي ان يكون التكليف في المترتب عليه منجزا واصلا إلى المكلف بنفسه وجدانا ، أو بالطرق المحرزة من الامارات والأصول المحرزة. فلو لم يكن منجزا ـ كما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى البراءة ، أو كان منجزا ولكن ما كان واصلا إلى المكلف بنفسه ، كما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى الاحتياط ، كباب الدماء والفروج والأموال ، وكالشبهات الحكمية قبل الفحص والتعلم ، وكما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ـ لم يكن موقع للخطاب الترتبي.

اما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى البراءة فمن جهات ثلث :

الأولى : ان التكليف الواقعي المجهول غير قابل لان يكون محركا وباعثا مولويا نحو متعلقه ، فلا يكون مزاحما للتكليف الاخر ، وبعبارة أخرى : التكليف الواقعي المجهول لايكون شاغلا لنفسه ، فبان لايكون شاغلا عن غيره أولى.

الثانية : انه لا يتحقق عصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتب ، لأن المفروض ان الشبهة مورد البراءة فلا عصيان له.

الثالثة : انه لا يمكن تحقق العلم بالخطاب المترتب ، لمكان عدم العلم بما هو موضوعه : من كونه عاصيا للخطاب المترتب عليه ، لان العلم بالعصيان فرع العلم بالتكليف ، والمفروض انه جاهل به.

٣٧٠

واما الشبهات الحكمية قبل الفحص ، والشبهات التي تكون مجرى الاحتياط ، فلا يجرى فيها الخطاب الترتبي من جهتين :

الأولى : انه لا يتحقق عصيان التكليف المجهول ، حيث لا عقاب على نفس التكليف المجهول ، بل العقاب على ترك التعلم والاحتياط عند المصادفة.

الثانية : انه لا يتحقق العلم بالخطاب المترتب ، لعدم تحقق ما هو موضوعه من عصيان الخطاب المترتب عليه.

واما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فمن جهة واحدة لا يجرى فيها الخطاب الترتبي ، وهي الجهة الأخيرة أعني من عدم امكان حصول العلم بالخطاب الترتبي ، لعدم العلم بعصيان الخطاب المترتب عليه ، وان كان منجزا بالعلم الاجمالي وتحقق عصيانه في صورة المصادفة ، حيث إنه لو ارتكب بعض الأطراف وصادف الواقع كان عاصيا له ومعاقبا عليه ، لا على ترك الاحتياط ، بخلاف الشبهات البدوية.

هذا ما قرره شيخنا الأستاذ مد ظله في الليلة الثانية. وحيث انه يرد على هذا التقرير من الاشكال ما لا يخفى ، عدل مد ظله عن هذا التقرير في الليلة الثالثة والتزم بجريان الخطاب الترتبي في جميع الشبهات الموضوعية التي لا تجرى فيها البراءة ، وفي الشبهات الحكمية المقرونة بالعلم الاجمالي أو التي تكون مجرى الاحتياط ، كما إذا بنينا على الاحتياط في الشبهات التحريمية ، كما عليه الأخباريون حتى بعد الفحص. نعم في خصوص الشبهات الحكمية التي يجب فيها الفحص قال : بعدم جريان الخطاب الترتبي. (١)

اما تصحيح عبادة الجاهل بالجهر والاخفات والقصر والاتمام ، بالخطاب الترتبي فلا يمكن ، لان التضاد بين القصر والاتمام والجهر والاخفات

__________________

١ ـ والذي يقوى في النظر : جريان الخطاب الترتبي حتى في ذلك أيضا ، الا إذا كان الجاهل مركبا قاطعا بعدم الحكم ، فان مثل هذا لا مجال فيه لجريان الخطاب الترتبي ، وان فرض كون الجاهل مقصرا معاقبا ، فتأمل جيدا ـ منه.

٣٧١

يكون دائميا ، بعد ما كان الواجب في اليوم فريضة واحدة ، اما جهرية أو اخفائية ، واما القصر أو الاتمام ، فليس في عالم التشريع الا حكم واحد وملاك واحد. ولو فرض ان كلا من الجهر والاخفات ذو ملاك في الواقع ، فلا بد من وقوع الكسر والانكسار بين الملاكين في عالم التشريع وانشاء الحكم على طبق أقوى الملاكين. وقد عرفت : ان مورد البحث عن الترتب انما هو بعد ثبوت الملاكين وتشريع الحكم على طبق كل منهما على نهج القضايا الحقيقية ووقوع التزاحم والتضاد بينهما اتفاقا ، لمكان عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما. وأين هذا مما إذا كان التضاد دائميا ، فإنه يكون حينئذ من باب التعارض ، لا التزاحم ، على ما تقدم من الفرق بينهما. والتضاد في مسألتي القصر والاتمام والجهر والاخفات ، يكون من التضاد الدائمي ، بحيث لو ورد الدليل على وجوب كل منهما كان الدليلان متعارضين ، وذلك بعد ما كان الواجب في اليوم صلاة واحدة واضح. فلا تندرج المسألة في صغرى التزاحم ، حتى يجرى فيها الخطاب الترتبي.

هذا كله ، مضافا إلى أن الامر الترتبي في الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالجهر والاخفات في القراءة ، مما لا يعقل ـ مع قطع النظر عما ذكرنا ـ فإنه يكون من الامر بالحاصل ، لان ترك الجهر يلازم خارجا الاخفات فيها فلا معنى للامر بالاخفات مثلا عند ترك الجهر ، لان الاخفات عند ترك الجهر يكون حاصلا بنفسه ، فلا يعقل ان يكون الامر به باعثا مولويا.

والحاصل : انه كما لا يعقل الامر بأحد النقيضين عند عدم الآخر ـ لان عدم أحد النقيضين عين وجود الآخر خارجا ، وان لم يكن عينه مفهوما ( على ما تقدم في بعض المباحث السابقة ) فلا يعقل ان يقال مثلا : لا تغصب الغصب الصلواتي ، وان غصبت الغصب الصلواتي فصل ، فإنه يكون من تحصيل الحاصل ـ كذلك لا يعقل الامر بأحد الضدين الذين لا ثالث لهما عند عدم الآخر ، فان عدم أحد الضدين وان لم يكن خارجا عين وجود الضد الآخر ، كما كان في النقيضين كذلك ، الا انه يلازمه خارجا ، فيلزم أيضا الامر بالحاصل. فالامر الترتبي في الضدين الذين لا ثالث لهما لا يعقل ، كما في النقيضين.

٣٧٢

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه يرد على ادراج مسألة جاهل القصر والاتمام والجهر والاخفات في صغرى الترتب ودفع الاشكال الوارد فيها الناشئ عن الالتزام باستحقاق العقاب مع القول بصحة الصلاة بذلك أمور ثلاثة :

الأول : ان مورد الامر الترتبي انما يكون بعد نحو تنجز التكليف بكل من الواجبين ووصول كل من التكليفين إلى المكلف وصولا وجدانيا أو بأحد طرقه ، والمفروض في المسألة كون الشخص جاهلا بوجوب الاخفات عليه.

الثاني : ان مورد الترتب انما هو في التضاد الاتفاقي ، والمسألة تكون من التضاد الدائمي.

الثالث : ان مورد الامر الترتبي في الضدين الذين لهما ثالث ، والمسألة مما لا ثالث لهما ، فتأمل جيدا.

الامر الثالث :

ان عقد الكلام في المسألة وان كان في المتزاحمين المضيقين كالغريقين ، الا انه قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا حال مزاحمة المضيق للموسع ، كمزاحمة أداء الدين أو إزالة النجاسة عن المسجد للصلاة ، فإنه يجرى في الموسع أيضا الامر الترتبي ، بناء على ما اخترناه سابقا : من خروج الفرد من الموسع المزاحم للمضيق عن اطلاق الامر بالطبيعة وعدم اندراجه تحت الطبيعة المأمور بها. فإنه ح يصح ان يقال : ان خروجه عن تحت الاطلاق ليس مطلقا ، سواء اشتغل بالمضيق أو لم يشتغل ، بل إن الخروج مقصور على صورة الاشتغال بالمضيق ، واما عند عدم الاشتغال به وعصيانه فالاطلاق يعمه.

ويكون الفرق بين المضيقين والموسع والمضيق ، هو انه في المضيقين أصل الامر بالمهم يكون مشروطا بعصيان الأهم ، وفي الموسع والمضيق اطلاق الامر بالموسع على وجه يشمل الفرد المزاحم للمضيق يكون مشروطا بعصيان المضيق ، لا أصل الامر ، لان جميع افراد الموسع لم تكن مزاحمة للمضيق ، حتى يكون أصل الامر به مشروطا بعصيان المضيق. ولكن هذا إذا قلنا : بخروج الفرد المزاحم عن اطلاق الامر لمكان اشتراط كل امر بالقدرة على متعلقه ، حيث إن الامر يكون بعثا لاحد

٣٧٣

طرفي المقدور وتحريكا لاحد جانبي الاختيار ، فإنه حينئذ نحتاج في صحة الفرد المزاحم إلى الامر الترتبي.

واما بناء على ما اختاره المحقق الكركي قده (١) « من أن تعلق الامر بالطبيعة مع القدرة عليها في الجملة ولو في بعض الافراد يكفي في صحة الفرد المزاحم للمضيق ، لانطباق الطبيعة عليه قهرا ، ويتحقق الاجزاء عقلا » فلا نحتاج في صحة الفرد المزاحم إلى الامر الترتبي ، بل نفس الامر الأول بالصلاة يكفي في صحة الفرد المزاحم. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ، فراجع. (٢)

الامر الرابع :

الخطاب المترتب عليه ، تارة : يكون آنيا ليس له نحو بقاء واستمرار في وعاء الزمان حتى يكون لعصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتب أيضا نحو بقاء واستمرار ، بل يكون عصيانه دفعيا آنيا ولو عرفا ، لعدم قابلية بقاء الموضوع حتى يستمر عصيانه ، كانقاذ الغريق الذي لو لم يبادر إليه يوجب موت الغريق الموجب لسقوط التكليف. وأخرى : لايكون كذلك ، بل يكون له نحو بقاء واستمرار بحيث يستمر عصيانه ويبقى مع عدم الامتثال ، لبقاء الموضوع ، كأداء الدين حيث إنه يستمر الخطاب والعصيان ببقاء الدين ، ولا يسقط الا بأدائه.

فان لم يكن للخطاب المترتب عليه بقاء ولا يكون لعصيانه استمرار ، فهذا الذي تقدم الكلام عنه : من أن الخطاب المترتب يكون مشروطا بعصيان الخطاب المترتب عليه ، من دون استلزامه للشرط المتأخر ، بل يكون الشرط الذي هو العصيان مقارنا للامر المترتب ، سواء كان الامر المترتب أيضا كالمترتب عليه آنيا ليس له نحو بقاء واستمرار ، كالغريقين الذين كان أحدهما أهم ، أو كان الامر المترتب له نحو

__________________

١ ـ راجع ما افاده المحقق الثاني قدس‌سره في جامع المقاصد ، في شرح قول العلامة قدس‌سره في القواعد « ولا يصح الصلاة في أول وقتها ممن عليه دين واجب الأداء .. » كتاب الدين وتوابعه ، المطلب الأول من المقصد الأول.

٢ ـ راجع ما افاده المصنف في تحقيق ثمرات الاقتضاء وعدمه ص ٣١٢ ـ ٣١٣ من هذا الكتاب.

٣٧٤

بقاء واستمرار لتدرج امتثاله في الوجود وليس آني الحصول ، كالصلاة حيث إن فعلها ليس آني الحصول ، بل هو متدرج في الوجود حسب تدرج الاجزاء. غايته انه في مثل هذا يكون الامر بالجزء الأول من الصلاة المقارن لعصيان انقاذ الغريق من الامر الترتبي ، واما الامر بساير الاجزاء الاخر ، التي يكون وجودها بعد تحقق عصيان الامر المترتب عليه ، فلا يكون من الامر الترتبي ، لعدم بقاء الامر المترتب عليه ، لفرض تحقق عصيانه وانعدام موضوعه بموت الغريق مثلا. فمثل الحمد والركوع والسجود الذي يكون ظرف وجوده بعد موت الغريق ، لايكون امره من الامر الترتبي ، بل الامر بالتكبير يكون من ذلك ، لمقارنة وجودها لعصيان الامر بالانقاذ. وذلك واضح.

وأما إذا كان للخطاب المترتب عليه نحو بقاء ، وكان لعصيانه استمرار ، فان كان امتثال الخطاب المترتب دفعيا ليس متدرجا في الزمان ـ كالأمر برد السلام مثلا المترتب على الامر بترك أداء الدين أو إزالة النجاسة من المسجد مثلا ـ فهذا أيضا مما لا اشكال فيه ، فإنه يكون في حال رد السلام عاصيا لخطاب الإزالة ، ويكون عصيان الإزالة أيضا من الشرط المقارن لوجوب رد السلام ، وان كان العصيان يبقى بعد سقوط الامر برد السلام ، لمكان امتثاله.

وأما إذا كان امتثال الامر المترتب تدريجي الوجود كالصلاة ، وكان لعصيان الامر المترتب عليه استمرار وبقاء ـ كأداء الدين وإزالة النجاسة عن المسجد ـ فربما يستشكل في مثل هذا بتوقف الامر المترتب على الشرط المتأخر ، وحيث امتنع الشرط المتأخر امتنع الخطاب الترتبي.

وجه التوقف : هو توهم ان الامر بالمتدرج مشروط باستمرار عصيان الامر المترتب عليه إلى آخر جزء من المتدرج الذي فرض تعلق الامر الترتبي به ، مثلا الامر بالصلاة بالامر الترتبي يكون مشروطا باستمرار عصيان الامر بالإزالة إلى آخر الصلاة ، فيكون عصيان الامر بالإزالة في حال التسليمة شرطا للامر بالتكبيرة ، إذ لولا العصيان في ذلك الحال لما تعلق الامر بالتكبيرة ، فيكون تعلق الامر الترتبي بالتكبيرة مشروطا بشرط مقارن ، وهو عصيان الامر بالإزالة في حال التكبيرة ،

٣٧٥

ومشروطا بالشرط المتأخر أيضا ، وهو العصيان في حال التسليمة ، وحيث كان المختار امتناع الشرط المتأخر كان اللازم امتناع الامر الترتبي. وارجاع الشرط إلى عنوان التعقب انما يكون بعد مساعدة الدليل والاعتبار عليه ، والمفروض انه لم يقم دليل بالخصوص على ثبوت الامر الترتبي في جميع موارد التدريجيات ، حتى يقال : ان دلالة الاقتضاء تقتضي كون الشرط هو عنوان التعقب ، بل قد تقدم ان نفس الأدلة الأولية تقتضي الخطاب الترتبي ، بعد اشتراط كل تكليف بالقدرة على متعلقه ، ومعلوم : ان اقتضاء الأدلة الأولية ذلك انما هو فيما إذا لم يلزم من الخطاب الترتبي امر غير معقول : من الشرط المتأخر. واما مع استلزامه ذلك ، فالأدلة ح لا تقتضي الخطاب الترتبي ، وتقل فائدة البحث عنه ح ، لان الغالب في الخطابات الترتبية كون متعلقاتها تدريجية ، مع استمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فيلزم في الغالب من الخطاب الترتبي الشرط المتأخر.

أقول : ضعف هذا الاشكال مما لا يكاد يخفى ، لوضوح ان هذا ليس اشكالا مخصوصا بالامر الترتبي ، بل توهم هذا الاشكال مطرد في جميع الأوامر التي تتعلق بعدة اجزاء متدرجة في الوجود ، كالصوم ، والصلاة ، والوضوء ، وغير ذلك من المركبات الارتباطية ، لوضوح ان الامر بكل جزء مشروط بالقدرة على الاجزاء اللاحقة ، فيلزم الشرط المتأخر في جميع المركبات ، ولو لم يكن هناك امر ترتبي. ولا يلزم من القول بالامر الترتبي اشكال زائد على الاشكال المطرد ، فان الامر المترتب المتعلق بما يكون تدريجي الحصول أيضا يكون مشروطا ببقاء القدرة إلى آخر الاجزاء ، غايته ان القدرة على الاجزاء اللاحقة انما تكون باستمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فليس في الامر الترتبي اشكال سوى اشكال اعتبار بقاء القدرة إلى آخر الاجزاء في الامر بأول الاجزاء في المركبات الارتباطية ، هذا.

وقد تقدم الجواب عن هذا الاشكال المطرد ، وبيان ضعف توهم استلزام الامر بالمركب للشرط المتأخر في بعض المباحث المتقدمة. وحاصل الجواب : هو ان لازم اعتبار الوحدة في المركب من عدة اجزاء متدرجة في الوجود ، هو ان تكون القدرة على كل جزء في حال وجوده شرطا بوجودها العيني الخارجي ، وبالنسبة إلى

٣٧٦

الاجزاء الاخر من السابقة واللاحقة يكون الشرط هو التقدم والتأخر. مثلا الامر بالتكبيرة مشروط بالقدرة عليها خارجا وتعقبها بالقدرة على سائر الأجزاء. وكذا الامر بالحمد مشروط بالقدرة عليها خارجا وسبقها بالقدرة على التكبيرة وتعقبها بالقدرة على الاجزاء المتأخرة. فشرطية التعقب والتقدم مما يقتضيه نفس الامر بالمركب بعد اعتبار الوحدة فيه واخذه على جهة الارتباطية. فالقول بان الشرط في مثل هذا هو عنوان التعقب ليس قولا بلا دليل ، بل نفس دليل المركب بعد اعتبار الوحدة فيه يقتضى ذلك ، وعليه يساعد الاعتبار. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في مسألة الشرط المتأخر ، فراجع. (١) وعلى كل حال : لا يرد على الامر الترتبي في التدريجيات اشكال زائد على الاشكال في المركبات ، والجواب واحد في الجميع.

وحينئذ نقول : ان الامر بأول جزء من متعلق الامر المترتب مشروط بعصيان الامر المترتب عليه بالشرط المقارن وبتعقبه باستمرار العصيان إلى آخر الاجزاء. ولا محذور فيه أصلا ، لان شرطية عنوان التعقب انما تستفاد من نفس اعتبار الوحدة في متعلق الامر المترتب.

ثم لا يخفى عليك : ان الامر الترتبي قد يثبت من أول الشروع في العمل التدريجي ويستمر إلى آخره ، وقد يحدث في أثناء العمل ، وربما ينعكس الامر ، بحيث يكون الامر المترتب مترتبا عليه لو حدث في الأثناء ، بعد ما كان مترتبا لو كان من أول العمل. مثلا في إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة يختلف الحال فيها. فتارة : يعلم بنجاسة المسجد قبل الدخول في الصلاة ، وأخرى : يعلم به في أثناء الصلاة.

فان كان عالما بها قبل الصلاة مع سعة الوقت ، يكون ح الامر بالصلاة من أولها إلى آخرها مترتبا على عصيان الإزالة ، لأنه يكون من مزاحمة الموسع والمضيق. وقد تقدم ان الامر بالموسع يكون مترتبا على عصيان الامر بالمضيق. وهذا الامر الترتبي محفوظ من أول الصلاة إلى آخرها ، فله بعد الشروع في الصلاة قطع الصلاة

__________________

١ ـ راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث الشرط المتأخر ص ٢٨٠ ـ ٢٨١

٣٧٧

للاشتغال بالإزالة ، بل يجب عليه قطعها لبقاء موضوع الإزالة واستمرار عصيانها إلى آخر الصلاة ، فلا يحرم قطع مثل هذه الصلاة. ولا موقع للتمسك بحرمة الابطال ، بعد ما كان الامر الترتبي محفوظا من أول الصلاة إلى آخرها. فأقصى ما يقتضيه الامر الترتبي هو صحة الصلاة لو لم يقطعها ، ولا يقتضى حرمة قطعها. هذا إذا كان عالما بالنجاسة قبل الصلاة.

واما ان كان جاهلا بها ، فحيث لم يتنجز عليه الامر بالإزالة لمكان الجهل بها ، كان دخوله في الصلاة ليس بالامر الترتبي بل بأمرها الأولى ، وتوجه عليه حرمة الابطال وقطع الصلاة. فإذا علم بنجاسة المسجد في الأثناء ، فيكون كما لو حدثت النجاسة في المسجد في الأثناء ، ومن حين العلم يتوجه عليه الامر بالإزالة ، فتقع المزاحمة ح بين الامر بالإزالة مع حرمة قطع الصلاة ، وكل منهما يكون من المضيق. ودعوى أهمية حرمة القطع من وجوب الإزالة ليس بكل البعيد ، فيكون الامر بالإزالة حينئذ مترتبا على عصيان الامر باتمام الصلاة ، مع أنه كان مترتبا عليه لو كان عالما بالنجاسة من أول الصلاة. وهذا ما قلناه : من أن الامر قد ينعكس ويكون المترتب مرتبا عليه.

ثم إن هناك فرعا محكيا عن الفصول ، يناسب ذكره في المقام (١) وهو انه لو انحصر ماء الوضوء فيما يكون في الآنية المغصوبة ، على نحو يحرم عليه الاغتراف منها للوضوء ، وذلك فيما إذا لم يكن بقصد التخليص ـ على ما سيأتي ضابط التخليص ـ فان اغترف منها ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، فهذا مما لا اشكال في وجوب الوضوء عليه بعد اغترافه ، وان عصى في أصل الاغتراف ، الا انه بعد العصيان والاغتراف يكون واجدا للماء ، فيجب عليه الوضوء. وأما إذا لم يغترف ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، بل كان بنائه على الاغتراف تدريجا فاغترف ما يكفيه لغسل الوجه فقط ، فالمحكي عن صاحب الفصول : انه لا مانع من صحة وضوئه ح بالامر

__________________

١ ـ راجع الفصول ، تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى الواجب والمشروط ، بيان وجه الفرق بين الواجب المعلق والواجب المشروط ، وتظهر الثمرة في وجوب المقدمات التي .. » ص ٨١

٣٧٨

الترتبي ، فإنه يكون واجدا للماء بعد ما كان يعصى في الغرفة الثانية والثالثة التي تتم بها الغسلات الثلث للوضوء ، فيكون امره بالوضوء نظير امره بالصلاة إذا كان مما يستمر عصيانه لإزالة إلى آخر الصلاة ، فان المصحح للامر بالصلاة ، انما كان من جهة حصول القدرة على كل جزء منها حال وجوده ، لمكان عصيان الامر بالإزالة في ذلك الحال وتعقبه بالعصيان بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة ، على ما تقدم بيانه. وفي الوضوء يأتي هذا البيان أيضا ، فان القدرة على كل غسلة من غسلات الوضوء تكون حاصلة عند حصول الغسلة ، لمكان العصيان بالتصرف في الآنية المغصوبة ، والعصيان في الغرفة الأولى لغسل الوجه يتعقبه العصيان في الغرفة الثانية والثالثة لغسل اليدين ، فيجرى في الوضوء الامر الترتبي كجريانه في الصلاة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : الفرق بين باب الوضوء ، وباب الصلاة ، فان الصلاة لا يعتبر فيها أزيد من القدرة العقلية على اجزائها ، المفروض حصولها باستمرار عصيان الإزالة ، فلا مانع من الامر الترتبي فيها. واما في الوضوء ، فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون شرعية ومما لها دخل في الملاك ، ولا قدرة شرعية على الوضوء بعد ما كان موقوفا على التصرف في الآنية المغصوبة ، ولا ملاك له حينئذ ، فيكون غسل الوجه بالغرفة الأولى لغوا لا اثر له ، بعد ما لم يكن في ذلك الحال واجدا لماء مباح شرعا يكفي للوضوء ، فلا يجرى في الوضوء الامر الترتبي. هذا إذا لم يكن الاغتراف للتخليص. وأما إذا كان للتخليص ، فلا اشكال في جواز الاغتراف دفعة واحدة ، بل بدفعات ـ على اشكال في الأخير ـ فيكون مكلفا بالوضوء ولا ينتقل تكليفه إلى التيمم.

ثم انه ليس المراد من التخليص مجرد القصد والنية ، بل ضابطه ان يكون الماء الموجود في الآنية المغصوبة ملكا له لا مباحا ، وكان وقوعه في الآنية لا باختياره ، فإنه ح له تخليص مائه عن الآنية وان استلزم التصرف فيها.

وأما إذا كان مباحا ، أو كان وقوعه في الآنية بسوء اختياره ، ففي مثل هذا لا يجوز له التصرف في الآنية. اما فيما إذا كان الماء مباحا فواضح ، حيث إنه لا ربط له به حتى يجوز له التصرف في الآنية. واما فيما إذا كان ملكا له فلان الماء وان لم يخرج عن ملكه ، الا انه هو بسوء اختياره سلب سلطنته عن ملكه ، فليس له

٣٧٩

التصرف في الآنية لاخراج مائه من دون اذن صاحبها ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، مع ما يستتبعها من التنبيهات.

المسألة الثانية :

هي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، من دون ان يكون هناك تضاد في المتعلقين ، كالقيام في الركعة الأولى والثانية. وقد تقدم حكم التزاحم في ذلك ، وان المتأخر ان كان أهم يجب حفظ القدرة له ، ويكون بأهميته شاغلا مولويا عن المتقدم. وان لم يكن أهم وجب صرف القدرة إلى المتقدم ، وليس مخيرا في صرف القدرة في أيهما شاء ، فان التخيير انما يكون في المتزاحمين العرضيين ، لا الطوليين. وقد تقدم ان عدم التخيير في المقام من ثمرات كون التخير في المتزاحمين المتساويين عقلا باعتبار اشتراط التكليف بالقدرة عقلا ، لا شرعيا على ما تقدم تفصيله ـ فراجع ـ فلا موجب لإعادته.

والغرض في المقام هو بيان جريان الخطاب الترتبي فيما إذا كان المتأخر أهم الذي فرضنا وجوب حفظ القدرة إليه. فلو خالف وعصى ولم يحفظ القدرة إليه ، فهل يجب صرف القدرة إلى المتقدم بالخطاب الترتبي ، أو ان المقام لا يجرى فيه الخطاب الترتبي؟.

والأقوى : ان الخطاب الترتبي في هذه المسألة مما لا يمكن ولا يعقل ، وتوضيح ذلك هو ان الخطاب الترتبي ، اما ان يلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتأخر واخذ عصيانه شرطا للامر بالمتقدم ، واما ان يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه ، وهو وجوب حفظ القدرة له ، فيكون عصيان هذا الخطاب شرطا للامر بصرف القدرة إلى المتقدم.

فان كان الأول ، فيرد عليه ـ مضافا إلى استلزامه للشرط المتأخر من دون قيام دليل عليه بالخصوص ليرجع الشرط إلى وصف التعقب ، فإنه في التدريجيات التي قلنا فيها ان الامر بالاجزاء السابقة مشروط باستمرار العصيان إلى الاجزاء اللاحقة وارجعنا الشرط إلى عنوان التعقب انما كان من جهة ان استمرار العصيان

٣٨٠