فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

شرطه في عرض الامر بالأهم. وذلك لا يستقم الا بعد القول بصيرورة الواجب المشروط مطلقا بعد تحقق شرطه. ويظهر منه ذلك أيضا في موارد أخر لعله نشير إليها في محلها.

المقدمة الثالثة

قسموا الواجب إلى موسع ومضيق وعرفوا الأول بما إذا كان الزمان المضروب لفعل الواجب أوسع من الفعل ، وبعبارة أخرى : ما كان له افراد وابدال طولية بحسب الزمان. ويقابله المضيق وهو ما إذا كان الزمان المضروب للفعل بقدره ، أي ما لايكون له بدل طولي بحسب الزمان.

ثم إن المضيق على قسمين : قسم اخذ فيه الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال الانقضاء ، سواء كان ذلك الشيء من مقولة الزمان ، أو من مقولة الزماني ، أي يكون انقضاء ذلك الشيء وسبقه شرطا للتكليف. ولعل باب الحدود والديات من هذا القبيل ، بناء على أن يكون التكليف بالحد مضيقا ، فان الشرط لوجوب الحد هو انقضاء القتل من القاتل وتحققه منه ، ولا يتوجه التكليف بالحد حال تلبس القاتل بالقتل ، بل يعتبر انقضاء القتل منه ولو آنا ما. ولو ناقشت في المثال فهو غير عزيز ، مع أن مع المقصود في المقام مجرد تصور اخذ الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال انقضائه ، وجد له في الشريعة مثال أو لم يوجد.

ويمكن تصوير ذلك في الواجب الموسع أيضا ، بان يؤخذ الشيء شرطا للتكليف بالموسع بلحاظ حال الانقضاء ، وان لم نعثر على مثال له ، أو قلنا ان الحد من الواجبات الموسعة. والمقصود انه لا اختصاص لما قلناه بالمضيق.

وقسم اخذ الشيء فيه شرطا بلحاظ حال وجوده ، ولا يعتبر فيه الانقضاء ، فيثبت التكليف مقارنا لوجود الشرط ، ولا يتوقف ثبوته على انقضاء الشرط ، بل يتحد زمان وجود الشرط وزمان وجود التكليف وزمان امتثاله ويجتمع الجميع في آن واحد حقيقي. وأغلب الواجبات المضيقة في الشريعة من هذا القبيل ، كما في باب الصوم ، حيث إن الفجر شرط للتكليف بالصوم ، ومع ذلك يثبت التكليف مقارنا لطلوع الفجر ، كما أن زمان امتثال التكليف بالصوم أيضا يكون من أول

٣٤١

الطلوع ، لان الصوم هو الامساك من أول الطلوع ، ففي الآن الأول الحقيقي من الطلوع يتحقق شرط التكليف ونفس التكليف وامتثاله ، بمعنى ان ظرف أمثاله أيضا يكون في ذلك الآن وان لم يتحقق الامتثال خارجا وكان المكلف عاصيا ، الا ان اقتضاء التكليف بالصوم للامتثال انما يكون من أول الفجر ، ففي أول الطلوع تجتمع الأمور الثلاثة : شرط التكليف ، ونفس التكليف ، وزمان الامتثال. ولا يتوقف التكليف على سبق تحقق شرطه آنا ما. كما أنه لا يتوقف الامتثال على سبق التكليف آنا ما ، بل يستحيل ذلك.

اما استحالة تقدم زمان شرط التكليف على نفس التكليف ، فلما عرفت من رجوع كل شرط إلى الموضوع. ونسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى معلولها ، أي من سنخ العلة والمعلول ، وان لم يكن من العلة والمعلول حقيقة ، الا ان الإرادة التشريعية تعلقت بترتب الاحكام على موضوعاتها نحو تعلق الإرادة التكوينية بترتب المعلولات على عللها. فيستحيل تخلف الحكم عن موضوعه ، كاستحالة تخلف المعلول عن علته ، لان مع التخلف يلزم : اما عدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا وهو خلف ، واما تأخر المعلول عن علته وهو محال. ولذا قلنا بامتناع كل من الشرط المتقدم والمتأخر ، وانه يعتبر في شرط المتكليف ان يكون مقارنا له زمانا ، وان تأخر عنه رتبة ، وذلك لان الآن المتخلف اما ان يكون له دخل في ثبوت الحكم ، واما ان لايكون ، فان كان له دخل فيلزم ان لايكون ما فرض كونه تمام الموضوع أو الجزء الأخير منه كذلك ، بل كان انقضاء ذلك الآن هو الجزء الأخير من الموضوع. وان لم يكن لذلك الآن دخل يلزم تخلف المترتب عما رتب عليه وتأخر المعلول عن علته ، وذلك واضح.

واما استحالة تأخر زمان الامتثال عن التكليف ، فلان التكليف هو الذي يقتضى الامتثال ويكون هو المحرك ، فيكون نسبة اقتضاء التكليف للحركة كنسبة اقتضاء حركة اليد لحركة المفتاح ، وغير ذلك من العلل والمعلولات التكوينية.

نعم : الفرق بين المقام ، والعلل التكوينية ، هو انه لا يتوسط في سلسلة العلل التكوينية العلم ولا الإرادة بل يوجد المعلول بعد علته التكوينية من دون دخل

٣٤٢

للعلم والإرادة في ذلك. واما في المقام فيتوسط بين الامتثال والتكليف علم الفاعل بالتكليف وارادته الامتثال ، إذ مع عدم العلم بالتكليف ، أو عدم إرادة الامتثال ، يستحيل تحقق الامتثال. الا انه على كل تقدير لا يخرج التكليف عن كونه واقعا في سلسلة العلل ، غايته ان العلم والإرادة أيضا واقعة في سلسلتها ، ولا يتفاوت في استحالة تخلف المعلول عن علته زمانا بين قلة ما يقع في سلسلة العلة وكثرته. فالامتثال المعلول للتكليف والعلم والإرادة يستحيل ان يتخلف عن ذلك زمانا ، وانما التخلف في الرتبة فقط. فلا يعقل سبق زمان التكليف على زمان الامتثال. وقد تقدم منا في الواجب المعلق امتناع فعلية التكليف قبل زمان امتثاله ، لان الزمان المتخلل ، اما ان يكون لانقضائه دخل في فعلية التكليف فيستحيل فعلية التكليف قبل انقضائه ، واما ان لايكون له دخل فيستحيل تأخر الامتثال عنه أي اقتضائه للامتثال.

وبالجملة : مقتضى البرهان ، هو ان لا يتخلف التكليف عن الشرط ، ولا الامتثال عن التكليف زمانا ، بل يتقارنان في الزمان ، وان كان بينهما تقدم وتأخر رتبي ، هذا.

ولكن حكى عن بعض الاعلام : انه لا بد في هذا القسم من المضيق ( وهو ما إذا اتحد زمان وجود الشرط والتكليف والامتثال ، كالصوم وكصلاة الآيات ) من تقدير سبق التكليف آنا ما قبل زمان الامتثال ، ليتمكن المكلف من الامتثال ، ولا يمكن ان يقارن التكليف لزمان الامتثال.

بل يظهر (١) من المحقق الخراساني في الواجب المعلق : انه يعتبر سبق زمان التكليف على زمان الامتثال في جميع الواجبات فراجع.

__________________

١ ـ الكفاية المجلد الأول ص ١٦٣ ، قوله : « مع أنه لا يكاد يتعلق البعث الا بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة ان البعث انما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به بان يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا الا بعد البعث بزمان ، فلا محاله يكون البعث نحو امر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب ».

٣٤٣

وقد يوجه ذلك : بأنه لولا السبق يلزم : اما التكليف بالحاصل ، واما التكليف بالمتعذر ، لأنه ان كان المكلف في الآن الأول الحقيقي من الفجر ممسكا فتوجه التكليف إليه في ذلك يكون من الطلب الحاصل ، وان لم يكن ممسكا فيتعذر عليه التكليف بالامساك في آن الطلوع ، فلا بد من سبق التكليف على الطلوع آنا ما ليتمكن المكلف من الامساك في أول الفجر منبعثا عن التكليف السابق ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه :

اما أولا :

فلانه لا موجب لهذا التقدير ، لان توقف الانبعاث على البعث ليس بأزيد من توقف المعلول على علته ، فكما ان وجود المعلول يكون مستندا إلى علته المقارنة له في الوجود ويكون صادرا عنها ، فكذلك الانبعاث يكون مستندا إلى البعث المقارن له في الوجود ويكون حاصلا بذلك البعث.

ودعوى انه يكون من تحصيل الحاصل ممنوعة ، فإنه لو كان الانبعاث حاصلا بنفسه لا عن البعث كان من تحصيل الحاصل ، وليس الامر كذلك ، بل يكون حاصلا عن البعث ، والا فيمكن تقريب ذلك بالنسبة إلى العلل والمعلولات التكوينية أيضا ، بان يقال : ان المعلول حاصل في زمان علته فتكون العلة علة لما هو حاصل. وكما يجاب عن ذلك بان المعلول حاصل من قبل علته المقارنة له في الوجود المتقدمة عليه في الرتبة ، كذلك يقال في المقام : ان الانبعاث حاصل من قبل البعث المقارن له في الوجود المتقدم عليه رتبة. فلا يتوقف الانبعاث على سبق البعث زمانا.

نعم : يتوقف على سبق العلم بالبعث في زمانه ، فإنه لو لم يكن عالما بتحقق البعث في أول طلوع الفجر لم يكن يصدر عنه الانبعاث والامساك من أول الطلوع. ومن هنا قلنا بوجوب تحصيل العلم بالأحكام قبل أوقاتها لمن لا يتمكن من تحصيله في وقتها ، كالمضيقات مط ، وكالموسعات في بعض الأحيان.

والحاصل : ان الذي يتوقف عليه الانبعاث في أول الفجر ، هو سبق العلم بالتكليف على أول الفجر ، لا سبق التكليف على الفجر. وأظن أن الذي أوجب القول بتقدير التكليف آنا ما قبل الفجر في هذا القسم من المضيقات ، هو ملاحظة

٣٤٤

عدم امكان تحقق الانبعاث من أول الفجر الا بسبق التكليف عليه. ولكن هذا خلط بين سبق التكليف وبين سبق العلم به. والذي يتوقف عليه الانبعاث هو سبق العلم ، لا سبق التكليف ، والا فسبق التكليف لا يوجب تحقق الانبعاث من دون سبق العلم ، كما لا يخفى. فتقدير سبق التكليف آنا ما يكون بلا موجب.

واما ثانيا :

فلان سبق التكليف لا اثر له ، ويكون لغوا إذ المكلف انما ينبعث عن البعث المقارن لا عن البعث السابق ، لان البعث السابق ، اما ان يكون مستمرا إلى زمان الانبعاث ، واما ان لا يكون. فان لم يكن مستمرا لا يعقل الامتثال والانبعاث ، إذ لا يمكن امتثال تكليف معدوم ، وان كان مستمرا فالذي يوجب الانبعاث هو استمراره وانحفاظه إلى زمان الانبعاث ، فوجوده السابق لغو والانبعاث دائما يكون عن البعث المقارن.

واما ثالثا :

فلان سبق التكليف ولو آنا ما لا يعقل ومن المستحيل ، كما تقدمت الإشارة إليه في المقام ، وتقدم تفصيله في الواجب المعلق وعليه بنينا امتناع الواجب المعلق ، فراجع. (١).

واما رابعا :

فلانه لا اختصاص لهذا التقدير بهذا القسم من المضيقات ، بل يلزم القول بسبق التكليف حتى في الموسعات ، لوضوح صحة الصلاة المقارنة لأول الزوال حقيقة ، بحيث شرع فيها في الان الأول الحقيقي من الزوال ، فإنه وان لم يلزم ذلك ، الا انه لا اشكال في الصحة. ولو فعل ذلك فيلزم تقدير سبق التكليف بالصلاة على الزوال ليكون الامتثال عن التكليف السابق ، مع أن الظاهر أن القائل بالتقدير لم يلتزم به في الموسعات ، فيطالب حينئذ بالفرق.

__________________

١ ـ راجع مباحث مقدمة الواجب ، ما افاده المصنف قدس‌سره في امتناع الواجب المعلق. ص ١٨٦

٣٤٥

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

انه لا يتوقف التكليف بالمضيقات على سبقه على زمان امتثالها ، بل يستحيل ذلك ، وانه لا بد من اجتماع التكليف والشرط والامتثال في زمان واحد حقيقي ، ويكون التقدم والتأخر بالرتبة فقط.

إذا عرفت ذلك

ظهر لك : دفع بعض الاشكالات التي أشكلوها على الخطاب الترتبي.

منها :

انه يتوقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، وحيث أبطلنا كلا منهما في محله ، فيلزم بطلان الخطاب الترتبي.

وهذا الاشكال انما يكون من القائل بالتقدير ، وانه يعتبر سبق التكليف على زمان الامتثال في الواجبات المضيقة. فالاشكال انما يرد على ذلك المبنى الفاسد. ووجه الابتناء : هو انه لما كان الكلام في الخطاب الترتبي واقعا في المتزاحمين المضيقين الذين كان أحدهما أهم ، فكان كل من خطاب الأهم والمهم مضيقا ، ولما كان خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم ، وكان زمان عصيانه هو زمان امتثال المهم ، كما هو لازم التضييق ، فلا يمكن ان يكون الخطاب بالمهم مقارنا لزمان عصيان الأهم ، لأنه زمان امتثاله. فلا بد ان يتقدم الخطاب بالمهم آنا ما على عصيان الأهم ، لما تقدم من اعتبار سبق التكليف في المضيقات ، فيلزم كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر ، لأنه باعتبار سبق زمان التكليف على زمان الامتثال يكون من الواجب المعلق ، إذ لا نعني بالواجب المعلق الا ما يكون ظرف الامتثال فيه متأخرا عن ظرف التكليف ، ويكون الامتثال معلقا على مضى ذلك الآن الذي قدر سبق التكليف عليه. وباعتبار ان الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم وقد سبقه يكون من الشرط المتأخر ، فالخطاب الترتبي يتوقف على كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر هذا. ولكن لا يكاد ينقضي تعجبي من هذا الاشكال.

اما أولا :

فلا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي ، بل يجرى في جميع

٣٤٦

المضيقات ، فان الصوم مثلا بناء على سبق التكليف به على الفجر يلزم أيضا كونه من الواجب المعلق والشرط المتأخر. فباعتبار سبق التكليف على زمان الامتثال يلزم الواجب المعلق. وباعتبار اشتراط التكليف بالصوم بالفجر يلزم الشرط المتأخر ، فهذا الاشكال بناء على التقدير يرد في جميع المضيقات ، بل في الموسعات أيضا ، بناء على ما تقدم من أن التقدير في المضيقات يلزمه التقدير في الموسعات أيضا ، ولا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي ، فما يجاب به عن الاشكال في سائر المقامات يجاب به أيضا في الخطاب الترتبي.

واما ثانيا :

فلما عرفت من أن الاشكال مبنى على ذلك المبنى الفاسد ، وهو تقدير سبق التكليف ، وقد أوضحنا فساده. فلا اشكال في المقام ، كما لا اشكال في سائر المضيقات ، فضلا عن الموسعات.

ومنها :

ان خطاب المهم لو كان مشروطا بنفس عصيان الأهم لم يلزم محذور طلب الجمع ، لان امتثال خطاب المهم اعتبر في زمان خلو المكلف عن الأهم ، فلا يعقل اقتضائه لطلب الجمع. واما ان اخذ الشرط هو العنوان الانتزاعي ووصف التعقب ـ أي كون المكلف ممن يعصى ـ فيلزم محذور طلب الجمع ، لان خطاب المهم يكون فعليا قبل عصيان الأهم إذا كان ممن يعصى بعد ذلك ، فلم يعتبر في ظرف امتثاله خلو المكلف عن الأهم ، بل يلزم اجتماع كل من الأهم والمهم في زمان واحد ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعفه ، لما فيه :

أولا :

انه لا موجب لجعل الشرط هو العنوان الانتزاعي ووصف التعقب الا بناء على اعتبار سبق التكليف آنا ما مع عدم القول بالشرط المتأخر ، فيستقيم ح ان يكون الشرط هو الوصف الانتزاعي ، لأن المفروض ان خطاب المهم لا بد ان يكون قبل زمان امتثاله وهو زمان عصيان الأهم ، ولا يمكن ح ان يكون نفس العصيان شرطا ، لاستلزامه الشرط المتأخر ، فلا بد ان يكون الشرط هو العنوان الانتزاعي. الا انه قد

٣٤٧

تقدم فساد المبنى ، وان تقدير سبق التكليف بلا موجب بل مستحيل. وحينئذ لا يتم جعل الشرط هو العنوان المنتزع ، بل يكون الشرط هو نفس العصيان ، وقد اعترف انه بناء على ذلك لا يلزم طلب الجمع.

وثانيا :

لو فرض ان الشرط هو الوصف الانتزاعي فلا يلزم أيضا طلب الجمع ، لان الوصف انما انتزع من العصيان الذي هو زمان خلو المكلف عن الأهم ، فمعنى كونك ممن تعصى : كونك ممن تخلو عن فعل الأهم. ومع ذلك كيف يلزم طلب الجمع؟ ومجرد اجتماع الخطابين في زمان وفعليتهما بتحقق شرطهما لا يقتضى ايجاب الجمع ، بل إن أساس الترتب انما هو على اجتماع الخطابين في زمان ، فغاية ما يلزم من اخذ الشرط الوصف الانتزاعي هو اجتماع كل من خطاب الأهم والمهم في زمان واحد ، وهذا مما لا محيص عنه في الخطاب الترتبي. بل لو اخذ نفس العصيان شرطا فلا بد ان يؤخذ على وجه يجتمع فيه كل من خطاب الأهم والمهم ، وذلك بان يكون الشرط هو التلبس بالعصيان الذي يكون خطاب الأهم في حاله محفوظا ، لا تحقق العصيان بمعنى الانقضاء والمضي الذي يكون خطاب الأهم عنده ساقطا ، لسقوط كل خطاب بعصيانه.

وبالجملة : لا فرق بين ان يكون الشرط هو نفس العصيان أو الوصف الانتزاعي ، في اجتماع كل من الخطابين في زمان واحد ، وفي عدم اقتضائهما لطلب الجمع بعد ما اعتبر في خطاب المهم خلو المكلف عن فعل الأهم ، سواء كان الشرط نفس ذلك ، أو كان هو منشأ انتزاع ما هو الشرط كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

المقدمة الرابعة :

التي هي أهم المقدمات ، بل عليها يبتنى أساس الترتب ، هي ان انحفاظ كل خطاب بالنسبة إلى ما يتصور من التقادير والانقسامات يكون على أحد أنحاء ثلاثة :

الأول :

ما كان انحفاظه بالاطلاق أو التقييد اللحاظي ، وذلك بالنسبة إلى كل

٣٤٨

تقدير وانقسام يمكن لحاظه عند الخطاب ، وذلك انما يكون في التقادير والانقسامات المتصورة في المتعلق مع قطع النظر عن ورود الخطاب ، بحيث أمكن وقوع المتعلق مقترنا بتلك التقادير وان لم يتعلق به خطاب أصلا ، كقيام زيد وقعوده ، وطيران الغراب وعدمه ، حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالاطلاق اللحاظي ، وكالوقت ، حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالتقييد اللحاظي ، لمكان امكان ايقاع الصلاة عند قيام زيد وقعوده ، وفي الوقت وخارجه ، ولو لم يتعلق بها امر ، فيمكن لحاظ هذه التقادير عند الخطاب والامر بالصلاة ، فلو لاحظ تقديرا خاصا كان ذلك تقييدا لحاظيا ، كما لاحظ الوقت عند الامر بالصلاة. وان لم يلاحظ تقديرا خاصا ، بل ساوى في امره لكلتا حالتي وجود التقدير وعدمه يكون ذلك اطلاقا لحاظيا ، كما ساوى في امره بالصلاة في كلتا حالتي قيام زيد وقعوده.

الثاني :

ان يكون انحفاظ الخطاب بنتيجة الاطلاق أو التقييد ، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير وانقسام لاحق للمتعلق بعد تعلق الخطاب به ، بحيث لايكون لذلك التقدير وجود الا بعد ورود الخطاب كتقدير العلم والجهل بالخطاب ، حيث إن تقدير العلم والجهل بالأحكام لايكون الا بعد ورود الخطاب ، لأنه بعد ورود الخطاب ، يتحقق تقدير العلم والجهل بذلك الخطاب ، فلا وجود لهذا التقدير قبل الخطاب. فلا يمكن فيه الاطلاق أو التقييد اللحاظي ، بل لابد اما من نتيجة الاطلاق ، كما في تقديري العلم والجهل ، حيث يكون الخطاب محفوظا في كلا التقديرين بنتيجة الاطلاق ، واما من نتيجة التقييد كما في العلم والجهل أيضا بالنسبة إلى خصوص مسئلتي القصر والاتمام والجهر والاخفات ، لان الاهمال الثبوتي في مثل هذه التقادير لا يعقل ، لان الملاك والمصلحة الباعثة للامر بالصلاة اما : ان يكون محفوظا في كلا الحالين ، أي حالة وجود التقدير وعدمه ، فلابد من نتيجة الاطلاق كما في العلم والجهل بعد قيام الأدلة والضرورة على اشتراك العالم والجاهل في الاحكام الا في موارد القصر والاتمام والجهر والاخفات ، واما : ان يكون الملاك محفوظا في تقدير خاص دون عدمه فلا بد من نتيجة التقييد.

٣٤٩

الثالث :

ما كان انحفاظ الخطاب لا بالاطلاق والتقييد اللحاظي ، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد. وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يقتضيه نفس الخطاب ، وهو الفعل أو الترك الذي يطالب به أو بنقيضه ، حيث يكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه وباقتضاء هوية ذاته ، لا باطلاقه لحاظا أو نتيجة ، إذ لا يعقل الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري فعل متعلق الخطاب وتركه ، بل يؤخذ المتعلق معرى عن حيثية فعله وتركه ويلاحظ نفس ذاته ، فيحمل عليه بالفعل ان كان الخطاب وجوبيا ، وبالترك ان كان الخطاب تحريميا. فيكون البعث نحو فعل المتعلق أو تركه نظير حمل الوجود أو العدم على شيء ، حيث إنه يؤخذ ذلك الشيء معرى عن الوجود والعدم ، فيحمل عليه الوجود تارة ، والعدم أخرى ، ويقال مثلا زيد موجود أو معدوم. ولا يعقل تقييد زيد بالوجود في حمل الوجود عليه ، ولا تقييده بالعدم ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى الوجود والعدم ، للزوم حمل الشيء على نفسه في الأول ، واجتماع النقيضيين في الثاني ، وكلا المحذورين في الثالث.

وكذا يقال في المقام : انه لا يمكن تقييد المتعلق بالفعل في مقام البعث إليه ، ولا تقييده بالترك ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى تقديري الفعل والترك ، لاستلزامه طلب الحاصل في الأول ، وطلب الجمع بين النقيضين في الثاني ، وكلا المحذورين في الثالث ، فلا بد من لحاظ ذات المتعلق مهملا معرى عن كلا تقديري الفعل والترك ، فيخاطب به بعثا أو زجرا. وليس فيه تقييد ولا اطلاق لا لحاظا ولا نتيجة ، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظا في كلتا حالتي الفعل والترك ما لم تتحقق الإطاعة أو العصيان ، فإنه عند ذلك يسقط الخطاب. وانحفاظ الخطاب في كلا التقديرين انما يكون باقتضاء ذاته ، لأنه بنفسه يقتضى فعل المتعلق وطرد تركه ، فيكون وجود الخطاب في الحالين لمكان نفسه ولأنه خطاب بالفعل أو الترك. وبذلك يظهر لك : ان الفرق بين هذا التقدير الذي يكون الخطاب محفوظا عنده ، وبين سائر التقادير التي يكون الخطاب محفوظا عندها أيضا من وجهين :

الأول : ان نسبة تلك التقادير إلى الخطاب نسبة العلة إلى معلولها ، بمعنى ان

٣٥٠

تلك التقادير تكون علة أو ملحقة بالعلة بالنسبة إلى الخطاب ، ويكون الخطاب بمنزلة المعلول لها. فان اخذ تلك التقادير قيدا وشرطا للخطاب ، فلمكان رجوع الشرط إلى الموضوع وكون الموضوع علة لترتب الخطاب عليه يكون ذلك التقدير علة للخطاب. وان أطلق الخطاب بالنسبة إلى تقدير فذلك التقدير وان لم يكن علة للخطاب ـ لعدم اخذ ذلك التقدير شرطا ـ الا انه يجرى مجرى العلة من حيث إن الاطلاق والتقييد من الأمور الإضافية ، فهما في مرتبة واحدة ، فإذا كان التقييد علة للخطاب ، فالاطلاق الواقع في رتبته يجرى مجرى العلة من حيث الرتبة ، فتأمل.

وهذا بخلاف تقديري فعل المتعلق وتركه ، فان الامر يكون فيه بالعكس ، حيث إن التقدير معلول الخطاب والخطاب يكون علة له ، لان الخطاب يقتضى فعل متعلقه وطرد تركه ، فيكون تقديرا الفعل والترك معلولي الخطاب بالنسبة إلى الفعل من حيث الوجود ، وبالنسبة إلى الترك لمكان اقتضائه عدم الترك.

الثاني : ان الخطاب بالنسبة إلى سائر التقادير يكون متعرضا ومتكفلا لبيان امر آخر غير تلك التقادير. غايته انه تعرض لذلك الامر عند وجود تلك التقادير ، فان خطاب الحج يكون متعرضا لفعل الحج من الاحرام والطواف وغير ذلك عند وجود الاستطاعة ، وليس لخطاب الحج تعرض لتقدير الاستطاعة. وهذا بخلاف تقديري الفعل والترك فان الخطاب بنفسه متكفل لبيان هذا التقدير ومتعرض لحاله ، حيث إنه يقتضى فعل المتعلق وعدم تركه ، وليس للخطاب تعرض لشيء آخر سوى هذا التقدير ، بخلاف سائر التقادير فان الخطاب فيها متعرض لشيء آخر غير تلك التقادير.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : انه يترتب على ما ذكرناه ( من الفرق بين تقديري الفعل أو الترك المطالب به بالخطاب أو بنقيضه وبين سائر التقادير ) طولية الخطابين ، وخروجها من العرضية. وذلك لان خطاب الأهم حينئذ يكون متعرضا لموضوع خطاب المهم وطاردا ومقتضيا لهدمه ورفعه في عالم التشريع ، لان موضوع خطاب المهم هو عصيان خطاب الأهم وترك امتثاله ، وخطاب الأهم دائما يقتضى طرد الترك ورفع

٣٥١

عصيانه ، لان البعث على الفعل يكون زجرا عن الترك ، فخطاب الأهم يقتضى طرد موضوع المهم ورفعه. واما خطاب المهم فهو انما يكون متعرضا لحال متعلقه ولا تعرض له لحال موضوعه ، لان الحكم لا يتكفل حال موضوعه من وضع أو رفع ، بل هو حكم على تقدير وجوده ومشروط به ، ولا يخرج عن هذا الاشتراط إلى الاطلاق ولو بعد تحقق موضوعه ، لما عرفت : من أن الواجب المشروط لا يصير مط بعد تحقق شرطه. فلسان خطاب المهم هو : انه ان وجد موضوعي وتحقق خارجا فيجب فعل متعلقي. ولسان خطاب الأهم هو : انه ينبغي ان لا يوجد موضوع خطاب المهم وان لا يتحقق. وهذان اللسانان كما ترى ليس بينهما مطاردة ومخالفة ، وليسا في رتبة واحدة ، بل خطاب الأهم يكون مقدما في الرتبة على خطاب المهم ، لان خطاب الأهم واقع في الرتبة السابقة على موضوع خطاب المهم السابق عليه ، فهو متقدم عليه برتبتين أو ثلاث ، ولا يمكن ان ينزل خطاب الأهم عن درجته ويساوي خطاب المهم في الرتبة ، وكذا لا يمكن ان يصعد خطاب المهم من درجته ويساوي خطاب الأهم ، بل كل منهما يقتضى مرتبة لا يقتضيها الآخر. ومع هذا الاختلاف في الرتبة كيف يعقل ان يكونا في عرض واحد؟.

فاتضح من المقدمة الثانية والمقدمة الرابعة ، طولية الخطابين المترتبين وخروجهما عن العرضية.

بقى في المقام : بيان ان هذين الخطابين المترتبين لا يقتضيان ايجاب الجمع ، فلا يبق محذور في الخطاب الترتبي. والمقدمة الخامسة التي سنذكرها هي المتكفلة لبيان عدم اقتضائهما ايجاب الجمع. ففي الحقيقة المقدمات التي يتوقف عليها صحة الخطاب الترتبي هي ثلث : المقدمة الثانية ، والمقدمة الرابعة ، والمقدمة الخامسة. واما المقدمة الأولى ، فهي لبيان تحرير محل النزاع. والمقدمة الثالثة ، لبيان دفع بعض ما تخيل : من توقف الخطاب الترتبي عليه ، من كونه موقوفا على الواجب المعلق والشرط المتأخر ، على ما تقدم تفصيله.

المقدمة الخامسة :

تنقسم موضوعات التكاليف وشرائطها ، إلى ما لا يمكن ان تنالها يد الوضع

٣٥٢

والرفع التشريعي ، والى ما يمكن ان تناله ذلك.

فالأول : كالعقل ، والبلوغ ، والوقت ، وغير ذلك من الأمور التكوينية الخارجية التي لا يمكن وضعها ورفعها في عالم التشريع.

والثاني : كالاستطاعة في الحج ، وفاضل المؤنة في الخمس والزكاة ، فإنها وان كانت من الأمور التكوينية أيضا ، الا انها قابلة للوضع والرفع التشريعي ، فإنه يمكن رفع الاستطاعة بخطاب شرعي كوجوب أداء الدين ، حيث إنه بذلك يخرج عن كونه مستطيعا. وكذا الحال بالنسبة إلى فاضل المؤنة.

ثم إن الموضوع والشرط ، اما ان يكون لحدوثه دخل في ترتب الحكم وبقائه ، من دون ان يكون لبقائه دخل في بقاء الحكم ، كالسفر والحضر ، بناء على أن العبرة بحال الوجوب لا الأداء ، فان ثبوت السفر أو الحضر في أول الوقت يكون له دخل في وجوب القصر أو التمام وان زال السفر أو الحضر عنه ، فان الحكم يبقى وان زالا. وهذا القسم من الموضوع انما يكون قابلا للدفع فقط لا للرفع ، إذ ليس له بقاء حتى يكون قابلا للرفع.

واما ان يكون لبقائه أيضا دخل في بقاء الحكم ، بحيث يدور بقاء الحكم مدار بقاء الموضوع ، كما في المثال لو قلنا بان العبرة بحال الأداء ، فح يكون بقاء وجوب القصر لمن كان مسافرا في أول الوقت مشروطا ببقاء السفر إلى زمان الأداء ، ويسقط وجوب القصر بسقوط السفر.

واما ان يكون لبقائه في مقدار من الزمان دخل في بقاء الحكم ، كاشتراط وجوب الصوم بالحضر إلى الزوال فيكون بقاء الحضر إلى الزوال شرطا لبقاء وجوب الصوم إلى الغروب. وهذان القسمان قابلان لكل من الدفع والرفع ، كما لا يخفى.

وعلى كل حال : الموضوع القابل للوضع والرفع التشريعي ، اما ان يكون قابلا للوضع والرفع الاختياري أيضا بحيث يكون اختيار الموضوع بيد المكلف له ان يرفعه ليرتفع عنه التكليف ، واما ان لايكون قابلا للوضع والرفع الاختياريين ، بل كان أمرا وضعه ورفعه بيد الشارع فقط ، واما ان يكون امر رفعه بيد المكلف واختياره فقط وليس بيد الشارع.

٣٥٣

فالأول : كالسفر فإنه للمكلف رفعه باختيار الحضر ، فيرتفع عنه وجوب القصر. وللشارع أيضا رفعه بايجاب الإقامة عليه فلا يجب عليه القصر أيضا.

والثاني : كالاستطاعة فإنه ليس للمكلف رفعها وتفويتها بعد حدوثها ، فلو فوتها لم يسقط عنه وجوب الحج ، بل يستقر في ذمته ، ولكن للشارع رفعها بخطاب مثل وجوب أداء الدين مثلا فيسقط عنه وجوب الحج.

والثالث : لم نعثر له على مثال.

ثم إن الخطاب الرافع لموضوع خطاب آخر ، اما ان يكون بنفس وجوده رافعا ، كالتكاليف المالية التي توجب ان تكون متعلقها من المؤن كخطاب أداء الدين إذا كان من عام الربح لا من العام الماضي ( وأما إذا كان من العام الماضي فأدائه وامتثال التكليف يكون رافعا لموضوع الخمس لا نفس اشتغال الذمة به ) فيرتفع موضوع وجوب الخمس الذي هو عبارة عن فاضل المؤنة ، فان نفس تلك التكاليف توجب جعل متعلقاتها من المؤن ، فيخرج الربح عن كونه فاضل المؤنة ، ولا يتوقف صيرورتها من المؤن على امتثالها ، بل نفس وجود الخطاب رافع لموضوع خطاب الخمس.

واما ان يكون بامتثاله رافعا كخطاب الأهم فيما نحن فيه ، حيث يكون بامتثاله رافعا لموضوع خطاب المهم لا بوجوده ، على ما سيأتي بيانه.

فهذه جملة الأقسام التي يهمنا تنقيحها في المقام ، ليعلم الموارد التي يلزم ايجاب الجمع من اجتماع الخطابين ، والموارد التي لا يلزم ذلك. والا فالأقسام المتصورة في موضوعات التكاليف أكثر من ذلك.

وحاصل التقسيم : هو ان الموضوع لحكم ، اما ان يكون قابلا للوضع والرفع التشريعي ، واما ان لايكون قابلا لذلك. والأول : اما ان يكون قابلا لكل من الدفع والرفع ، واما ان يكون قابلا للدفع فقط. وعلى كلا التقديرين : اما ان يكون قابلا للرفع الاختياري أيضا ، واما ان لا يكون. والرفع التشريعي اما ان يكون بنفس التكليف ، واما ان يكون بامتثاله. وقد تقدم أمثلة ذلك كله فينبغي ح التكلم في احكام هذه الأقسام.

٣٥٤

فنقول :

فما كان الموضوع لخطاب مما لا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، كالوقت بالنسبة إلى الصلاة ، فالخطاب المجامع لهذا الخطاب يقتضى ايجاب الجمع على المكلف ، إذا كان كل من الخطابين مط بالنسبة إلى حالتي فعل الآخر وتركه.

وان لم يكونا مطلقين ، بل كان كل منهما مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا بفعل الآخر ، فلا يعقل اقتضائهما لايجاب الجمع. مثلا لو جامع خطاب آخر لخطاب الصلاة في وقتها ، فاما ان يكون كل من خطاب الصلاة وذلك الخطاب الاخر المجامع له مط بالنسبة إلى حالتي فعل متعلق الاخر وتركه ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا دون الآخر.

فان كان كل منهما مط ، فلا محالة يقتضيان ايجاب الجمع ، فان أمكن للمكلف جمع المتعلقين وجبا معا ، كالصوم المجامع للصلاة خطابا وامتثالا ويمكن للمكلف الجمع بينهما أيضا. والمفروض ان كلا من الخطابين أيضا مطلق فيجب الجمع بينهما. وان لم يكن للمكلف الجمع بينهما ، اما لتضاد المتعلقين ، واما لقصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما ، فلا محالة يكون الحكم فيه هو التخيير ، على ما تقدم تفصيله.

وان كان كل منهما مشروطا بعدم فعل الاخر ، أو كان أحدهما مشروطا بذلك ، فلا يعقل ان يقتضيا ايجاب الجمع ، لأن المفروض ان التكليف بكل منهما مقيد بعدم الآخر ، فيكون حكمه حكم الاحكام التخييرية الأولية ، كخصال الكفارات ، بل يكون هو هو بناء على أن الاحكام التخييرية عبارة عن اشتراط التكليف بكل فرد بعدم فعل الاخر ، كما هو أحد الوجوه في تصوير الواجب التخييري ، على ما تقدم بيانه. وكذا الحال ان كان أحدهما بالخصوص مشروطا بعدم فعل الآخر ، فإنه أيضا لا يلزم منه ايجاب الجمع كما هو واضح. وكيف يعقل اقتضائهما لايجاب الجمع ، مع أن الجمع لايكون مطلوبا ، بحيث لو أمكن للمكلف الجمع بينهما لم يقعا على صفة المطلوبية ، بل لو قصد بكل منهما امتثال الامر كان من التشريع المحرم ، بل لا يقع الامتثال بكل منهما لو كان كل منهما مشروطا بعدم فعل

٣٥٥

الآخر ، لعدم تحقق شرط التكليف في كل منهما ، فلا يكون كل منها متعلق التكليف وذلك كله واضح. هذا إذا كان موضوع الخطاب غير قابل للتصرف التشريعي.

وأما إذا كان قابلا لذلك ، فالخطاب المجامع له ان لم يكن متعرضا لموضوع الآخر : من دفع أو رفع ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم السابق طابق النعل بالنعل. فان كان كل من الخطابين مط يلزم ايجاب الجمع ، فان أمكن وجب ، وان لم يمكن فالتخيير. وان لم يكن كل منهما مط فلا يلزم ايجاب الجمع ، لاتحاد المناط في هذا القسم والقسم السابق في ذلك. ومجرد كون الموضوع في هذا القسم قابلا للدفع والرفع التشريعي لايكون فارقا بين القسمين ، ما لم يكن أحد الخطابين متعرضا لدفع موضوع الآخر أو رفعه.

وهذا من غير فرق ، بين ان يكون الموضوع قابلا للرفع الاختياري أيضا ، أو لم يكن. فإنه يلزم ايجاب الجمع على المكلف أيضا إذا كان كل من الخطابين مطلقا. ومجرد انه يمكنه رفع الموضوع اختيارا لا يرتفع عنه محذور ايجاب الجمع ، إذا استلزم ايجاب الجمع محذورا ، كما إذا كان بين المتعلقين تضاد ، فان القدرة المعتبرة في التكاليف انما هو القدرة على متعلقاتها ، لا على موضوعاتها ، ولا اثر للقدرة على موضوعاتها ، فهل ترى انه يصح تكليف المسافر بالمحال من جهة انه قادر على رفع السفر؟.

والحاصل : ان قبح التكليف بما لا يطاق انما هو بالنظر إلى المتعلق فالعبرة به ، لا بالموضوع. فاجتماع التكليفين الموجبين لايجاب الجمع على المكلف مع عدم قدرة المكلف على الجمع قبيح ولو فرض ان امر الموضوع بيد المكلف وان له رفعه ، ليرتفع عنه أحد التكليفين.

وبذلك ظهر : ان تصحيح الامر الترتبي ـ بان العصيان الذي هو موضوع خطاب المهم امر اختياري للمكلف ، له رفعه بعدم عصيان الأهم وإطاعته فلا مانع من اجتماع كل من خطاب الأهم والمهم ـ فاسد جدا. لما عرفت : من أن القدرة على رفع الموضوع لا اثر لها في قبح التكليف بما لا يطاق ، فالخطاب الترتبي لا يمكن تصحيحه بذلك. هذا إذا كان الخطاب المجامع لخطاب آخر غير متعرض لموضوع

٣٥٦

الآخر من دفع ورفع.

وأما إذا كان متعرضا له ، فاما ان يكون نفس الخطاب رافعا أو دافعا لموضوع الآخر ، واما ان يكون امتثاله. فان كان الأول ، فهذا مما يوجب عدم اجتماع الخطابين في الفعلية ، ولا يعقل ان يكون كل من الخطابين فعليا ، لان وجود أحد الخطابين رافع لموضوع الآخر ، فلا يبقى مجال لفعلية الآخر حتى يقع المزاحمة بينهما. بل أحد الخطابين يكون مقدما على الآخر بمرتبتين ، فإنه يكون مقدما على موضوع الآخر ، كما هو مقتضى رفعه له ، والموضوع أيضا يكون مقدما على ما يستتبعه من الخطاب ، فالخطاب الرافع لموضوع الاخر يكون مقدما على الآخر بمرتبتين. ومع هذا كيف يعقل ان يقع التزاحم بين الخطابين؟ فخطاب أداء الخمس لا يعقل ان يزاحم خطاب أداء الدين ، بعد ما كان خطاب أداء الدين رافعا لموضوع خطاب الخمس وذلك واضح.

وان كان الثاني ، أي كان أحد الخطابين بامتثاله رافعا لموضوع الآخر ، فهذا هو محل البحث في الخطاب الترتبي ، حيث يتحقق اجتماع كل من الخطابين في الفعلية ، لأنه ما لم يتحقق امتثال أحد الخطابين الذي فرضنا انه رافع لموضوع الآخر بامتثاله لا يرتفع الخطاب الآخر ، لعدم ارتفاع موضوعه بعد ، فيجتمع الخطابان في الزمان وفي الفعلية بتحقق موضوعهما ، فيقع البحث حينئذ عن أن اجتماع مثل هذين الخطابين أيضا يوجب ايجاب الجمع حتى يكون من التكليف بالمحال ، أو لا يوجب ذلك؟.

والحق انه لا يوجب ذلك لجهتين. وينبغي أولا التنبيه على بعض الفروع الفقهية التي لا محيث للفقيه عن الالتزام بها ، مع أنها تكون من الخطاب الترتبي.

منها :

ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أول الفجر إلى الزوال ، فلو فرض انه عصى هذا الخطاب وأقام ، فلا اشكال في أنه يجب عليه الصوم ويكون مخاطبا به ، فيكون في الآن الأول الحقيقي من الفجر قد توجه إليه كل من حرمة الإقامة ووجوب الصوم ، ولكن مترتبا ، يعنى ان وجوب الصوم يكون مترتبا على عصيان حرمة

٣٥٧

الإقامة ، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة أيضا لأن المفروض حرمة الإقامة عليه إلى الزوال ، فيكون الخطاب الترتبي محفوظا من الفجر إلى الزوال. فيكون عين الخطاب الترتبي فيما نحن فيه من مسألة الضدين ، ان قلنا بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فإنه يكون خطاب الصوم حينئذ مترتبا على عصيان خطاب الإقامة بلا توسيط شيء ، كترتب خطاب المهم على عصيان خطاب الأهم حذو النعل بالنعل.

نعم : لو قلنا بان الإقامة قاطعة لموضوع السفر ، كالمرور على الوطن ، كان خطاب الصوم مترتبا على موضوع الحاضر وغير المسافر ، لا على عصيان حرمة الإقامة. ولكن يكون عصيان حرمة الإقامة علة لتحقق ما هو موضوع وجوب الصوم ، حيث إن بعصيان حرمة الإقامة يتحقق عدم السفر وعنوان الحاضر ، وبتحقق ذلك العنوان يتحقق خطاب الصوم ، فيتوسط بين عصيان خطاب الإقامة وخطاب الصوم هذا العنوان. بخلاف ما إذا قلنا بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فإنه لا يتوسط بين الخطابين شيء أصلا.

ولكن على كل حال وتقدير : ان توسط العنوان لا يدفع المحذور لو كان هناك محذور ، فإنه يجتمع كل من خطاب حرمة الإقامة ووجوب الصوم في الآن الأول من الفجر. غايته انه بناء على قاطعية الإقامة لحكم السفر يكون خطاب الصوم مترتبا على نفس عصيان خطاب الإقامة. ولو كانت قاطعة لموضوع السفر يكون خطاب الصوم مترتبا على ما يكون عصيان خطاب الإقامة علة له.

ومنها :

ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أول الزوال ، فيكون وجوب القصر عليه مترتبا على عصيان وجوب الإقامة ، حيث إنه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجه عليه خطاب القصر. وكذا لو فرض حرمة الإقامة ، فان وجوب التمام يكون مترتبا على عصيان حرمة الإقامة.

ومنها :

وجوب الخمس المترتب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين

٣٥٨

من عام الربح. وأما إذا كان من عام الربح فيكون خطاب أداء الدين بنفس وجوده رافعا لخطاب الخمس لا بامتثاله ، على ما تقدم.

ومنها :

غير ذلك من الفروع التي لا مفر للفقيه عن الالتزام بها ، مع أنها كلها تتوقف على الخطاب الترتبي. ولا فرق بين الفروع المتقدمة وبين ما نحن فيه ، سوى ان الفروع المتقدمة تكون في ممكني الجمع ، حيث لا تضاد بين المتعلقين ، فيمكنه الجمع بين ترك الإقامة والصوم معا ، حيث لا تضاد بينهما من حيث أنفسهما وان كان بعد النهى الشرعي عن الصوم في السفر لا يمكنه الصوم الصحيح في السفر ، الا ان هذا غير التضاد بحسب ذاتهما ، كما فيما نحن فيه ، حيث إن الكلام في الخطاب الترتبي ، لا فيما إذا كان بين المتعلقين تضاد. ولكن امكان الجمع وعدم امكانه لا يوجب فرقا فيما هو ملاك الاستحالة كما لا يخفى. فان استحال الخطاب الترتبي ففي الجميع لا بد ان يستحيل ، والا ففي الجميع أيضا ينبغي الالتزام به. والغرض من هذا التطويل التنبيه على أن الخطاب الترتبي ليس بعزيز الوجود في الفقه.

فلنرجع إلى ما كنا فيه : من أن الخطاب الترتبي لا يقتضى ايجاب الجمع ، وما لم يكن مقتضيا لايجاب الجمع لا وجه لاستحالته. اما عدم اقتضائه لايجاب الجمع فمن وجهين. ولا بد أولا من معرفة معنى الجمع وما يوجب ايجابه.

فنقول : اما الجمع فهو عبارة عن اجتماع كل منهما في زمان امتثال الآخر ، بحيث يكون امتثال أحد الخطابين مجامعا في الزمان لامتثال الاخر ، كمجامعة الصلاة للصوم وبالعكس.

واما الذي يوجب ايجاب الجمع فهو أحد أمرين :

اما تقييد كل من المتعلقين بحال فعل الاخر ، أو تقييد أحدهما بحال الآخر ، كتقييد القراءة بحال القيام.

واما اطلاق كل من الخطابين لحال فعل الاخر ، كاطلاق الامر بالصلاة في حال فعل الصوم وبالعكس ، فان الاطلاق ينتج نتيجة التقييد في اقتضائه ايجاب الجمع.

٣٥٩

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك ان الخطاب الترتبي لا يقتضى ايجاب الجمع ، بل يقتضى نقيض ايجاب الجمع ، بحيث لايكون الجمع مطلوبا لو فرض امكانه ، لمكان ان الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، ومع هذا كيف يقتضيان ايجاب الجمع؟ فلو اقتضيا ايجاب الجمع والحال هذه يلزم من المحالات ما يوجب العجب في كل من طرف الواجب الذي هو المهم ووجوبه ، أي يلزم المحال في كل من طرف الطلب والمطلوب.

اما استلزام المحال في طرف المطلوب : فلان مطلوبية المهم ووقوعه على هذه الصفة انما تكون في ظرف عصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، بداهة ان ما يكون قيدا للطلب يكون قيدا للمطلوب ، لا بمعنى انه يكون من قيود المادة التي يجب تحصيلها ، حتى يقال : ان ذلك ينافي كونه قيدا للطلب ، بل بمعنى انه يقتضى وقوع المطلوب عقيب وجود القيد ، كوقوع الحج على صفة المطلوبية عقيب الاستطاعة ، فوقوع المهم على صفة المطلوبية يكون بعد عصيان الأهم ، بحيث يعتبر فيه ذلك. فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في حال وجود الأهم وامتثاله أيضا ، كما هو لازم ايجاب الجمع ، يلزم الجمع بين النقيضين ، إذ يلزم ان يعتبر في مطلوبية المهم وقوعه بعد العصيان ، ويعتبر أيضا في مطلوبيته وقوعه في حال عدم العصيان ، بحيث يكون كل من حالتي وجود العصيان وعدمه قيدا في المهم ، وهذا كما ترى يستلزم الجمع بين النقيضين.

واما استلزام المحال في طرف الوجوب : فلان خطاب الأهم يكون من علل عدم خطاب المهم ، لاقتضائه رفع موضوعه ، فلو اجتمع خطاب الأهم والمهم وصار خطاب المهم في عرض خطاب الأهم كما هو لازم ايجاب الجمع ، لكان من اجتماع الشيء مع علة عدمه. وح اما ان تقول : بأنه قد خرجت العلة عن كونها علة للعدم ، واما ان تقول : قد خرج العدم عن كونه عدما ، واما ان تقول : ببقاء العلة على عليتها والعدم على عدمه ومع ذلك اجتمعا ، وكل هذا كما ترى يلزم منه الخلف والمناقضات العجيبة.

فدعوى ان الخطاب الترتبي يقتضى ايجاب الجمع مساوقة لدعوى وقوع الخلف واجتماع النقيضين من جهات عديدة.

٣٦٠