فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

الثاني : عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين مع اختلاف زمانهما ، كما إذا لم يتمكن من القيام في الركعة الأولى والثانية معا ، بل كان قادرا على القيام في أحدهما فقط. والفرق بين هذا وسابقه : هو ان عدم القدرة في هذا الوجه ناش عن عجز المكلف في حد ذاته عن فعل المتعلقين ، وفي سابقه كان ناشئا عن وحدة زمان المتعلقين ، من دون ان يكون المكلف في حد ذاته عاجزا لولا اتحاد الزمان.

الثالث : تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي ، مع تلازمهما في بعض الأمكنة.

الرابع : اتحاد المتعلقين وجودا ، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز ، وسيأتي في مبحث اجتماع الأمر والنهي انشاء الله تعالى توضيح هذا الوجه والفرق بينه وبين الاتحاد المصداقي ، كالعالم الفاسق ، وان الثاني ليس من باب التزاحم.

الخامس : صيرورة أحد المتعلقين مقدمة وجودية لمتعلق الاخر ، كما إذا توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه. وليعلم ان هذه الأمور انما تكون من باب التزاحم إذا كان وقوعها اتفاقيا لا دائميا ، بحيث اتفق تضاد المتعلقين واجتماعهما في الزمان ، أو اتفق عدم قدرة المكلف على جمعهما ، أو اتفق تلازم المتعلقين ، أو اتحادهما ، أو مقدمية أحدهما للاخر.

وأما إذا كان التضاد أو التلازم أو الاتحاد أو غير ذلك من الأمور المذكورة دائميا ، فيخرج عن باب التزاحم ويندرج في باب التعارض ، على ما تقدم من الضابط بين البابين ، فان دائمية ذلك توجب امتناع جعل الحكمين وتشريعهما ثبوتا ، كما لا يخفى. وليعلم أيضا ان التزاحم انما يتحقق بعد البناء على كون الاحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقية. واما لو قلنا بجعلها على نهج القضايا الخارجية فالتزاحم غير معقول ، بل جميع ذلك يكون من التعارض ، لأنه يرجع إلى امتناع الجعل أيضا كما لا يخفى وجهه.

المقام الثالث

في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور :

٣٢١

( الامر الأول )

ترجيح ما لا بدل له ، على ما له البدل عرضا ، كما لو زاحم واجب موسع له افراد تخييرية عقلية لمضيق لا بدل له ، أو زاحم أحد افراد الواجب التخييري الشرعي لواجب تعييني ، فإنه لا اشكال في تقديم ما لا بدل له على ما له البدل ، بل هذا في الحقيقة خارج عن باب التزاحم ، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر البدوي ، لان ما لا اقتضاء له لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء ، فان الواجب المضيق يقتضى صرف القدرة له في زمانه ، والواجب الموسع لا يقتضى صرف القدرة في ذلك الزمان ، لأن المفروض انه موسع ، فلا معنى لمزاحمته للمضيق ، وذلك واضح.

( الامر الثاني )

من المرجحات ، ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، والمراد من القدرة الشرعية هي ما إذا اخذت في لسان الدليل ، كما في الحج وأمثاله مما قيد المتعلق بالقدرة في نفس الخطاب. والسر في ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، هو ان الغير المشروط بها يصلح لان يكون تعجيزا مولويا عن المشروط بها ، حيث إن وجوبه لم يكن مشروطا بشرط سوى القدرة العقلية ، والمفروض انها حاصلة فلا مانع من وجوبه ، ومع وجوبه يخرج ما كان مشروطا بالقدرة الشرعية عن تحت سلطانه وقدرته شرعا ، للزوم صرف قدرته في ذلك ، فإذا لم يكن قادرا شرعا لم يجب ، لانتفاء شرط وجوبه ، وهو القدرة.

والحاصل : ان ما يكون مشروطا بالقدرة العقلية يصلح ان يكون معجزا مولويا عما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان وجوبه لا يتوقف على أزيد من القدرة العقلية الحاصلة بالفرض ، ومع التعجيز المولوي لم يتحقق شرط وجوب الواجب الاخر ، وهذا من غير فرق بين فعلية وجوب ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية لمكان تحقق شرائط وجوبه ، وبين ما إذا كان مشروطا بشرط لم يتحقق بعد ، غايته ان المزاحم لما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية نفس وجوب الواجب الغير المشروط بها على الأول ، أي إذا كان وجوب الغير فعليا قد تحقق زمان امتثاله. وعلى الثاني يكون المزاحم هو الخطاب الطريقي العقلي وهو خطاب احفظ قدرتك.

وبعبارة أخرى : المزاحم هو عدم جواز تفويت القدرة ، فان وجوب حفظ

٣٢٢

القدرة وعدم جواز تفويتها لا يتوقف على فعلية وجوب ما يجب حفظ القدرة له ، على ما تقدم تفصيله في المقدمات المفوتة. وكذا لافرق بين ان يكون الغير المشروط بالقدرة الشرعية أهم مما يكون مشروطا بها ، أو مساويا له ، أو أضعف منه ، لأنه على جميع التقادير يكون معجزا مولويا ، اما بنفسه ، واما بخطاب لزوم حفظ القدرة له ، فأي واجب فرض يكون مقدما على الحج مثلا عند المزاحمة ، سواء كان أهم من الحج أو أضعف ، وسواء كان وجوبه فعليا ، أو مشروطا بشرط يتحقق بعد ذلك. كل ذلك لمكان عدم اشتراط ذلك الواجب بالقدرة الشرعية.

ثم إن في المقام اشكالا ربما يختلج في البال ، وحاصله : انه لا طريق لنا إلى معرفة تقييد المتعلق بالقدرة شرعا وعدم تقييده ، لأنه في غير المقام لو شك في التقييد وعدمه فالاطلاق يدفعه ، واما في المقام فلا سبيل إلى دفع احتمال التقييد باطلاق الخطاب.

اما أولا : فلما عرفت من أن كل خطاب بنفسه يقتضى القدرة على متعلقه ، لان حقيقة الخطاب ليس الا ترجيح أحد طرفي المقدور ، فاعتبار القدرة على المتعلق وتقييده بها انما يكون من مقتضيات نفس الخطاب ، بناء على ما هو الحق عندنا من أن المدرك في اعتبار القدرة انما هو اقتضاء الخطاب ذلك ، لا مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز. وعليه بنينا فساد مقالة المحقق الكركي من صحة اتيان الفرد الواجب الموسع المزاحم للمضيق امتثالا للامر بالطبيعة المنطبقة عليه قهرا فيجزى عقلا. ومع اقتضاء كل امر القدرة على متعلقه كيف يصح التمسك باطلاق الامر على عدم تقييد المتعلق بالقدرة ، حتى يقال : ان القدرة المعتبرة فيه عقلية لا شرعية ، فيقدم على ما قيد بالقدرة الشرعية عند المزاحمة ، بل نتيجة اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقة هو ان القدرة في جميع التكاليف تكون شرعية ، وليس لنا ما يكون القدرة المعتبرة فيه عقلية محضة ليترتب عليها ما يترتب.

واما ثانيا : فلانه هب ان اقتضاء الخطاب ذلك لا يوجب تقييد المتعلق شرعا بالقدرة ، الا انه لا أقل من أن يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية المانع من التمسك بالاطلاق ، لأنه لا اشكال في صلاحية اقتضاء الخطاب

٣٢٣

لان يكون مقيدا شرعا ، وكفاية اكتفاء الشارع بذلك عن التصريح بتقييد المتعلق بالقدرة ، ومع هذه الصلاحية كيف يجوز التمسك باطلاق المتعلق على عدم اخذ القدرة قيدا له؟.

واما ثالثا : فلان التمسك بالاطلاق في رفع ما شك في قيديته في سائر المقامات انما هو لأجل مقدمات الحكمة ، التي منها لزوم نقض الغرض ، وايقاع المكلف في خلاف الواقع ، لو كان المشكوك في الواقع قيدا ، فمن عدم بيانه نستفيد انه لم يكن في الواقع قيدا. وهذا البيان في المقام لا يتمشى لان المتعلق لو كان في الواقع مقيدا بالقدرة وكانت القدرة لها دخل في ملاكه لم يلزم من اهمال ذكر القدرة نقض الغرض ولا ايقاع المكلف في خلاف الواقع لأنه لا يمكنه فعل غير المقدور حتى يقع في خلاف الواقع. فلا مجال ح للتمسك بالاطلاق لعدم قيدية القدرة.

وهذا الاشكال يرد على كلا المسلكين في كيفية اعتبار القدرة ، من كونها من مقتضيات الخطاب كما هو الحق عندنا ، أو كونها من باب حكم العقل بقبح مطالبة العاجز ، لان مقدمات الحكمة لا تجرى على كل تقدير.

ولا يخفى عليك : ان هذا الاشكال يوجب هدم أساس ما قلناه من صحة الضد إذا كان عبادة بالملاك كما عليه بعض الاعلام ، أو بالامر الترتبي كما هو الحق عندنا ، لأنه لا طريق لنا إلى استكشاف الملاك واشتمال الصلاة مثلا على المصلحة الا من ناحية اطلاق الامر وعدم تقييد المتعلق بالقدرة ، فلو لم يكن للامر اطلاق كما حرر في وجه الاشكال ، فمن أين يمكن استفادة الملاك في صورة سقوط الامر للمزاحمة؟ حتى نقول ان سقوط الامر لا يوجب سقوط الملاك فتصح العبادة به أو بالامر الترتبي.

وبالجملة : بعد تقييد المتعلق بالقدرة ، أو احتمال تقييده ـ على اختلاف وجوه تقرير الاشكال ، حيث إن على بعض وجوهه يوجب التقييد ، كما هو مقتضى الوجه الأول ، وعلى بعض وجوهه يحتمل التقييد كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين ـ لا يمكن دعوى بقاء الملاك عند سقوط الامر بالمزاحمة.

ولعله لأجل ذلك حكى عن صاحب الجواهر : المنع عن ثبوت الملاك ، بعد

٣٢٤

المنع عن كفايته في صحة العبادة واحتياج العبادة إلى الامر. فعلى كل من قال بصحة العبادة بالملاك أو بالامر الترتبي دفع هذا الاشكال. كما أنه يتوقف على دفعه دعوى ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها عند المزاحمة ، لان مقتضى الاشكال هو ان جميع التكاليف مشروطة بالقدرة الشرعية ، فليس هناك واجب لم يكن مشروطا بها حتى يقدم على ما يكون مشروطا بها ، هذا.

والذي ينبغي ان يقال في حل الاشكال على الوجه الأخير من وجوه تقريره : هو انه ليس من مقدمات الحكمة لزوم ايقاع المكلف في خلاف الواقع ، حتى يقال في المقام انه لا يلزم ذلك ، بل الذي نحتاج إليه في مقدمات الحكمة هو كون المتكلم في مقام بيان مراده ، وحيث لم يبين القيد فلا بد ان يكون مراده الاطلاق.

والحاصل : انه يكفي في صحة التمسك بالاطلاق مجرد عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد بيان مراده. ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى توسيط لزوم وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، مع أنه في المقام أيضا يلزم ذلك لو كانت القدرة المعتبرة قيدا في المتعلق ، لوضوح ان المراد من القدرة الأعم من القدرة العقلية المقابلة للعجز العقلي ، أو القدرة الشرعية المقابلة للعجز الشرعي ، فلو كان المتعلق مقيدا ثبوتا بالقدرة عليه وعدم العجز عنه ومع ذلك لم يبينه في لسان الدليل واخل ببيان ذلك يلزم أحيانا وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، لأنه ربما يتخيل المكلف انه قادر على ايجاد المتعلق شرعا فيأتي به ، مع أنه عاجز عنه شرعا ، فيلزم وقوعه في خلاف الواقع من جهة عدم تقييد المولى المتعلق بالقدرة ، فإنه لو قيده بذلك لم يلزم ذلك. مثلا لو كانت الصلاة مقيدة بالقدرة عليها وعدم العجز عنها ولو شرعا ، بان اعتبر فيها عدم العجز الشرعي عنها ، ومع ذلك أخل ببيان ذلك في لسان الدليل ، فقد يكون الشخص عاجزا عن الصلاة شرعا لمكان مزاحمتها بالأهم ، ومع هذا يغره اطلاق الامر بالصلاة وعدم تقييدها بالقدرة عليها فيأتي بها ، مع أنه لو لم يخل ببيان التقييد لم يأت بها ، فالاتيان بها وايقاع الشخص في مخالفة الواقع انما جاء من قبل الاطلاق.

فدعوى : ان اعتبار القدرة في المتعلق لا يضر بايراد الكلام مطلقا ولا قبح في

٣٢٥

الاخلال ببيانه لأنه لا يلزم منه مخالفة الواقع ، فاسدة جدا. فالانصاف انه لو كان المدرك في اعتبار القدرة في التكاليف مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز وأغمضنا عن أن ذلك من مقتضيات نفس الخطاب ، لكان التمسك بالاطلاق في رفع احتمال قيدية القدرة ودخلها في الملاك في محله. فالتقرير الثالث من وجوه تقرير الاشكال ساقط.

نعم : يبقى التقرير الأول والثاني منه ، وقد عرفت ان هذين التقريرين انما يردان بناء على المختار : من أن اعتبار القدرة ليس لمجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، بل لمكان اقتضاء الخطاب ذلك.

والتحقيق في حل الاشكال بناء على المختار هو ان هذا الاقتضاء الآتي من قبل الخطاب لا يمكن ان يكون مقيدا للمتعلق وغير صالح لذلك ، وتوضيح ذلك : هو ان للاطلاق جهتين : جهة اثباته للمراد ، وجهة كشفه عن قيام الملاك بالمتعلق.

والمحرز للجهة الأولى هو مقدمات الحكمة من كون المتكلم في مقام بيان المراد وعدم ذكر القيد ، فلا بد ان يكون مراده الاطلاق. وهذه المقدمات وحدها لا تنفع في احراز الجهة الثانية ، لأنه لا يمكن اثبات كون المتكلم في مقام بيان ما قام به الملاك ومتى كان المتكلم في مقام بيان ذلك بل يحتاج في اثبات قيام الملاك بالمتعلق إلى مقدمة أخرى وهي : ما ذهب إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكامنة في مسألة المتعلقات ، ولولا هذه المقدمة لم يكن لنا طريق إلى قيام الملاك بالمتعلق ، فاطلاق الامر بضميمة تلك المقدمة يكون كاشفا عن قيام الملاك بذات المتعلق والمادة ، فلا بد ان يكون ذات المتعلق مما قام به الملاك ثبوتا ، ليتطابق عالم الاثبات وعالم الثبوت ، والكاشف والمنكشف ، فالاطلاق يكشف عن قيام الملاك بما يرد عليه الهيئة ، والذي يرد عليه الهيئة هو نفس المتعلق بلا قيد وان كان بورود الهيئة يتقيد ، فالتقييد الآتي من قبل الهيئة لا ينافي اطلاق ما يرد عليه الهيئة.

والذي ينفعنا في المقام في استكشاف الملاك وعدم قيدية القدرة هو الثاني ، والمفروض ان الكلام فيما إذا كان ما يرد عليه الهيئة مط غير مقيد بالقدرة ، وان كان يتقيد بورود الهيئة. فيصح التمسك بالاطلاق في قيام الملاك بالمتعلق وعدم

٣٢٦

تقييده بالقدرة ، فتكون القدرة المعتبرة في مثل هذا عقلية لا شرعية ، وينحصر القدرة الشرعية بما إذا قيد المتعلق بالقدرة ، كما في مثال الحج. فارتفع الاشكال بحذافيره ، فتأمل في المقام جيدا.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من مرجحات باب التزاحم. وقد ظهر لك : ان المرجح الثاني ما كان أحد المتزاحمين غير مشروط بالقدرة الشرعية فإنه يقدم على ما كان مشروطا بها.

( المرجح الثالث )

ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له البدل شرعا ، كما إذا زاحمت الطهارة المائية واجبا آخر لا بدل له ، فإنه يقدم ما لا بدل له على ما له البدل. والسر في ذلك واضح ، لان كل مورد ثبت فيه البدل شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيدا بالقدرة والتمكن ، لأنه لا معنى لجعل شيء بدلا طوليا لشيء الا كون ذلك البدل مقيدا بالعجز عن ذلك الشيء وعدم التمكن منه ، ولازم ذلك هو تقييد ذلك الواجب بصورة التمكن والقدرة ، سواء وقع التصريح بذلك في لسان الدليل ـ كما في قوله تعالى : فان لم تجدوا ماء فتيمموا ، حيث إنه قيد التيمم بصورة عدم وجدان الماء فيستفاد منه تقييد الوضوء بصورة وجدان الماء والتمكن منه ـ أو لم يقع التصريح بذلك في لسان الدليل.

وبالجملة : نفس جعل البدلية الطولية يقتضى التقييد بالقدرة ، فتكون النسبة بين هذا المرجح والمرجح السابق العموم المطلق ، لان كل ماله البدل يكون مقيدا بالقدرة الشرعية ، وليس كل ما يكون مقيدا بالقدرة الشرعية له البدل ، كما هو واضح.

فالوضوء إذا زاحم واجبا آخر من واجبات الصلاة يسقط وينتقل التكليف إلى التيمم ، من غير فرق في ذلك بين الوقت وغيره ، فلو دار الامر بين الوضوء وادراك ركعة أو أزيد من الوقت وبين التيمم وادراك جميع الوقت ، قدم الوقت وتيمم ليدرك جميع الوقت.

واما توهم ان الوقت أيضا مما ثبت له البدل ، حيث إن الظاهر من

٣٢٧

قوله : (١) من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت جميعا ، هو بدلية الركعة من الوقت عن جمع الوقت ، فيكون الوقت أيضا مقيدا بالقدرة كتقييد الوضوء بها ، فلا وجه لتقديمه على الوضوء عند المزاحمة ، بل لا بد اما من التخيير ، واما من ملاحظة الأهمية على الوجهين الآتيين في تزاحم الواجبين المشروطين بالقدرة الشرعية ـ ولعله لذلك حكى عن بعض الاعلام تقديم الوضوء عند مزاحمته للوقت ـ فهو في غاية الفساد ، لوضوح ان الوقت غير مقيد بالقدرة من أول الامر كتقييد الوضوء بها كذلك ، بل بعد فرض تحقق العجز عن المكلف وعدم تمكنه من الوقت واداركه له ، جعل الشارع ادراك الركعة من الوقت بمنزلة ادراك جميع الوقت.

والحاصل : انه فرق بين تقييد الشيء من أول الامر بالقدرة اما بلا واسطة واما بواسطة جعل البدلية ، وبين جعل شيء بدلا عن شيء بعد فرض تحقق العجز خارجا وعدم تمكن المكلف منه كذلك ، أي بعد فرض عدم التمكن خارجا ، فان الثاني لا يقتضى التقييد بالقدرة شرعا ، بل أقصاه جعل البدلية بعد فرض العجز عن القدرة العقلية. ومسألة من أدرك ركعة من الوقت فقد الخ يكون من هذا القبيل ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال ، قد ظهر : ان المرجح الثالث من مرجحات باب التزاحم هو ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له الدبل. وفي هذه المرجحات الثلاثة لا يلاحظ مسألة الأهمية والمهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني. فيقدم ما لا بدل له أو ما لم يكن مشروطا بالقدرة الشرعية ، على ماله البدل أو المشروط بالقدرة الشرعية وان تأخر زمان امتثاله أو زمان خطابه ، إذا فرض تمامية ملاكه ، كالصلاة قبل الوقت ، حيث تقدم منا في الواجب المعلق : انه يستفاد من وجوب حفظ الماء قبل الوقت تمامية ملاك الصلاة قبله ، وان الوقت شرط للخطاب بالصلاة لا لملاكها.

وحينئذ لو فرض قبل الوقت انه توجه عليه تكليف له بدل أو مشروط بالقدرة الشرعية وكان الاشتغال به يوجب سلب القدرة عن الصلاة في وقتها ،

__________________

١ ـ لم نجد حديثا بهذه العبارة ، ولعله مصطاد من روايات الباب ، راجع الوسائل باب ٣٠ من أبواب المواقيت والمستدرك باب ٢٤ منه.

٣٢٨

فمقتضى القاعدة ترك الاشتغال بذلك الواجب ووجوب حفظ قدرته للصلاة في وقتها كما تقدم. نعم لو فرض عدم ثبوت الملاك للصلاة قبل وقتها وكان ملاكها كخطابها مشروطا بالوقت ، كان اللازم الاشتغال بذلك الواجب الذي له بدل أو المشروط بالقدرة الشرعية ، حيث لا مزاحم له فعلا ، بل في الحقيقة هذا خارج عما نحن فيه ، فتأمل. (١).

فتحصل : انه في هذه المرجحات الثلاث لا يلاحظ الأهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني ، نعم : لو فرض تساوى المتزاحمين من هذه المرجحات ، بان كان كل من المتزاحمين مشروطا بالقدرة الشرعية ، أو كان كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية ، فتصل النوبة ح إلى الترجيح بالأهمية والمهمية ، والسبق واللحوق.

وتفصيل ذلك : هو ان لو تزاحم الواجبان المتساويان من جهة المرجحات الثلاثة المتقدمة ، فاما ان يكون الواجبان كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية. فان كان الأول ، فلا يخلو اما ان يتقدم زمان امتثال أحدهما أو لا يتقدم ، فان تقدم زمان امتثال أحدهما فهو المتقدم ، وفي مثل هذا لا يلاحظ أهمية المتأخر وعدم أهميته ، لأن المفروض انه ليس هناك الا ملاك واحد ، حيث إنه لا يمكنه الجمع بينهما ، وكانت القدرة في كل منها معتبرة في الملاك ، ومع عدم القدرة على كل منهما لا يتحقق الملاك في كل منهما ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا موقع لملاحظة الأهمية والمهمية ، فان لحاظ ذلك يستدعى ثبوت ملاكين ، فلا محيص من ترجيح المتقدم زمان امتثاله ، لقدرته عليه فعلا وعدم ما يوجب سلب قدرته عنه شرعا. فلو فرض انه نذر صوم يوم الخميس ، وصوم يوم الجمعة ، وبعد ذلك عرض له ما يمنعه من الجمع بين صوم اليومين ، ودار امره بين صوم أحدهما وترك الآخر ، كان مقتضى القاعدة تقديم صوم يوم الخميس وترك صوم يوم الجمعة ، لتقدم زمان امتثال الأول وعدم مانع شرعي عنه ، لاعتبار القدرة

__________________

١ ـ وجهه : هو انه يمكن ان يقال بلزوم حفظ القدرة في هذا الفرض أيضا ، للعلم بتحقق الملاك التام بعد ذلك ، فيكون اشتغاله بذلك الواجب موجبا لتفويت الملاك في موطنه ، فتأمل ـ منه.

٣٢٩

الشرعية في كل منهما ، حيث إن خطاب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة الشرعية ، لان دليل الوفاء بالنذر تابع لما التزم به المكلف على نفسه ، وما التزم به المكلف على نفسه هو الفعل المقدور ، فقد اخذ المكلف في الالتزام القدرة ، وخطاب الوفاء متأخر عن الالتزام فالخطاب يرد على الفعل الذي اخذت القدرة فيه في المرتبة السابقة على ورود الخطاب ، فيكون كما إذا قيد المتعلق في لسان الدليل بالقدرة صريحا ، فتأمل جيدا.

وبعد ما ظهر ان النذر مشروط بالقدرة الشرعية ، ففي الفرع المتقدم ـ من تزاحم الواجبين المشروط كل منها بالقدرة الشرعية مع تقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر ـ فقد عرفت ان المتقدم زمان امتثاله هو المتقدم ، وكذا إذا فرض اتحاد زمان امتثالهما ولكن تقدم زمان خطاب أحدهما ، كما إذا وجب عليه فعل شيء معين في وقت خاص مشروط بالقدرة الشرعية ، وصادف توجه واجب آخر مشروط بالقدرة الشرعية في ذلك الوقت ، فإنه يقدم الأول لمكان سبق خطابه ، فيكون خطاب السابق قد شغل ذلك الوقت ، فلم يبق موقع للواجب الآخر ، الا إذا كان السابق مشتملا على خصوصية توجب تأخره وتعين امتثال اللاحق خطابه ، كما في النذر وشبهه ، حيث إنه يعتبر فيه ان لايكون موجبا لتحليل حرام أو تحريم حلال ، سواء كان نفس متعلقه حراما ، كما إذا نذر ما يحرم فعله لولا النذر ، أو كان ملازما لذلك (١) كما إذا نذر ما يوجب تفويت واجب لولا النذر. كما لو نذر زيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة قبل أشهر الحج ، ثم حصلت له الاستطاعة في أشهر الحج ، فان مقتضى القاعدة انحلال النذر وتعين الحج عليه ، وان تقدم خطاب الوفاء بالنذر وكان كل من النذر والحج مشروطا بالقدرة الشرعية.

والسر في ذلك : هو ان النذر في المقام يوجب تفويت الحج الواجب لولا النذر ، وتفويت الواجب كذلك يوجب انحلال النذر ، والمفروض ان الحج لولا

__________________

١ ـ ولا يخفى عليك ان الظاهر من تحليل الحرام هو ان يكون نفس المتعلق موجبا لذلك ، بان نذر ما هو حرام أو نذر ترك واجب ، لا ما إذا استلزم ذلك كما في المقام ، فتأمل. منه

٣٣٠

النذر كان واجبا لحصول ما هو شرط وجوبه وهو الاستطاعة ، فلا مانع من وجوبه سوى النذر ، والنذر لا يصلح ان يكون مانعا ، لأنه قد اعتبر في انعقاد النذر ان لايكون موجبا لتحليل الحرام ولو بالاستلزام ، فالنذر والحج وان اشتركا في اخذ القدرة الشرعية في متعلقهما ، الا ان النذر قد اشتمل على خصوصية أوجبت عدم مزاحمته للحج وتقدم الحج عليه ، وتلك الخصوصية هي عدم كونه موجبا لتحليل ما هو حرام أو واجب لولا النذر ، والحج واجب لولا النذر فلا بد من انحلاله.

فانحلال النذر في مثل هذا ليس لمكان اعتبار الرجحان في متعلقه حال الفعل حتى يستشكل بأنه يكفي الرجحان حال النذر ، وزيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة في حال النذر كانت راجحة لعدم تحقق الاستطاعة بعد ، فلا موجب لانحلاله. أو يفرض الكلام في العهد واليمين الذين لا يعتبر الرجحان في متعلقهما ـ ولعله لذلك حكى انه كان عمل صاحب الجواهر ( قده ) على ذلك ، حيث كان ينذر قبل أشهر الحج زيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة لئلا يتوجه عليه خطاب الحج في اشهره ـ بل إن انحلال النذر انما هو لمكان استلزامه تفويت واجب لولا النذر.

فان قلت :

ان هذه الخصوصية لا تختص بالنذر ، بل ورد في باب الشروط والصلح وغير ذلك أن لايكون موجبا لتحليل الحرام أو تحريم الحلال. وح يلزم وجوب الحج عليه إذا آجر نفسه قبل أشهر الحج لعمل كذائي في يوم عرفة ، ثم حصلت الاستطاعة له ، فان مقتضى ما تقدم هو بطلان الإجارة ووجوب الحج عليه ، مع أن الظاهر أنه لا يمكن الالتزام به ، وان سبق الإجارة يوجب عدم تحقق الاستطاعة ، فلا يتحقق موضوع وجوب الحج.

قلت :

فرق بين التكليف والوضع ، وكلامنا في المقام من الحيثية الأولى ، وان التكليف بالوفاء بالنذر لا يزاحم تكليف الحج ، فلو فرض ان هناك جهة أخرى من وضع وملكية بحيث كان عمله مملوكا للغير فذلك امر آخر لا ربط له بالجهة التي نحن فيها ، فتأمل.

٣٣١

وحاصل الكلام : ان تصحيح عمل صاحب الجواهر ره لايكون الا بأمرين :

الأول : ان مثل هذا النذر لا يوجب تحليل الحرام ، بل الموجب له هو ما كان متعلقه حراما والمقام ليس كذلك.

الثاني : كفاية الرجحان حال النذر في انعقاده ، وزيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة حال النذر كانت راجحة ، لعدم تحقق الاستطاعة في ذلك الحال.

وكل من الامرين محل منع.

اما الامر الأول : فقد عرفت كفاية كون المتعلق مما يوجب تفويت واجب لولا النذر في اندراجه في كونه محللا للحرام.

واما الامر الثاني : فلان المستفاد من أدلة النذر هو اعتبار ان يكون متعلق النذر حال الفعل راجحا ولا عبرة بحال النذر ، وزيارة الحسين عليه‌السلام حال فعلها مع كون الشخص مستطيعا يجب عليه الحج لولا النذر ليست راجحة ، ولذا لا يصح نذرها بعد أشهر الحج ، وليس المراد من الرجحان هو الرجحان الذاتي ، حتى يقال : ان زيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة راجحة ذاتا ولو مع الاستطاعة ، ولذا لو ترك الحج وزار الحسين عليه‌السلام يوم عرفة فقد يثاب لزيارته وليس ذلك الا لمكان رجحانها الذاتي ، بل المراد من الرجحان المعتبر في متعلق النذر هو الرجحان الفعلي ، بحيث يكون مما رغب فيه شرعا ، وزيارة الحسين عليه‌السلام في حق المستطيع ليست مما رغب فيها ، ولذا لا يصح نذرها في حال كونه مستطيعا اتفاقا. فيظهر منه ان الرجحان الذاتي لا ينفع.

هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام. وعليك بالتأمل في أطراف المسألة وفي أدلة النذر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان المتزاحمين المشروطين بالقدرة الشرعية يقدم منهما ما هو الأسبق امتثالا أو خطابا ، والا فالتخيير. ولا يلاحظ في مثل هذا الأهمية والمهمية ، فإنه ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا معنى لملاحظة الأهمية ، فتأمل.

٣٣٢

ولا يخفى عليك : ان التخيير في المشروطين بالقدرة الشرعية عند التساوي غير التخيير في المشروطين بالقدرة العقلية عند التساوي ، فان التخيير في القدرة العقلية انما هو لمكان تقييد كل من الاطلاقين بعدم فعل الاخر ، من دون سقوط أصل الخطابين على أقوى المسلكين فيه كما يأتي ، ولكن في القدرة الشرعية التخيير انما هو لسقوط الخطابين واستكشاف العقل خطابا تخييريا ، لمكان وجود ملاك تام في البين وعدم العلم بمتعلقه ، فيكون التخيير في المشروطين بالقدرة الشرعية كالتخيير في المشروطين بالقدرة العقلية على المسلك الاخر الذي هو خلاف التحقيق عندنا ، وسيأتي بيانه انشاء الله تعالى.

واما المتزاحمان المشروطان بالقدرة العقلية : فان كان أحدهما أهم قدم على الآخر سواء تقدم زمان امتثاله أو خطابه أو تأخر ، للزوم حفظ القدرة له فيكون خطابه أو خطاب ( احفظ قدرتك ) معجزا مولويا عن المهم. واما ان لم يكن في البين أهمية ومهمية فالسابق امتثاله هو المقدم ، ولا تصل النوبة إلى التخيير سواء كان من قبيل المقدمة وذيها ، أو كان من قبيل القيام في الركعة الأولى والثانية ، وسواء تنجز التكليف بالمتأخر كمثال القيام أولا ، كما إذا كان المتأخر مشروطا بشرط لم يحصل بعد ، فإنه على جميع التقادير يقدم ما هو الأقدم امتثالا ، الا إذا كان المتأخر أهم ، كما إذا دار الامر بين القيام حال الفاتحة ، أو القيام قبل الركوع ، حيث إن الثاني أهم لركنية ، فان أهمية المتأخر يوجب التعجيز المولوي عن المتقدم ، لمكان انه يتولد من أهمية خطاب ( احفظ قدرتك ) فيكون عاجزا شرعا عن المتقدم.

وأما إذا لم يكن المتأخر أهم كالقيام في الركعة الأولى أو الثانية أو التصرف في ارض الغير لانقاذ مال الغير حيث إنه ليس انقاذ مال الغير أهم من التصرف في ارض الغير ، فمقتضى القاعدة تقديم قيام الركعة الأولى وان أوجب القعود في الثانية ، وترك التصرف في ارض الغير وان أوجب تلف مال الغير المتوقف عليه. والسر في ذلك : هو انه ليس له معجز مولوي عن القيام في الركعة الأولى ، أو ترك التصرف في ارض الغير ، لعدم أهمية المتأخر حتى يلزم حفظ القدرة له ، فليس

٣٣٣

خطاب المتأخر شاغلا مولويا عن المتقدم. وإذا لم يكن للمتقدم شاغل مولوي كان هو المتعين ، لحصول القدرة عليه بالفعل ، فلا موجب لتركه ليحفظ قدرته للمتأخر.

وبالجملة : التخيير انما يكون في الواجبين المتساويين من حيث عدم أهمية أحدهما مع اتحاد زمان امتثالهما ، لصلاحية الاشتغال بكل منهما للتعجيز عن الآخر. فالتعجيز في العرضيين انما يكون بالاشتغال بأحدهما لا بنفس الخطاب ، وانما يكون التعجيز بالخطاب إذا كان أحدهما أهم.

واما في غير ذلك فالتعجيز انما يكون بالاشتغال ، لعدم صلاحية الخطاب للتعجيز ، لتساوي كل من الخطابين ، والتعجيز عن أحدهما بالاشتغال بالآخر انما يكون في العرضيين.

واما في الطوليين المتقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر ، فلا يتصور فيه التعجيز عن أحدهما بالاشتغال بالآخر ، بل يتعين الاشتغال بالمتقدم لتقدم زمان امتثاله ، وبالاشتغال به يحصل التعجيز عن المتأخر.

فتحصل : انه لا موقع للتخيير في الطوليين ، ولعل منشأ القول بالتخيير هو توهم سقوط الخطابين في المتزاحمين ، واستكشاف العقل من تمامية الملاك في كل منهما وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما خطابا تخييريا شرعيا. واما بناء على المختار : من أن التخيير في المتزاحمين العرضيين انما هو لمكان اشتراط اطلاق كل من الخطابين بعدم فعل الآخر مع بقاء أصل الخطاب ، فلا معنى للتخيير في الطوليين ، إذ ليس المتأخر في رتبة المتقدم حتى يقيد به اطلاق خطاب المتقدم. وسيأتي بيان وجه المختار وضعف القول الأول ، وما يتفرع على القولين من الفروع التي :

منها : تعدد العقاب عند ترك الكل بناء على المختار ، ووحدته بناء على القول الاخر.

ومنها : دوران الامر بين التعيين والتخيير عند احتمال أهمية أحدهما ، بناء على سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل خطابا تخييريا ، فيبنى : اما على البراءة ، أو الاشتغال ، على القولين في مسألة دوران الأمريين التعيين والتخيير.

واما بناء على المختار : من تقييد الاطلاقين ، فلا محيص من القول بالاشتغال

٣٣٤

عند أهمية أحدهما ، للقطع بتقييد غير محتمل الأهمية والشك في تقييد محتمل الأهمية ، فيرجع الشك فيه إلى الشك في المسقط.

هذا إذا تقدم زمان امتثال أحد المتزاحمين المشروطين بالقدرة العقلية. وأما إذا اتحد زمان امتثالهما كالغريقين فحينئذ تصل النوبة إلى الترجيح بالأهمية ، فأي منهما أهم يقدم ، لان الامر بالأهم يكون معجزا مولويا عن غيره. ومسألة الأهمية يختلف باختلاف ما يستفاد من الأدلة ومناسبة الحكم والموضوع ، فما كان لحفظ بيضة الاسلام يقدم على كل شيء ، وما كان من حقوق الناس يقدم على غيره ، كما أن ما كان من قبيل الدماء والفروج يقدم على غيره ، واما فيما عدا ذلك فاستفادة الأهمية يحتاج إلى ملاحظة المورد وملاحظة الأدلة.

وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الترجيح بالأهمية ، انما هو بعد فقد المرجحات السابقة : من البدلية واللابدلية ، والاشتراط بالقدرة الشرعية وعدم الاشتراط ، وغير ذلك من المرجحات السابقة ، وعند فقد جميع المرجحات يكون الحكم هو التخيير. هذا تمام الكلام في تزاحم الحكمين في التكليف الاستقلالية.

واما الكلام في التزاحم في باب القيود والواجبات الغيرية ، كما لو دار الامر بين ترك جزء أو شرط ، أو دار الامر بين ترك شرط أو شرط آخر ، أو جزء وجزء آخر ، فله عرض عريض ويحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعه المقام ، وان كان شيخنا الأستاذ قد تعرض له في هذا المقام على سبيل الاجمال ، الا انا قد اعرضنا عن بيانه لاجمال ما ذكره ( مد ظله ) في هذا المقام. فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة الترتب التي هي من فروع باب التزاحم ، ووقعت معركة الآراء بين الاعلام خصوصا في زماننا الحاضر.

وينبغي أولا تنقيح ما هو محل النزاع في المقام فنقول : قد عرفت ان اقسام التزاحم خمسة.

الأول : تضاد المتعلقين ، لاجتماعهما في زمان واحد ، كالغريقين.

الثاني : قصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما من دون ان يكون بينهما مضادة ، لاختلاف زمانهما ، كالقيام في الركعة الأولى أو الثانية.

٣٣٥

الثالث : تلازم المتعلقين كاستقبال القبلة واستدبار الجدي.

الرابع : مقدمية أحد المتعلقين للآخر ، كالتصرف في ارض الغير لانجاء مؤمن.

الخامس : اتحاد المتعلقين في الوجود ، كالصلاة في الأرض المغصوبة. وعنوان النزاع في مسألة الترتب في كلمات الاعلام وان كان في خصوص القسم الأول ، وهو ما إذا كان التزاحم لأجل تضاد المتعلقين ، الا ان الظاهر عدم اختصاص مسألة الترتب بذلك ، بل تجرى في بعض الأقسام الاخر وان لم تجر في جميع الأقسام الخمسة. فالأولى جعل الكلام في باب الترتب في مسائل خمس حسب اقسام التزاحم ، وافراد كل قسم بالبحث عن جريان الترتب فيه.

المسألة الأولى :

في امكان الترتب في المتزاحمين الذين كان التزاحم فيها لأجل تضاد المتعلقين ، وكان أحدهما أهم من الآخر ، بحيث يكون اطلاق الامر بالأهم على حاله ، والامر بالمهم يقيد بصورة عصيان الأهم وتركه. فيرجع النزاع في الترتب إلى أن تقييد المهم بذلك مع بقاء اطلاق الأعم هل يوجب رفع غائلة التمانع والمطاردة ، والتكليف بالمحال ، وخروج الامر بالضدين عن العرضية إلى الطولية؟ كما هو مقالة مصحح الترتب. أو ان هذا التقييد لا يوجب رفع تلك الغائلة ، بل التكاليف بالمحال بعد على حاله ، ولا يخرج الامر بالضدين عن العرضية إلى الطولية بذلك التقييد. بل رفع تلك الغائلة لايكون الا بسقوط الامر بالمهم رأسا كما هو مقالة منكر الترتب. والأقوى هو الأول.

وينبغي ان يعلم أنه لا يختص الترتب بخصوص الأهم والمهم ، بل يجرى في الموسع والمضيق أيضا ، وعلى كل حال ان تنقيح البحث فيه يستدعى رسم مقدمات :

المقدمة الأولى :

لا اشكال في أن الذي يوجب وقوع المكلف في مضيقة المحال واستلزام التكليف بما لا يطاق ، انما هو ايجاب الجمع بين الضدين ، إذ لولا ايجاب الجمع على

٣٣٦

المكلف لم يقع المكلف في مضيقة المحال. فالمحذور كل المحذور انما ينشأ من ايجاب الجمع بين الضدين. ولا اشكال أيضا في أنه لابد من سقوط ما هو منشأ ايجاب الجمع ليس الا ، ولا يمكن سقوط ما لا يوجب ذلك. وهذان الأمران مما لا كلام فيهما. فالكلام كله في أن الموجب لايجاب الجمع بين الضدين هل هو نفس الخطابين واجتماعهما وفعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما لمكان تحقق شرطهما؟ أو ان الموجب لايجاب الجمع ليس نفس الخطابين بل الموجب هو اطلاق كل من الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر وعدمه.

والحاصل : انه لا اشكال في أن الموجب لايجاب الجمع في غير باب الضدين انما هو اطلاق الخطابين لحالتي فعل متعلق الاخر وعدمه ، كالصلاة والصوم ، فان الموجب لايجاب الجمع بينهما انما هو اطلاق خطاب الصلاة وشموله لحالتي فعل الصوم وعدمه ، واطلاق خطاب الصوم وشموله لحالتي فعل الصلاة وعدمه. ونتيجة الاطلاقين ايجاب الجمع بين الصلاة والصوم على المكلف. ولو كان كل من خطاب الصوم والصلاة مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا بذلك ، لما كانت النتيجة ايجاب الجمع بين الصوم والصلاة. وهذا في غير الضدين واضح. فيقع الكلام في أن حال الضدين حال غيرهما في أن الموجب لايجاب الجمع بينهما هو اطلاق كل من الخطابين حتى يكون هو الساقط ليس الا؟ أو ان الموجب لذلك هو فعلية الخطأ بين مع وحدة زمان امتثالهما حتى يكون الساقط أصل الخطابين. وعلى ذلك يبتنى المسلكان في التخيير في المتزاحمين المتساويين من حيث المرجحات ، من حيث كون التخيير عقليا ، أو شرعيا ، فإنه لو كان المقتضى لايجاب الجمع هو اطلاق الخطابين فالساقط هو الاطلاق ليس الا مع بقاء أصل الخطابين ، ويكون التخيير لمكان اشتراط كل خطاب بالقدرة على متعلقة ، فيكون كل من الخطابين بالضدين مشروطا بترك الآخر ، لحصول القدرة عليه عند ترك الآخر وينتج التخيير عقلا. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بان المقتضى لايجاب الجمع هو أصل الخطابين ووحدة زمان امتثالها ، فإنه ح لابد من سقوط كلا الخطابين ، لان سقوط أحدهما ترجيح بلا مرجح ، ولمكان تمامية الملاك في كل منهما يستكشف

٣٣٧

العقل خطابا شرعيا تخيريا بأحدهما ، ويكون كسائر التخييرات الشرعية كخصال الكفارات ، غايته ان التخيير الشرعي في الخصال يكون بجعل ابتدائي ، وفي المقام يكون بجعل طارئ. ويكون وزان التخيير في المشروطين بالقدرة العقلية وزانه في المشروطين بالقدرة الشرعية ، حيث تقدم ان التخيير فيهما يكون شرعيا.

وعلى ذلك أيضا يبتنى وحدة العقاب وتعدده عند ترك الضدين معا ، فإنه بناء على سقوط الخطابين لايكون هناك الا عقاب واحد ، لان الواجب شرعا ح هو أحدهما. واما بناء على اشتراط الاطلاقين فيتعدد العقاب ، لحصول القدرة على كل منهما ، فيتحقق شرط وجوب كل منهما ، فيعاقب على ترك كل منهما. وربما يترتب على ذلك ثمرات اخر قد تقدمت الإشارة إلى بعضها.

فتحصل : ان الذي ينبغي ان يقع محل النفي والاثبات ، هو ان الموجب لايجاب الجمع ما هو؟ هل اطلاق الخطابين؟ أو فعليتهما؟ وعلى الأول يبتنى صحة الترتب ، وعلى الثاني يبتنى بطلانه.

ومن الغريب : ما صدر عن الشيخ ( قده ) حيث إنه في الضدين الذين يكون أحدهما أهم ينكر الترتب غاية الانكار (١) ولكن في مبحث التعادل والتراجيح التزم بالترتب من الجانبين عند التساوي وفقد المرجح ، حيث قال في ذلك المقام ، في ذيل قوله : « فنقول وبالله المستعان قد يقال بل قيل : ان الأصل في المتعارضين عدم حجية أحدهما » ما لفظه : « لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكل منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطا بالقدرة ، والمفروض ان كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر ، وغير مقدور مع ايجاد الآخر ، فكل منهما مع ترك الاخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله ، ومع ايجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الاخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة. وهذا مما يحكم به بديهة العقل ، كما في كل واجبين

__________________

١ ـ راجع تفصيل ما افاده الشيخ قدس‌سره في المقام في مباحث مقدمة الواجب من مطارح الأنظار ، الهداية التي تكلم فيها عن صحة اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرم مقدم عليه وعدمها ، ص ٥٤ إلى ٥٧.

٣٣٨

اجتمعا على المكلف ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله الا تعيين الاخر عليه كذلك » (١) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه.

وهذا كما ترى صريح في أن التخيير في الواجبين المتزاحمين انما هو من نتيجة اشتراط كل منهما بالقدرة عليه وتحقق القدرة في حال ترك الآخر ، فيجب كل منهما عند ترك الآخر ، فيلزم الترتب من الجانبين مع أنه ( قده ) أنكره من جانب واحد وليت شعري ان ضم ترتب إلى ترتب آخر كيف يوجب تصحيحه.

وبالجملة : هذه المناقضة من الشيخ غريبة. وعلى كل حال ، فقد تحصل من المقدمة الأولى : ان العمدة هو اثبات ما يوجب ايجاب الجمع بين الضدين على المكلف ، حتى يكون هو الساقط.

المقدمة الثانية :

الواجب المشروط بعد تحقق شرطه حاله حاله قبل تحقق شرطه ، من حيث إنه بعد على صفة الاشتراط ، ولا يتصف بصفة الاطلاق ، ولا ينقلب عما هو عليه. وذلك لما عرفت في الواجب المشروط : من أن الشرط فيه يرجع إلى الموضوع ، فيكون الواجب المشروط عبارة عن الحكم المجعول على موضوعه المقدر وجوده على نهج القضايا الحقيقية. وليست الاحكام من قبيل القضايا الشخصية ، بل هي احكام كلية مجعولة أزلية على موضوعاتها المقدرة ، والحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عما هو عليه ، ولا يخرج الموضوع عن كونه موضوعا ، ولا الحكم عن كونه مجعولا على موضوعه. ووجود الشرط في الواجب المشروط عبارة عن تحقق موضوعه خارجا ، وبتحقق الموضوع خارجا لا ينقلب الواجب المجعول الأزلي عن الكيفية التي جعل عليها ، ولا يتصف بصفة الاطلاق بعد ما كان مشروطا ، لان اتصافه بذلك يلزم خروج ما فرض كونه موضوعا عن كونه موضوعا. فوجوب الحج انما أنشأ أزلا مشروطا بوجود موضوعه الذي هو العاقل البالغ المستطيع ، وهذا لا يفرق الحال فيه ، بين تحقق الاستطاعة لزيد أو عدم تحققها ، إذ ليس لزيد حكم يخصه حتى يقال : انه

__________________

١ ـ فرائد الأصول ( الرسائل ) ، مباحث التعادل والتراجيح ، المقام الأول في المتكافئين. ص ٤١٦.

٣٣٩

لا معنى لكون وجوب الحج بالنسبة إلى زيد المستطيع مشروطا بالاستطاعة ، بل لابد من أن يكون الخطاب بالنسبة إلى زيد ح مط. وهو كذلك لو كانت الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الجزئية الخارجية ، وعليه يكون الشرط من علل التشريع لا من قيود الموضوع ، كما استقصينا الكلام في ذلك في الواجب المشروط والمعلق ، وتقدم بطلان ذلك وان الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية.

فما في بعض الكلمات : من أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه يكون واجبا مط مبنى على ذلك المبنى الفاسد : من كون الأحكام الشرعية قضايا جزئية. واما بناء على ما هو الحق عندنا ، فالواجب المشروط دائما يكون مشروطا ، ولو بعد تحقق شرطه وفعليته.

وبعبارة أخرى : الشرط دائما يكون من وسائط العروض ، لا وسائط الثبوت. وبذلك ظهر فساد ما في بعض الألسن : من أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه يكون واجبا مط. فالامر بالمهم المشروط بعصيان الامر بالأهم دائما يكون مشروطا ، ولو بعد تحقق شرطه. نعم يصير فعليا عنده. وعلى ذلك تبتنى طولية الامر بالمهم بالنسبة إلى الامر بالأهم وخروجه عن العرضية ، كما سيأتي توضيحه انشاء الله تعالى. والمحقق الخراساني ( قده ) مع اعترافه (١) برجوع الشرط إلى الموضوع الذي عليه يبتنى الواجب المشروط ، وأنه يكون قسيما للواجب المطلق ـ كما أوضحناه (٢) في محله ـ ذهب في جملة من الموارد إلى كون الشرط من وسائط الثبوت ، وانه من قبيل العلل للتشريع كما يظهر من ارجاعه الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي ـ على ما تقدم تفصيله ـ (٣) وكما يظهر منه في المقام (٤) حيث جعل الامر بالمهم بعد تحقق

__________________

١ ـ راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ص ١٥٢ ـ

٢ ـ راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، الامر الأول ص ١٧٠

٣ ـ الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث تقسيمات الواجب في الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية ص ٢٧٦ وراجع الكفاية ، الجلد الأول. مباحث مقدمة الواجب. منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر.

٤ ـ كفاية الأصول. الجلد الأول ، الامر الرابع من الأمور التي رسمها في مقدمة بحث الضد ، ص ٢١٣

٣٤٠