فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

الاعتباريات والشرعيات التي أمرها بيد المعتبر والشارع ، حيث إن له ان يعتبر كون الشيء المتأخر شرطا لأمر متقدم ـ ففساده أيضا غنى عن البيان ، لأنه ليس المراد من الاعتبار مجرد لقلقة اللسان ، بل للاعتباريات واقع ، غايته ان واقعها عين اعتبارها ، وبعد اعتبار شيء شرطا لشيء واخذه مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه كما هو الشأن في كل شرط ، كيف يمكن تقدم الحكم على شرطه؟ وهل هذا الا خلاف ما اعتبره؟.

وبالجملة : بعد فرض اعتبار شيء موضوعا للحكم لا يمكن ان يتخلف ويتقدم ذلك الحكم على موضوعه ، فظهر فساد ما ذكر من الوجوه لجواز الشرط المتأخر. وأحسن ما قيل في المقام من الوجوه : هو ان الشرط عنوان التعقب والوصف الانتزاعي ، وقد تقدم عدم توقف انتزاع وصف التعقب على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل يكفي في الانتزاع وجود الشيء في موطنه ، فيكون الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب ، وان السبب للنقل والانتقال هو العقد المتعقب بالإجازة ، وهذا الوصف حاصل من زمن العقد هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا الوجه وان لم يلزم منه محذور عقلي ، ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة في الشرط المتأخر ، الا ان ارجاع الشرط إلى الامر الانتزاعي ووصف التعقب يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وأن يكون مما يساعد عليه العقل والاعتبار ، وليس لنا ارجاع كل شرط إلى عنوان التعقب.

نعم : يستقيم ذلك في باب المركبات الارتباطية التي اعتبرت الوحدة فيها ، كالصوم على ما تقدم بيانه في الواجب المعلق ، حيث قلنا : ان في باب الصوم ، لما كان ظرف التكليف وشرطه وامتثاله متحدا ، لمكان ان الصوم ليس الا عبارة عن الامساكات المتتابعة في آنات النهار المتصلة ، والتكليف بالامساك في كل آن مشروط بالقدرة عليه في ذلك الآن ، واما القدرة على الامساكات الاخر المتأخرة فليست شرطا للتكليف بالامساك في الآن السابق حتى يلزم اشتراط التكليف بأمر متأخر ، بل الشرط هو تعقب القدرة في الآن السابق بالقدرة في الآن اللاحق ، فالتكليف في كل آن يكون مشروطا بالقدرة على ذلك الآن نفسه ، ومشروطا أيضا

٢٨١

بتعقبها بالقدرة على الآن اللاحق لمكان اعتبار الصوم أمرا واحدا وكون امساكاته مرتبطا بعضها مع بعض ، فنفس اعتبار الوحدة والارتباطية يقتضى ان يكون الشرط هو عنوان التعقب ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر. وان أردت تفصيل ذلك فعليك بمراجعة ما ذكرناه في الواجب المعلق.

وبالجملة : اعتبار عنوان التعقب في الارتباطيات التي لها جهة وحدة مما يساعد عليه الاعتبار ، حيث إن أصل التكليف بالجزء السابق وحصول امتثاله بما انه جزء للمركب انما يكون بتعقب ذلك الجزء للاجزاء الاخر ، فاعتبار الوحدة في المكلف به يقتضى ذلك.

وليس الشأن في باب الإجازة كذلك ، لأن الاعتبار والعقل لا يساعد على انتقال المال عن مالكه من زمن العقد لمجرد انه يتعقبه الرضا والإجازة ، مع أن الرضا مقوم للانتقال ، حيث إنه لا يحل مال امرء الا عن طيب نفسه. وهل يمكن لاحد ان يقول : بإباحة مال الناس لمكان تحقق الرضاء منهم بعد ذلك؟ أو هل يفرق بين الإباحة وبين خروج المال عن ملكه؟ فدعوى ان الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب مما لا يساعد عليه لا العقل ، ولا الدليل ، ولا الاعتبار ، فلا محيص ح عن القول بالنقل وانه من حين الإجازة ينتقل المال إلى المشترى. الا ان يقوم دليل على ترتيب بعض الآثار من حين الإجازة من زمن العقد ، بان يقوم دليل على أنه حين ما أجاز المالك يكون النماء للمشتري من حين العقد ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى النقل ، لأنه من حين الإجازة ينتقل النماء السابق إلى المشترى ، كما ربما يدعى دلالة رواية عروة البارقي على ذلك ، وهذا هو المراد من الكشف الحكمي الذي اختاره الشيخ ( قده ) (١).

وربما حكى عن بعض المشايخ عدم الحاجة إلى قيام دليل في الكشف الحكمي ، بل نفس دليل نفوذ الإجازة واعتبارها يقتضى ترتيب الآثار من حين العقد عند إجازة المالك ، وذلك لان مفاد العقد هو النقل من حينه ، والإجازة انما

__________________

١ ـ راجع المكاسب ، قسم البيع ، تحقيق وجوه الكشف من مباحث بيع الفضولي ص ١٣٣

٢٨٢

تتعلق بما أنشأه العاقد ، فيكون مفاد الإجازة هو انفاذ ما أنشأه العاقد ، وقام الدليل على صحة انفاذ المالك ما أنشأه العاقد ، والمفروض ان العاقد انما أنشأ الملكية من حين العقد ، غايته ان أصل الملكية لا يمكن ان تكون حين العقد ، لاستلزامه المحذور المتقدم في الشرط المتأخر ، واما ترتيب الآثار من زمن العقد عند الإجازة فلا محذور فيه ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر غير دليل صحة الإجازة هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان العاقد لم ينشأ الملكية من حين العقد ، بل انشائه كان في ذلك الحين ، واما منشأه فهو أصل الملكية معراة عن الزمان ، وليس للعاقد تقييد الملكية من زمان خاص ، فان امر ذلك ليس بيده ، فهل ترى ان يكون للعاقد انشاء الملكية من قبل السنة؟.

وبالجملة : المنشأ هو أصل الملكية معراة عن الزمان ، والإجازة انما تتعلق بأصل الملكية المنشأة ، ودليل نفوذها لا يقتضى أزيد من تحقق الملكية ، ومقتضى ذلك هو النقل من حيث الملكية ومن حيث الآثار ، فالكشف الحكمي لا بد من قيام الدليل عليه ، والا فالقاعدة لا تقتضي أزيد من النقل.

وما استدل به على بطلان النقل وان القاعدة تقتضي الكشف الحقيقي : من أن العقد عدم حين الإجازة ، فلو قيل بالنقل يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وهذا هو الذي حكاه الفخر عن بعض ، وليس من كلام نفس الفخر ـ على ما حكاه شيخنا الأستاذ من عبارته ـ حيث نقل ( مد ظله ) ان الفخر بعد ما نقل الاستدلال بذلك رده والتزم بالنقل بعد التنزل والقول بصحة عقد الفضولي ، والا فهو منكر لأصل صحة الفضولي.

وعلى كل حال : ان الاستدلال للكشف بذلك واضح الفساد ، فان العقد بناء على كون الإجازة شرطا يكون حاله حال العقد في الصرف والسلم ، حيث تتوقف الملكية على القبض فيهما ، وليس المقام من باب التأثير والتأثر حتى يقال : يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، لان التأثير والتأثر انما يكون بناء على جعل السببية الذي قد أبطلناه.

واما بناء على أن المجعول هو الحكم على فرض وجود موضوعه فلا يلزم تأثير

٢٨٣

المعدوم في الموجود ، بل غايته ان الشارع رتب الملكية على الايجاب والقبول والإجازة ، فيكون كل من الايجاب والقبول والإجازة جزء الموضوع ، ولا يلزم ان تكون اجزاء الموضوع مجتمعة في الزمان ، بل يكفي وجودها ولو متفرقة ، ويكون نسبة الجزء السابق إلى اللاحق نسبة المعد في اجزاء العلة التكوينية المتصرمة في الوجود ، حيث إن الجزء السابق انما يكون معدا واثره ليس الا الاعداد وهو حاصل عند وجوده ، فلا يلزم تأخر الأثر عن المؤثر ، بل اثر كل جزء انما يتحقق في زمان ذلك الجزء ، غايته ان الأثر يختلف ، فاثر الاجزاء السابقة على الجزء الأخير من العلة التامة انما هو الاعداد ، واثر الجزء الأخير هو وجود المعلول ، فليس في سلسلة اجزاء العلة المتدرجة في الوجود ما يلزم منه تأخر الأثر عن المؤثر وتأثير المعدوم في الموجود.

وبما ذكرنا ظهر فساد مقايسة الشرط المتأخر بالشرط المتقدم ، وتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى الشرط المتقدم ، وذلك لما عرفت من أن الشرط المتقدم كالجزء المتقدم مما لا اشكال فيه حيث إنه ليس اثر المتقدم الا الاعداد ، وهو حاصل مقارنا لوجود المتقدم ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع في مقدمة الواجب. وبعد ذلك نقول : لا ينبغي الاشكال في وجوب المقدمة بالمعنى المتقدم ، لوضوح انه لا يكاد يتخلف إرادة المقدمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشيء مقدمة وانه لا يمكن التوصل إلى المطلوب الا بها ، وان أردت توضيح ذلك ، فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل ، فهل ترى انك لو أردت شيئا وكان ذلك الشيء يتوقف على مقدمات يمكنك ان لا تريد تلك المقدمات؟ لا بل لابد من أن تتولد إرادة المقدمات من إرادة ذلك الشيء قهرا عليك ، بحيث لا يمكنك ان لا تريد بعد الالتفات إلى المقدمات ، والا يلزم ان لا تريد ذا المقدمة ، وهذا واضح وجدانا ، إرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل.

ودعوى انه لا موجب لإرادة المقدمات ـ بعد حكم العقل بأنه لابد من اتيانها لتوقف الطاعة عليها ، وبعد ذلك لا حاجة إلى تعلق الإرادة بها ـ فاسدة ، فإنه ليس كلامنا في الحاجة وعدم الحاجة ، بل كلامنا ان إرادة المقدمات تنقدح في نفس الآمر قهرا ، بحيث لا يمكن ان لا يريدها ، فلا تصل النوبة إلى الحاجة وعدم

٢٨٤

الحاجة ، حتى يقال : لا حاجة إلى ارادتها بعد حكم العقل.

نعم : لو كان الوجوب المبحوث عنه في المقام هو الوجوب الأصلي الناشئ عن مبادئ مستقلة لكانت دعوى عدم الحاجة في محلها ، وكان الأقوى ح عدم وجوبها ، الا انه ليس الكلام في هذا النحو من الوجوب ، بل الكلام في الوجوب القهري التبعي الترشحي ، وهذا النحو من الوجوب مما لابد منه وان لم يكن له اثر على ما يأتي بيانه في ثمرة المسألة ـ الا ان عدم الثمرة لا يضر بهذا المعنى من الوجوب القهري ، وانما يضر بالوجوب الأصلي النفسي ، ونحن لا نقول به.

وبالجملة : بعد شهادة الوجدان بتعلق الإرادة بالمقدمة عند إرادة ذيها ، لا حاجة إلى إطالة الكلام في الاستدلال على ذلك بما لا يخلو عن مناقشة ، فلاحظ ما استدل به في المقام للطرفين ، والأولى إحالة الامر إلى الوجدان.

وينبغي التنبيه على أمور :

( الامر الأول )

لا اشكال في أن وجوب المقدمة يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، ولا يعقل ان يكون وجوبها مغايرا لوجوب ذيها ، لأن المفروض ان وجوبها انما تولد من ذلك ، فلا يمكن ان يتلون بلون مغاير ، وما يشاهد في بعض المقامات من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها فإنما هو لبرهان التفويت ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا.

( الامر الثاني )

اختلفوا في أن معروض الوجوب في باب المقدمة ما هو؟.

فقيل : ان معروضه هو ذات المقدمة مط.

وقيل : ان معروضه هو الذات الموصلة إلى ذيها.

وقيل : هو الذات عند إرادة ذيها ،

وقيل : هو الذات بشرط قصد التوصل بها إلى ذيها ،

ولعل منشأ اعتبار القيود الزائدة على الذات هو استبعاد كون الواجب هو نفس الذات من غير اعتبار شيء ، مع أنه قد تكون الذات محرمة ويتوقف واجب أهم عليها ، كما لو فرض توقف انقاذ الغريق على التصرف في ملك الغير ، فان القول بكون

٢٨٥

التصرف واجبا مط ولو لم يكن من قصد المتصرف انقاذ الغريق ـ بل تصرف للعدوان ، أو للتنزه والتفرج ـ مما يأباه الذوق ولا يساعد عليه الوجدان ، وكذا يبعد ان يكون خروج من وجب عليه الحج من داره إلى السوق لقضاء حاجة واجبا ، بحيث يكون كلما خرج من داره قد اشتغل بفعل الواجب ، ويكون عوده إلى داره هدما لذلك الواجب ، فان هذا بعيد غايته.

ولمكان هذا الاستبعاد قيد صاحب المعالم (ره) (١) وجوب المقدمة بقيد إرادة ذيها ، فلا تتصف المقدمة بالوجوب الا عند إرادة ذيها. وقيد الشيخ ( قده ) (٢) على ما في التقرير وجوبها بصورة قصد التوصل إلى ذي المقدمة. وقيد (٣) صاحب الفصول بصورة التوصل بها إلى ذيها ، فيكون الواجب هو المقدمة الموصلة. كل ذلك يكون دفعا للاستبعاد المذكور هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، انه لا يمكن المساعدة على شيء من هذه القيود.

اما ما اختاره صاحب المعالم (ره) حيث جعل إرادة ذي المقدمة من قيود وجوب المقدمة ، ففيه : ان اشتراط الوجوب بالإرادة ، اما ان يكون مقصورا على

__________________

١ ـ هذا ما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم في آخر بحث الضد. المعالم بحث الضد ص ٧٧ قال : « وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها انما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر ».

وقد صرح الشيخ قدس‌سره في التقريرات دفعا لهذا التوهم « ونحن بعد ما أعطينا الحجج الناهضة على وجوب المقدمة حق النظر واستقصينا التأمل فيها ما وجدنا رائحة من ذلك فيها ... » ( مطارح الأنظار ، ص ٧٠ )

٢ ـ مطارح الأنظار ص ٧٠ قوله : « وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب ان يكون الاتيان بالواجب الغيري لأجل التوصل به إلى الغير أولا ، وجهان أقواهما الأول ... »

٣ ـ الفصول ، ص ، ٨٧ التنبيه الأول. « ان مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب والمطلوبية من حيث كونها مقدمة الا إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة ، لا بمعنى ان وجوبها مشروط بوجود فيلزم الا يكون خطاب بالمقدمة أصلا على تقدير عدمه فان ذلك متضح الفساد ، كيف؟ واطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لاطلاق وجوبه وعدمه ، بل بمعنى ان وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب حتى أنها إذا وقعت مجردة عنه تجردت عن وصف الوجوب والمطلوبية ، لعدم وجوبها على الوجه المعتبر ، فالتوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه ، وان لم اقف على من يتفطن له ».

٢٨٦

وجوب المقدمة وليس هذا شرطا في وجوب ذيها ، واما ان يكون وجوب ذيها أيضا مشروطا بإرادته. فعلى الأول : يلزم ان يكون وجوب المقدمة مشروطا بشرط لايكون وجوب ذيها مشروطا به ، وهذا ينافي ما قدمناه في الامر الأول ، من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط ، قضية للتبعية والترشحية.

وعلى الثاني : يلزم إناطة التكليف بشيء بإرادة ذلك الشيء وهو محال ، لأنه يلزم ان يكون التكليف به واقعا في رتبة حٍصوله ، لحصول الشيء عند تعلق الإرادة به ، فلو تأخر التكليف عن الإرادة ـ كما هو لازم الاشتراط ـ يلزم ما ذكرنا : من وقوع التكليف في مرتبه حًصول المكلف به.

هذا مضافا : إلى أنه لا معنى لاشتراط التكليف بالإرادة ، لان التكليف انما هو بعث للإرادة وتحريكها ، فلا يمكن إناطة التكليف بها ، لاستلزام ذلك إباحة الشيء ، كما لا يخفى.

واما ما اختاره الشيخ : من جعل قصد التوصل إلى ذيها من شرائط وجود المقدمة لا وجوبها ، فيكون قصد التوصل من قيود الواجب ، فهو يتلو كلام المعالم في الضعف.

والانصاف : ان المحكى عن الشيخ في المقام مضطرب غاية الاضطراب ، ولم يتحصل لنا مراد الشيخ (ره) كما هو حقه ، فان جملة من كلامه ظاهرة في أن قصد التوصل انما يكون شرطا في وقوع المقدمة على صفة العبادية ، بحيث لا تقع المقدمة عبادة الا إذا قصد بها التوصل إلى ذيها. وجملة أخرى من كلامه ظاهرة في أن الواجب هو عنوان المقدمة لا ذات ما يتوقف عليه الشيء بل بوصف كونه مما يتوقف عليه الشيء. وجملة من كلامه ظاهرة فيما ذكرناه : من أن قصد التوصل من قيود الواجب ، وانه يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب قصد التوصل إلى ذيها.

ثم إن الا عجب من ذلك ، ما فرعه على اعتبار قصد التوصل ، من بطلان الصلاة إلى بعض الجهات إذا لم يكن من قصده الصلاة إلى الجهات الأربع فيمن كان تكليفه ذلك ، وانه لو صلى إلى بعض الجهات قاصدا للاقتصار عليه فبدا له الصلاة إلى سائر الجهات الاخر فلا يجزيه ، الا إذا أعاد ما صلاه أولا. فان تفريع ذلك

٢٨٧

على اعتبار قصد التوصل في باب المقدمة مما لم يظهر لنا وجهه ، حيث إن الكلام في المقام انما هو في مقدمة الواجب ، والتفريع انما يكون في مقدمة العلم ، ولا ملازمة بين البابين ، لأنه هب انه لم نعتبر قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، مع ذلك يقع الكلام في المقدمة العلمية ، وانه هل يعتبر في صحة المقدمة العلمية إذا كانت عبادة ان يكون قاصدا لامتثال الواجب المعلوم في البين على كل تقدير؟ أو انه لا يعتبر ذلك؟ بل يكفي قصد امتثال الواجب على تقدير دون تقدير. وتظهر الثمرة ، فيما إذا تبين مطابقة ما اتى به للواقع ، فإنه بناء على الأول لا يكفي عن الواقع إذا لم يكن من قصده الامتثال على كل تقدير ، بل يجب عليه الإعادة. وبناء على الثاني يكفي ولا يجب عليه الإعادة. وأين هذا مما نحن فيه من اعتبار قصد التوصل في باب المقدمة؟.

وبالجملة : المحكى عن الشيخ ( قده ) في المقام مضطرب من حيث المبنى ، ومن حيث ما فرع عليه ، وظني ان المقرر لم يصل إلى مراد الشيخ.

وعلى كل حال : لا ينبغي الاشكال ، في أنه لا يعتبر قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، فان اعتبار القصد اما ان يكون في العناوين القصدية التي يتوقف تحقق عنوان المأمور به على القصد نظير التعظيم والتأديب وغير ذلك من العناوين القصدية ، واما عن جهة قيام الدليل على ذلك. وليس المقام من العناوين القصدية ، ولا مما قام الدليل عليه ، فمن أين يجئ اعتبار القصد في وقوع المقدمة على صفة الوجوب؟.

وتوهم ان الواجب هو عنوان المقدمة ، فلا بد من القصد إلى ذلك العنوان ، وقصده انما يكون بقصد التوصل إلى ذيها ـ والى ذلك ينظر بعض ما حكى عن الشيخ (ره) في المقام ـ واضح الفساد ، فان عنوان المقدمة ليس موضوعا للحكم بل الموضوع للحكم هو الذات ، ومقدميتها انما تكون علة لثبوت الحكم على الذات ، فهي تكون من قبيل علل التشريع. وبعبارة أوضح : جهة المقدمية انما تكون من الجهات التعليلية لا التقييدية ، وليست المقدمية واسطة في العروض بل هي واسطة في الثبوت.

٢٨٨

وبالجملة : دعوى ان الواجب هو الذات المقيدة بقصد التوصل أو عنوان المقدمة مما لا يمكن المساعدة عليها ، وهي من الشيخ غريبة. هذا إذا أريد اعتبار قصد التوصل في مطلق المقدمات.

وأما إذا أريد اعتبار ذلك في خصوص المقدمة المحرمة بالذات الذي صارت مقدمة لواجب أهم ـ كما ذكر شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ان ببالي حكاية ذلك عن الشيخ ( قده ) وانه خص اعتبار ذلك في خصوص المقدمة المحرمة ـ فمما يمكن ان يوجه بدعوى ان وجوب المقدمة حينئذ لمكان حكم العقل حيث زاحم حرمتها واجب أهم ، والمقدار الذي يحكم به العقل هو ما إذا اتى بها بقصد التوصل إلى الواجب الأهم ، لا بقصد التنزه والتفرج والتصرف في ملك الغير عدوانا ، فان مثل ذلك يأبى العقل عن وجوبه. ولا يقاس ذلك بالمقدمة المباحة ، فان المقدمة المباحة لمكان وجوبها لمجرد توقف واجب عليها وكان ما يتوقف عليه هو الذات ، وحيث لم تكن الذات مقتضية لشيء بل كانت لا اقتضاء ، فتكون الذات واجبة من دون اعتبار قصد التوصل ، لان اللامقتضى لا يزاحم المقتضى. واما المقدمة المحرمة فوجوبها انما هو لأجل المزاحمة ، والا فالذات بنفسها مقتضية للحرمة ، والمقدار الذي نرفع اليد عما يقتضيه الذات من الحرمة هو صورة قصد التوصل بها إلى الواجب الأهم لا مط. هذا غاية ما يمكن ان يوجه به مقالة الشيخ ( قده ) على تقدير اختصاص اعتبار قصد التوصل بخصوص المقدمة المحرمة.

ولكن مع ذلك لا يتم ، لان وجوب المقدمة وان كان لأجل المزاحمة الا ان المزاحمة انما تكون بين الانقاذ الذي يتوقف على التصرف في ملك الغير وبين التصرف في ملك الغير ، ولا ربط لها بالقصد وعدم القصد.

وبعبارة أخرى : التصرف المؤدى إلى الانقاذ واقعا هو الذي يكون مزاحما لحرمة التصرف في ملك الغير ، لا التصرف الذي قصد به الانقاذ ، إذ لا يلزم التصرف الذي قصد به الانقاذ ان يترتب عليه الانقاذ ، ويرجع ح إلى تقييد حرمة التصرف بخصوص الصورة التي لا يترتب عليها الانقاذ ، وهو راجع إلى مسألة الترتب ، على ما سيأتي بيانه عن قريب انشاء الله تعالى.

٢٨٩

واما ما افاده صاحب الفصول من اعتبار نفس التوصل فهو أوضح فسادا ، فان اعتبار التوصل ان اخذ قيدا للوجوب ، فيلزم ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجوب المقدمة ، لان قيدية التوصل انما تحصل بحصول ذي المقدمة ، وهو كما ترى يكون أردء من طلب الحاصل ، إذ يلزم ان يتأخر الطلب عن وجود المقدمة وعن وجود ذيها المتأخر عن وجودها ، ولكن الظاهر أن لايكون هذا مراد صاحب الفصول ، لأنه يصرح بان التوصل يكون قيدا للواجب لا للوجوب ، فلا يرد عليه ما ذكرنا.

نعم يرد عليه : انه يلزم حينئذ ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجود المقدمة ، وان لم يكن من شرائط وجوبها ، الا انه لا فرق في الاستحالة ، ضرورة انه لا يعقل ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجود المقدمة لاستلزامه الدور ، فإنه يلزم ان يكون وجود كل من المقدمة وذي المقدمة متوقفا على الاخر.

هذا مضافا إلى أنه يلزمه القول بمقدمية الذات أيضا ، فان المقدمة ح تكون مركبة من أمرين : أحدهما الذات ، والاخر قيدية التوصل ، ولو على وجه دخول التقييد وخروج القيد ، فتكون الذات مقدمة لحصول المقدمة المركبة ، كما هو الشأن في جميع اجزاء المركب ، حيث يكون وجود كل جزء مقدمة لوجود المركب. مثلا لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدمة أو السير الموصل إلى الحج مقدمة ، فذات الوضوء والسير يكون مقدمة للوضوء الموصل والسير الموصل ، وان اعتبر قيد الايصال فيه أيضا يلزم التسلسل. ولا محيص بالآخرة من أن ينتهى إلى ما يكون الذات مقدمة.

فإذا كان الامر كذلك ، فلتكن الذات من أول الامر مقدمة لذيها من دون اعتبار قيد التوصل.

وبالجملة : ان وصف التوصل للمقدمة لما لم يكن منوعا لها حال وجودها ، نظير الفصول بالنسبة إلى الأجناس ، بل يكون متأخر عن وجودها ، ويكون رتبة حصول الوصف رتبة وجود ذي المقدمة ، فلو اعتبر قيد التوصل يلزم ما ذكرنا من المحاذير المتقدمة.

٢٩٠

ومن الغريب (١) ما استدل به على مدعاه بما حاصله : ان العقل لا يأبى ان يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى الحج ، دون ما لا يتوصل به إليه ، والضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك. وذلك لان الكلام في إرادة المقدمة التي تترشح من إرادة ذيها ، ومعلوم : ان مناط إرادة المقدمة انما هو توقف ذيها عليها ، بمعنى انها لولاها لما أمكن التوصل إلى ذي المقدمة ، واستلزام عدمها عدم ذيها ، وليس مناط وجوب المقدمة استلزام وجودها وجود ذيها ، فان الشأن في غالب المقدمات ليس كذلك ، فان الملازمة بين الوجودين انما يكون في العلة التامة بحيث لا يمكن التخلف بينها وبين معلولها ، فلو كان مناط وجوب المقدمة هو استلزام وجودها لوجود ذيها يلزم القول بوجوب خصوص العلة التامة ، وصاحب الفصول لا يقول بذلك. فيظهر من ذلك : انه ليس ملاك إرادة المقدمة الا استلزام عدمها عدم ذيها ، وهذا الملاك مطرد في جميع المقدمات موصلها وغير موصلها.

فتحصل : ان الامر المقدمي لا يدعو الا إلى ما يلزم من عدمه عدم الواجب ، فكل ما يعتبر زائدا على ذلك يكون خارجا عما يقتضيه الامر المقدمي.

وبذلك يظهر ما في استدلاله بجواز تصريح الآمر الحكيم بإرادة خصوص السير الموصل إلى الواجب ، فان التصريح بذلك انما يجوز إذا كان السير واجبا نفسيا مشروطا بشرط متأخر ، لما عرفت من أن اعتبار التوصل مما لا يقتضيه الامر المقدمي ، فاعتباره يكون أمرا زايدا ، ولا محالة يكون واجبا نفسيا ، فمجرد جواز تصريح الآمر بذلك لا يوجب ان يكون التوصل من مقتضيات الامر المقدمي ، بل يكون من الواجبات النفسية الخارجة عن محل الكلام ، فالذي يهم صاحب الفصول ، هو اثبات

__________________

١ ـ الفصول ص ٨٧ قوله : « وأيضا لا يأبى العقل ان يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الحج له دون ما لا يتوصل به إليه وان كان من شأنه ان يتوصل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك كما انها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا أو على تقدير التوصل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدمته على تقدير عدم التوصل بها إليه. »

٢٩١

ان التوصل ما يقتضيه الامر المقدمي ، وانى له باثبات ذلك بعد ما عرفت من أن ملاك إرادة المقدمة هو الاستلزام بين العدمين ، لا الملازمة بين الوجودين.

ثم انه استدل صاحب الفصول (١) أيضا على عدم المانع من اعتبار خصوص المقدمة الموصلة بجواز منع المولى من غيرها وقصر الرخصة عليها ، كما إذا قال : أنت مرخص في التصرف في ملك الغير المؤدى إلى انقاذ الغريق وممنوع عما عداه.

ورد بمنع ذلك ، وانه ليس للمولى قصر الرخصة على خصوص المقدمة الموصلة لاستلزامه التكليف بما لا يطاق وطلب الحاصل ، لان رتبة موصلية المقدمة رتبة حصول ذيها ، فلا يمكن ان يريدها بهذا القيد ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لو أغمضنا عما يرد على المقدمة الموصلة من المحاذير المتقدمة لم يتوجه على استدلاله ما ذكر من الرد ، لان قصر الرخصة على خصوص المقدمة الموصلة مما لا يلزم منه التكليف بغير المقدور ، لأنه يكون من قبيل اشتراط الشيء بأمر متأخر ، فالتوصل وان تأخر وجوده عن وجود المقدمة ، وكان يحصل بالانقاذ مثلا ، الا انه اخذ شرطا في جواز المقدمة ، وهذا مما لا محذور فيه بعد ما كان الانقاذ فعلا اختياريا للمكلف ، فيكون شرطية التوصل كشرطية الغسل للصوم ، فلا يجوز له الدخول الا إذا كان من عزمه انقاذ الغريق.

ولا يرد على ذلك شيء أصلا لو قطعنا النظر عما تقدم من محاذير المقدمة الموصلة ، ولكن لا يمكن قطع النظر عن تلك المحاذير ، فإنها لازمة على القول باعتبار قيد التوصل لا محالة.

ثم انه ربما يوجه مقالة اعتبار المقدمة الموصلة بما حاصله : انه ليس المراد

__________________

١ ـ نفس المصدر قوله : « وأيضا حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبة إذ انفكت عنه ، وصريح الوجدان قاض بان من يريد شيئا لمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ، ويلزم منه ان يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله. »

٢٩٢

تقييد الواجب بخصوص الموصلة ، بان يكون التوصل قيدا للواجب ، بل يكون على وجه خروج القيد والتقييد معا ، ولكن مع ذلك لا تكون الذات مط واجبة بل الذات من حيث الايصال ، والمراد بالذات من حيث الايصال هو الذات في حال الايصال ، على وجه يلاحظ الآمر المقدمة وذا المقدمة توأمين ، من دون ان يكون أحدهما قيدا للآخر ، بل يلاحظ المقدمة على ما هي عليها من وقوعها في سلسلة العلة ، فإنه لو كانت سلسلة العلة مركبة من اجزاء فكل جزء انما يكون جزء العلة إذا كان واقعا في سلسلة العلة لا واقعا منفردا ، فان لحاظ حالة انفراده ينافي لحاظه جزء للعلة ، بل انما يكون جزء العلة إذا لوحظ على ما هو عليه من الحالة ، أي حالة وقوعه في سلسلة العلة من دون ان تؤخذ سائر الا جزأ قيدا له ، ففي المقام يكون معروض الوجوب المقدمي هي الذات ، لكن لا بلحاظ انفرادها ، ولا بلحاظ التوصل بها ، بان يؤخذ التوصل قيدا ، بل بلحاظها في حال كونها مما يتوصل بها أي لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأمية. وبذلك يسلم عن المحاذير المتقدمة ، فان تلك المحاذير انما كانت ترد على تقدير كون التوصل قيدا ، وبعد خروج قيدية التوصل لايكون فيه محذور. وقد تقدم (١) نظير هذا الكلام في المعاني الحرفية ، حيث كانت لصاحب الفصول في ذلك المقام عبارة خروج القيد والتقييد معا ، وقد وجهنا مراده من ذلك في ذلك المقام بما لا مزيد عليه فراجع. فيمكن ان يكون المقام أيضا من باب خروج القيد والتقييد معا.

وهذا وان لم يمكن ان ينطبق عليه مقالة صاحب الفصول لتصريحه بأخذ التوصل قيدا ، الا انه يمكن ان ينطبق عليه كلام (٢) أخيه المحقق صاحب الحاشية ، حيث إنه قد تكرر في كلامه نفى اعتبار قيد التوصل ، ومع ذلك يقول إن الواجب هو المقدمة من حيث الايصال ، فيمكن ان يكون مراده من قيد الحيثية ما ذكرنا من

__________________

١ ـ قد مر توجيه ذلك في المقام الثاني من المبحث الأول ص ٥٥

٢ ـ راجع هداية المسترشدين في شرح معالم الدين ، الامر الرابع من الأمور التي ذكرها في خاتمة بحث مقدمة الواجب. « قد يتخيل ان الواجب من المقدمة هو ما يحصل به التوصل إلى الواجب دون غيره ... »

٢٩٣

خروج كل من القيد والتقييد على وجه لا يستلزم الاطلاق أيضا هذا. (١)

ولكن لا يخفى عليك ، انه ان كان المراد من الحيثية ، والتوأمية ، والحالية وغير ذلك مما شئت ان تعبر به ، هو نفى التقييد بالموصلة لحاظا وان أوجب التقييد بها نتيجة ، فسيأتي ان نتيجة التقييد بالموصلة أيضا لا يمكن كالتقييد اللحاظي ، وان أريد نفى نتيجة التقييد أيضا فمرجعه إلى أن معروض الوجوب هي الذات المهملة لا اطلاق فيها ولا تقييد لا لحاظا ولا نتيجة ، فهو حق لا محيص عنه ، فان امتناع التقييد عين امتناع الاطلاق ، لما سيأتي في محله من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة على ما هو الحق ، أو تقابل التضاد على ما هو المشهور قبل سلطان العلماء ، حيث جعلوا الاطلاق أمرا وجوديا مدلولا للفظ ، ولأجل ذلك قالوا ان التقييد يوجب المجازية وسيأتي ضعف ذلك في محله. وعلى كلا التقديرين يكون امتناع التقييد موجبا لامتناع الاطلاق ، وليس التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب ، حتى يقال : ان امتناع أحدهما يوجب ثبوت الآخر لئلا يلزم ارتفاع النقيضين.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما سلكه الشيخ ( قده ) في المقام (٢) وغير الشيخ ، حيث قالوا باطلاق القول بوجود المقدمة مط موصلة كانت أو غيرها ، لمكان امتناع التقييد بالموصلة ، فجعلوا نتيجة امتناع التقييد هو الاطلاق ، مع انك قد عرفت ان ذلك لا يعقل ، لان امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق أيضا. وقد سلك الشيخ قده (٣) هذا المسلك أيضا في مسألة امتناع اعتبار قصد القربة في متعلق الامر و

__________________

١ ـ ولكن الظاهر أن مراد المحقق من الحيثية الحيثية التعليلية ، ويكون حيثية الايصال علة لعروض الوجوب على ذات المقدمة ولو لم تكن موصلة ، وظني ان المحقق يصرح بذلك منه.

٢ ـ راجع ما حققه الشيخ قدس‌سره في دفع مقالة صاحب الفصول من اطلاق القول بوجوب المقدمة لامتناع تقييده بالموصلة. مطارح الأنظار مباحث مقدمة الواجب ، « هداية ، زعم بعض الأجلة ... » ص ٧٤

٣ ـ نفس المصدر. مبحث التعبدي والتوالي ص ٥٨ وقد نقلنا ما افاده الشيخ قدس‌سره هناك ، من عدم جواز التمسك باطلاق الامر عند الشك في تقييده بقصد القربة ، لمكان امتناع تقييده به في هامش ص ١٥٨ فراجع.

٢٩٤

امتناع تقييد الاحكام بالعلم بها ، حيث إنه استنتج الاطلاق من امتناع ذلك وقال : بأصالة التوصلية واشتراك الاحكام بين العالم بها والجاهل ، وقد عرفت ان امتناع الاطلاق ملازم لامتناع التقييد مط في المقام ، وفي مسألة اعتبار قصد القربة ، وفي مسألة العلم بالأحكام.

نعم : بين المقام وبين المسئلتين فرق ، وهو ان الممتنع في تينك المسئلتين انما هو الاطلاق والتقييد اللحاظي ، لا نتيجة الاطلاق والتقييد ، فإنه بمكان من الامكان ، بل هو ثابت كما في مسألة الجهر والاخفات والقصر والاتمام ، حيث كان الحكم مخصوصا بالعالم به بنتيجة التقييد ، وفيما عدا ذلك كان الحكم يعم العالم والجاهل بنتيجة الاطلاق لقيام الدليل على كل ذلك. واما في المقام فلا يمكن فيه ، لا الاطلاق والتقييد اللحاظيان ، ولا نتيجة الاطلاق والتقييد ، بل معروض الوجوب يكون مهملا ثبوتا ، وذلك لان خطاب المقدمة انما يتولد من خطاب ذيها ، فهو تابع لخطاب ذي المقدمة ، ويكون له ما يكون له ، ولا يكون له ما لايكون له ، وسيأتي انشاء الله تعالى في مبحث الترتب ، ان كل خطاب لا يمكن ان يكون مط أو مقيدا بالنسبة إلى حالتي حصول متعلقه وعدم حصوله أي حالتي اطاعته وعصيانه ، فان ذلك لا يعقل لا بالاطلاق والتقييد اللحاظيين ، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد ، بل يكون الخطاب من هذه الجهة مهملا ثبوتا ليس له تعرض إلى ذلك ، إذ الشيء لا يمكن ان يكون متعرضا لحالة وجوده أو عدمه ، وسيأتي برهان ذلك انشاء الله تعالى ، فإذا كان خطاب ذي المقدمة بالنسبة إلى حالة حصوله وعدم حصوله مهملا ، فلا بد ان يكون خطاب المقدمة بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصول ذيها أيضا مهملا ، قضية للتبعية والترشحية.

وليس خطاب المقدمة مع خطاب ذيها خطابين ، حتى يقال : ان الممتنع هو الاطلاق والتقييد في كل خطاب بالنسبة إلى متعلق نفسه ، واما بالنسبة إلى متعلق خطاب آخر فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، فلا مانع من اطلاق أو تقييد خطاب المقدمة بحصول متعلق خطاب ذيها ، وربما يختلج ذلك في جملة من الأذهان.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فان الممكن هو اطلاق الخطاب أو تقييده بالنسبة إلى

٢٩٥

متعلق خطاب آخر مغاير له ، كاطلاق خطاب الصلاة بالنسبة إلى الصوم وعدمه ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، لان خطاب المقدمة لم يكن مغايرا لخطاب ذيها ، لمكان التولد والتبعية فلابد ان يكون تابعا له فيما هو مهمل فيه ، كما كان تابعا له في الاطلاق والاشتراط ، فإذا كان خطاب المقدمة مهملا بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصوله ، فلا يمكن تقييد المقدمة بالموصلة التي هي بمعنى الحصول ، ولا اطلاقها لا لحاظا ولا نتيجة. فتصل النوبة ح إلى الخطاب الترتبي ، وتكون حرمة المقدمة فيما إذا كانت محرمة واباحتها فيما إذا كانت مباحة لولا عروض وصف توقف الواجب عليها مشروطة بعصيان خطاب ذي المقدمة وعدم انقاذ الغريق ، فيتحقق الترتب بين الخطاب الا إلى الذي كان للمقدمة ، وبين خطاب ذيها المتولد منه خطاب المقدمة ، وببركة الخطاب الترتبي يرتفع ما ذكرناه من استبعاد كون مطلق التصرف في ملك الغير واجبا ولو لم يتوصل به إلى انقاذ الغريق.

هذا تمام الكلام في المقدمة الموصلة ، وبعده لم يبق لنا من مباحث المقدمة الواجبة ما يهمنا البحث عنه ، لان أكثر المباحث التي تعرضوا لها في مقدمة الواجب قد تقدم منا الكلام فيها ، نعم ينبغي ختم المسألة بذكر أمرين :

الامر الأول :

في الثمرات التي رتبوها على وجوب المقدمة.

فمنها : فساد العبادة إذا كانت ضدا لواجب أهم ، حيث إن ترك تلك العبادة يكون مقدمة لذاك الواجب ، وعلى القول بوجوب المقدمة يكون الترك واجبا ، فيكون الفعل منهيا عنه فلا يصلح لان يتقرب به فيفسد ، فلا تصح الصلاة إذا توقف إزالة النجاسة عن المسجد على تركها ، لان تركها يكون واجبا من باب كونه مقدمة لإزالة النجاسة ، فيكون فعلها منهيا عنه فلا تصح ، هذا.

وقد أشكل على هذه الثمرة بما حاصله : انه مبنى أولا : على أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر ، وسيأتي فساد ذلك. وثانيا : انه لا يتوقف فساد العبادة على وجوب تركها من باب المقدمة ، بل لو لم نقل بوجوب المقدمة أو بمقدمية الترك لكانت العبادة فاسدة أيضا لمكان عدم الامر بها ، حيث إن ضدها و

٢٩٦

هو الإزالة مثلا يكون مأمورا به ، ولا يمكن الامر بالضدين ، فلا تكون الصلاة مأمورا بها ، وعدم الامر بها يكفي في فسادها. وسيأتي البحث عن ذلك انشاء الله تعالى في مبحث الضد.

ثم إن صاحب الفصول (١) أنكر هذه الثمرة على طريقته من القول بالمقدمة الموصلة ، وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان مطلق ترك الصلاة مثلا لم يكن واجبا بالوجوب المقدمي ، حتى يكون نقيضه ـ وهو فعل الصلاة ـ منهيا عنه ، بل الواجب هو الترك الموصل للإزالة ، ومع فعل الصلاة لا تحصل الإزالة ، ومع عدم حصولها لايكون ترك الصلاة واجبا ، ومع عدم وجوب تركها لايكون فعلها منهيا عنه ، ومع عدم النهى لا تفسد ، هذا.

وقد أشكل (٢) عليه الشيخ ( قده ) على ما في التقرير بما حاصله : ان فعل الصلاة وان لم يكن ح نقيض الترك الموصل ، لان نقيض الأخص أعم كما أن نقيض الأعم أخص ، فنقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل ، وترك الترك الموصل له افراد ، منها النوم والأكل والشرب ، ومنها الصلاة ، فالصلاة تكون أحد افراد النقيض المنهى عنه ، ومعلوم ان النهى عن الكلي يسرى إلى افراده ، فتكون الصلاة منهيا عنها ، غايته انه لا بخصوصها بل بما انها من أحد افراد نقيض الواجب.

والحاصل انه لو كان مط ترك الصلاة واجبا بالوجوب المقدمي لإزالة النجاسة ، فنقيض مط الترك ترك الترك وهو متحد خارجا مع فعل الصلاة ، فتكون الصلاة بما انها نقيض الترك الواجب منهيا عنها. واما لو كان الترك الخاص واجبا أي الترك الموصل للإزالة ، فنقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل ، وهو الذي يكون منهيا عنه لكونه نقيض الواجب ، وترك الترك الموصل المنهى عنه له افراد ،

__________________

١ ـ الفصول ـ مسألة الضد « إذا تقرر هذا فاعلم أن جماعة زعموا ان ثمرة النزاع في الضد الخاص تظهر ... » ص ٩٦

٢ ـ مطارح الأنظار ، مبحث مقدمة الواجب ، تذنيب ، « إذا تقرر ذلك نقول : ان الترك الخاص نقيضه رفع ذلك الترك .... » ص ٧٦

٢٩٧

منها الصلاة ، فتكون الصلاة منهيا عنها. فلا فرق في فساد الصلاة بين ان نقول مط الترك واجب ، أو خصوص الترك الموصل ـ بعد البناء على مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الضد الاخر ـ هذا.

وقد أورد عليه المحقق الخراساني ره (١) في كفايته بما حاصله : انه فرق بين القول بوجوب مط الترك وبين القول بوجوب الترك الموصل ، فإنه على الأول يكون نقيضه ترك الترك ، وترك الترك وان كان مفهوما غير الصلاة ، الا انه خارجا عين الصلاة ، لان ترك ترك الصلاة ليس هو الا عبارة عن الصلاة. وهذا بخلاف ما إذا كان الترك الخاص واجبا ، فان نقيض الترك الخاص ترك الترك الخاص ، والصلاة ليست من افراد هذا النقيض بحيث يحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي وتتحد معه خارجا ، بل هي من المقارنات ، فان رفع الترك الخاص قد يجامع فعل الصلاة وقد لا يجامعها ، كما إذا ترك الصلاة والإزالة معا ، ومعلوم ان النهى عن شيء لا يسرى إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه ، هذا. وقد ارتضى شيخنا الأستاذ مد ظله ما ذكره المحقق في المقام واستجوده ، فتأمل.

ومنها : برء النذر باتيان مقدمة الواجب عند نذر الواجب بناء على القول بوجوب المقدمة ، هذا.

ولكن لا يخفى ان مسألة برء النذر لا تصلح ان تكون ثمرة للمسألة الأصولية ، لان ثمرتها ما تقع في طريق الاستنباط ، وتكون كبرى قياس الاستنباط ، ومسألة برء النذر هي بنفسها حكم فرعى ، مع أن البرء يتبع قصد الناذر ، فقد يقصد نذر الواجب النفسي فلا يحصل بفعل الواجب المقدمي ، وقد لا يقصد ذلك.

ومنها : حصول الفسق عند ترك واجب له مقدمات عديدة ، حيث يحصل به الاصرار ، لمكان ترك عدة واجبات بناء على وجوب المقدمة.

وفيه ، ان الواجب مهما تعددت مقدماته ليس فيه الا عصيان واحد وإطاعة واحدة ، ويكون تركه بترك أول مقدمة له ، حيث يمتنع الواجب ح عليه فلا يحصل

__________________

١ ـ كفاية الأصول ، « قلت : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ... » ص ١٩٣

٢٩٨

الاصرار.

ومنها : صلاحية وقوع التعبد بها ، بناء على وجوبها وذلك بقصد أمرها. وفيه ، انه قد تقدم ان الامر الغيري يكون التعبد به بتعبد امر ذي المقدمة ، وليس هو بما انه امر غيري مما يتعبد به ما لم يرجع إلى التعبد بأمر ذيها.

ومنها : عدم جواز اخذ الأجرة عليها ، بناء على عدم جواز اخذ الأجرة على الواجبات.

وفيه ، انه ليس مط الواجب مما لا يجوز اخذ الأجرة عليه ، بل تختلف الواجبات في ذلك ، فربما يكون الواجب هو الفعل بمعناه المصدري فيجوز اخذ الأجرة عليه ، وربما يكون الواجب هو الفعل بمعناه الاسم المصدري فلا يجوز اخذ الأجرة عليه ، على ما أوضحناه في محله ، وجواز اخذ الأجرة على المقدمات يتبع وجوب ذي المقدمة ، فلو كان الواجب فيها هو الفعل بمعناه الاسم المصدري لا يجوز اخذ الأجرة حتى على مقدماتها ، لأنه قد خرجت المقدمات عن تحت سلطانه ، ولو لمكان اللا بدية العقلية ، فتكون الإجارة عليها من قبيل وهب الأمير ما لا يملك. وان كان الواجب في ذي المقدمة هو الفعل بمعناه المصدري يجوز اخذ الأجرة على مقدماتها ولو قلنا بوجوبها ، لان وجوبها لا يزيد على وجوب ذيها ، كما لا يخفى.

ومنها : ما نسب إلى الوحيد البهبهاني ره من لزوم اجتماع الأمر والنهي على القول بوجوب المقدمة ، فيما إذا كانت المقدمة محرمة.

وقد أورد عليه : بأنه لايكون من ذاك الباب ، بل من باب النهى في العبادة أو المعاملة. والانصاف ان ما نسب إلى الوحيد باطلاقه غير تام ، وكذا ما أورد عليه ، وتوضيح ذلك : هو انه تارة : تكون المقدمة في نوعها محرمة بحيث لايكون للمكلف مندوحة ، كما إذا انحصر الانقاذ بالتصرف في ملك الغير ، ففي مثل هذا يقع التزاحم بين وجوب الانقاذ وحرمة التصرف ، وينبغي مراعاة الأهم أو سائر مرجحات باب التزاحم ، ولا يندرج هذا الا في باب اجتماع الأمر والنهي ، لا في باب النهى من العبادة أو المعاملة. وأخرى : لا تكون المقدمة في نوعها محرمة بل كان لها افراد مباحة ، فتارة : يرد النهى عن فرد منها بالخصوص ، كما إذا نهى عن سير

٢٩٩

خاص للحج ، فهذا يندرج في باب النهى عن العبادة ان كانت المقدمة عبادية ، أو المعاملة ان لم تكن كذلك.

وأخرى : لا يرد النهى عن فرد منها بالخصوص ، بل كان المنهى عنه عنوانا كليا انطبق على بعض افراد المقدمة ، كما في السير على الدابة المغصوبة في الحج ، حيث إن الواجب بالوجوب المقدمي هو السير الذي له افراد والمنهى عنه هو الغصب الذي له افراد أيضا ، وقد اجتمع كل من عنوان الواجب والحرام في السير على الدابة المغصوبة ، فهذا يكون من باب اجتماع الأمر والنهي ، وليس من باب النهى عن العبادة أو المعاملة ، ولا يتوقف اندراجه في باب الاجتماع على أن يكون الواجب بالوجوب المقدمي هو عنوان المقدمة حتى يمنع عن ذلك بل يكفي ان يكون الواجب عنوانا كليا ذا افراد ، كالمثال المتقدم فتأمل جيدا.

ثم انه لا ثمرة في ادراج المسألة بباب اجتماع الأمر والنهي ، فإنه ان كانت المقدمة توصلية فالغرض منها يحصل بمجرد فعلها ، قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل ، قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أو لم نقل. وان كانت عبادية فلما كان وجوبها مترشحا عن وجوب ذيها وكان لها افراد مباحة فالوجوب انما يترشح إلى المقدمة المباحة لامحة ، ومعه لا يصح التعبد بها على كل حال ، فتأمل.

الامر الثاني :

لا أصل في وجوب المقدمة عند الشك ، لا من حيث المسألة الأصولية ، ولا من حيث المسألة الفقهية. اما من حيث المسألة الأصولية ، فلان البحث فيها من هذه الحيثية انما كان في الملازمة وعدمها ، ومعلوم : ان الملازمة وعدم الملازمة ليست مجرى لأصل من الأصول ، لعدم الحالة السابقة لها ، بل إن كانت فهي أزلية ، وان لم تكن فكذلك.

واما من حيث المسألة الفقهية ، فلان وجوب المقدمة وان لم يكن عند عدم وجوب ذيها ، فتكون بهذا الاعتبار مجرى للاستصحاب عند وجوب ذيها والشك في وجوبها ، الا انه لا اثر لهذا الاستصحاب بعد ما فرض كونها مقدمة وانه مما لا بد منها ، لمكان التوقف.

٣٠٠