فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

ما كان يقتضيه نفس الذات ، ومنتزعا عن مقام الهوية ، فمثل حرارة الماء من العرض الغريب لان عروض الحرارة على الماء يكون بواسطة امر خارج مباين ، بل ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مط ، سواء كان أعم أو أخص أو مباينا ، يكون من العرض الغريب اتفاقا ، وانما المختلف فيه ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مساوي ، كالضحك العارض للانسان بواسطة التعجب ، حيث ذهب بعض إلى أنه من العرض الذاتي ، وبعض اخر إلى أنه من العرض الغريب ، فالعبرة في العرض الذاتي عندهم هو كونه بحيث يقتضيه نفس الذات ، لاما لايكون له واسطة في العرض ، هو ان البحث في غالب مسائل العلوم ليس بحثا عن العوارض الذاتية لموضوع تلك المسألة على وجه يقتضيه ذات الموضوع ، بداهة ان خبر الواحد مثلا بهوية ذاته لا يقتضى الحجية ، إذ الحجية انما هي من فعل الشارع.

فالبحث عن حجية خبر الواحد ليس بحثا عن العوارض الذاتية للخبر ، وكذا الكلام في سائر المسائل لعلم الأصول وغيره من العلوم ، كقولنا : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، فان الرفع والنصب ليسا مما يقتضيه نفس ذات الفاعل والمفعول بهويتهما ، بل لمكان لسان العرب ، حيث إنهم يرفعون الفاعل وينصبون المفعول ، فيلزم بناء على ما قيل في تفسير العرض الذاتي ان يكون البحث في غالب العلوم بحثا عن العوارض الغريبة لموضوع العلم ، فلا بد من توسعة العرض الذاتي ، حتى يكون البحث في مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية لموضوعاتها ، بان يق : ان العرض الذاتي هو ما كان يعرض نفس الذات بلا واسطة في العروض وان كان لأمر لا يقتضيه نفس الذات. وعلى هذا يكون البحث في جميع مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية ، بداهة ان الحجية عارضة لذات الخبر وان كان ذلك بواسطة الجعل الشرعي ، وكذلك الرفع والنصب يعرضان لذات الفاعل والمفعول ، وان كان ذلك لأجل لسان العرب.

فالضابط الكلي للعرض الذاتي ، هو ان لا يتوسط بينه وبين الموضوع امر يكون هو معروض العرض أولا وبالذات ، كما هو الشأن في الوسائط العروضية.

إذا عرفت ذلك فالكلام في المقام يقع من جهات :

٢١

الأولى : في نسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله.

الثانية : في المايز بين العلوم بعضها من بعض.

الثالثة : في موضوع علم الأصول.

اما الجهة الأولى

فنسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله ، هو نسبة الكلي لافراده والطبيعي لمصاديقه ، بداهة ان الفاعل في قولنا كل فاعل مرفوع مصداق من مصاديق كلي الكلمة ، التي هي موضوع لعلم النحو.

فان قلت :

ان الرفع انما يعرض الفاعل ، وبتوسطه يعرض الكلمة ، وليس هو عارضا لذات الكلمة من حيث هي ، فيكون الرفع بالنسبة إلى الكلمة من العوارض الغريبة وان كان بالنسبة إلى الفاعل من العوارض الذاتية.

وبعبارة أخرى :

الموضوع للرفع هي الكلمة بشرط الفاعلية ، وموضوع علم النحو هو نفس الكلمة من حيث هي ، ومن المعلوم مغايرة الشيء بشرط شيء مع الشيء لا بشرط ، فيلزم اختلاف موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويلزم ان يكون المبحوث عنه في مسائل العلم من العوارض الغريبة لموضوع العلم. وهذا ينافي قولكم : موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وان موضوع العلم عين موضوعات المسائل. وهذا الاشكال سيأتي في جميع العلوم.

قلت :

الفاعلية علة لعروض الرفع على نفس الكلمة ، لا ان الرفع يعرض للفاعلية أولا وبالذات ، فالواسطة في المقام انما تكون واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض ، وقد تقدم ان الواسطة الثبوتية لا تنافى العرض الذاتي.

والحاصل :

ان ما يعرض الفاعل من الرفع يعرض الكلمة بعين عروضه الفاعل من دون

٢٢

واسطة.

وتوضيح ذلك

هو ان الموضوع في علم النحو مثلا ليس هو الكلمة من حيث هي لا بشرط ، بل الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، كما أن الكلمة من حيث لحوق الصحة والاعتلال لها موضوع لعلم الصرف ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع أيضا ، هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بداهة ان البحث عن الفاعل ليس من حيث صدور الفعل عنه ، أو من حيث تقدم رتبته عن رتبة المفعول ، بل من حيث لحوق الاعراب له ، والمفروض ان الكلمة من هذه الحيثية أيضا تكون موضوعا لعلم النحو ، وكذا يق في مثل الصلاة واجبة ، حيث إن الموضوع في علم الفقه ليس هو فعل المكلف من حيث هو ، بل من حيث عروض الأحكام الشرعية عليه ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان كلا من موضوع العلم مع موضوعات المسايل يكون ملحوظا بشرط شيء وهو قيد الحيثية.

وربما يستشكل

في اخذ قيد الحيثية ، بأنه يلزم اخذ عقد الحمل في عقد الوضع ، إذ الموضوع في قولنا : الكلمة اما معربة أو مبنية ليس هو مطلق الكلمة حسب الفرض ، بل الكملة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، فيلزم ان يكون قولنا : كل كلمة اما معربة أو مبنية ، بمنزلة قولنا : الكلمة المعربة أو المبنية ، اما معربة أو مبنية. وهذا كما ترى يلزم منه اخذ المحمول في الموضوع ، وهو ضروري البطلان ، لاستلزامه حمل الشيء على نفسه. هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعف الاشكال ، بداهة ان المراد من قولنا : الكلمة من حيث البناء والاعراب موضوع لعلم النحو ، ليس الكلمة المتحيثة بحيثية الاعراب والبناء فعلا المتلونة بذلك حالا ، بل المراد الكلمة القابلة للحوق الاعراب والبناء لها ، والتي لها استعداد وقوة لحوق كل منهما لها ، فهذه الكلمة اما معربة فعلا ، واما مبنية فعلا.

٢٣

والحاصل :

ان الكلمة من حيث ذاتها قابلة للحوق كل من الاعراب والبناء لها ، كما انها قابلة للحوق كل من الصحة والاعتلال والفصاحة والبلاغة لها ، فتارة : تلاحظ الكلمة من حيث قابليتها لقسم خاص من هذه العوارض ، كالاعراب والبناء ، فتجعل موضوعا لعلم النحو. وأخرى : تلاحظ من حيث قابليتها لقسم آخر من هذه العوارض ، كالصحة والاعتلال ، فتجعل موضوعا لعلم الصرف وهكذا.

فتحصل :

ان اعتبار قيد الحيثية بهذا المعنى يوجب ارتفاع اشكال تغاير موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل اتحادا عينيا ، ويكون ما به يمتاز موضوع كل مسألة عن موضوع مسالة أخرى هو عين ما به يشتركان ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع ، هو الكلمة القابلة للحوق الاعراب لها ، وتكون الفاعلية علة لعروض الرفع عليها ، كما أن الموضوع في قولنا : كل مفعول منصوب هو ذلك ، وتكون المفعولية علة لعروض النصب عليها ، فيحصل الاتحاد بين موضوعات المسائل وموضوع العلم.

وبما ذكرنا من اعتبار قيد الحيثية في موضوع العلم يظهر لك البحث عن الجهة الثانية ، وهو المايز بين العلوم.

وتوضيح ذلك :

ان المشهور ذهبوا إلى أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وذهب بعض إلى أن تمايز العلوم بتمايز الاغراض والجهات التي دون لأجلها العلم ، كصيانة المقال عن الألحان في علم النحو ، والفكر عن الخطاء في علم المنطق ، واستنباط الأحكام الشرعية في علم الأصول.

ووجه العدول عن مسلك المشهور : هو انه يلزم تداخل العلوم بعضها مع بعض لو كان المايز بينها هو الموضوع ، وهذا الاشكال انما يتوجه بناء على أن يكون ما يعرض الشيء لجنسه من العوارض الذاتية ، كالتحرك بالإرادة العارض للانسان

٢٤

بواسطة كونه حيوانا ، أو العارض للجنس بواسطة الفصل ، كالتعجب العارض للحيوان بواسطة كونه ناطقا ، فان كلا من هذين القسمين وقع محل الكلام في كونه من العرض الذاتي ، حيث ذهب بعض إلى أن ما يعرض الشيء لجزئه الأعم أو الأخص يكون من العرض الغريب ، كما أن من العرض الغريب ما كان لأمر خارج أعم أو أخص أو مباين على مشرب المشهور ، فيلزم ان يكون البحث عن كل ما يلحق الكلمة ولو بواسطة فصولها بحثا عن عوارض الكملة ، فيتداخل علم النحو والصرف واللغة ، لان البحث في الجميع يكون عن عوارض الكلمة التي هي موضوع في العلوم الثلاثة ، وان اختلفت جهة البحث ، حيث إن جهة البحث في النحو هي الاعراب والبناء ، وفي الصرف هي الصحة والاعتلال ، وفي اللغة هي المعاني والمفاهيم ، الا ان الجميع يكون من العوارض الذاتية لجنس الكلمة حسب الفرض ، وان كان عروضها لها باعتبار ما لها من الفصول : من الفاعل والمفعول ، والثلاثي والمزيد فيه ، الا ان الجميع يعرض جنس الكلمة ، والمفروض ان عوارض الجنس عوارض ذاتية للكلمة ، فيلزم تداخل العلوم الثلاثة.

ولأجل ورود هذا الاشكال زيد قيد الحيثية ، وقيل : ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات.

وقد أشكل على زيادة الحيثية : بأنها مما لا تسمن ولا تغنى من جوع ، كما لا يخفى على المراجع في المطولات هذا.

ولكن الانصاف

انه يمكن حسم مادة الاشكال بما ذكرناه من معنى الحيثية التي اخذت قيدا في موضوع العلم ، فإنه هب ان هذه العوارض من العوارض الذاتية للكلمة ، الا ان المبحوث عنه في علم النحو ليس مطلق ما يعرض الكلمة من العوارض الذاتية لها ، بل من حيث خصوص قابليتها للحوق البناء والاعراب لها ، على وجه تكون هذه الحيثية هي مناط البحث في علم النحو ، فالحيثية في المقام حيثية تقييدية ، لا تعليلية ، ولا الحيثية التي تكون عنوانا للموضوع كالحيثية في قولنا : الماهية من حيث هي هي ليست الا هي. فإذا صار الموضوع في علم النحو هي الكلمة من حيث خصوص لحوق

٢٥

البناء والاعراب لها ، والموضوع في علم الصرف هي الكلمة من حيث خصوص لحوق الصحة والاعتلال لها ، فيكون المايز بين علم النحو والصرف هو الموضوع المتحيث بالحيثية الكذائية.

وبعد ذلك ، لا موجب لدعوى ان تمايز العلوم بتمايز الاغراض ، مع أن هناك مايز ذاتي في الرتبة السابقة على الغرض.

وما يقال : من أن الموضوع في علم المعاني هو الكلمة القابلة للحوق البناء والاعراب لها ، فيرتفع المايز بين علم النحو وعلم المعاني فضعفه ظاهر ، إذا لموضوع في علم المعاني ، ليس هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بل هو الكلمة من حيث لحوق الفصاحة والبلاغة لها ، وان كان لحوق الفصاحة والبلاغة لها في حال لحوق البناء والاعراب لها ، الا ان كون الكملة في حال كذا موضوعا لعلم لايكون البحث في ذلك العلم عن ذلك الحال غير كون الكلمة موضوعا بقيد ذاك الحال فتأمل.

وبما ذكرنا من قيد الحيثية يظهر :

ان البحث في جل مباحث الأوامر والنواهي مما يرجع البحث عن مفاهيم الألفاظ ومداليل صيغ الأمر والنهي ، يكون بحثا عما يلحق موضوع علم الأصول وليس من المعاني اللغوية ، إذ البحث في تلك المباحث انما يكون من حيثية استنباط الحكم الشرعي ، وان كان عنوان البحث أعم ، الا ان قيد الحيثية ملحوظ فتأمل.

وإذا عرفت ما ذكرناه : من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات ، فلا يهمنا البحث عن أن عوارض الجنس من العوارض الذاتية أو العوارض الغريبة ، ونفصل القول في اقسام كل منها ، فليطلب من المطولات.

بقى في المقام البحث عن الجهة الثالثة

وهي البحث عن موضوع خصوص علم الأصول.

فقيل :

ان موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بذواتها ، أو بوصف كونها أدلة.

٢٦

والاشكالات الواردة على اخذ الموضوع ذلك مما لا تخفى على المراجع. وكفى في الاشكال هو انه لو كان موضوع علم الأصول ذلك يلزم خروج أكثر مباحثه : من مسألة حجية خبر الواحد ، ومسألة التعادل والتراجيح ، ومسألة الاستصحاب ، وغير ذلك مما لا يرجع البحث فيها عما يعرض الأدلة الأربعة ، بل يلزم خروج جل من مباحث الألفاظ ، كالمباحث المتعلقة بمعاني الأمر والنهي ، ومثل مقدمة الواجب ، واجتماع الأمر والنهي ، حيث تكون من المبادئ التصورية أو التصديقية ، أو من مبادئ الاحكام التي زادها القوم في خصوص علم الأصول ، حيث أضافوا إلى المبادئ التصورية والتصديقية مبادئ أحكامية.

وتوضيح ذلك :

هو ان لكل علم مبادئ تصورية ، ومبادي تصديقية. والمراد من المبادئ التصورية هو ما يتوقف عليه تصور الموضوع واجزائه وجزئياته وتصور المحمول كذلك. والمراد من المبادئ التصديقية هو مما يتوقف عليه التصديق والاذعان بنسبة المحمول إلى الموضوع. فمسألة العلم تكون حينئذ ، هي عبارة عن المحمولات المنتسبة ، أو مجموع القضية ـ على الخلاف. والمراد من المبادئ الأحكامية هو ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية : من التكليفية والوضعية بأقسامهما ، وكذا الأحوال والعوارض للأحكام : من كونها متضادة ، وكون الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل ، أو منتزعة عن التكليف ، وغير ذلك من حالات الحكم. ووجه اختصاص المبادئ الأحكامية بعلم الأصول ، هو ان منه يستنتج الحكم الشرعي وواقع في طريق استنباطه.

ثم إن البحث عن المبادئ بأقسامها ، وليس من مباحث العلم ، بل كان حقها ان تذكر في علم اخر ، مما كانت المبادئ من عوارض موضوعه ، الا انه جرت سيرة أرباب العلوم على ذكر مبادئ كل علم في نفس ذلك العلم ، لعدم تدوينها في علم آخر.

وعلى كل تقدير يلزم بناء على أن يكون موضوع علم الأصول هو خصوص الأدلة الأربعة كون كثير من مباحثه اللفظية مندرجة في مبادئ العلم :

٢٧

المبادئ الأحكامية ، أو المبادئ التصديقية ، أو التصورية ، على اختلاف الوجوه التي يمكن البحث عنها ، مضافا إلى لزوم خروج كثير من مهمات مسائله عنه ، كمسألة حجية خبر الواحد ، وتعارض الأدلة ، وغير ذلك.

وما تكلف به الشيخ قده

في باب حجية (١) خبر الواحد ، من ادراج تلك المسألة في مسائل علم الأصول على وجه يكون البحث فيها بحثا عن عوارض السنة بما لفظه : « فمرجع هذه المسألة إلى أن السنة أعني قول الحجة أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد ، أم لا يثبت الا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة ، ومن هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه ، الباحثة عن أحوال الأدلة الخ ».

لا يخلو عن مناقشة

فان البحث عن ثبوت الموضوع بمفاد كان التامة ، ليس بحثا عن عوارض الموضوع ، فان البحث عن العوارض يرجع إلى مفاد كان الناقصة ، أي البحث عن ثبوت شيء لشيء ، لا البحث عن ثبوت نفس الشيء.

هذا ان أريد من السنة ، نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره ، كما هو ظاهر العبارة. وان أريد من السنة ، ما يعم حكايتها ، بان يكون خبر الواحد قسما من اقسام السنة ، فهو واضح البطلان ، بداهة ان السنة ليست الا نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره.

وبالجملة : لا داعي إلى جعل موضوع علم الأصول ، خصوص الأدلة الأربعة ، حتى يلتزم الاستطراد ، أو يتكلف في الأدراج ، بل الأولى ان يق : ان موضوع علم الأصول ، هو كل ما كان عوارضه واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ، أو ما ينتهى إليه العمل ان أريد من الحكم الحكم الواقعي ، وان أريد الأعم منه ومن الظاهري ، فلا يحتاج إلى قيد ( أو ما ينتهى إليه العمل ) لان المستفاد

__________________

١ ـ فرائد الأصول ـ مباحث الظن ـ بحث خبر الواحد ـ بعد قوله قدس‌سره : « اما المقدمة الأولى .. » ص.

٢٨

من الأصول العملية أيضا هو الحكم الشرعي الظاهري ، اللهم الا ان يكون المراد من القيد ، بعض الأصول العقلية فتأمل جيدا.

ولا يلزمنا معرفة الموضوع بحقيقته واسمه ، بل يكفي معرفة لوازمه وخواصه. فموضوع علم الأصول هو الكلي المتحد مع موضوعات مسائله ، التي يجمعها عنوان وقوع عوارضها كبرى لقياس الاستنباط ، وهذا المقدار من معرفة الموضوع يكفي ويخرج عن كون البحث عن امر مجهول.

فظهر من جميع ما ذكرنا : رتبة علم الأصول ، وتعريفه ، وغايته ، وموضوعه. حيث كانت رتبته : هي الجزء الأخير من علة الاستنباط. وتعريفه : هو العلم بالكبريات التي لو انضم إليها صغرياتها يستنتج حكم فرعى. وغايته : الاستنباط. وموضوعه : ما كان عوارضه واقعة في طريق الاستنباط. وإذ فرغنا من ذلك فلنشرع في المقدمة التي هي في مباحث الألفاظ ، وفيها مباحث :

المبحث الأول في الوضع

اعلم : انه قد نسب إلى بعض ، كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع ، أي كانت هناك خصوصية في ذات اللفظ اقتضيت دلالته على معناه ، من دون ان يكون هناك وضع وتعهد من أحد ، وقد استبشع هذا القول ، وأنكروا على صاحبه أشد الانكار ، لشهادة الوجدان على عدم انسباق المعنى من اللفظ عند الجاهل بالوضع ، فلا بد من أن يكون دلالته بالوضع.

ثم أطالوا الكلام في معنى الوضع وتقسيمه إلى التعييني والتعيني ، مع ما أشكل على هذا التقسيم ، من أن الوضع عبارة عن الجعل والتعهد واحداث علقة بين اللفظ والمعنى ، ومن المعلوم ان في الوضع التعيني ليس تعهد وجعل علقة ، بل اختصاص اللفظ بالمعنى يحصل قهرا من كثرة الاستعمال ، بحيث صار على وجه ينسبق المعنى من اللفظ عند الاطلاق.

وربما فسر الوضع بمعناه الاسم المصدري ، الذي هو عبارة عن نفس العلقة والاختصاص الحاصل تارة : من التعهد وأخرى : من كثرة الاستعمال هذا.

٢٩

ولكن الذي ينبغي ان يق :

ان دلالة الألفاظ وان لم تكن بالطبع ، الا انه لم تكن أيضا بالتعهد من شخص خاص على جعل اللفظ قالبا للمعنى ، إذ من المقطوع انه لم يكن هناك تعهد من شخص لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الألفاظ ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها؟ بل لو ادعى استحالة ذلك لم تكن بكل البعيد بداهة عدم تناهى الألفاظ بمعانيها ، مع أنه لو سلم امكان ذلك ، فتبليغ ذلك التعهد وايصاله إلى عامة البشر دفعة محال عادة.

ودعوى : ان التبليغ والايصال يكون تدريجا ، مما لا ينفع ، لان الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ يكون ضروريا للبشر ، على وجه يتوقف عليه حفظ نظامهم ، فيسئل عن كيفية تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهد إليهم ، بل يسئل عن الخلق الأول كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنه لم يكن بعد وضع وتعهد من أحد.

وبالجملة : دعوى ان الوضع عبارة عن التعهد واحداث العلقة بين اللفظ والمعنى من شخص خاص مثل يعرب بن قحطان ، كما قيل ، مما يقطع بخلافها. فلا بد من انتهاء الوضع إليه تعالى ، الذي هو على كل شيء قدير ، وبه محيط ، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعا تشريعيا ، ولا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيا ، إذ ذلك أيضا مما يقطع بخلافه. بل المراد من كونه تعالى هو الواضع ان حكمته البالغة لما اقتضت تكلم البشر بابراز مقاصدهم بالألفاظ ، فلا بد من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شانه بوجه ، اما بوحي منه إلى نبي من أنبيائه ، أو بالهام منه إلى البشر ، أو بابداع ذلك في طباعهم ، بحيث صاروا يتكلمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم ، حسب ما أودعه الله في طباعهم ، ومن المعلوم ان ايداع لفظ خاص لتأدية معنى مخصوص لم يكن باقتراح صرف وبلا موجب ، بل لابد من أن يكون هناك جهة اقتضت تأدية المعنى بلفظه المخصوص ، على وجه يخرج عن الترجيح بلا مرجح. ولا يلزم ان تكون تلك الجهة راجعة إلى ذات اللفظ ، حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية ، كما ينسب

٣٠

ذلك إلى سليمان بن عباد ، بل لابد وأن يكون هنا جهة ما اقتضت تأدية معنى الانسان بلفظ الانسان ، ومعنى الحيوان بلفظ الحيوان.

وعلى كل حال : فدعوى ان مثل يعرب بن قحطان أو غيره هو الواضع مما لا سبيل إليها ، لما عرفت من عدم امكان إحاطة البشر بذلك.

ثم انه قد اشتهر تقسيم الوضع : إلى الوضع العام والموضوع له العام ، والى الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والى الوضع العام والموضوع له الخاص. وربما زاد بعض على ذلك الوضع الخاص والموضوع له العام ، ولكن الظاهر أنه يستحيل ذلك ، بداهة ان الخاص بما هو خاص لا يصلح ان يكون مرآة للعام. ومن هنا قيل : ان الجزئي لايكون كاسبا ولا مكتسبا ، وهذا بخلاف العام ، فإنه يصلح ان يكون مرآة لملاحظة الافراد على سبيل الاجمال.

نعم ربما يكون الخاص سببا لتصور العام وانتقال الذهن منه إليه ، الا انه يكون حينئذ الوضع عاما كالموضوع له ، فدعوى امكان الوضع الخاص والموضوع له العام ، مما لا سبيل إليها. وهذا بخلاف بقية الأقسام ، فان كلا منها بمكان من الامكان إذ يمكن ان يكون الملحوظ حال الوضع عاما قابل الانطباق على كثيرين ، أو يكون خاصا.

ثم ما كان عاما ، يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء نفس ذلك العام ، فيكون الموضوع له أيضا عاما على طبق الملحوظ حال الوضع ، كما أنه يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء مصاديق ذلك العام وافراده المتصورة اجمالا بتصور ما يكون وجها لها وهو العام وتصور الشيء بوجهه بمكان من الامكان ، فيكون الموضوع له ح خاصا ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا صرف امكان لا واقع له ، بداهة ان الوضع العام والموضوع له الخاص ، يتوقف تحققه على أن يكون هناك وضع وجعل من شخص خاص ، حتى يمكنه جعل اللفظ بإزاء الافراد ، وقد عرفت المنع عن تحقق الوضع بهذا الوجه ، وانه لم يكن هناك واضع مخصوص ، وتعهد من قبل أحد ، بل الواضع هو الله تعالى بالمعنى المتقدم. وح فالوضع العام والموضوع له الخاص بالنسبة إلى الألفاظ المتداولة التي وقع النزاع فيها مما لا واقع له. نعم يمكن ذلك بالنسبة إلى

٣١

المعاني المستحدثة والأوضاع الجديدة.

ثم لا يذهب عليك ان الوضع العام والموضوع له الخاص يكون قسما من اقسام المشترك اللفظي ، بداهة ان الموضوع له في ذلك انما يكون هي الافراد ، ومن المعلوم تباين الافراد بعضها مع بعض ، فيكون اللفظ بالنسبة إلى الافراد من المشترك اللفظي ، غايته انه لم يحصل ذلك بتعدد الأوضاع ، بل بوضع واحد ، ولكن ينحل في الحقيقة إلى أوضاع متعددة حسب تعدد الافراد.

وبالجملة :

لافرق بين الوضع العام والموضوع له الخاص ، وبين قوله : كلما يولد لي في هذه الليلة فقد سميته عليا ، فكما ان قوله ذلك يكون من المشترك اللفظي ، إذ مرجع ذلك إلى أنه قد جمع ما يولد له في الليلة في التعبير ، وسماهم بعلي ، فيكون من المشترك اللفظي ، إذ لا جامع بين نفس المسميات ، لتباين ما يولد له في هذه الليلة ، فكذلك الوضع العام والموضوع له الخاص.

بل يمكن ان يق : ان قوله كلما يولد لي في هذه الخ يكون من الوضع العام والموضوع له الخاص أيضا ، غايته ان الجامع المتصور حين الوضع ، تارة يكون ذاتيا للأفراد كما إذا تصور الانسان وجعل اللفظ بإزاء الافراد ، وأخرى يكون عرضيا جعليا ، كتصور مفهوم ما يولد فتأمل جيدا ، هذا.

ولكن يظهر (١) من الشيخ قده ـ على ما في التقرير ـ في باب الصحيح والأعم عند تصور الجامع بناء على الصحيح ، الفرق بين الوضع العام والموضوع له

__________________

١ ـ واليك نص ما افاده صاحب التقريرات :

« ان المتشرعة توسعوا في تسميتهم إياها صلاة ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع من حيث حصول ما هو المقصود من المركب التام من غيره أيضا. كما سموا كلما هو مسكر خمرا وان لم يكن مأخوذا من العنب مع أن الخمر هو المأخوذ منه وليس بذلك البعيد ، ونظير ذلك لفظ الاجماع ..

إلى أن قال : « فكان مناط التسمية بالصلاة موجود عندهم في غير ذلك المركب الجامع ، فالوضع فيها نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، دون الاشتراك اللفظي ».

مطارح الأنظار ـ ص ٥ ـ في تصوير الجامع بناء على القول بوضع الألفاظ للصحيح.

٣٢

الخاص وبين المشترك اللفظي هذا. ولكن يمكن ان يكون مراده من المشترك اللفظي في ذلك المقام ، هو ما تعدد فيه الوضع حقيقة ، لا ما كان التعدد بالانحلال ، كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

وعلى كل حال ، لا اشكال في ثبوت الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام.

واما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقيل : انه وضع الحروف وما يلحق بها ، وقيل : ان الموضوع له فيها أيضا عام ، كالوضع. وربما قيل : ان كلا من الوضع والموضوع له فيها عام ، ولكن المستعمل فيه خاص. وينبغي بسط الكلام في ذلك ، حيث جرت سيرة الاعلام على التعرض لذلك في هذا المقام.

فنقول : البحث في الحروف يقع في مقامين :

المقام الأول : في بيان معاني الحروف والمايز بينها وبين الأسماء.

المقام الثاني : في بيان الموضوع له في الحروف ، من حيث العموم والخصوص.

اما البحث عن المقام الأول

فقد حكى في المسألة أقوال ثلاثة.

القول الأول

هو انه لا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى في هوية ذاته وحقيقته ، لا في الوضع ولا في الموضوع له ، بل المعنى الحرفي هو المعنى الأسمى ، وكل من معنى لفظة ( من ) ولفظة ( الابتداء ) متحد بالهوية ، وان الاستقلالية بالمفهومية المأخوذة في الأسماء ، وعدم الاستقلالية المأخوذة في الحروف ، ليس من مقومات المعنى الأسمى والمعنى الحرفي. فمرجع هذا القول في الحقيقة إلى أن كلا من لفظ ( من ) ولفظ ( الابتداء ) موضوع للمعنى الجامع بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل ، فكان كل منهما في حد نفسه يجوز استعماله في مقام الاخر ، الا ان الواضع لم يجوز ذلك ، ووضع لفظة ( من ) لان تستعمل فيما لا يستقل بان يكون قائما بغيره ، ولفظة ( الابتداء ) لان تستعمل فيما يستقل وما يكون قائما بذاته ، فكأنه شرط من قبل الواضع ، مأخوذ في

٣٣

ناحية الاستعمال من دون ان يكون مأخوذا في حقيقة المعنى.

القول الثاني

هو انه ليس للحروف معنى أصلا ، بل هي نظير علامات الاعراب من الرفع والنصب والجر ، حيث إن الأول علامة للفاعلية ، والثاني علامة للمفعولية ، والثالث علامة للمضاف إليه ، من دون ان يكون لنفس الرفع والنصب والجر معنى أصلا ، فكذلك الحروف ، حيث وضعت لمجرد العلامة لما أريد من مدخولها حسب تعدد ما يراد من الدخول ، مثلا الدار تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، التي هي موجودة كسائر الموجودات التكوينية ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني الذي هو عبارة عن المكان الذي يستقر فيه الشيء ، وكذلك البصرة مثلا تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني ، وثالثة : تلاحظ بما انها مبدء السير ، ورابعة : تلاحظ بما انها ينتهى إليها السير.

ومن المعلوم : انه في مقام التفهيم والتفهم لا بد من علامة ، بها يقتدر على تفهيم المخاطب ما أريد من الدار والبصرة من اللحاظات ، فوضع الاعراب علامة لملاحظة الدار بوجودها العيني ، فتقع ح مبتداء أو خبرا فيقال : الدار كذا ، أو زيد في الدار ، ووضعت كلمة ( من ) للعلامة على أن الدار أو البصرة لوحظت كونها مبدء السير ، و ( إلى ) علامة كونها ملحوظة منتهى السير ، وكلمة ( في ) علامة لكونها ملحوظة بوجودها الأيني المقابل لوجودها العيني ، فليس لكلمة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) معنى أصلا ، بل حالها حال أداة الاعراب ، من كونها علامة صرفة لما يراد من مدخولاتها ، من دون ان يكون تحت قوالب ألفاظها معنى أصلا. وهذان القولان نسبا إلى الرضى ره لان اختلاف عبارته يوهم ذلك.

القول الثالث

هو ان للحروف معاني ممتازة بالهوية عن معاني الأسماء ، ويكون الاختلاف بين الحروف والاسم راجعا إلى الحقيقة ، بحيث تكون معاني الحروف مباينة لمعاني الأسماء تباينا كليا ، لا ان معانيها متحدة مع معاني الأسماء ، ولا انها علامات صرفة ليس لها معاني. وهذا القول هو الموافق للتحقيق الذي ينبغي البناء عليه. و

٣٤

توضيح ذلك يقضى رسم أمور :

الامر الأول :

في شرح ما قيل في معنى الاسم : من أنه ما دل على معنى في نفسه أو قائم بنفسه ، والحرف ما دل على معنى في غيره أو قائم بغيره ، وقبل ذلك ينبغي الإشارة إلى ما يراد من المعنى والمفهوم.

فنقول : المراد من المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني ، الذي يدركه العقل من الحقائق ، سواء كان لتلك الحقايق خارج يشار إليه ، أو لم يكن ، وذلك المدرك العقلاني يكون مجردا عن كل شيء وبسيطا غاية البساطة ، بحيث لايكون فيه شائبة التركيب ، إذ التركيب من المادة والصورة انما يكون من شأن الخارجيات ، واما المدركات العقلية فليس فيها تركيب ، بل لا تركيب في الأوعية السابقة على وعاء العقل من الواهمة والمتخيلة بل الحس المشترك أيضا ، إذ ليس في الحس المشترك الا صورة الشيء مجردا عن المادة ، ثم يرقى الشيء المجرد عن المادة إلى القوة الواهمة ، ثم يصعد إلى أن يبلغ صعوده إلى المدركة العقلانية ، فيكون الشيء في تلك المرتبة مجردا عن كل شيء حتى عن الصورة ، فالمفهوم عبارة عن ذلك المدرك العقلاني الذي لا وعاء له الا العقل ، ولا يمكن ان يكون ذلك الشيء في ذلك الوعاء مركبا من مادة وصورة ، بل هو بسيط كل البساطة.

وما يقال : من أن الجنس والفصل عبارة عن الاجزاء العقلية ، فليس المراد ان المدركات العقلية مركبة من ذلك ، بل المراد ان العقل بالنظر الثانوي إلى الشيء يحكم : بأن كل مادي لابد وأن يكون له ما به الاشتراك الجنسي ، وما به الامتياز الفصلي ، والا فالمدرك العقلي لايكون فيه شائبة التركيب أصلا ، فمرادنا من المعنى والمفهوم في كل مقام ، هو ذلك المدرك العقلي.

إذا عرفت ذلك فنقول :

في شرح قولهم : ان الاسم ما دل على معنى في نفسه ، أو قائم بنفسه ، هو ان المعنى الأسمى مدرك من حيث نفسه ، وله تقرر في وعاء العقل ، من دون ان يتوقف ادراكه على ادراك امر اخر ، حيث إنه هو بنفسه معنى يقوم بنفسه في مرحلة التصور و

٣٥

الادراك ، وله نحو تقرر وثبوت ، سواء كان المعنى من مقولة الجواهر ، أو من مقولة الاعراض ، إذ الاعراض انما يتوقف وجودها على محل ، لا ان هويتها تتوقف على ذلك ، حتى الاعراض النسبية ، كالأبوة والبنوة ، فان تصور الاعراض النسبية وان كان يتوقف على تصور طرفيها ، الا انه مع ذلك لها معنى متحصل في حد نفسه عند العقل ، وله نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور والادراك.

والحاصل :

ان المراد من كون المعنى الأسمى قائما بنفسه ، هو ان للمعنى نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، سواء كان هناك لافظ ومستعمل ، أو لم يكن ، وسواء كان واضع ، أو لم يكن ، كمعاني الأسماء : من الأجناس والاعلام ، من الجواهر المركبة والمجردات والاعراض وكل موجود في عالم الامكان ، فإنه كما أن لكل منها نحو تقرر وثبوت في الوعاء المناسب له من عالم المجردات وعالم الكون والفساد ، فكذلك لكل منها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل عند تصورها وادراكها ، من دون ان يكون لاستعمال ألفاظها دخل في ذلك ، بل معاني تلك الألفاظ بأنفسها ثابتة ومتقررة عند العقل في مقام التصور ، كما يشاهد ان للفظة الجدار مثلا معنى ثابتا عند العقل في مرحلة ادراكه وتصوره على نحو ثبوته العيني التكويني ، من دون ان يتوقف ادراكه على وضع ولفظ واستعمال ، كما لا توقف لوجوده العيني على ذلك ، فهذا معنى قولهم : ان الاسم ما دل على معنى قائم بنفسه ، إذ معنى كونه قائما بنفسه هو ثبوته النفسي ، وتقرره عند العقل.

واما معنى قولهم : ان الحرف ما دل على معنى في غيره ، أو قائم بغيره ، فالمراد منه : هو ان المعنى الحرفي ليس له نحو تقرر وثبوت في حد نفسه ، بل معناه قائم بغيره ، لا بمعنى انه ليس له معنى ، كما توهمه من قال إنه ليس للحروف معنى بل هي علامات صرفه ، بل بمعنى ان معناه ليس قائما بنفسه وبهوية ذاته ، بل قائم بغيره ، نظير قيام العرض بمعروضه وان لم يكن من هذا القبيل ، الا انه لمجرد التنظير والتشبيه ، والا فللعرض معنى قائم بنفسه عند التصور ، وان كان وجوده الخارجي يحتاج إلى محل يقوم به.

٣٦

والحاصل : ان المعنى الحرفي يكون قوامه بغيره ، ونحو تقرره وثبوته بتقرر الغير وثبوته ، كالنسبة الابتدائية والظرفية القائمة بالبصرة والدار عند قولنا : سرت من البصرة وزيد في الدار. ولعل من توهم انه ليس للحروف معنى اشتبه من قولهم في تعريف الحرف : بأنه ما دل على معنى في غيره ، فتخيل ان مرادهم من ذلك هو انه ليس له معنى ، ولكن قد عرفت : انه ليس مرادهم ذلك ، بل مرادهم ان المعنى الحرفي ليس قائما بنفسه نظير قيام المعنى الأسمى بنفسه.

والفرق بين كونه علامة صرفة ، وبين كون معناه قائما بغيره ، هو انه بناء على العلامة يكون الحرف حاكيا عن معنى في الغير متقرر في وعائه ، كحكاية الرفع عن الفاعلية الثابتة لزيد في حد نفسه ، مع قطع النظر عن الاستعمال. وهذا بخلاف كون معناه قائما بغيره ، فإنه ليس فيه حكاية عن ذلك المعنى القائم بالغير ، بل هو موجد لمعنى في الغير ، على ما سيأتي توضيحه انشاء الله تعالى.

الامر الثاني :

لا اشكال في أن المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين منها : ما تكون اخطارية ، ومنها : ما تكون ايجادية.

اما الأولى : فكمعاني الأسماء حيث إن استعمال ألفاظها في معانيها يوجب اخطار معانيها في ذهن السامع واستحضارها لديه ، والسر في ذلك هو ما ذكرناه من أن المفاهيم الاسمية لها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، الذي هو وعاء الادراك ، فيكون استعمال ألفاظها موجبا لاخطار تلك المعاني في الذهن.

واما الثانية : فكمعاني الحروف حيث إن استعمال ألفاظها موجب لايجاد معانيها من دون ان يكون لمعانيها نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال ، بل توجد في موطن الاستعمال ، وذلك ككاف الخطاب وياء النداء ، وما شابه ذلك ، بداهة انه لولا قولك يا زيد وإياك ، لما كان هناك نداء ولا خطاب ، ولا يكاد يوجد معنى ياء النداء وكاف الخطاب الا بالاستعمال وقولك يا زيد وإياك ، فنداء زيد وخطاب عمرو انما يوجد ويتحقق بنفس القول ، فتكون ياء النداء وكاف الخطاب موجدة لمعنى لم يكن له سبق تحقق ، بل يوجد بنفس الاستعمال ، لوضوح انه

٣٧

لا يكاد توجد حقيقة المخاطبة والنداء بدون ذلك ، فواقعية هذا المعنى وهويته تتوقف على الاستعمال ، وبه يكون قوامه. وهذا بخلاف معنى زيد ، فان له نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور مع قطع النظر عن الاستعمال ، ومن هنا صار استعماله موجبا لاخطار معناه ، بخلاف معنى ياء النداء وكاف الخطاب ، فإنه ليس له نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال. نعم مفهوم النداء ومفهوم الخطاب له تقرر في وعاء العقل ، الا انه لم توضع لفظة يا وكاف الخطاب بإزائه بل الموضوع بإزاء ذلك المفهوم هو لفظة النداء ولفظة الخطاب ، لا لفظة يا وكاف الخطاب ، بل هما وضعتا لايجاد النداء والخطاب ، وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه. انما الاشكال في أن جميع معاني الحروف تكون ايجادية أولا. ظاهر كلام المحقق (١) صاحب الحاشية : هو اختصاص ذلك ببعض الحروف ، وكان منشأ توهم الاختصاص ، هو تخيل ان مثل ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف تكون معانيها اخطارية ، حيث كان استعمالها موجبا لاخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء والانتهاء ، مثلا في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون لفظة ( من ) و ( إلى ) حاكية عما وقع في

__________________

١ ـ هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. الفائدة الثانية من الفوائد التي وضعها في تتمة مباحث الألفاظ. ص ٢٢.

واليك نص ما افاده قدس‌سره في هذا المقام :

« الثانية : الغالب في أوضاع الألفاظ ان تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللفظ فيها ، كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللغات ، وحينئذ فقد يكون ذلك المعنى أمرا حاصلا في نفسه مع قطع النظر عن اللفظ الدال عليه ، فليس من شأن اللفظ الا احضار ذلك المعنى ببال السامع ، وقد يكون ذلك المعنى حاصلا بقصده من اللفظ من غير أن يحصل هناك معنى قبل أداء اللفظ ، فيكون اللفظ آلة لايجاد معناه وأداة لحصوله ويجرى كل من القسمين في المركبات والمفردات. » إلى أن قال :

« والنوع الأول من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة ، فإنها انما تقضى باحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد اثبات تلك المعاني في الخارج فهي أعم من أن تكون ثابتة في الواقع أولا. والنوع الثاني منها كأسماء الإشارة والافعال الانشائية بالنسبة إلى وضعها النسبي ، وعدة من الحروف كحروف النداء والحروف المشبهة بالفعل ونحوها ، فان كلا من الإشارة والنسبة الخاصة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال هذا ، واضرب ، ويا ، وان ، في معاينها .. »

٣٨

الخارج كحكاية لفظة زيد عن معناه هذا.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق ان معاني الحروف كلها ايجادية وليس شيء منها اخطارية. وتوضيح ذلك يستدعى بسطا من الكلام في معنى النسبة وأقسامها.

فنقول : ان النسبة عبارة عن العلقة والربط الحاصل من قيام إحدى المقولات التسع بموضوعاتها ، بيان ذلك هو انه لما كان وجود العرض ـ في نفسه ولنفسه ـ عين وجوده ـ لموضوعه وفي موضوعه ـ لاستحالة قيام العرض بذاته ، فلا بد ان تحدث هناك نسبة وإضافة بين العرض وموضوعه ، بداهة ان ذلك من لوازم قيام العرض بالموضوع ، وعينية وجوده لوجوده الذي يكون هو المصحح للحمل ، فإنه لولا قيام البياض بزيد واتحاد وجوده بوجوده لما كاد ان يصح الحمل ، فلا يقال : زيد ابيض ، الا بلحاظ العينية في الوجود ، إذ لولا لحاظ ذلك لكان البياض أمرا مباينا لزيد ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، إذ ملاك الحمل هو الاتحاد في الوجود في الحمل الشايع الصناعي ، فالإضافة الحاصلة من قيام العرض بموضوعه هي المصحح للحمل ، إذ بذلك القيام يحصل الاتحاد والعينية في الوجود ، بل الإضافة تحتاج إليها في كل حمل ، وان لم يكن من الحمل الشايع الصناعي ، كقولك : الانسان حيوان ناطق ، وزيد زيد ، غايته ان في مثل هذا الحمل لابد من تجريد الموضوع بنحو من التجريد حتى لايكون من حمل الشيء على نفسه ، الا ان التجريد يكون بضرب من الجعل والتنزيل ، إذ لا يمكن تجريد الشيء عن نفسه حقيقة ، بل لابد من اعتبار التجريد حتى يصح الحمل ، ويخرج عن كونه من حمل الشيء على نفسه. وهذا بخلاف التجريد في الحمل الشايع الصناعي ، فان التجريد فيه يكون حقيقيا ذاتيا ، لتغاير ذات زيد وحقيقته عن حقيقة الأبيض ، ولا ربط لأحدهما بالآخر لولا الاتحاد الخارجي. وعلى كل حال ، فلا اشكال في أنه عند قيام كل عرض من أي مقولة بمعروضه تحدث إضافة بينهما ، وتلك الإضافة هي المعبر عنها بالنسبة.

ثم انه ، لما كان قيام العرض بموضوعه وعينية وجوده لوجوده فرع وجوده ، بداهة ان وجوده لنفسه كان عين وجوده لموضوعه ، ومن المعلوم : ان عينية الوجود لموضوعه متأخرة بالرتبة عن أصل وجوده ، كان أول نسبة تحدث هي النسبة

٣٩

الفاعلية التي هي واقعة في رتبة الصدور والوجود ، إذ الفاعل ما كان يوجد عنه الفعل على اختلاف الافعال الصادرة عنه ، فنسبة الفعل إلى الفاعل هي أول النسب ، ومن ذلك تحصل الافعال الثلاثة من الماضي والمضارع والامر ، على ما هي عليها من الاختلاف ، الا ان الجميع يشترك في كون النسبة فيه نسبة التحقق والصدور ، وإيجاد المبدء ، فهذه أول نسبة تحدث بين العرض والموضوع ، ثم بعد ذلك تحدث نسبة المشتق ، لان المشتق انما يتولد من قيام العرض بالموضوع والاتحاد في الوجود الموجب للحمل ، فيقال : زيد ضارب ، ومن المعلوم : ان هذا الاتحاد لمكان صدور الضرب عنه ، فالنسبة الأولية الحادثة هي النسبة الفاعلية ، وفي الرتبة الثانية تحدث نسبة المشتق ، ثم بعد ذلك تصل النوبة إلى نسبة الملابسات من المفاعيل الخمسة ، من حيث إن وقوع الفعل من الفاعل لابد وأن يكون في زمان خاص ، ومكان مخصوص ، في حالة خاصة ، فالنسبة الحاصلة بين الفعل وملابساته انما هي بعد نسبة الفعل إلى الفاعل وقيامه به واتحاده معه المصحح للحمل ، فهذه النسب الثلاث هي التي تتكفلها هيئات تراكيب الكلام ، من قولك : ضرب زيد عمرا ، وزيد ضارب ، وغير ذلك.

ثم إن هناك أدوات اخر تفيد النسبة ، إذ لا يختص ما يفيد النسبة بهيئات التراكيب ، بل الحروف أيضا تفيد النسبة ك‍ ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف الجارة ، فإنه ( من ) مثلا تفيد نسبة السير الصادر من السائر إلى المكان المسير عنه ، و ( إلى ) تفيد النسبة إلى المكان الذي يسير إليه ، فيقال : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فلولا كلمة ( من ) و ( إلى ) لما كاد يكون هناك نسبة بين السير والبصرة والكوفة. وكذا الكلام في كلمة ( في ) حيث إنها تفيد النسبة بين الظرف والمظروف ، فيقال : زيد في الدار ، وضرب زيد في الدار ، غايته انها تارة : تفيد نسبة قيام العرض بالموضوع ، فيكون الظرف مستقرا ، وأخرى : تفيد نسبة ملابسات الفعل ، فيكون الظرف لغوا ، فمثل زيد في الدار يكون من الظرف المستقر ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو ان زيدا موجود في الدار وكائن فيها ، وهذا معنى قول النحاة في تعريف الظرف المستقر بأنه ما قدر فيه : كائن ، ومستقر ، وحاصل ، وما شابه

٤٠