فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

القول في مقدمة الواجب

وتنقيح البحث فيها يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

لا ينبغي الاشكال في كون المسألة من المسائل الأصولية ، وليست من المبادئ الأحكامية ، ولا من المسائل الفقهية ، وذلك لما تقدم من أن الضابط في مسألة الأصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بحيث تكون نتيجتها كبرى لقياس الاستنباط على وجه يستنتج منها حكم فرعى كلي ، وهذا المعنى موجود في المقام ، فان البحث في المقام انما يكون عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته ، لا عن نفس وجوب المقدمة ، بل يكون وجوب المقدمة نتيجة الملازمة على القول بها ، فلا وجه لجعل المسألة من المسائل الفقهية ، كما لا وجه لجعلها من المبادئ الأحكامية التي هي عبارة عن البحث عن الاحكام وما يلازمها ، كالبحث عن تضاد الأحكام الخمسة ، وتقسيم الحكم إلى الوضعي والتكليفي ، وغير ذلك مما عدوه من المبادئ الأحكامية ، في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية ، فان جعلها من المبادئ الأحكامية بلا موجب ، بعد امكان جعلها من المسائل الأصولية.

نعم : هي ليست من المسائل اللفظية ، كما يظهر من المعالم (ره) بل هي من المسائل العقلية ، ولكن ليست من المستقلات العقلية الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح ومناطاة الاحكام ، بل هي من الملازمات العقلية ، حيث إن حكم العقل في المقام يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة ، فيحكم العقل بالملازمة بينه وبين وجوب مقدماته ، وليس من قبيل حكم العقل بقبح القعاب من غير بيان الذي

٢٦١

لا يحتاج إلى توسيط حكم شرعي ، بل البحث في المقام نظير البحث عن مسألة الضد ومسألة اجتماع الأمر والنهي يتوقف على ثبوت امر أو نهى شرعي ، حتى تصل النوبة إلى حكم العقل بالملازمة كما في مسئلتنا ، أو اقتضاء النهى عن الضد كما في مسألة الضد ، أو جواز الاجتماع وعدمه كما في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، ولكن القوم لما لم يفردوا بابا للبحث عن الملازمات العقلية ـ مع أنه كان حقه ذلك أدرجوا المسألة وما شابهها في مباحث الألفاظ مع أنها ليست منها كما لا يخفى.

الامر الثاني :

ليس الوجوب المبحوث عنه في المقام بمعنى اللا بدية العقلية ، فان ذلك مما لا سبيل إلى انكاره إذ هو معنى المقدمية كما هو واضح ، وليس المراد من الوجوب أيضا الوجوب التبعي العرضي نظير وجوب استدبار الجدي عند وجوب استقبال القبلة ، حيث إن الاستدبار لم يكن واجبا ، وانما ينتسب الوجوب إليه بالعرض والمجاز لمكان الملازمة نظير اسناد الحركة إلى الجالس في السفينة ، فان هذا المعنى من الوجوب أيضا مما لا ينبغي انكاره ، بل هو يرجع إلى المعنى الأول من اللابدية ، وكذا ليس المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام الوجوب الاستقلالي الناشئ عن مبادئ مستقلة وإرادة متأصلة ، فان هذا المعنى مما لا يمكن الالتزام به ، وكيف يمكن ذلك مع أنه كثيرا ما تكون المقدمة مغفولا عنها ولا يلتفت إلى أصل مقدميتها ، بل ربما يقطع بعدمها ، مع أنها في الواقع تكون مقدمة ، وهذا المعنى من وجوبها يستدعى الالتفات إليها تفصيلا.

بل المراد من الوجوب في المقام : هو الوجوب القهري المتولد من ايجاب ذي المقدمة ، بحيث يريد المقدمة عند الالتفات إليها ولا يمكن ان لا يريدها ، فالمقدمة متعلقة لإرادة الآمر ، وليس اسناد الوجوب إليها بالعرض والمجاز بل يكون الاسناد على وجه الحقيقة ، ولكن ليست الإرادة عن مبادئ مستقلة ، بل يكون مقهورا في ارادتها بعد إرادة ذي المقدمة ولو على جهة الاجمال ، بحيث تتعلق الإرادة بالعنوان الكلي الذي يتوقف عليه ذو المقدمة وان لم يلتفت إلى المقدمات الخاصة ، ولكن المقدمات الخاصة تتصف بالوجوب حقيقة بعد انطباق العنوان عليها.

٢٦٢

الامر الثالث :

في تقسيمات المقدمة : ولها تقسيمات باعتبارات مختلفة فمنها تقسيمها إلى الداخلية والخارجية ، والداخلية إلى الداخلية بالمعنى الأخص والداخلية بالمعنى الأعم. كما أن الخارجية أيضا تنقسم إلى الأعم والأخص. والمراد من الداخلية بالمعنى الأخص خصوص الاجزاء التي يتألف منها المركب ، والمراد من الداخلية بالمعنى الأعم ما يعم الاجزاء والشرائط والموانع التي اعتبر التعبد بها داخلا في المأمور به.

وبعبارة أخرى : المراد من الداخلية بالمعنى الأخص ما كان كل من القيد والتقييد داخلا في حقيقة المأمور به وهويته ، وذلك يختص بالاجزاء لا غير ، ويقابلها الخارجية بالمعنى الأعم ، وهي ما كان ذات الشيء خارجا عن حقيقة المأمور به ، سواء كان التقييد والإضافة داخلا كالشرائط والموانع ، حيث يكون ذات الشرط والمانع خارجا والتقييد والإضافة داخلا ، أو كانت الإضافة أيضا خارجة كالمقدمات العقلية التي لا دخل لها في المأمور به أصلا ، كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود إلى السطح.

والمراد من الداخلية بالمعنى الأعم ما كان التقييد داخلا ، سواء كان نفس القيد أيضا داخلا كالاجزاء أو كان نفسه خارجا كالشرائط ، ويقابلها الخارجية بالمعنى الأخص ، وهي ما كان كل من القيد والتقييد خارجا ، كالمقدمات العقلية ، فالشرط والمانع له جهتان : بجهة يكون من المقدمات الداخلية باعتبار دخول التقييد ، وبجهة يكون من المقدمات الخارجية باعتبار خروج ذاته.

ثم إن المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص تنقسم إلى علة ومعد ، والمراد من المعد ما كان له دخل في وجود الشيء ، من دون ان يكون وجود ذلك الشيء مترشحا منه بحيث يكون مفيضا لوجوده ، بل كان لمجرد التهيئة والاستعداد لإفاضة العلة وجود معلولها ، كدرجات السلم ما عدا الدرجة الأخيرة ، حيث إن كل درجة تكون معدة للكون على السطح ، كما تكون معدة أيضا للكون على الدرجة التي فوقها بمعنى انه يتوقف وجود الكون على الدرجة الثانية على الكون على الدرجة الأولى ، وقد

٢٦٣

يطلق المعد على ما يكون له دخل في وجود المعلول ، من دون ان يكون له دخل في وجود الجزء اللاحق كالبذر ، حيث إن له دخلا في وجود الزرع ، ولا يتوقف وجود الشمس أو الهواء عليه ، وان توقف تأثيرهما عليه. ولكن فرق بين التوقف في التأثير ، وبين التوقف في الوجود ، كمثال السلم. وقد يطلق المعد بهذا المعنى على المعد بالمعنى الأخص. والمراد من العلة هو ما يترشح منه وجود المعلول وبإفاضته يتحقق.

ثم إن العلة تنقسم إلى بسيطة ، ومركبة ، والمركبة إلى ما تكون اجزائها متدرجة في الوجود ، وما لا تكون كذلك.

فالأول كالصعود على السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، حيث إن الصعود على السلم يكون متدرجا في الوجود.

والثاني كالنار المجاورة مع عدم البلة بالنسبة إلى الاحراق ، حيث تكون العلة مركبة من النار والمجاورة وعدم البلة ، ولكن ليست هذه الاجزاء متدرجة في الوجود ، بل يمكن ان توجد العلة بجميع اجزائها دفعة واحدة ، فان كانت العلة متدرجة في الوجود كانت العلة التامة هي الجزء الأخير منها التي يتعقبها وجود المعلول ، والاجزاء السابقة عليها تكون من المعدات. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن متدرجة في الوجود ، فان العلة التامة هو مجموع الاجزاء ، بل المعلول يستند إلى المقتضى وان فرض تأخره في الوجود عن الشرط وعدم المانع ، فظهر ان ما اشتهر من أن الشيء يستند إلى الجزء الأخير من العلة انما هو فيما إذا كانت اجزاء العلة متدرجة في الوجود.

وعلى كل حال ، لا اشكال في دخول المقدمات الخارجية بالمعنى الأخص في محل النزاع ما عدا العلة التامة ، واما العلة التامة ففيها كلام يأتي انشاء الله تعالى ، وكذا لا اشكال في دخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل النزاع ، سواء جعلت من المقدمات الداخلية أو المقدمات الخارجية على اختلاف الاعتبارات كما تقدم.

واما دخول المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص أي الاجزاء في محل النزاع فلا يخلو عن كلام ، بل ربما حكى عن بعض خروجها عن حريم النزاع ، بل ربما

٢٦٤

يستشكل في كون الاجزاء مقدمة ، مع أنه لا بد من المغايرة بين المقدمة وذي المقدمة ، إذ لا يعقل ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، فكيف تكون الاجزاء مقدمة للكل مع أنها ليست الا عين الكل إذ الكل عبارة عن نفس الاجزاء بالأسر ، وح تكون الاجزاء واجبة بالوجوب النفسي ولا معنى لوجوبها بالوجوب المقدمي بعد كونها عين الكل واتحادها معه هذا.

وقد دفع الاشكال الشيخ ( قده ) على ما في التقريرات (١) بما حاصله : ان الكل هو عبارة عن الاجزاء لا بشرط ، والجزء عبارة عنه بشرط لا ، فالاجزاء لها لحاظان : لحاظها بشرط لا فتكون اجزاء ومقدمة ، ولحاظها لا بشرط فتكون عين الكل وذا المقدمة ، فاختلفت المقدمة مع ذيها اعتبارا ولحاظا هذا.

وكان الشيخ ( قده ) قاس المقام بالهيولى والصورة ، والجنس والفصل ، والمشتق ومبدء الاشتقاق ، حيث إنهم في ذلك المقام يفرقون بين الهيولي والصورة ، وبين الجنس والفصل ، باللابشرطية والبشرط اللائية ، فان اجزاء الانسان مثلا ان لوحظت بشرط لا ، تكون هيولى وصورة ، ويغاير كل منهما الآخر ، ويمتنع حمل أحدهما على الاخر ، وحملهما على الانسان ، وحمل الانسان على كل منهما. وان لوحظت لا بشرط تكون جنسا وفصلا ويصح حمل أحدهما على الاخر ، وحمل كل منهما على الانسان ، وحمل الانسان على كل منهما. وكذا الحال بالنسبة إلى المشتق ومبدء الاشتقاق على ما تقدم تفصيله في مبحث المشتق هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان قياس الاجزاء في المقام بمثل الهيولي والصورة والجنس والفصل مع الفارق ، فان معنى اللابشرط الذي يذكرونه في ذلك المقام انما هو بمعنى لحاظ الشيء لا بشرط عما يتحد معه بنحو من الاتحاد ، سواء كان من قبيل اتحاد المشتق مع ما يجرى عليه من الذات على اختلاف أنواعه : من كونه

__________________

١ ـ راجع مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من مباحث مقدمة الواجب ، « وتحقيق ذلك أن يقال .. » ص ٣٨ ـ ٣٧

٢٦٥

اتحادا صدوريا ، أو حلوليا ، أو غير ذلك ، أو كان من قبيل اتحاد الجنس والفصل ، فإنه في مثل هذا إذا لوحظ الشيء لا بشرط كان قابلا للحمل لمكان الاتحاد الذي بينهما ، وأين هذا مما نحن فيه من الاجزاء العرضية التي يكون كل جزء منها مبائنا للاخر وللكل؟ ولا يعقل ان يتحد الجزء مع الكل في الوجود وان لوحظ بألف لا بشرط ، ولا يمكن حمل الفاتحة على الصلاة ولا حمل الأنكبين على السكنجبين.

والسر في ذلك : هو ان المركب من الاجزاء العرضية الذي يكون التركيب فيه انضماميا لا يمكن فيه اتحاد الاجزاء بعضها مع بعض ولا بعضها مع الكل في الوجود ، بل لكل وجود مغاير ، سواء كان من المركبات الاعتبارية أو كان من المركبات الخارجية ، فلا يصح حمل الفاتحة على الصلاة وان لوحظت لا بشرط ، فان لحاظ الفاتحة لا بشرط ليس معناه لحاظها لا بشرط عما يتحد معها ، إذ لم تتحد هي مع شيء في الوجود حتى يمكن لحاظها كذلك ، كما أمكن لحاظ الجنس كذلك لمكان الاتحاد الذي بينه وبين الفصل ، بل المعنى المتصور من لحاظ الفاتحة لا بشرط انما هو لحاظها بنفسها ، سواء كانت منضمة إلى غيرها أو غير منضمة ، وهذا المعنى كما ترى لا يوجب ان تكون عين الكل ولا حملها عليه ، بل بعد بينهما كمال المباينة.

وهذا بخلاف التركيب الاتحادي بنحو من الاتحاد ، ولو كان من قبيل اتحاد المشتق مع الذات الذي هو أضعف من اتحاد الجنس والفصل ، فإنه لمكان الاتحاد الذي بينهما ـ حيث إن وجود العرض لنفسه عين وجوده لغيره ـ يمكن لحاظ الاجزاء لا بشرط ، أي لحاظها على ما هي عليها من الاتحاد من دون لحاظ تجردها عما اتحد معها ، فتكون بهذا اللحاظ عين الكل ويصح الحمل حينئذ ، كما يمكن لحاظها بشرط لا ـ أي لحاظها غير متحدة ـ فتكون مغايرة للكل ويمتنع الحمل ، وأين هذا من اجزاء المركب بالتركيب الانضمامي الذي ليس فيه شائبة الاتحاد؟ كما فيما نحن فيه.

وبالجملة : دعوى ان الاجزاء في المقام ان لوحظت لا بشرط تكون عين الكل ، ما كانت ينبغي ان تصدر من مثل الشيخ ( قده ) ولعل المقرر لم يصل إلى مراد الشيخ ( قده )

٢٦٦

والذي ينبغي ان يقال في المقام : هو ان الكل عبارة عن الاجزاء بالأسر ، أي مجموع الاجزاء منضما بعضها مع بعض ، فهي بشرط الاجتماع تكون عين الكل ، لا هي لا بشرط ، كما في التقرير ، والاجزاء انما تكون لا بشرط. واعتبار الكل والاجزاء على هذا الوجه مما لا اشكال فيه.

ولكن مع ذلك اشكال دخول الاجزاء في محل النزاع بعد على حاله ، لأنه هب ان الاجزاء انما تكون لا بشرط ، والكل يكون بشرط الانضمام ، الا ان اللابشرط لما كان يجتمع مع الف شرط من دون ان يكون ذلك موجبا لتبدل في ذاته وتغير في حقيقته ، فالفاتحة التي تكون لا بشرط هي بعينها الفاتحة التي تكون منضمة إلى السورة والركوع والسجود وغير ذلك من اجزاء الصلاة ، فان لا بشرطيتها لا يمنع عن انضمام الغير معها ، والمفروض ان الفاتحة التي تكون منضمة إلى غيرها واجبة بالوجوب النفسي المتعلق بالكل ، وليس هناك ذات أخرى وشيء آخر يكون واجبا بالوجوب المقدمي.

وحاصل الكلام : ان اعتبار الجزء لا بشرط واعتبار الكل بشرط الانضمام ، لا يدفع اشكال كون ما وجب بالوجوب النفسي يلزم ان يكون واجبا مقدميا لنفسه بناء على دخول الاجزاء في محل النزاع ، فان الاجزاء التي اعتبرت لا بشرط هي بعينها تكون منضما بعضها مع بعض ، لما عرفت من أن اللاشرطية لا تنافى الانضمام ، وما يكون واجبا بالوجوب النفسي هو هذه الاجزاء المنضمة بعينها ، فيعود محذور كون الشيء واجبا مقدميا لنفسه الواجب بالوجوب النفسي حسب الفرض.

هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في تقريب الاشكال في الدورة السابقة على ما حكى عنه ، وكان الاشكال كان قويا في نظره سابقا ورجح قول من قال بخروج الاجزاء عن محل النزاع ، ولكنه في هذه الدورة قد ضعف الاشكال وبنى على دخول الاجزاء في محل النزاع.

وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان المراد من البشرط الشيئية التي هي عبارة عن الكل ليس مجرد انضمام الاجزاء بعضها مع بعض بمعنى مجرد الاجتماع في الوجود ، حتى يقال : ان لا بشرطية الاجزاء لا ينافي هذا الانضمام والاجتماع في

٢٦٧

الوجود بل هي هي بعينها لان اللابشرط يجامع هذا الانضمام فلا يحصل المغايرة بين الاجزاء والكل ، بل المراد من البشرط الشيئية في المقام هو لحاظ الجملة شيئا واحدا على وجه يكون للاجزاء المجتمع حالة وحدة بها يقوم الملاك والمصلحة ، وهذا المعنى من البشرط الشيئية يباين اللابشرطية ويضاده ، إذ ذوات الاجزاء ح لم تكن ملحوظة بهذا اللحاظ ، بل هذا اللحاظ يوجب فناء الذوات واندكاكها في ضمن الوحدة على وجه لا تكون الذوات ملحوظة الا تبعا ، ولا بشرطية الجزء لا يمكن ان يجامع هذا المعنى من الاجتماع والانضمام ، بل الذي يجامعه هو مجرد الاجتماع في الوجود وانضمام بعضها مع بعض. ولكن قد عرفت انه ليس المراد من الانضمام المعتبر في الكل هذا المعنى ، بل الانضمام المعتبر هو الانضمام على وجه تكون الجملة شيئا واحدا.

والذي يدل على أن المراد من الانضمام المعتبر في الكل هذا المعنى ، هو انه لو نوى الصلاة لا على وجه لحاظ الوحدة ، بل نوى كل جزء جزء مستقلا واتى بالاجزاء على هذا الوجه متعاقبة ومنضما بعضها مع بعض كانت صلوته باطلة. فيظهر من ذلك : ان المعتبر في الكل ليس مجرد الانضمام ، بل لا بد من لحاظ الوحدة. وهذا المعنى من الانضمام كما ترى متأخر في الرتبة عن لحاظ ذوات الاجزاء لا بشرط ، إذ لا بد أولا من تصور ذوات الاجزاء وبعد ذلك يجعل الجملة شيئا واحدا ، فحصلت المغايرة بين الاجزاء والكل ، وتقدم الأول على الثاني. هذا غاية ما يمكن ان يوجه دعوى مقدمية الاجزاء للكل.

ولكن مع ذلك لا ينفع في دخول الاجزاء في محل النزاع ، فان التقدم المدعى للاجزاء انما هو التقدم بحسب عالم اللحاظ والتصور ، واما بحسب عالم الوجود والتحقق فليس بين الاجزاء والكل تقدم وتأخر ، بل الاجزاء بوجودها العيني عين الكل ، وتوكن واجبة بنفس وجوب الكل ، وليس لها وجود آخر تكون به واجبة بالوجوب المقدمي ، فتأمل في المقام جيدا ، هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص ، واما المقدمات الخارجية بالمعنى الأخص قد عرفت ان ما عدا العلة التامة منها داخلة في محل النزاع.

٢٦٨

واما العلة التامة :

فقد يقال بخروجها عن محل النزاع ، نظرا إلى أن إرادة الآمر لا بد ان تتعلق بما تتعلق به إرادة الفاعل ، وإرادة الفاعل لا تتعلق بالمعلول لأنه ليس فعلا اختياريا له ، بل هو يتبع العلة ويترشح وجوده منها قهرا ، بل إرادة الفاعل انما تتعلق بالعلة التي هي فعل اختياري له ، ومقتضى الملازمة بين الإرادتين ان تكون العلة هي متعلقة لإرادة الآمر ، فتكون هي الواجبة بالوجوب النفسي ، ولا معنى لان تكون واجبة بالوجوب المقدمي ، وربما ينقل عن السيد المرتضى (ره) القول بذلك ، ولكن العبارة المحكية عنه لا تنطبق على ذلك فراجع.

وعلى كل حال الذي ينبغي ان يقال : هو انه تارة يكون لكل من العلة والمعلول وجود مستقل ، وكان ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الاخر كطلوع الشمس التي يكون علة لضوء النهار ، حيث إن لكل من الطلوع والضوء وجودا يخصه ، وان كان وجود الضوء مترشحا عن وجود الطلوع وكان متولدا منه ، الا انه مع ذلك يكون ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الاخر.

وأخرى لايكون كذلك ، بل كان هناك وجود واحد معنون بعنوانين : عنوان أولى ، وعنوان ثانوي ، كالالقاء والاحراق ، والغسل والطهارة ، حيث إنه ليس هناك الا فعل واحد ، ويكون هذا الفعل بعنوانه الأولى القاء أو غسلا ، وبعنوانه الثانوي احراقا أو تطهيرا ، وليس ما بحذاء الالقاء أو الغسل غير ما بحذاء الاحراق أو الطهارة ، بل هو هو ولذا يحمل أحدهما على الآخر فيقال : الالقاء احراق وبالعكس والغسل طهارة وبالعكس ، لما بين العنوانين من الاتحاد في الوجود.

فان كانت العلة على الوجه الأول بحيث يغاير وجودها وجود المعلول ، فالحق انها داخلة في محل النزاع ، وتكون واجبة بالوجوب المقدمي ، والذي يكون واجبا بالوجوب النفسي هو المعلول ، وإرادة الفاعل انما تتعلق به لكونه مقدورا له ولو بالواسطة ، ولا يعتبر في متعلق التكليف أزيد من ذلك. ولا يمكن ان تكون العلة واجبة بالوجوب النفسي مع أن المصلحة والملاك قائمة بالمعلول ، بل الذي يكون واجبا بالوجوب النفسي هو المعلول ، وهو الذي تتعلق به إرادة الفاعل والآمر ، و

٢٦٩

العلة لا تكون واجبة الا بالوجوب المقدمي.

وان كانت العلة على الوجه الثاني أي لم يكن هناك وجودان منحازان ، بل كان هناك فعل واحد معنون بعنوانين طوليين ، فالحق انه ليس هناك الا وجوب نفسي تعلق بالفعل ، غايته انه لا بعنوانه الأولى بل بعنوانه الثانوي ، فان الامر بالاحراق امر بالالقاء والامر بالالقاء امر بالاحراق ، وكذا الحال في الغسل والطهارة والانحناء والتعظيم ، وغير ذلك من العناوين التوليدية ، وذلك لوضوح انه لم يصدر من المكلف فعلان يكون أحدهما الالقاء والاخر احراقا ، بل ليس هناك الا فعل واحد معنون بعنوانين : عنوان أولى وعنوان ثانوي ، بل ليس ذلك في الحقيقة من باب العلة والمعلول ، إذ العلة والمعلول يستدعيان وجودين ، وليس هنا الا وجود واحد وفعل واحد ، فليس الاحراق معلولا للالقاء ، بل المعلول والمسبب التوليدي هو الاحتراق لا الاحراق الذي هو فعل المكلف ، وكذا لكلام في الغسل والتطهير ، حيث إن التطهير ليس معلولا للغسل ، بل المعلول هو الطهارة ، ومن ذلك ظهر ان اطلاق المسببات التوليدية على العناوين التوليدية لا يخلو عن مسامحة لان المسبب التوليدي ما كان له وجود يخصه غير وجود السبب كطلوع الشمس وإضاءة النهار ، وليس المقام من هذا القبيل ، مثلا فرق بين فرى الأوداج الذي يكون معنونا بعنوان القتل ، وبين اسقاء السم الذي يتولد منه القتل ، فان القتل في الأول يكون من العناوين التوليدية ، وفي الثاني يكون من المسببات التوليدية ، والأسباب التي جعلوها موجبة للضمان في مقابل المباشرة كلها ترجع إلى المسببات التوليدية ، فتأمل جيدا.

فالالقاء أو الغسل ليس واجبا بالوجوب المقدمي ، بل هو واجب بالوجوب النفسي ، غايته لا بعنوانه الأولى أي بما انه القاء أو صب الماء ، بل بعنوانه الثانوي أي بما انه احراق وافراغ للمحل عن النجاسة ، والذي يدل على أنه ليس هناك فعلان وليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، هو صحة حمل أحدهما على الاخر وصحة تعلق التكليف بكل منهما ، كما ورد : اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يوكل ، وورد أيضا وثيابك فطهر.

٢٧٠

وبالجملة باب العناوين التوليدية ، ليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، فليس هناك الا واجب نفسي واحد تعلق بالفعل لا بما هو وبعنوانه الأولى ، بل بعنوانه الثانوي. هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية والخارجية بمعناهما الأعم والأخص.

ومن جملة تقسيمات المقدمة :

تقسيمها إلى العقلية والعادية والشرعية. والمراد من الشرعية الشروط والموانع ، وقد تقدم انها مندرجة في المقدمات الداخلية أو الخارجية على اختلاف الاعتبارين. والمراد من العادية ما جرت العادة على التوقف عليها كنصب السلم ، وهي في الحقيقة ترجع إلى العقلية باعتبار وليس هذا تقسيما آخر للمقدمة ، بل تكون من الخارجية بالمعنى الأخص.

وقد تقسم المقدمة إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ترجع إلى مقدمة الوجود ، وهي تدخل في المقدمة الداخلية أو الخارجية.

وقد تقسم أيضا إلى مقدمة العلم ومقدمة الوجود ، ولا يخفى ان مقدمة العلم ليست من اقسام المقدمة المبحوث عنها في المقام ، بل هي مقدمة للعلم بتحقق الامتثال الذي يحكم به العقل في موارد العلم الاجمالي.

ومن جملة تقسيمات المقدمة :

تقسيمها إلى المقارنة ، والمتقدمة ، والمتأخرة في الوجود ، وهي المعبر عنها بالشرط المتأخر ، وقد وقع النزاع في جوازه وامتناعه. وتحرير محل النزاع يتوقف على تقديم أمور :

( الامر الأول )

ينبغي خروج شرط متعلق التكليف عن حريم النزاع ، لان حال الشرط حال الجزء في توقف الامتثال عليه وعدم الخروج عن عهدة التكليف الا به ، فكما انه لا اشكال فيما إذا كان بعض اجزاء المركب متأخرا عن الاخر في الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، كما إذا امر بمركب بعض اجزائه في أول النهار والبعض الاخر في آخر النهار ، كذلك لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان شرط الواجب متأخرا في

٢٧١

الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، ومجرد دخول الجزء قيدا وتقييدا في المركب وخروج الشرط قيدا لايكون فارقا في المقام بعد ما كان التقييد داخلا في متعلق التكليف.

والحاصل : ان اشكال الشرط المتأخر انما هو لزوم الخلف والمناقضة ، وتقدم المعلول على علته ، وتأثير المعدوم في الموجود على ما سيأتي بيانه ، وشيء من ذلك لا يجرى في شرط متعلق التكليف ، لأنه بعد ما كان الملاك والامتثال والخروج عن عهدة التكليف موقوفا على حصول التقييد الحاصل بحصول ذات القيد ، فأي خلف يلزم؟ وأي معلول يتقدم على علته؟ أو أي معدوم يؤثر في الموجود؟ فأي محذور يلزم إذا كان غسل الليل المستقبل شرطا في صحة صوم المستحاضة؟ فان حقيقة الاشتراط يرجع إلى أن الإضافة الحاصلة بين الصوم والغسل شرط في صحة الصوم ، بحيث لايكون الصوم صحيحا الا بحصول الإضافة الحاصلة بالغسل.

نعم لو قلنا : ان غسل الليل المستقبل موجب لرفع حدث الاستحاضة عن الزمان الماضي ، بحيث يكون غسل المغرب يوجب رفع الحدث من الظهر ، أو قلنا : ان غسل الليل يوجب تحقق الامتثال من السابق وان لم يوجب رفع الحدث عنه ، كان الاشكال في الشرط المتأخر جاريا فيه كما لا يخفى ، الا ان حديث جعل الغسل شرطا للصوم لا يقتضى ذلك ، بل أقصاه انه لا يتحقق صحة الصوم الا به ، غايته انه لا على وجه الجزئية ، بل على وجه القيدية ، وذلك مما لا محذور فيه بعد ما كان الغسل فعلا اختياريا للمكلف وكان قادرا على ايجاده في موطنه ، فتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى قيود متعلق التكليف مما لا وجه له.

( الامر الثاني )

لا اشكال في خروج العلل الفائتة عن حريم النزاع ، فان العلل الفائتة غالبا متأخرة في الوجود عما تترتب عليه ، وليست هي بوجودها العيني علة للإرادة وحركة العضلات نحو ما تترتب عليه حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وتقدم المعلول على علته ، بل العلة والمحرك هو وجوده ا العلمي ، مثلا علم النجار بترتب النوم على السرير موجب لحركة عضلاته نحو صنع السرير ، وكذا علم المستقبل

٢٧٢

بمجيئ زيد في الغد يوجب ارادته للاستقبال ، ولا اثر لوجودهما العيني في ذلك ، فان من لم يعلم بقدوم زيد في الغد لا يتحقق منه إرادة الاستقبال وان فرض قدومه في الغد ، كما أن علمه بقدومه يوجب إرادة الاستقبال وان فرض عدم قدومه ، فالمؤثر هو الوجود العلمي ، وكذا الحال في علل التشريع ، فان علل التشريع هي العلل الفائتة ولا فرق بينهما ، الا انهم اصطلحوا في التعبير عنها في الشرعيات بعلل التشريع وحكم التشريع ، وفي التكوينيات بالعلل الفائتة ، وعلى كل حال علم الآمر بترتب الحكمة موجب للامر وان كانت هي بوجودها العيني متأخرة عن الامر ، فما كان من العلل الفائتة والعلل التشريعية لا يندرج في الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام ، وذلك واضح.

( الامر الثالث )

ليس المراد من الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام باب الإضافات والعناوين الانتزاعية ، كالتقدم ، والتأخر ، والسبق ، واللحوق ، والتعقب ، وغير ذلك من الإضافات والأمور الانتزاعية ، فلو كان عنوان التقدم والتعقب شرطا لوضع أو تكليف لايكون ذلك من الشرط المتأخر ، ولا يلزم الخلف وتأثير المعدوم في الموجود وتقدم المعلول على علته ، وذلك لان عنوان التقدم ينتزع من ذات المتقدم عند تأخر شيء عنه ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم عن شيء على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل في بعض المقامات مما لا يمكن ذلك ، كتقدم بعض اجزاء الزمان على بعض ، فان عنوان التقدم ينتزع لليوم الحاضر لتحقق الغد في موطنه ، فيقال : هذا اليوم متقدم على غد ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم لليوم الحاضر على مجيء الغد ، بل لا يصح لتصرم اليوم الحاضر عند مجيء الغد ، ولا معنى لاتصافه بالتقدم حال تصرمه وانعدامه. هذا حال الزمان ، وقس على ذلك حال الزمانيات الطولية في الزمان ، حيث يكون أحد الزمانيين مقدما على الاخر في موطن وجوده لمكان وجود المتأخر في موطنه ، فيقال زيد مقدم على عمرو ولو لم يكن عمرو موجودا في الحال ، بل يكفي وجوده فيما بعد في انتزاع عنوان التقدم لزيد في موطن وجوده.

٢٧٣

( الامر الرابع )

لا اشكال في خروج العلل العقلية عن حريم النزاع مط بجميع أقسامها وشؤونها : من البسيطة ، والمركبة ، والتامة ، والناقصة ، والشرط ، والمقتضى ، وعدم المانع ، والمعد ، وكل ما يكون له دخل في التأثير ، سواء كان له دخل في تأثير المقتضى كالشرط وعدم المانع ، أو كان له دخل في وجود المعلول بحيث يترشح منه وجود المعلول كالمقتضى ، فان امتناع تأخر بعض اجزاء العلة عن المعلول من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى مؤنة برهان ، لان اجزاء العلة بجميع أقسامها تكون مما لها دخل في وجود المعلول على اختلاف مراتب الدخل حسب اختلاف مراتب اجزاء العلة من الجزء الأخير منها إلى أول مقدمة اعدادية ، ويشترك الكل في اعطاء الوجود للمعلول ، ومعلوم : ان فاقد الشيء لايكون معطي الشيء ، وكيف يعقل الإفاضة والرشح مما لا حظ له من الوجود.

وبالجملة : امتناع الشرط المتأخر في باب العلل العقلية أوضح من أن يحتاج إلى بيان بعد تصور معنى العلية والمعلولية. وعليك بمراجعة (١) ما علقه السيد

__________________

١ ـ هذا إشارة إلى ما ذكره الفقيه الجليل السيد محمد كاظم الطباطبائي في التعليقة في دفع ما افاده الشيخ قدس‌سره في المكاسب من عدم الفرق في استحالة تأثير المتأخر في المتقدم شرطا كان أو سببا بين الأمور العقلية والشرعية.

توضيح ذلك :

ان صاحب الجواهر قدس‌سره التزم بكاشفية الإجازة في العقد الفضولي وذكر ان استحالة تأثير المتأخر في المتقدم سببا كان أو شرطا تختص بالأمور العقلية ، واما الاعتباريات ومنها المجعولات الشرعية ليست مجرى هذه القاعدة ، وذكر ان الشارع كثيرا ما جعل ما يشبه تقديم السبب على المسبب كغسل الجمعة يوم الخميس واعطاء الفطرة قبل وقته فضلا عن تقدم المشروط على الشرط كغسل الفجر بعد الفجر للمستحاضة الصائمة و ..

ودفعه الشيخ قدس‌سره : بأنه لا فرق فيما فرض شرطا أو سببا بين الشرعي وغيره ، وتكثير الامثلة لا يوجب وقوع المحال العقلي.

وأورد عليه السيد في حاشيته على المكاسب بما هذا لفظه :

« ودعوى ان ذلك من المحال العقلي ، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوعه مدفوعة.

أولا : بان الوجه في الاستحالة ليس الا كونه معدوما ولا يمكن تأثير المعدوم في الموجود وهذا يستلزم عدم

٢٧٤

الطباطبائي ره على المكاسب في باب الإجازة في العقد الفضولي ، ليظهر لك ما وقع في كلامه من الخلط والاشتباه.

إذا عرفت هذه الأمور ، ظهر لك ان محل النزاع في الشرط المتأخر انما هو في الشرعيات في خصوص شروط الوضع والتكليف ، وبعبارة أخرى : محل الكلام انما هو في موضوعات الاحكام وضعية كانت أو تكليفية ، فقيود متعلق التكليف ، و

__________________

جواز تقدم الشرط أيضا على المشروط ، لأنه حال وجود المشروط معدوم ، وكذا تقدم المقتضى واجزائه ، ولازم هذا التزام ان المؤثر في النقل ( التاء ) من قوله : ( قبلت ) وان الاجزاء السابقة ليست بمؤثرة أو انها معدات.

وثانيا : بامكان دعوى ان المؤثر انما هو الوجود الدهري للإجازة وهو متحقق حال العقد وانما تأخره في سلسلة الزمان.

وثالثا : نقول : ان الممتنع انما هو تأثير المعدوم الصرف ، لا ما يوجد ولو بعد ذلك.

ورابعا : على فرض تسليم الامتناع نقول : ان ذلك مسلم فيما إذا كان المؤثر تاما لا مجرد المدخلية ، فان التأخر في مثل هذا مما لا مانع منه ، وأدل الدليل على امكانه وقوعه اما في الشرعيات ففوق حد الاحصاء ، واما في العقليات فلان من المعلوم ان وصف التعقب مثلا متحقق حين العقد مع أنه موقوف على وجود الإجازة بعد ذلك ، فان كانت في علم الله موجودة فيما بعد فهو متصف الان بهذا الوصف والا فلا ، لا يقال : انه من الأمور الاعتبارية.

لأنا نقول : لو لم يكن هناك معتبر أيضا يكون هذا الوصف متحققا ، وكذا الكلام في وصف الأولوية والتقدم مثلا يوم أول الشهر متصف الان بأنه أول ، مع أنه مشروط بوجود اليوم الثاني بعد ذلك ومتصف بالتقدم فعلا مع أنه مشروط بمجيئ التأخر ، وهكذا الجزء الأول من الصلاة متصف بأنه صلاة إذا وجد في علم الله بقية الاجزاء ، وكذا لو اشتغل بتصوير صورة من أول الشروع يقال : انه مشتغل بالتصوير بشرط ان يأتي ببقية الاجزاء ، وهكذا امساك أول الفجر صوم لو بقى إلى الآخر ، وكذا لو هيأ غذاء للضيف يقال : انه فيه مصلحة وليس بلغو إذا جاء الضيف بعد ذلك ، والا فهو من أول الامر متصف بأنه لغو ، وكذا لو حفر بئرا ليصل إلى الماء فإنه متصف من الأول بعدم اللغوية ان وصل إليه ، والا فباللغوية ، وهكذا إلى ما شاء الله من اتصاف شيء بوصف فعلى مع اناطته بوجود مستقبلي.

بل أقول : لا مانع من أن يدعى مدع ان النفوس الفلكية والأوضاع السماوية والأرضية كما أن كل سابق معد لوجود اللاحق كذلك كل لاحق له مدخلية في وجود السابق.

بل يمكن ان يقال : ان جميع اجزاء العالم مرتبطة بمعنى انه لولا هذا لم يوجد ذاك وبالعكس ، فلو لم يوجد الغد لم يوجد اليوم ، وهكذا ، فجميع العالم موجود واحد تدريجي ولا يمكن ايجاد بعضه من دون بعض والانصاف : انه لا ساد لهذا الاحتمال ولا دليل على بطلان هذا المقال .. » ( حاشية السيد على المكاسب. كتاب البيع. في تحقيق وجوه الكشف والنقل ص ١٥٠

٢٧٥

العلل الفائتة ، والأمور الانتزاعية ، والعلل العقلية ، خارجة عن حريم النزاع.

وبعد ذلك نقول : ان امتناع الشرط المتأخر في موضوعات الاحكام يتوقف على بيان المراد من الموضوع ، وهو يتوقف على بيان الفرق بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية لا القضايا الخارجية ، وقد تقدم منا شطر من الكلام في ذلك في باب الواجب المشروط والمطلق ، ولا بأس بالإشارة الاجمالية إليه ثانيا.

فنقول : القضايا الخارجية عبارة عن قضايا جزئية شخصية خارجية ، كقوله : يا زيد أكرم عمروا ، ويا عمرو حج ، ويا بكر صل ، وغير ذلك من القضايا المتوجهة إلى آحاد الناس من دون ان يجمعها جامع ، وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فان الأشخاص والآحاد لم تلاحظ فيها ، وانما الملحوظ فيها عنوان كلي رتب المحمول عليه ، كما إذا قيل : أهن الجاهل ، وأكرم العالم ، فان الملحوظ هو عنوان الجاهل والعالم ويكون هو الموضوع لوجوب الاكرام من غير أن يكون للآمر نظر إلى زيد وعمرو وبكر ، بل إن كان زيد من افراد العالم أو الجاهل فالعنوان ينطبق عليه قهرا ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية ، حيث يكون الموضوع فيها هو العنوان الكلي الجامع ويكون ذلك العنوان بمنزلة الكبرى الكلية ، ومن هنا يحتاج في اثبات المحمول لموضوع خاص إلى تأليف قياس ، ويجعل الموضوع الخاص صغرى القياس والعنوان الكلي كبرى القياس ، فيقال : زيد عالم وكل عالم يجب اكرامه فزيد يجب اكرامه ، وهذا بخلاف القضايا الخارجية ، فان المحمول فيها ثابت لموضوعه ابتداء من دون توسط قياس كما هو واضح ، وقد استقصينا الكلام في الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية والأمور التي تترتب عليه ، والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى الفرق ، حيث إن المقام أيضا من تلك الأمور المترتبة على الفرق بين القضيتين. ومجمل الفرق بينهما : هو ان الموضوع في القضية الحقيقية حملية كانت أو شرطية ، خبرية كانت أو انشائية ، هو العنوان الكلي الجامع بين ما ينطبق عليه من الافراد ، وفي القضية الخارجية يكون هو الشخص الخارجي الجزئي ، ويتفرع على هذا الفرق أمور تقدمت الإشارة إليها ـ منها : ان العلم انما يكون له دخل في القضية

٢٧٦

الخارجية دون القضية الحقيقية.

وتوضيح ذلك : هو ان حركة إرادة الفاعل نحو الفعل ، أو الآمر نحو الامر انما يكون لمكان علم الفاعل والآمر بما يترتب على فعله وأمره ، وما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، وليس لوجود تلك القيود دخل في الإرادة ، بل الذي يكون له دخل فيها هو العلم بتحققها ، مثلا لو كان لعلم زيد دخل في اكرامه ، فمتى كان الشخص عالما بان زيدا عالم يقدم على اكرامه مباشرة أو يأمر باكرامه ، سواء كان زيد في الواقع عالما أو لم يكن ، وان لم يكن الشخص عالما بعلم زيد لا يباشر اكرامه ولا يأمر به وان كان في الواقع عالما ، فدخل العلم في وجوب اكرام زيد يلحق بالعلل الفائتة التي قد عرفت انها انما تؤثر بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، وهكذا الحال في سائر الأمور الخارجية ، مثلا العلم بوجود الأسد في الطريق يوجب الفرار لا نفس وجود الأسد واقعا ، وكذا العلم بوجود الماء في الطريق يوجب الطلب لا نفس الماء ، وهكذا جميع القضايا الشخصية حملية كانت أو انشائية المدار فيها انما يكون على العلم بوجود ما يعتبر في ثبوت المحمول ، لا على نفس الثبوت الواقعي.

وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لا دخل للعلم فيها أصلا ، لمكان ان الموضوع فيها انما هو العنوان الكلي الجامع لما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، والمحمول فيها انما هو مترتب على ذلك العنوان الجامع ، ولا دخل لعلم الآمر بتحقق تلك القيود وعدم تحققها ، بل المدار على تحققها العيني الخارجي ، مثلا الموضوع في مثل ـ لله على الناس حج البيت الخ ـ انما هو المستطيع ، فان كان زيد مستطيعا يجب عليه الحج ويترتب عليه المحمول ، ولو فرض ان الآمر لم يعلم باستطاعة زيد بل علم عدم استطاعته. ولو لم يكن مستطيعا لا يجب عليه الحج ولو فرض ان الآمر علم بكونه مستطيعا. فالقضية الخارجية انما تكون في طريق النقيض للقضية الحقيقية من حيث دخل العلم وعدمه. وان أردت توضيح ذلك فعليك بمراجعة ما سطرناه في الواجب المعلق. (١)

__________________

١ ـ راجع بحث الواجب المعلق من مباحث تقسيمات الواجب من هذا الكتاب ، ص ١٧٠

٢٧٧

إذا عرفت ذلك

فنقول : لا ينبغي الاشكال في أن المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الشخصية الخارجية ، بحيث يكون ما ورد في الكتاب والسنة اخبارات عن انشاءات لا حقة ، حتى يكون لكل فرد من افراد المكلفين انشاء يخصه عند وجوده ، فان ذلك ضروري البطلان كما أوضحناه فيما سبق ، بل هي انشاءات أزلية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، كما هو ظاهر ما ورد في الكتاب والسنة.

وحيث عرفت الفرق بين القضيتين ، وان المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الخارجية ، ظهر لك المراد من موضوعات الاحكام التي هي محل النزاع في المقام ، وانها عبارة عن العناوين الكلية الملحوظة مرآة لمصاديقها المقدر وجودها في ترتب المحمولات عليها ، ويكون نسبة ذلك الموضوع إلى المحمول نسبة العلة إلى معلولها وان لم يكن من ذاك الباب حقيقة بناء على المختار من عدم جعل السببية ، الا انه يكون نظير ذلك من حيث التوقف والترتب ، فحقيقة النزاع في الشرط المتأخر يرجع إلى تأخر بعض ما فرض دخيلا في الموضوع على جهة الجزئية أو الشرطية عن الحكم التكليفي أو الوضعي ، بان يتقدم الحكم على بعض اجزاء موضوعه.

ومما ذكرنا ظهر ان ما صنعه في الكفاية (١) والفوائد (٢) من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي والى عالم اللحاظ ، مما لا ماس له فيما هو محل النزاع ، وخروج عن موضوع البحث بالكلية ، فان تأثير الوجود العلمي انما يكون في العلل الفائتة ، لا في موضوعات الاحكام. وارجاع الشرط المتأخر في باب الاحكام إلى الوجود العلمي لا يستقيم ، الا إذا جعلنا الاحكام من قبيل القضايا الخارجية ، وأن يكون ما ورد في الكتاب اخبارا عن انشاء لاحق عند تحقق افراد المكلفين ،

__________________

١ ـ راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، مباحث مقدمة الواجب منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدمة. ص ١٤٥ إلى ١٤٨

٢ ـ راجع الفوائد ، المطبوعة في آخر حاشية على الرسائل ص ٢٩١ ، فائدة : لا يخفى ان قضية الاشتراط تقدم الشرط على المشروط ..

٢٧٨

فيكون لكل فرد انشاء يخصه عند وجوده ، وح يكون المناط هو علم الآمر بواجدية الفرد لمناط حكمه من كونه عالما مستطيعا ، أو كون هذا العقد مما يلحقه إجازة المالك ، وغير ذلك من العناوين التي تكون في القضايا الخارجية كلها من العلل الفائتة التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، على ما تقدم بيانه ، وليس في القضايا الخارجية طائفتان : طائفة تسمى بموضوعات الاحكام ، وطائفة تسمى بالعلل الفائتة وعلل التشريع ، كما كان في القضايا الحقيقية كذلك ، أي كان لكل قضية طائفتان : موضوع الحكم ، وعلة التشريع ، بناء على ما ذهبت إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فان جميع العناوين فيها تكون من علل التشريع ، وليس لها موضوع يترتب الحكم عليه سوى شخص زيد ، وما عدا شخص زيد لا دخل له في الحكم بوجوده العيني ، وانما يكون له دخل بوجوده العلمي ، ومن هنا تسالم الفقهاء : على أنه لو اذن لزيد في اكل الطعام أو دخول الدار لمكان علمه بان زيدا صديق له جاز لزيد اكل الطعام أو دخول الدار ، وان لم يكن في الواقع صديقا له ، بل كان عدوا له ، لان الاذن قد تعلق بشخص زيد ولا اثر لعلمه بصداقته في جواز الدخول ، وانما يكون العلم له دخل في نفس اذنه.

وهذا بخلاف ما إذا اذن لعنوان صديقه وقال : من كان صديقي فليدخل ، أو قيد الحكم بالصداقة وقال : يا زيد ادخل الدار ان كنت صديقي ، فإنه في مثل هذا لا يجوز لزيد دخول الدار إذا لم يكن صديقا وان علم الآذن بأنه صديق ، فإنه ليس المدار على علم الآذن ، بل المدار على واقع الصداقة ، من غير فرق بين اخذ الصداقة عنوانا أو قيدا من الجهة التي نحن فيها.

نعم : بينهما فرق من جهة أخرى : وهو انه لو اخذ الشيء على جهة العنوانية أوجب تعدى الحكم عن مورده إلى كل ما يكون العنوان منطبقا عليه ، فلو قال مخاطبا لزيد : يا صديقي ادخل الدار جاز لعمرو أيضا دخول الدار إذا كان صديقا ، الا إذا علم مدخلية خصوصية زيد فيخرج العنوان عن كونه تمام الموضوع. وهذا بخلاف ما إذا كان قيدا ، فإنه لا يجوز لغير زيد دخول الدار وان كان مشاركا له في القيد ، و

٢٧٩

تفترق العنوانية والقيدية أيضا في باب العقود ، حيث إن العقد على عنوان يوجب بطلان العقد عند تخلفه ، بخلاف العقد على مقيد ، فإنه عند تخلف القيد يوجب الخيار.

وعلى كل حال : قد أطلنا الكلام في ذلك ، لتوضيح ان العلم لا دخل له في القضايا التي تكون موضوعاتها العناوين الكلية. وانما العلم يكون له دخل في القضايا الشخصية. وارجاع الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام إلى الوجود العلمي وان المؤثر هو العلم ، لا يستقيم الا بجعل الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، ولكن هو ( قده ) لم يلتزم بذلك ، ولا يمكن الالتزام به ، لما تقدم من أن الضرورة قاضية بان الأحكام الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية ، فلا معنى لارجاع الشرط المتأخر إلى عالم اللحاظ والوجود العلمي.

إذا عرفت ذلك ظهر لك : ان امتناع الشرط المتأخر من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى برهان ، بل يكفي في امتناعه نفس تصوره ، من غير فرق في ذلك بين ان نقول بجعل السببية ، أو لا نقول بذلك وقلنا : ان المجعول هو نفس الحكم الشرعي مترتبا على موضوعه ، فإنه بناء على جعل السببية يكون حال الشرعيات حال العقليات ، التي قد تقدم امتناع تأخر العلة فيها أو جزئها أو شرطها أو غير ذلك مما له أدنى دخل في تحقق المعلول ، عن معلولها.

واما توهم ان الممتنع هو تأخر المقتضى الذي يستند وجود المعلول إليه ـ دون تأخر الشرط حيث لا محذور في تأخره ـ ففساده غنى عن البيان ، وان كان ربما يظهر من بعض الكلمات القول به ، فإنه بعد فرض كون الشيء شرطا اما لتأثير المقتضى ، واما لقابلية المحل ـ على الوجهين في الشروط العقلية ـ كيف يعقل حصول اثر المقتضى مع عدم وجود شرطه؟ وهل هذا الا لزوم تقدم المعلول على علته؟ واما بناء على عدم جعل السببية كما هو المختار ، فلان الموضوع وان لم يكن علة للحكم ، الا انه ملحق بالعلة من حيث ترتب الحكم عليه ، فلا يعقل تقدم الحكم عليه بعد فرض اخذه موضوعا ، للزوم الخلف ، وان ما فرض موضوعا لم يكن موضوعا.

واما توهم ان امتناع الشرط المتأخر انما يكون في التكوينيات ـ دون

٢٨٠