فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

للقدرة قبل مجيئه ولا يلزم تحصيلها من قبل لو علم بعدمها بعد مجيء زيد ، لأن المفروض ان القدرة بعد المجئ هي المعتبرة وهي التي يكون لها دخل في الملاك ، فما لم تحصل القدرة بعد المجئ لم يكن هناك ملاك للحكم ثبوتا ، وح لا موجب لايجاب تحصيلها قبل مجيء زيد ، فان عدم تحصيلها لا يوجب الا عدم ثبوت الملاك ، وهذا لا ضير فيه لعدم اندراجه تحت دائرة الامتناع بالاختيار ، لما عرفت غير مرة ان مورد القاعدة انما هو فيما إذا كان الامتناع موجبا لتفويت الملاك بعد ثبوته ، فلا يدخل فيها مورد عدم ثبوته ، نعم يلزمه تحصيل القدرة على الاكرام في الغد بعد مجيء زيد بتهيئة مقدماته لو لم يمكنه ذلك في الغد ، لاندراجه حينئذ تحت قاعدة الامتناع بالاختيار كما لا يخفى وجهه.

ولعل مثال الحج من هذا القبيل ، حيث نقول : انه لا يجب عليه تحصيل المقدمات من السير وغيره قبل تحقق الاستطاعة ، ويجب عليه ذلك بعد حصولها ، فان السير قبل الاستطاعة يكون من قبيل تحصيل القدرة قبل مجيء زيد في المثال المتقدم ، بخلافه بعد الاستطاعة فإنه يكون من قبيل تحصيلها بعد مجيئه الذي قلنا بلزومه.

وأخرى : تعتبر على وجه لا يلزم تحصيل المقدمات قبل مجيء زمان الواجب ، كما إذا اخذت القدرة شرطا شرعيا في وقت وجوب الواجب ، كما إذا قال : ان قدرت على اكرام زيد في الغد فأكرمه ، بان يكون الغد قيدا للقدرة أيضا ، كما أنه قيد للاكرام ، وفي مثل هذا لا يلزم تحصيل مقدمات القدرة من قبل الغد كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك : ان عدم وجوب تحصيل القدرة في هذا القسم ، انما هو فيما إذا لم يتوقف الواجب على تهيئة مقدماته العقلية التي لها دخل في القدرة قبل الوقت دائما أو غالبا ، فلو توقف الواجب دائما أو غالبا على تهيئة المعدات قبل الوقت ، بحيث يكون حصول المقدمات في الوقت لا يمكن ، أو أمكن بضرب من الاتفاق ، كان اللازم تهيئة المقدمات من قبل ، لان نفس كون الواجب كذلك يلازم الامر بتحصيل المقدمات من قبل ، والا للغي الواجب بالمرة فيما إذا كان التوقف دائميا ، أو قل مورده فيما إذا كان غالبيا ، ففي مثل هذا لا نحتاج إلى قاعدة الامتناع بالاختيار ، بل نفس

٢٠١

الدليل الدال على وجوب الواجب يدل على وجوب تحصيل مقدماته من قبل بالملازمة ودليل الاقتضاء ، وذلك كما في الغسل قبل الفجر ، حيث إن الامر بالصوم متطهرا من الحدث الأكبر من أول الفجر يلازم دائما وقوع الغسل قبل الفجر ، وح نفس الامر بالصوم يقتضى ايجاب الغسل قبله بالملازمة المذكورة ، هذا.

ولكن المثال خارج عما نحن فيه لان الغسل من القيود الشرعية ، وقد عرفت في أول البحث ان الكلام في المقدمات المفوتة ، انما هو في المقدمات العقلية والمعدات التي لها دخل في القدرة على الواجب ، ولك ان تجعل مثال الحج مما نحن فيه ، حيث إن الحج بالنسبة إلى البعيد دائما يتوقف على السير من قبل ، فنفس الامر بالحج يقتضى الامر بالسير من قبل أيام الحج للملازمة المذكورة.

وعلى كل حال ، قد عرفت اقسام اعتبار القدرة في الواجب ، من كونها عقلية ، أو شرعية على أقسامها الثلاثة ، وعرفت أيضا مورد المقدمات المفوتة للقدرة ، واندراجها تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وحينئذ نقول : ان كل مورد حكم العقل بتحصيل القدرة أو حفظها قبل مجيئ زمان الواجب ، فلابد ان نستكشف من ذلك خطابا شرعيا على طبق ما حكم به العقل بقاعدة الملازمة ، وعليه يجب تحصيل القدرة أو حفظها شرعا ، ويكون السير للحج وحفظ الماء وتحصيل الساتر مأمورا به شرعا ، وكذا حرمة العمل الذي يوجب سلب القدرة على الواجب ، وغير ذلك من المقدمات المفوتة.

ولكن ينبغي ان يعلم : ان الوجوب الشرعي في المقام ليس على حد سائر الواجبات الشرعية في كونه نفسيا يثاب ويعاقب على فعله وتركه ، بل الوجوب في المقام مقدمي ويكون من سنخ وجوب المقدمة غايته : ان وجوب المقدمة في سائر المقامات يجئ من قبل وجوب ذيها ويترشح منه إليها ، وهذا في المقام لا يمكن لعدم وجوب ذيها بعد ، فلا يعقل ان يكون وجوبها ترشحيا ، الا انه مع ذلك لم يكن وجوب المقدمات المفوتة نفسيا لمصلحة قائمة بنفسها بحيث يكون الثواب والعقاب على فعلها وتركها ، بل وجوبها انما يكون لرعاية ذلك الواجب المستقبل ، ولمكان التحفظ عليه وعدم فواته في وقته أوجب الشارع تحصيل المقدمات وحفظ القدرة ، فيكون

٢٠٢

وجوبها من سنخ وجوب المقدمة ، وان افترقا فيما ذكرناه ، فالثواب والعقاب انما يكون على ذلك الواجب المستقبل.

وحاصل الكلام : ان التكليف الشرعي المتعلق بحفظ المقدمات المفوتة ليس تكليفا نفسيا استقلاليا ، بل يكون من متمم الجعل ، ويكون كل من هذا التكليف المتعلق بحفظ المقدمات مع ذلك التكليف المتعلق بنفس الواجب المستقبل ناشيا عن ملاك واحد ومناط فارد ، لا ان لكل منهما ملاكا يخصه ، حتى يكونا من قبيل الصوم والصلاة يستدعى كل منهما ثوابا وعقابا ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، ولما لم يمكن استيفاء ذلك الملاك بخطاب واحد ، حيث إن خطاب الحج في أيام عرفة لا يمكن ان يستوفى الملاك وحده مع عدم وجوب السير ، احتجنا إلى خطاب آخر بوجوب السير يكون متمما لذلك الخطاب ، ويستوفيان الملاك باجتماعهما ، فليس هناك الا ملاك واحد اقتضى خطابين ، وليس لهذين الخطأ بين الا ثواب واحد وعقاب فارد ، ويكون عصيان الخطاب المقدمي عصيانا للخطاب الآخر ، حيث إنه يمتنع الحج بنفس ترك السير ، فبتركه للسير قد ترك الحج وتحقق عصيانه ، ولا يتوقف العصيان على مضى أيام الحج إذ قد امتنع عليه الحج بسوء اختياره لتركه السير في أوانه ، فبنفس ترك السير يتحقق عصيان الحج.

فان قلت :

لا اشكال في أن العقاب انما يكون لعصيان الخطاب وترك المأمور به ، وح نقول في المقام : ان العقاب على أي شيء يكون؟ لا يمكن ان يقال على عصيان خطاب السير وتركه له ، لان خطاب السير انما كان مقدميا ولم يكن الملاك قائما به ، وليس في البين خطاب آخر يوجب العصيان ، لان الحج لم يكن له خطاب فعلى قبل أيام عرفه ، لاشتراطه بها حسب ما تقدم من امتناع الواجب المعلق ، والمفروض انه بتركه للسير قد امتنع عليه الحج فلا يعقل تكليفه بالحج ، ومن هنا اطبقوا على رد الهاشم ، حيث ذهب إلى أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا ، فالتارك للسير ليس مخاطبا بالحج لعدم القدرة عليه ولو بسوء اختياره ، فإذا لم يكن مخاطبا بالحج لم يكن معاقبا على تركه ، لان العقاب انما يكون على ترك المأمور به.

٢٠٣

ومجرد اشتمال الحج على الملاك وتفويته له لا يوجب العقاب ما لم يكن الحج واجبا ومتعلقا للامر ، حسبما تقدم منا مرارا ، من أن الملاكات غير لازمة التحصيل ولا يوجب فواتها شيئا ، وانما العبد ملزم عقلا بالخطابات الشرعية لا بملاكاتها.

قلت :

ما كنت أحب بعد البيان المتقدم موقعا لهذا الاشكال ، ولا مجال لهذا التوهم ، فان السير انما صار واجبا لرعاية الحج ، وامر به شرعا تحفظا على تركه ، ومع ذلك كيف يسئل عن أن العقاب على أي شيء يكون؟ مع وضوح ان العقاب يكون على ترك الحج حينئذ ، لان مناط حكم العقل باستحقاق العقاب على ترك الواجب الفعلي كترك الصلاة بعد الوقت ـ ولو لمكان امتناعها بسوء اختياره ـ بعينه متحقق في مثل المقام ، وما أنكرناه سابقا من أن الملاكات غير لازمة التحصيل انما هو لمكان ان الملاكات ليست مقدورة للمكلف ، ولا تكون من المسببات التوليدية لأفعاله ، وأين هذا من ترك الحج الذي يقوم به الملاك بسوء اختياره ، مع ايجاب الشارع السير عليه تحفظا عن ترك الحج وعدم فواته منه؟.

وبالجملة : لافرق في نظر العقل الذي هو الحاكم في هذا الباب ، بين ان يعجز المكلف نفسه عن الحج في أيام عرفه ، وبين ان يعجز نفسه عنه قبل ذلك بتركه السير ، فإنه في كلا المقامين يستحق العقاب على ترك الحج على نسق واحد ، فتأمل في المقام جيدا. هذا تمام الكلام في المقام الأول ، وهو باب المقدمات المفوتة.

واما الكلام في المقام الثاني :

وهو باب وجوب تعلم الاحكام. فحاصله : انه يظهر من الشيخ قده (١) في آخر مبحث الاشتغال عند التعرض لشرائط الأصول ، ادراج المقام في باب المقدمات المفوتة ، وجعله من صغريات باب القدرة ، ولكن الانصاف انه ليس الامر كذلك ، فان بين البابين بونا بعيدا ، إذ باب المقدمات المفوتة يرجع إلى مسألة القدرة على ما عرفت ، وباب وجوب التعلم أجنبي عن باب القدرة ، لان الجهل بالحكم لا يوجب

__________________

١ ـ راجع الرسائل. آخر مباحث البراءة ، خاتمة في ما يعتبر في العمل بالأصل. شرط البراءة. ص ٢٨٢.

٢٠٤

سلب القدرة ، ومن هنا كانت الاحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

والحاصل : انه فرق بين ترك الشيء لعدم القدرة عليه ، وبين تركه لجهله بحكمه ، فالتعلم ليس من المقدمات العقلية التي لها دخل في القدرة ، وح لايكون تركه من باب ترك المقدمات المفوتة ، وليس ملاك وجوبه هو قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل ملاك وجوب التعلم هو ملاك وجوب الفحص في الشبهات الحكمية ، وهو حكم العقل بلزوم أداء العبد وظيفته ، حيث إن العقل يرى أن ذلك من وظائف العبد بعد تمامية وظائف المولى ، فان العقل يستقل بان لكل من المولى والعبد وظيفة ، فوظيفة المولى هي اظهار مراداته ، وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد الوصول إليها ان لم يحدث هناك مانع ، فوظيفة المولى هي تشريع الاحكام وارسال الرسل وانزال الكتب ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد ، وانه على العبد الفحص عن مرادات المولى واحكامه ، وحينئذ يستقل العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته ، كما يستقل بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته.

والحاصل : انه بعد التفات العبد إلى أن هناك شرعا وشريعة ، يلزمه تحصيل العلم بأحكام تلك الشريعة ، والا كان مخلا بوظيفته ، حيث إن وظيفة العبد هو الرواح إلى باب المولى لامتثال أوامره ، ولولا استقلال العقل بذلك لا نسد طريق وجوب النظر إلى معجزة من يدعى النبوة ، وللزم افحام الأنبياء ، إذ لو لم يجب على العبد النظر إلى معجزة مدعى النبوة لما كان للنبي ان يحتج على العبد بعدم تصديقه له ، إذ للعبد ان يقول : لم اعلم انك نبي ، وليس للنبي ان يقول : لم لم تنظر في معجزتي ليظهر لك صدق مقالتي؟ إذ للعبد ان يقول إنه لم يجب على النظر في معجزتك.

وبالجملة : العقل كما يستقل بوجوب النظر في معجزة مدعى النبوة ، كذلك يستقل بوجوب تعلم أحكام الشريعة والفحص عن الأدلة والمقيدات والمخصصات ، إذ المناط في الجميع واحد ، وهو استقلال العقل بان ذلك من وظيفة العبد ، ومن هنا لا يختص وجوب التعلم بالبالغ ، كما لا يختص وجوب النظر إلى المعجزة به ، بل يجب ذلك قبل البلوغ إذا كان مميزا مراهقا ليكون أول بلوغه مؤمنا ومصدقا بالنبوة ،

٢٠٥

والا يلزم ان لايكون الايمان واجبا عليه في أول البلوغ ، هذا بالنسبة إلى الايمان وكذلك بالنسبة إلى سائر أحكام الشريعة يجب على الصبي تعلمها إذا لم يتمكن منه بعد البلوغ ، أو نفرض الكلام في الاحكام المتوجهة عليه في آن أول البلوغ ، فإنه يلزمه تعلم تلك الأحكام قبل البلوغ ، كما لو فرض انه سيبلغ في آخر وقت ادراك الصلاة ، فإنه لا اشكال في وجوب الصلاة عليه حينئذ ، ويلزمه تعلم مسائلها قبل ذلك.

وما قيل من أن الاحكام مشروطة بالبلوغ ، ليس المراد ان جميع الأحكام مشروطة به ، حتى مثل هذا الحكم العقلي المستقل ، فان هذا غير مشروط بالبلوغ ، بل مشروط بالتميز والالتفات مع العلم بعدم التمكن من التعلم عند حضور وقت الواجب.

فتحصل : انه لا يقبح عند العقل عقاب تارك التعلم ، والاحكام تتنجز عليه بمجرد الالتفات إليها والقدرة على امتثالها الا ان يكون هناك مؤمن عقلي أو شرعي.

نعم حكم العقل بوجوب التعلم ليس نفسيا ، بان يكون العقاب على تركه وان لم يتفق مخالفة الواقع ، وان قال بذلك صاحب المدارك ، بل حكم العقل في المقام انما يكون على وجه الطريقية ، ويدور العقاب مدار مخالفة الواقع كما استقصينا الكلام في ذلك في اخر مبحث الاشتغال فراجع ذلك المقام.

ومن الغريب ان الشيخ قده مع التزامه بان التعلم لم يكن واجبا نفسيا وان العقاب على مخالفة الواقع ، حكم بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو في الصلاة ولو لم يتفق الشك والسهو فيها ، على ما حكى عنه في بعض الرسائل العملية ، وهذه الفتوى من الشيخ قده لا توافق مسلكه في وجوب التعلم.

ثم انه لا اشكال في وجوب التعلم قبل الوقت مع العلم أو الاطمينان بعدم تمكنه منه بعد الوقت ، وعلمه أو اطمئنانه أيضا بتوجه التكليف إليه في وقته ، سواء كان الحكم مما تعم به البلوى أولا ، إذ ليس ما وراء العلم شيء.

واما لو لم يعلم بتوجه التكليف إليه بعد ذلك ، ولكنه كان يحتمل ، فان كانت المسألة مما تعم بها البلوى فكذلك يجب التعلم ، لأنه يكفي في حكم العقل

٢٠٦

كون الشخص في معرض الابتلاء وان لم يعلم بالابتلاء ، لان مناط حكم العقل ـ وهو لزوم رواح العبد إلى باب المولى وان ذلك من وظيفته ـ لا يختص بالعالم بان للمولى مرادا ، بل يكفي احتمال ذلك مع كونه في معرض ذلك ، ومن هنا قلنا : انه يجب على المكلف تعلم مسائل الشك والسهو ولو لم يعلم بابتلائه بهما ، الا إذا علم بعدم الابتلاء فإنه لا يجب عليه ذلك ، ولكن انى له بهذا العلم؟ وكيف يمكن ان يحصل لاحد ، مع أن الشك والسهو امر يقع بغير اختيار وعلى خلاف العادة ، فمجرد انه ليس من عادته السهو والشك لا يكفي في حصول العلم.

وعلى كل حال : لا اشكال في لزوم التعلم إذا كانت المسألة مما تعم بها البلوى ، كمسائل السهو والشك ، والتيمم وغير ذلك ، من غير فرق بين ان يعلم بالابتلاء أولا يعلم.

واما لو لم تكن المسألة مما تعم بها البلوى ، فظاهر الفتاوى عدم وجوب التعلم مع عدم العلم أو الاطمئنان بعد الابتلاء ولعله لجريان أصالة عدم الابتلاء ، فان حكم العقل بوجوب التعلم لما كان حكما طريقيا ، نظير حكمه بالاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال ، كان الأصل الموضوعي رافعا لموضوع حكم العقل ، فيكون استصحاب عدم الابتلاء في المقام نظير استصحاب ملكية المال في باب الأموال ، فكما لا يجب الاحتياط عند استصحاب ملكية المال لخروج المال ببركة الاستصحاب عن احتمال كونه مال الغير الذي هو موضوع حكم العقل بلزوم الاحتياط ، كذلك استصحاب عدم الابتلاء يوجب دفع احتمال الابتلاء الذي هو الموضوع عند العقل بلزوم التعلم.

وبعبارة أخرى : موضوع حكم العقل بلزوم التعلم انما هو الحكم الذي يبتلى به ، واستصحاب عدم الابتلاء يرفع ذلك الموضوع ، ولا دافع لهذا الاستصحاب الا توهم عدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى المستقبل ، أو توهم ان حكم العقل في المقام نظير حكمه بقبح التشريع الذي يحكم بقبحه في صورة العلم والظن والشك والوهم بمناط واحد ، ومن هنا لا تصل النوبة إلى الأصول الشرعية كما فصلنا الكلام في ذلك في محله.

٢٠٧

ويدفع الأول بأنه : لا مانع من جريان الاستصحاب في المستقبل إذا كان الشيء بوجوده الاستقبالي ذا اثر ، وان لم يكن بوجوده الماضي أو الحالي ذا اثر ، وتفصيل ذلك في محله.

ويدفع الثاني : ان حكم العقل في المقام ، ليس كحكمه في باب التشريع ، فان مناط حكمه بقبح التشريع انما هو لمكان حكمه بقبح اسناد ما لا يعلم أنه من قبل المولى إلى المولى ، وهذا المناط موجود في صورة العلم والظن والشك ، وليس حكم العقل بقبح التشريع يدور مدار واقع عدم التشريع حتى يكون حكمه في صورة عدم العلم حكما طريقيا ، كحكمه بلزوم التحرز عن المال المحتمل كونه مال الغير حذرا عن الوقوع في الظلم والتصرف في مال الغير ، وحكم العقل في المقام كذلك يكون طريقيا محضا ، وح يكون الاستصحاب الموضوعي حاكما عليه هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله ، كان بنائه في السابق ، هو التفصيل بين ما تعم به البلوى وما لاتعم ، من حيث وجوب التعلم في الأول دون الثاني ، وعليه جرى في رسائله العملية ، ولكن لما وصل بحثه إلى هذا المقام توقف في ذلك بل قرب عدم التفصيل ، وان احتمال الابتلاء يكفي في حكم العقل بوجوب التعلم كحكمه بوجوب النظر عند احتمال صدق مدعى النبوة ، فتأمل في المقام ، فان المسألة مما تعم بها البلوى ويترتب عليها آثار عملية.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة وما يلحق بها من وجوب التعلم. وتحصل : ان وجوب بعض المقدمات قبل الوقت لا يتوقف على القول بالواجب المعلق كما ذكره في الفصول ، أو على أحد الامرين من الواجب المعلق أو الشرط المتأخر كما ذكره في الكفاية.

بقى في المقام ، التنبيه على بعض المسائل الفقهية ، التي توهم انها تبتنى على تصحيح الواجب المعلق والشرط المتأخر معا.

( منها ) مسألة الصوم ، حيث إنه لا اشكال في أنه يعتبر في الصوم اجتماع شرائط التكليف من القدرة والصحة وعدم الحيض والسفر ، من أول الطلوع إلى الغروب ، بحيث لو اختل أحد هذه الشرائط في جزء من النهار لم يكن الصوم واجبا ،

٢٠٨

فوجوب الامساك في أول الفجر يتوقف على بقاء الحياة والقدرة إلى الغروب ، وهذا لايكون الا على نحو الشرط المتأخر بحيث تكون القدرة على الامساك فيما قبل الغروب شرطا في وجوب الامساك في أول الفجر ، وهذا عين الشرط المتأخر ، وأيضا لا اشكال في أن التكليف بالامساك في الآن الثاني ، والثالث ، وهكذا ، انما يكون متحققا في الآن الأول ، وهو آن طلوع الفجر ، إذ ليس هناك الا تكليف واحد يتحقق في أول الطلوع ويستمر إلى الغروب ، وليس هناك تكاليف متعددة يحدث في كل آن تكليف يخصه ، فان ذلك ينافي الارتباطية ، بل التكليف بالامساك في جميع آنات النهار انما يتحقق في الآن الأول ، وهو آن الطلوع ، فيكون التكليف بامساك ما قبل الغروب ثابتا قبل ذلك ، وهذا عين الواجب المعلق حيث يتحقق الوجوب الفعلي قبل وقت الواجب ، وهو آن ما قبل الغروب الذي هو وقت الامساك الواجب فيه. وكذا الحال بالنسبة إلى التكليف بالصلاة في أول الوقت ، حيث إن الكلام فيها عين الكلام في الصوم ، من حيث ابتنائه على الشرط المتأخر والواجب المعلق كما لا يخفى ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعف ذلك بكلا وجهيه.

اما ضعف وجه ابتنائه على الشرط المتأخر ، فلما يأتي انشاء الله تعالى من أن الشرط في أمثال ذلك هو وصف التعقب ، ويكون الامساك في أول الطلوع واجبا عند وجود الحياة في ذلك الآن وتعقبه بالحياة فيما بعد إلى الغروب ، فيكون الشرط في وجوب الامساك في كل آن هو فعلية الحياة في ذلك الآن وتعقبها بالحياة في الان الثاني ، وهذا المعنى امر معقول يساعد عليه الدليل والاعتبار ، بل المقام من أوضح ما قيل فيه : ان الشرط هو وصف التعقب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك انشاء الله تعالى.

واما ضعف ابتنائه على الواجب المعلق ، فلان الخطاب وان كان أمرا واحدا مستمرا يتحقق بأول الطلوع ويستمر إلى الغروب ، الا ان فعليته تدريجية حسب تدريجية المتعلق والشروط ، فكما ان الشروط من الحياة والقدرة وغير ذلك تحصل تدريجا ـ إذ لا يعقل تحقق الحياة من الطلوع إلى الغروب دفعة واحدة وفي آن واحد ، بل لا بد من أن تتحقق تدريجا حسب تدرج آنات الزمان ، وكذا الحال

٢٠٩

بالنسبة إلى الامساك فيما بينها الذي يكون متعلقا لابد وان يتحقق متدرجا في آنات الزمان ـ فكذلك فعلية الخطاب انما تكون تدريجية ، ويكون فعلية وجوب الامساك في كل آن مشروطا بوجود ذلك الآن ، وتكون الفعلية متدرجة في الوجود حسب تدرج آنات الزمان ، ولا يعقل غير ذلك ، إذ كما لا يعقل تحقق امساك الآن الثاني في الآن الأول لعدم معقولية جر الزمان ، كذلك لا يعقل فعلية وجوب امساك الآن الثاني في الآن الأول ، وكما يكون امساك كل آن موقوفا على وجود ذلك الآن ، كذلك فعلية وجوب الامساك في كل آن موقوفة على وجود ذلك الآن ، ففعلية الخطاب في التدرج والدفعية تتبع الشروط والمتعلق في التدرج والدفعية ، فإذا كانت الشروط والمتعلق تدريجية فلا بد ان يكون فعلية الخطاب أيضا تدريجية ، ولا فرق في هذا بين ان نقول ان الزمان في باب الصوم اخذ قيدا للمتعلق ، أو اخذ قيدا لنفس الحكم على ما بينا (١) تفصيله في التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب في مسألة استصحاب حكم المخصص أو الرجوع إلى حكم العام.

نعم تظهر الثمرة بين الوجهين في وجوب امساك بعض اليوم لمن يعلم بفقدان بعض الشروط في أثناء النهار أو عدم وجوبه ، فإنه بناء على أن يكون الزمان قيدا لنفس الحكم يكون وجوب الامساك في البعض والكفارة عند المخالفة على القاعدة ، بخلاف ما إذا قلنا بكون الزمان قيدا للمتعلق ، فإنه يكون وجوب امساك البعض والكفارة على خلاف القاعدة ، يتبع ورود الدليل ، ولا باس بالإشارة إلى وجه ذلك اجمالا.

فنقول :

ان كان الزمان قيدا للمتعلق وهو الامساك فيكون الواجب هو الامساك ما بين الحدين ( الطلوع والغروب ) عند اجتماع الشرائط : من القدرة وعدم السفر والحيض فيما بين الحدين ، فيكون متعلق التكليف أمرا واحدا مستمرا وهو الامساك

__________________

١ ـ راجع تفصيل هذا البحث في التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب. الجزء الرابع من هذا الكتاب ـ ص ١٩٦ الطبعة القديمة

٢١٠

ما بين الطلوع والغروب ، ويكون هذا هو الصوم المأمور به ، فلو اختل أحد الشرائط في جزء من النهار لم يكن الامساك حينئذ واجبا واقعا ، إذ امساك بعض اليوم لم يكن واجبا وليس صوما شرعا ، وحينئذ كان مقتضى القاعدة عدم وجوب الامساك من أول الفجر عند العلم باختلال بعض الشرائط ، كمن يعلم أنه يسافر في أثناء النهار أو علمت المرأة انها تحيض ، فوجوب الامساك عليه وثبوت الكفارة يحتاج إلى دليل تعبدي ، ولا يكفي في ذلك أدلة نفس وجوب الصوم.

وأما إذا كان الزمان قيدا للحكم ، فيصير المعنى ، ان الحكم بوجوب الصوم والامساك مستمر إلى الغروب ، بحيث يكون الغروب منتهى عمر الحكم ، فيحدث من أول الطلوع وينتهي بالغروب ، ومرجع ذلك إلى أن الحكم بالامساك في كل آن من آنات النهار ثابت ، فاختلال الشرائط في أثناء النهار لايكون كاشفا عن عدم ثبوت الحكم من أول الامر ، بل الحكم كان واقعا ثابتا إلى زمان اختلال الشرائط وينقطع بالاختلال.

وهذا لا ينافي ارتباطية الصوم وانه ليس هناك تكاليف متعددة مستقلة ، فان ارتباطية التكليف ليس الا عبارة عن وحدة الملاك وترتبه على مجموع الامساك الواقع في النهار ، لا ان لكل امساك ملاكا يخصه ، وهذا أجنبي عما نحن فيه من استمرار الحكم في مجموع النهار على وجه يكون قيدا للحكم ، فيكون ثبوت الحكم في كل زمان تابعا لثبوت الشرط في ذلك الزمان ، وانتفاء الشرط في زمان لا يوجب انتفاء الحكم في الزمان السابق عليه ، وح يجب الامساك على من يعلم أنه يسافر وتلزمه الكفارة عند المخالفة ، لأنه قد خالف حكما واقعيا ثابتا في الواقع ، فتأمل في المقام جيدا.

وعلى كل حال تكون فعلية الحكم في باب الصوم تدريجية ، سواء قلنا بان الزمان فيه قيد للحكم أو قيد للمتعلق ، لان مناط التدريجية هو تدريجية الشروط والمتعلق ، الذي قد عرفت ان مع تدريجيتها لا يعقل فعلية الحكم دفعة ، إذ فعلية الحكم يدور مدار تحقق شرطه ، وتكون تابعة لوجوده ، ومع كون الشرط تدريجي الحصول فلا محالة يكون الفعلية أيضا تدريجية ، حسبما تقتضيه التبعية ، هذا بالنسبة إلى الصوم.

٢١١

واما بالنسبة إلى الصلاة فيفترق الحال فيها بالنسبة إلى أول الوقت في مضى مقدار أربع ركعات منه ، وما عدا ذلك من بقية الوقت ، فان التكليف بأربع ركعات لما كان مشروطا بالزمان الذي يمكن ايقاع الأربع فيه ، إذ لا يعقل ان يكون الزمان أضيق دائرة عن متعلق التكليف ، فالتكليف بأربع ركعات مشروط بزمان يسع الأربع ، وح لا يمكن ان يكون التكليف بالأربع من أول الوقت فعليا ، بل لابد ان يكون فعليته تدريجية حسب تدريجية اجزاء الزمان إلى مقدار أربع ركعات ، وعند انقضاء ذلك المقدار تتم الفعلية لتمامية شرطها من مضى مقدار أربع ركعات ، ولأجل ذلك أفتوا بعدم وجوب القضاء على من حصل له أحد الاعذار الموجبة لسقوط التكليف كالجنون والحيض قبل مضى مقدار أربع ركعات من الوقت ووجوب القضاء عند حصوله بعد ذلك ، والسر في ذلك هو ما ذكرنا من أن الحكم بالأربع لايكون فعليا من أول الوقت دفعة واحدة ، بل فعليته تكون تدريجية حسب تدرج شرط الحكم من الزمان ، فلا تتم الفعلية الا عند انقضاء ذلك المقدار من الزمان ، فالعذر الحاصل قبل ذلك يكون حاصلا قبل تمامية فعلية لحكم ، فلا موجب للقضاء. وهذا بخلاف ما إذا انقضى ذلك المقدار من الزمان فان شرط الفعلية ح حاصل ، فلا مانع من فعلية الحكم بالأربع ، وتكون التسليمة ح في عوض التكبيرة من حيث فعلية حكمها وكونه مخاطبا بها كخطابه بالتكبيرة.

فان قلت :

كيف يكون الحكم بالتسليمة فعليا مع عدم القدرة عليها شرعا الا بعد التكبيرة وما يلحقها من الاجزاء ، وبعبارة أخرى : كيف يكون الحكم فعليا دفعة مع تدريجية المتعلق؟.

قلت :

العبرة في الفعلية التدريجية هي تدريجية الشرائط لا تدريجية المتعلق ، وقولك : لا يقدر على التسليمة في الحال ، قلنا : هي مقدورة له بتوسط القدرة على الاجزاء السابقة ، فتكون ح من المقدور بالواسطة ، غايته ان الواسطة تارة تكون عقلية كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، وأخرى تكون جعلية شرعية كالاجزاء

٢١٢

السابقة بالنسبة إلى التسليمة ، وقد تقدم صحة فعلية التكليف بالنسبة إلى كل ما يكون مقدورا بالواسطة ، فالتكليف بالتسليمة بعد مضى مقدار أربع ركعات من الوقت يكون كالتكليف بالصلاة في مسجد الكوفة غير مقيد بالزمان ، واما التكليف بها قبل ذلك فيكون كالتكليف بالصلاة في المسجد عند طلوع الفجر ، وقد تقدم الكلام في الفرق بين المثالين ، وان التكليف في أحدهما يكون مط وفي الآخر يكون مشروطا ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام في الواجب المشروط والمطلق والمعلق.

بقى في المقام : حكم صورة الشك في كون الواجب مشروطا أو مطلقا ، الذي يرجع الشك فيه إلى الشك في كون القيد قيدا للهيئة أو قيدا للمادة ، وقد اضطربت الكلمات في ذلك ، وسلك كل مسلكا ، وينبغي ان يعلم أولا : ان محل الكلام فيما إذا كان القيد فعلا اختياريا للمكلف ، إذ لو لم يكن كذلك فلا بد ان يكون التكليف مشروطا به ، على ما تقدم تفصيل ذلك ، وكذا محل الكلام فيما إذا لم يكن في البين ما يعين أحدهما كما إذا سيق القيد بصورة القضية الشرطية فإنه يتعين رجوعه إلى الهيئة ، حيث إن القضية الشرطية ما تكون ربط جملة بجملة أخرى على ما تقدم بيانه أيضا ، أو سيق القيد على وجه اخذ وصفا للمادة ، كما إذا قيل متطهرا وأمثال ذلك ، مما يكون القيد ظاهرا في رجوعه إلى المادة.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ربما قيل إنه عند الدوران يقدم تقييد المادة على تقييد الهيئة ، لان في تقييد الهيئة يلزم كثرة التقييد وتعدده ، والأصل يقتضى خلافه ، بخلاف تقييد المادة ، فان تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة لا محالة ، إذ لا يمكن اطلاق المادة مع تقييد الهيئة ، وهذا معنى ما يقال : من أن اشتراط الوجوب بشيء يرجع إلى اشتراط الواجب به أيضا ولا عكس ، إذ تقييد المادة لا يستلزم تقييد الهيئة كما لا يخفى هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

لان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فإذا امتنع الاطلاق امتنع التقييد وحينئذ نقول في المقام : انه لو رجع القيد إلى الهيئة وكان وجوب الحج مثلا مشروطا بالاستطاعة ، فلا يعقل الاطلاق في طرف المادة ، إذ بعد ما

٢١٣

كان وجوب الحج بعد فرض حصول الاستطاعة ، فكيف يكون الحج واجبا في كلتا صورتي وجود الاستطاعة وعدمها الذي هو معنى الاطلاق؟ وهل هذا الا الخلف والتناقض؟ فإذا امتنع الاطلاق في طرف المادة امتنع التقييد أيضا لا محالة ، فان تقييد المادة بالاستطاعة مثلا يقتضى لزوم تحصيلها ، كما هو الشأن في كل قيد يرجع إلى المادة ، وبعد فرض حصول الاستطاعة ، كما هو لازم اخذها قيدا للهيئة ـ لما عرفت من أن القيود الراجعة إلى الحكم لا بد ان يؤخذ مفروضة الوجود ـ لا معنى لتقييد المادة بالاستطاعة الذي يقتضى تحصيلها ، لأنه يكون من طلب الحاصل. فدعوى ان تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة مما لا ترجع إلى محصل.

نعم النتيجة المقصودة من تقييد المادة حاصلة عند تقييد الهيئة ، لان المقصود من تقييد الحج بالاستطاعة ليس الا وقوع الحج بعد التلبس بالاستطاعة ، كما أن المقصود عن تقييد الصلاة بالطهارة هو وقوع الصلاة في حال التلبس بالطهارة ، وهذا المعنى حاصل بعد تقييد الهيئة ، لأنه لو تأخر وجوب الحج من الاستطاعة ، فالحج الواجب يقع بعد الاستطاعة لا محالة ، فالنتيجة المطلوبة من تقييد المادة حاصلة قهرا عند تقييد الهيئة ، ولكن هذا غير تقييد المادة بحيث يكون رجوع القيد إلى لهيئة موجبا لتعدد التقييد ويرجع الشك في المقام إلى الشك في قلة التقيد وكثرته حتى يقال : ان الأصل اللفظي يقتضى قلة التقييد.

فظهر انه عند دوران الامر بين تقييد المادة وتقييد الهيئة يكون من الدوران بين المتباينين ، لا الأقل والأكثر.

وبعد ذلك نقول : ان القيد تارة يكون متصلا بالكلام ، كما إذا ورد : حج مستطيعا ، ودار الامر بين رجوع قيد الاستطاعة إلى الوجوب حتى لا يجب تحصيلها ، أو إلى الحج حتى يجب تحصيلها.

وأخرى يكون منفصلا ، كما إذا ورد حج ، وبعد ذلك ورد دليل منفصل يدل على اعتبار قيد الاستطاعة ، ودار أمرها بين الامرين ، فان كان القيد متصلا بالكلام فلا اشكال في اجمال الكلام حينئذ لاحتفافه بما يصلح لكلا الامرين بلا معين ، فلا يكون للهيئة اطلاق ولا للمادة ، لاتصال كل منهما بما يصلح للقرينية ،

٢١٤

فلا يمكن التمسك باطلاق أحدهما بعد العلم الاجمالي بورود القيد على أحدهما ، بل لابد ح من الرجوع إلى الأصول العملية ، وسيأتي البحث عن ذلك.

واما لو كان القيد منفصلا ، فهذا هو الذي (١) ذكر الشيخ ( قده ) فيه وجهين لرجوع القيد إلى المادة لا إلى الهيئة.

( الوجه الأول )

ان الامر في المقام يدور بين تقييد اطلاق الهيئة ، وتقييد اطلاق المادة ، لأن المفروض انه انعقد الظهور الاطلاقي لكل منهما حيث كان التقييد بالمنفصل ، ولذلك خصصنا كلام الشيخ ( قده ) بالمنفصل ، إذ مع الاتصال لا ينعقد ظهور اطلاقي لكل منهما ، فلا معنى للدوران ح. وهذا بخلاف ما إذا كان بالمنفصل ، فان الظهور الاطلاقي انعقد لكل منهما ، فيدور الامر بين تقييد اطلاق المادة وتقييد اطلاق الهيئة ، ولما كان اطلاق الهيئة شموليا وكان اطلاق المادة بدليا ، كان اللازم تقييد اطلاق المادة ، لأقوائية الاطلاق الشمولي من الاطلاق البدلي ، كما هو الشأن في كل ما دار الامر بين تقييد اطلاق الشمولي وتقييد اطلاق البدلي.

اما كون اطلاق الهيئة شموليا واطلاق المادة بدليا ، فلان معنى اطلاق الهيئة هو ثبوت الوجوب في كلتا حالتي ثبوت القيد وعدمه ، فيكون اطلاق الوجوب شاملا لصورة وجود الاستطاعة وصورة عدمها ، وهذا بخلاف اطلاق المادة فإنه بدلي ، حيث إن الواجب هو صرف وجود الحج ، والمطلوب فرد واحد منه على البدل بين الفرد قبل الاستطاعة والفرد بعده ، وهذا عين الاطلاق البدلي.

واما تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تقييد الاطلاق الشمولي ، فهو موكول إلى محله في مبحث التعادل والتراجيح ، وقد أوضحناه في محله.

ثم إن المحقق الخراساني قده ، (٢) سلم ان المقام يكون من دوران الامر بين تقييد الاطلاق البدلي والاطلاق الشمولي. الا انه ناقش في الكبرى ، ومنع تقديم

__________________

١ ـ راجع مطارح الأنظار ، الهداية الرابعة من مباحث مقدمة الواجب ص ٤٧.

٢ ـ الكفاية ، الجلد ١ ص ١٦٩ « فلان مفاد اطلاق الهيئة وان كان شموليا .. »

٢١٥

الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، نظرا إلى أن الاطلاق في كل منهما يكون بمقدمات الحكمة لا بالوضع ، فلا موجب لتقديم أحدهما على الاخر هذا.

ولكن الانصاف ان المقام أجنبي عن مسألة تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، لان تلك المسألة انما هي في ما إذا تعارض الاطلاقان وتنافيا بحسب المدلول ، كما إذا ورد لا تكرم الفاسق وورد أيضا أكرم عالما ، حيث إن اطلاق لا تكرم الفاسق يقتضى عدم اكرام العالم الفاسق ، واطلاق أكرم عالما يقتضى اكرامه ، فيتنافيان في مورد الاجتماع ، ويصح التعارض بينهما ، فيبحث ح عن أن اطلاق الشمولي مقدم على الاطلاق البدلي أو غير مقدم. والمقام ليس من هذا القبيل ، إذ ليس بين اطلاق المادة واطلاق الهيئة تعارض وتناف ، بل بينهما كمال الملائمة والألفة ، إذ لا يلزم من اطلاق كل منهما محذور لزوم اجتماع المتناقضين الذي هو المناط في باب التعارض ، والعلم بورود المقيد على أحدهما من الخارج لمكان الدليل المنفصل لا يوجب التنافي بينهما. غايته انه يعلم بعدم إرادة أحد الاطلاقين وان أحدهما لا محالة مقيد ، وأي ربط لهذا باقوائية اطلاق الهيئة لكونه شموليا من اطلاق المادة لكونه بدليا؟ فان الأقوائية لا توجب ان يكون القيد واردا على الضعيف ، وأي ملازمة في ذلك؟ بل لو فرض ان الهيئة بالوضع تدل على الشمول لا بالاطلاق كان ذلك العلم الاجمالي بحاله ، فان القيد لا محالة اما ان يكون واردا على الهيئة أو يكون واردا على المادة ، وأقوائية الهيئة لا ربط لها بذلك ، فالمقام نظير ما إذا علم بكذب أحد الدليلين من دون ان يكون بين مدلوليهما تناف ، حيث أوضحنا في محله انه لا يعامل معاملة التعارض في مثل هذا ، بل يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، ويعامل معهما معاملة قواعد العلم الاجمالي ، والمقام بعينه يكون من هذا القبيل.

( الوجه الثاني )

الذي ذكره الشيخ ( قده ) لترجيح ارجاع القيد إلى المادة ، هو ان تقييد الهيئة وان لم يستلزم تقييد المادة ، بحيث يلزم تعدد التقييد كما تقدم ، الا انه لا اشكال في أنه يوجب بطلان اقتضاء المادة للاطلاق ، ويخرجها عن قابليته ، وكما أن

٢١٦

أصل التقييد مخالف للأصل ، كذلك عمل ما ينتج نتيجة التقييد واخراج المحل عن قابلية الاطلاق يكون مخالفا للأصل ، لاشتراكهما في الأثر. وهذا بخلاف ارجاع القيد إلى المادة ، فإنه سالم عن هذا المحذور لبقاء اطلاق الهيئة على حاله هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه فان التقييد انما كان على خلاف الأصل لمكان جريان مقدمات الحكمة ، وأين هذا من عمل ما يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وهدم أساسها كما هو الحال عند ارجاع القيد إلى الهيئة حيث إنه يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في صرف المادة وهدم أساس اطلاقها ، فإنه لا أصل يقتضى بطلان مثل هذا العمل.

وبالجملة ما ذكره الشيخ ( قده ) من الوجهين لارجاع القيد إلى المادة ، مما لا يمكن المساعدة عليه. فلابد من اعمال قواعد العلم الاجمالي ، إذ الأصول اللفظية من أصالة اطلاق المادة وأصالة اطلاق الهيئة متعارضة ، للعلم بتقييد أحد الاطلاقين ، فتصل النوبة حينئذ إلى الأصول العملية ، ومعلوم ان الشك في المقام يرجع إلى الشك في لزوم تحصيل القيد ، ومقتضى أصالة البراءة عدم لزوم تحصيله. هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام.

ثم تنظر في جميع ما افاده بما حاصله : ان المراد من تقييد الهيئة هو تقيد المادة المنتسبة على ما عرفت ، إذ تقييد الهيئة بما انها معنى حرفي لا يعقل ، فلا بد من رجوع القيد إلى المادة المنتسبة ، ويكون الفرق بين تقييد المادة وتقييد الهيئة هو انه تارة : يكون التقييد للمادة بلحاظ ما قبل الاستناد ، وأخرى : يكون تقييدا لها بلحاظ الاستناد ـ كما تقدم تفصيل ذلك ـ وحينئذ يكون رجوع القيد إلى المادة متيقنا ، والشك يرجع إلى امر زائد وهو تقييدها بلحاظ الاستناد ، واطلاق الهيئة ينفى هذا الامر الزائد ، من غير فرق بين ان يكون التقييد بالمتصل أو المنفصل ، إذ رجوع القيد المتصل إلى المادة أيضا متيقن ، ورجوعه إلى المادة المنتسبة مشكوك وأصالة الاطلاق الجارية في طرف الهيئة تنفى ذلك.

وتوهم انه يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فاسد ، إذ الضابط فيما يصلح للقرينية هو امكان رجوع القيد إلى ما تقدم بلا حاجة إلى عناية زائدة و

٢١٧

صلوحه للقرينية بلا كلفة ، كاستثناء الفساق من العلماء مع تردد الفساق بين مرتكب الكبيرة فقط ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة لأجل اجمال المفهوم ، وكالضمير المتعقب لجمل متعددة ، أو الاستثناء المتعقب لذلك ، فإنه في الجميع يكون القيد صالحا لرجوعه إلى ما تقدم بلا عناية ، بحيث يصح للمتكلم الاعتماد على ذلك وبذلك ينهدم أساس مقدمات الحكمة. وهذا بخلاف المقام ، فان رجوع القيد إلى الهيئة يحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ الانتساب في طرف المادة هذا.

مع أن رجوع القيد إلى الهيئة والوجوب ، لا يصح الا بعد اخذ القيد مفروض الوجود كما تقدم ، وذلك أيضا امر زائد ينفيه اطلاق القيد ، حيث إنه لم يتعقب بمثل أداة الشرط التي خلقها الله تعالى لأجل فرض الوجود ، فمقتضى اطلاقه عدم لحاظه مفروض الوجود.

هذا كله. مضافا إلى أن القيود التي تصلح لان ترجع إلى المادة أو الوجوب انما هي القيود التي تكون بصيغة الحال ، كحج مستطيعا ، إذ ما عدا ذلك لا تصلح لذلك ، فان ما كان مصدرا بأدوات الشرط (١) وما يلحق بها لا تصلح الا للرجوع إلى الهيئة ، وما كان من قبيل المفعول به وفيه لا تصلح الا للمادة كصل في المسجد ، حيث إن ظاهره الأولى يقتضى بناء المسجد الا ان تقوم قرينة شخصية أو نوعية على خلافه. فينحصر ما يصلح للرجوع إلى كل منهما بما كان على هيئة الحال ، ومعلوم ان مقتضى الظهور النوعي في مثل حج مستطيعا ، وصل متطهرا ، وأمثال ذلك ، هو رجوع القيد إلى المادة ، حيث لا يستفاد منه الا ذلك ، هذا إذا كان التقييد بالمتصل. وأما إذا كان التقييد بالمنفصل ، فان كان لفظيا فالكلام فيه هو الكلام في المتصل ، بل هو أولى كما لا يخفى.

وان كان لبيا ، كما إذا انعقد اجماع على أن الحج لا يقع بصفة المطلوبية الا

__________________

١ ـ كالعقود التي لا تتعلق بها إرادة الفاعل لكونها خارجة عن القدرة كالزمان ، حيث عرفت ان مثل ذلك لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ـ منه.

٢١٨

في حال الاستطاعة ، وشك في كون الاستطاعة شرطا للوجوب أو للحج ، فالظاهر أيضا رجوع القيد إلى المادة فقط ، لاحتياج رجوع القيد إلى الهيئة إلى عناية زائدة ، والاطلاق يدفع ذلك.

نعم لا يتمشى الوجه الثاني (١) والثالث فيما إذا كان دليل القيد لبيا كما لا يخفى. هذا حاصل ما افاده مد ظله ، ولكن للنظر فيه مجال ، كما لا يخفى على المتأمل. هذا تمام الكلام في الواجب المشروط والمطلق وما يتعلق بذلك من المباحث.

وينقسم الواجب أيضا إلى نفسي وغيري

وعرف الغيري : بما امر به للتوصل إلى واجب آخر. ويقابله النفسي ، وهو ما لم يؤمر به لأجل التوصل به إلى واجب آخر. وقد يعرف النفسي : بما امر به لنفسه ، والغيري : بما امر به لأجل غيره.

وقد أشكل على التعريف الأول بما حاصله : انه يلزم ان يكون جل الواجبات غيرية ، لان الامر بها انما هو لأجل التوصل بها إلى ما لها من الفوائد والملاكات المترتبة عليها ، التي تكون هي الواجبة في الحقيقة ، وكونها مقدورة بالواسطة لأنها من المسببات التوليدية.

ثم وجه المستشكل بان ترتب الملاكات على الواجبات وكون الملاكات من المسببات التوليدية لا ينافي الوجوب النفسي ، لأنه يمكن ان تكون الواجبات معنونة بعنوان حسن ، وبانطباقه عليها تكون واجبات نفسية ، وارجع تعريف الواجب النفسي بأنه ما امر به لنفسه إلى ذلك هذا.

وقد أشبعنا الكلام في بطلان توهم كون الملاكات من المسببات التوليدية في مبحث الصحيح والأعم ، وانه ليست الملاكات واجبة التحصيل لكونها من الدواعي ، ولا يمكن تعلق إرادة الفاعل بها. فراجع ذلك المبحث. وعليه لا يرد

__________________

١ ـ مرادنا من الوجه الثاني : هو ظهور دليل القيد في عدم اخذه مفروض الوجود ، ومن الوجه الثالث : هو الظهور النوعي في رجوع ما كان بصيغة الحال إلى المادة فقط ـ منه.

٢١٩

الاشكال على التعريف المذكور.

نعم يرد عليه ، خروج الواجبات التهيئية والواجبات التي يستقل العقل بوجوبها لأجل برهان التفويت عن كونها واجبات نفسية ، لان الامر في جميعها انما يكون لأجل التوصل بها إلى واجبات آخر ، من الحج في وقته ، والصلاة مع الطهور في وقتها ، وغير ذلك ، فيلزم ان يكون جميعها واجبات غيرية ، مع أنها ليست كذلك كما تقدم سابقا.

فالأولى ان يعرف الواجب النفسي بما امر به لنفسه ، أي تعلق الامر به ابتداء وكان متعلقا للإرادة كذلك ، ويقابله الواجب الغيري ، وهو ما إذا كانت ارادته ترشحية من ناحية إرادة الغير ، فتكون الواجبات التهيئية كلها من الواجبات النفسية ، حيث لم تكن ارادتها مترشحة من إرادة الغير ، لوجوبها مع عدم وجوب الغير ، على ما تقدم تفصيل ذلك.

ثم إن ما دفع به الاشكال عن الواجبات النفسية ، بأنه يمكن ان يكون ذلك لأجل انطباق عنوان حسن الخ ، لم نعرف معناه ، فان العنوان الحسن من أين جاء؟ وهل ذلك العنوان الا جهة ترتب الملاكات عليها الذي التزم انها من تلك الجهة تكون واجبات غيرية؟ فتأمل جيدا.

وعلى كل حال لو شك في واجب انه نفسي أو غيري فتارة ، يقع الكلام فيما يقتضيه الأصل اللفظي وأخرى ، فيما يقتضيه الأصل العملي.

( اما الأول )

فمجمل القول فيه : هو ان الواجب الغيري لما كان وجوبه مترشحا عن وجوب الغير ، كان وجوبه مشروطا بوجوب الغير ، كما أن وجود الغير يكون مشروطا بالواجب الغيري ، فيكون وجوب الغير من المقدمات الوجوبية للواجب الغيري ، ووجود الواجب الغيري من المقدمات الوجودية لذلك الغير ، مثلا يكون وجوب الوضوء مشروطا بوجوب الصلاة ، وتكون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء ، فالوضوء بالنسبة إلى الصلاة يكون من قيود المادة ، ووجوب الصلاة يكون من قيود الهيئة بالنسبة إلى الوضوء بالمعنى المتقدم من تقييد الهيئة ، بحيث لا يرجع إلى تقييد المعنى

٢٢٠