فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

به ويقع تحت دائرة التكليف ، والا فلا يزيد هذا المعنى من الغرض عن الغرض بمعنى المصلحة الذي سيأتي انه مما لا اثر له.

الوجه الثاني :

ان يكون مراده من الغرض المصالح التي هي ملاكات الاحكام ، فيكون اعتبار قصد التقرب والامتثال لأجل ان المصلحة الواقعية لا تحصل الا بذلك ، وحينئذ لا يحتاج إلى جعل مولوي لاعتبار قصد الامتثال ، بل نفس المصلحة الواقعية تقتضي قصد الامتثال ، فلو علم أن المصلحة الواقعية لا تحصل الا بقصد الامتثال فهو ، وان شك فسيأتي الكلام فيه.

وهذا الوجه أردء من سابقه إذ المصالح الواقعية انما تكون مناطات للأوامر وليست هي لازمة التحصيل ، لعدم كونها من المسببات التوليدية لفعل المكلف ، كما يدل على ذلك عدم تعلق التكليف بها في شيء من المقامات. وقد تقدم منا تفصيل الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الصحيح والأعم فراجع (١). وحينئذ نفس العلم بالمصلحة لا يكفي في الزام المكلف بشيء الا من جهة استكشاف الحكم المولوي لمكان انه يقبح على الحكيم تفويت المصلحة على العباد ، فلو لم يستكشف ذلك كان العلم بالمصلحة مما لا اثر له ، فاثر العلم بالمصلحة ليس الا استكشاف الجعل المولوي لمكان الملازمة. فيرجع الكلام إلى أن الواجب على المكلف هو ما تعلق الجعل به ، لا ما قامت المصلحة به من دون جعل مولوي ومن دون تعلق الامر الشرعي بالفعل الذي قامت المصلحة به. وحينئذ يبقى الكلام في كيفية تعلق الجعل والامر المولوي باعتبار قصد الامتثال على وجه يسلم عن كل محذور.

والتحقيق في المقام :

انه ينحصر كيفية الاعتبار بمتمم الجعل ولا علاج له سوى ذلك ، فلابد

__________________

على اعتبار الغرض بهذا الوجه ، وهو ان الامر لا يمكن ان يتكفل بيان الغرض منه ، ولكن هذا الاشكال سهل الجواب ، لأنه يمكن ان يكون غرضه من الامر ذلك غايته انه تحتاج إلى كاشف يكشف عن أن غرضه من الامر كان ذلك ، فتأمل ـ منه.

١ ـ راجع مباحث الصحيح والأعم من هذا الكتاب ص ٦٧

١٦١

للمولى الذي لا يحصل غرضه الا بقصد الامتثال من تعدد الامر بعد ما لا يمكن ان يستوفى غرضه بأمر واحد ، فيحتال في الوصول إلى غرضه. وليس هذان الأمران عن ملاك يخص بكل واحد منهما حتى يكون من قبيل الواجب في واجب ، بل هناك ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد. ومن هنا اصطلحنا عليه بمتمم الجعل ، فان معناه هو تتميم الجعل الأولى الذي لم يستوف تمام غرض المولى ، فليس للامرين الا امتثال واحد وعقاب واحد.

وبذلك يندفع ما في بعض الكلمات : من الاشكال على من يقول بتعدد الامر.

بما حاصله : ان الامر الأولى ان كان يسقط بمجرد الموافقة ولو مع عدم قصد الامتثال فلا موجب للامر الثاني إذ لايكون له موافقة حينئذ ، وان كان لا يسقط فلا حاجة إليه لاستقلال العقل ح باعتباره الخ ما ذكره في المقام.

وحاصل الدفع : ان الاشكال مبنى على تخيل ان تعدد الامر انما يكون عن ملاك يختص بكل واحد ، وقد عرفت : انه ليس المراد من تعدد الامر ذلك بل ليس هناك الا ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد.

ثم إن متمم الجعل تارة : ينتج نتيجة الاطلاق ، وأخرى : ينتج نتيجة التقييد. فالأول : كمسألة اشتراك الاحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل ، حيث حكى تواتر الاخبار على الاشتراك. والثاني : كمسألة قصد الامتثال في موارد اعتباره. وتفصيل الكلام في متمم الجعل باقسامه ذكرناه في بعض مباحث الأصول العملية ، وعلى كل حال ، قد عرفت ان التعبدية انما تستفاد من متمم الجعل ، لا من الغرض بكلا معنييه.

ثم إن هنا طريقا آخر لاستفادة التعبدية بنى عليه بعض الاعلام ، وهو ان قصد الامتثال انما يعتبره العقل في مقام الإطاعة ، حيث إنه من كيفيات الإطاعة التي هي موكولة إلى نظر العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك هذا.

ولكن الانصاف : انه لم نعرف معنى محصلا لهذا الوجه ، فإنه ان أراد ان العقل يعتبر قصد الامتثال من عند نفسه فهو واضح الفساد ، إذ العقل لم يكن مشرعا

١٦٢

يتصرف من قبل نفسه ويحكم بما يريد ، إذ ليس شأن العقل الا الادراك.

وان أراد ان العقل يعتبر ذلك بعد العلم بان ما تعلق الامر به انما شرع لأجل ان يكون من الوظايف التي يتعبد بها العباد ، فهذا ليس معنى اعتبار العقل ذلك من قبل نفسه ، بل العقل ح يستقل بجعل ثانوي للمولى على اعتبار قصد التقرب ، ويكون حكمه في المقام نظير حكمه بوجوب المقدمة ، حيث إنه بعد وجوب ذيها شرعا يستقل العقل بوجوبها أيضا ، بمعنى انه يدرك وجوب ذلك ويكون كاشفا عنه ، لا انه هو يحكم بالوجوب ، فإنه ليس ذلك من شأن العقل. فكذا في المقام ، حيث إنه بعد اطلاع العقل بان وجوب الصلاة مثلا انما هو لأجل ان تكون من الوظايف المتعبد بها ، فلا محالة يدرك ان هناك جعلا مولويا تعلق باعتبار قصد الامتثال ، ويكشف عن ذلك ككشفه عن وجوب المقدمة ، وأين هذا من دعوى كون قصد الامتثال مما يعتبره العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك؟.

وبالجملة : دعوى ان التعبدية من الاحكام العقلية بالمعنى المذكور مما لا يمكن المساعدة عليها ، بل الحق الذي لا محيص عنه ، هو ان التعبدية انما تكون بأمر ثانوي متمم للجعل ، فتأمل في أطراف المقام فإنه من مزال الاقدام.

ثم انه ان علم بالتوصلية والتعبدية فهو ، وان شك فيقع الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي : من البراءة ، والاشتغال. فاعلم : انه قد قال بالاشتغال في المقام من لم يقل به عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وربما يبنى ذلك على الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، بجريان البراءة في الأولى دون الثانية.

فينبغي أولا تحقيق الحال في ذلك ، وان كنا قد تعرضنا له في مبحث الأقل والأكثر ، الا انه لا باس بالإشارة إليه في المقام.

فنقول :

ربما يتوهم الفرق بين المحصلات الشرعية وغيرها بما حاصله : ان المحصل ان كان عقليا أو عاديا لا مجال لاجراء البراءة فيه عند الشك في دخل شيء فيه ، لأنه يعتبر في البراءة ان يكون المجهول مما تناله يد الجعل والرفع الشرعي ، والمفروض ان المحصل العقلي والعادي ليس كذلك ، فلو كان احراق زيد واجبا ، وشك في أن

١٦٣

الالقاء الخاص هل يكون موجبا للاحراق أولا؟ كان المرجع هو الاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط ، ولا يجرى فيه حديث الرفع لان ما هو المجعول الشرعي غير مجهول وما هو المجهول غير مجعول شرعي.

وهذا بخلاف ما إذا كان المحصل شرعيا ، كالغسلات بالنسبة إلى الطهارة الخبثية ، حيث إنه لما كان محصلية الغسلات للطهارة بجعل شرعي ، فلو شك في اعتبار الغسلة الثانية أو العصر كان موردا للبرائة ويعمه حديث الرفع ، إذ امر وضعه بيد الشارع ، فرفعه أيضا بيده ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك فساده ، فان المحصلات ليست هي بنفسها من المجعولات الشرعية ، بل لا يمكن تعلق الجعل بها ، إذ السببية غير قابلة للجعل الشرعي ، فإنها عبارة عن الرشح والإفاضة ، وهذا مما لا تناله يد الجعل التشريعي ، كما أوضحناه في محله ، بل المجعول الشرعي هو نفس المسببات وترتبها عند وجود أسبابها ، فالمجعول هو الطهارة عقيب الغسلات لا سببية الغسلات للطهارة ، وكذا المجعول هو وجوب الصلاة عند الدلوك ، لا سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، وح لا يمكن اجراء حديث الرفع عند الشك في دخل شيء في المحصل ، لما عرفت : من أنه يعتبر في المرفوع ان يكون مجعولا شرعيا ، والمجعول المجهول في المقام ، هو ترتب المسبب على الفاقد للمشكوك ، واجراء حديث الرفع في هذا ينتج ضد المقصود ، إذ يرفع ترتب المسبب على الأقل وينتج عدم حصول المسبب عقيب السبب الفاقد للخصوصية المشكوكة ، وهذا كما ترى يوجب التضييق وينافي الامتنان ، مع أن الرفع انما يكون للامتنان والتوسعة على العباد.

والحاصل : ان الامر في باب المحصلات ومتعلقات التكاليف يختلف ، فان في باب متعلقات التكاليف يكون تعلق التكليف بالأقل معلوما وبالأكثر مشكوكا ، فيعمه حديث الرفع ، لان في رفعه منة وتوسعة. وهذا بخلاف باب المحصلات ، فان ترتب المسبب على الأكثر معلوم وعلى الأقل مشكوك ، فما هو معلوم لا يجرى فيه حديث الرفع ، وما هو مشكوك لا موقع له فيه ، لاستلزام جريانه الضيق على العباد ، مع أنه ينتج عكس المقصود.

١٦٤

هذا إذا لم نقل بجعل السببية. وأما إذا قلنا محالا بجعل السببية فكذلك أيضا ، لان سببية الأكثر الواجد للخصوصية المشكوكة معلومة ، فلا يجرى فيه حديث الرفع ، وسببية الأقل مشكوكة ، ورفعها ينتج عدم جعله سببا ، وهذا يوجب التضييق.

نعم لو قلنا : بجعل الجزئية مضافا إلى جعل السببية أمكن جريان البراءة حينئذ ، لان جزئية الغسلة الثانية مثلا أو شرطية العصر مشكوك ، وفرضنا انها تنالها يد الجعل ، فيعمها حديث الرفع ويوجب رفع جزئيتها للسبب ، فيكون السبب هو الفاقد للعصر أو الغسلة الثانية ، ولكن هذا يستلزم الالتزام بمحال في محال ، محال جعل السببية ، ومحال جعل الجزئية فتأمل.

فتحصل : انه لافرق بين المحصل الشرعي والمحصل العقلي ، وانه في الكل لا مجال الا للاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط والامتثال.

ثم انه لا فرق في المحصلات ، بين ان تكون مسبباتها من الواجبات الشرعية كالطهارة بالنسبة إلى الغسلات ، أو كان من الملاكات ومناطات الاحكام والمصالح التي تبتنى عليها ، بناء على كونها من المسببات التوليدية وان منعناه سابقا أشد المنع ، ولكن بناء على كونها من المسببات التوليدية يكون حالها بالنسبة إلى الافعال التي تقوم بها حال الطهارة بالنسبة إلى الغسلات التي تحصل بها ، في عدم جريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصولها. مع أنه لو سلم الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، وقلنا بجريان البراءة في المحصلات الشرعية ، لا يمكن القول بها عند الشك في دخل شيء في حصول الملاك ، بناء على كونه من المسببات التوليدية ، وذلك : لان محصلية الصلاة مثلا للملاك ليس بجعل شرعي ، بل هو امر واقعي تكويني ، وليس من قبيل محصلية الغسلات للطهارة حيث تكون بجعل شرعي ، لوضوح ان سببية الصلاة للنهي عن الفحشاء ليس بجعل شرعي ، فيكون حال الصلاة بالنسبة إلى النهى عن الفحشاء كحال الأسباب العقلية بالنسبة إلى مسبباتها وانه لا مجال لجريان البراءة فيها ، وحينئذ ينسد جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين.

١٦٥

فان قلت :

نعم وان كان دخل الصلاة في حصول الملاك أمرا واقعيا تكوينيا ، الا ان الامر لما تعلق بالصلاة ووقعت هي مورد التكليف ، كان جريان البراءة فيما شك في اعتباره في الصلاة بمكان من الامكان.

والحاصل : انه فرق في باب الأسباب والمسببات ، بين تعلق التكليف بالمسبب كقوله تعالى : (١) « وثيابك فطهر » ، وبين تعلقه بالسبب كالصلاة وغيرها مما يكون سببا لحصول الملاك ، حيث إن التكليف انما تعلق بنفس الأسباب ، لا المسببات التي هي عبارة عن الملاكات. فان تعلق التكليف بالمسبب فلا مجال لجريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصوله ، كما إذا شك في دخل الغسلة الثانية أو العصر في حصول الطهارة ، لان متعلق التكليف معلوم ، والشك انما هو في ناحية الامتثال ، فالمرجع أصالة الاشتغال لا البراءة. وهذا بخلاف ما إذا تعلق التكليف بالسبب ، فإنه يكون ح للسبب بماله من الاجزاء والشرائط حيثيتان : حيثية دخله في حصول الملاك ، وحيثية تعلق التكليف به ، والبرائة وان لم تجر فيه من الحيثية الأولى لأنها ليست جعلية بل هي واقعية تكوينية ، الا انها تجرى فيه من الحيثية الثانية ، لرجوع الشك فيها إلى الشك في التكليف ، وبعد اخراج المشكوك كالسورة مثلا عن تحت دائرة الطلب والتكليف يكون المحصل هو خصوص الفاقد للسورة ، وتخرج الحيثية الأولى عن اقتضائها الاشتغال ، ببركة جريان البراءة عن الحيثية الثانية.

وبذلك يحصل الفرق ، بين قصد الامتثال المعتبر في العبادة ، وبين سائر الأجزاء والشرائط ، فان قصد الامتثال لما لم يتعلق به الطلب لاستحالته على ما عرفت ، بل كان مما يعتبره العقل في حصول الطاعة ، كان المرجع عند الشك في اعتباره هو الاشتغال ، لعدم تعلق التكليف بناحية السبب ، فلو شك في حصول الملاك بدون قصد الامتثال كان اللازم عليه قصد الامتثال ، للشك في حصوله بدون

__________________

١ ـ سورة المدثر ، الآية ٤

١٦٦

ذلك من دون ان يكون له مؤمن شرعي. وهذا بخلاف سائر الأجزاء والشرائط مما أمكن تعلق الطلب به ، فإنه لمكان امكان ذلك لو شك في تعلق الطلب بالسورة كان المرجع هو البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف ، وبعد جريان البراءة يحصل المؤمن الشرعي عن الشك في حصول الملاك ، لان لازم خروج المشكوك عن دائرة الطلب ، هو كون المحصل للملاك خصوص الصلاة بلا سورة مثلا.

قلت :

يرد على ذلك.

أولا : انه لا فرق في باب الأسباب والمسببات بين تعلق التكليف بنفس المسبب أو تعلقه بالسبب ، لأنه لايكون السبب بما هو فعل جوارحي متعلق التكليف ، بل هو معنون بمسببه التوليدي يكون متعلق التكليف ، فليس الامر بالغسل بما هو هو وبما انه اجراء الماء على المحل مطلوبا ، بل بما انه افراغ للمحل عن النجاسة الذي هو عبارة عن الطهارة وقع متعلق الطلب.

ومن هنا قيل ـ كما في المعالم ـ ان البحث عن وجوب المقدمة السببية قليل الجدوى ، وليس ذلك الا لان تعلق التكليف بكل من السبب والمسبب عين تعلقه بالآخر ، وحينئذ لا يجدى تعلق التكليف بالسبب في جريان البراءة ، إذ ليس السبب بما هو متعلق التكليف ، بل بما هو معنون بالمسبب ومتولد منه قد تعلق التكليف به ، فليس هناك حيثيتان : حيثية دخله في حصول المسبب ، وحيثية تعلق التكليف به ، بل ليس هناك الا حيثية واحدة ، وهي حيثية دخله في حصول المسبب وقد تعلق التكليف به من نفس تلك الحيثية ، والمفروض ان الشك من تلك الحيثية راجع إلى الشك في الامتثال الذي لا مجال فيه للبرائة ، فتعلق التكليف بالصلاة انما يكون من حيثية دخلها بمالها من الاجزاء والشرائط في الملاك ، فعند الشك في دخل السورة في الملاك يلزم الاحتياط.

وثانيا : هب ان هناك حيثيتين ، الا ان إحدى الحيثيتين تقتضي الاشتغال والأخرى لا تقتضيه ، ومن المعلوم : ان ما ليس له الاقتضاء لا يمنع عن اقتضاء ما فيه الاقتضاء ، فلو اجتمع في شيء واحد جهتان : جهة تقتضي الاشتغال ، وجهة تقتضي

١٦٧

البراءة ، فالاعتماد على الجهة التي تقتضي الاشتغال ، لان عدم المقتضى لا يمكن ان يزاحم ما فيه المقتضى.

واما دعوى : ان مقتضى اجراء البراءة عن تعلق التكليف بالسورة ، هو ان المجعول الشرعي وما هو المحصل هو خصوص الفاقد للسورة ، فلا يبقى مجال لدعوى دخل السورة في الملاك حتى تكون هذه الحيثية مقتضية للاشتغال ، بل هذه الحيثية تنعدم ببركة اجراء البراءة في الحيثية الأخرى.

فهي في غاية السقوط ، لابتنائها على اعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به ، إذ لا فرق في الأصل المثبت ، بين باب اللوازم والملزومات ، وبين باب الملازمات.

وبعبارة أخرى : كما أن اثبات الحكم الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي لمؤدى الأصل المثبت ـ كاثبات الآثار المترتبة على انبات اللحية الملازم للحيوة باستصحاب الحياة ـ كذلك لو ترتب جعل شرعي على جعل آخر أو نفى جعل آخر وكان مؤدى الأصل اثبات أحد الجعلين أو نفيه ـ كما فيما نحن فيه ـ لا يمكن اثبات ذلك الجعل الشرعي الا على القول بالأصل المثبت ، فتأمل في المقام جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان القول بالاشتغال عند الشك في اعتبار قصد القربة لمكان الشك في حصول الملاك مما لا يرجع إلى محصل ، لعدم كون الملاكات من المسببات التوليدية حتى يلزم تحصيلها على المكلف ، بحيث لو شك في حصولها لزمه الاحتياط. هذا إذا كان مبنى اعتبار قصد الامتثال هو حيثية دخله في حصول الملاك.

وأما إذا كان مبنى اعتباره أحد الامرين الآخرين ، وهما الغرض بمعناه الاخر ـ أي الغرض من الامر لان يتعبد به العبد ـ ومتمم الجعل ( على ما هو الحق عندنا ) فان كان منشأ اعتباره هو غرض الامر ، فالذي ينبغي ان يقال عند الشك في ذلك ، هو الرجوع إلى البراءة ، للشك في أنه امر لذلك. وقد عرفت فيما تقدم : انه لو امر لذلك يكون الغرض من كيفيات الامر وملقى إلى العبد بنفس القاء الامر ويكون ملزما به شرعا ، كما يكون ملزما بتعلق الامر شرعا ، ويندرج الامر على هذا الوجه تحت الكبرى العقلية ، وهي لزوم الانبعاث عن امر المولى على ما مر بيانه ، وحينئذ لو

١٦٨

شك في أنه هل كان غرضه من الامر تعبد المكلف به أو لم يكن غرضه ذلك كان الشك راجعا إلى الزام شرعي فينفي بالأصل.

والحاصل : ان الامر يدور بين الأقل والأكثر ، لاشتراك التعبدي والتوصلي في تعلق الامر بالفعل ، فيكون في التعبدي امر زائد اراده المولى من المكلف. وليس المقام من دوران الامر بين المتباينين ، بدعوى انا نعلم أن للمولى غرضا ولكن نشك في أن غرضه من الامر نفس المتعلق أو ان غرضه تعبد المكلف بأمره ، ودلك : لاشتراك التعبدي والتوصلي في تعلق الغرض بالفعل ، وفي التعبدي يكون غرض زائد على ذلك ، وهو تعبد المكلف بأمره ، فيكون الامر من الدوران بين الأقل والأكثر.

نعم يمكن ان يقال : انه بالنسبة إلى فروع التعبد : من قصد الوجه والتميز وغير ذلك ، يكون الأصل هو الاشتغال ، للشك في حصول المسقط المفروض انه غرض المولى بدون ذلك.

وبالجملة : فرق بين الشك في أصل التعبد ، وبين الشك فيما يحصل به التعبد ، فان الأول مجرى البراءة والثاني مجرى الاشتغال ، فتأمل.

هذا بناء على أن يكون التعبد جائيا من ناحية الغرض. وأما إذا كان لمتمم الجعل ، فعند الشك يكون المرجع هو البراءة مط ، سواء كان الشك في أصل التعبد أو فروع التعبد ، لرجوع الشك إلى الشك في قيد زائد على كل حال كما لا يخفى. وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه في مسألة التعبدية والتوصلية.

ثم انه كان المناسب ان يستوفى اقسام الواجب : من كونه تعبديا أو توصليا ، وكونه مط أو مشروطا ، وكونه عينيا أو كفائيا ، وكونه تعيينيا أو تخييريا ، إلى غير ذلك من الأقسام المتصورة فيه ، ثم بعد ذلك يذكر مسألة الاجزاء ، والمرة والتكرار ، لان هذه تقع في مرحلة سقوط التكليف ، وذلك يقع في مرحلة ثبوت التكليف ، وتفرع الأول على الثاني واضح ، ولكن الاعلام لم يسلكوا هذا المسلك وقدموا ما حقه التأخير وأخروا ما حقه التقديم. كما أنهم ذكروا تقسيم الواجب إلى المط والمشروط في بحث مقدمة الواجب ، مع أن ذلك المبحث متكفل لحال المقدمة وأقسامها ، لا لاقسام الواجب ، وتقسيم المقدمة إلى الوجوبية والوجودية وان كان باعتبار اطلاق وجوب

١٦٩

ذيها واشتراطه ، الا ان ذلك لا يوجب البحث عنه في ذلك المقام. فالأولى : ان يستوفى اقسام الواجب أولا ، ثم بعد ذلك يبحث عن مسألة الاجزاء وغيرها مما يقع في مرحلة السقوط ، وان كان ذلك على خلاف ما رتبه الاعلام في الكتب الأصولية ، ولكن الامر في ذلك سهل.

وعلى كل حال ينقسم الواجب ، إلى كونه مطلقا ومشروطا ، وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم أمور :

الأول :

قسم أهل المعقول القضية إلى كونها عقلية ، وطبيعية ، وحقيقة ، وخارجية. ولا يتعلق لنا غرض بالعقلية والطبيعية ، وانما المهم بيان الفرق بين الخارجية والحقيقية ، وما يختلفان فيه بحسب الآثار والاحكام ، حتى لا يختلط أحدهما بالأخرى ولا يرتب ما لأحدهما على الأخرى ، كما وقع هذا الخلط في جملة من الموارد كما نشير إليه انشاء الله تعالى.

فنقول : القضية الخارجية عبارة عن ثبوت وصف أو حكم على شخص خاص ، بحيث لا يتعدى ذلك الوصف والحكم عن ذلك الشخص إلى غيره وان كان مما ثلاله في الأوصاف ، ولو فرض انه ثبت ذلك المحمول على شخص آخر كان ذلك لمجرد الاتفاق من دون ان يرجع إلى وحدة الملاك والمناط ، بل مجرد المقارنة الاتفاقية ، من غير فرق في ذلك بين ان تكون القضية خبرية ، أو طلبية ، كقولك : زيد قائم ، أو أكرم زيدا. ومن غير فرق أيضا ، بين القاء القضية بصورة الجزئية ، أو القائها بصورة الكلية ، نحو كل من في العسكر قتل وكل ما في الدار نهب ، إذ القائها بصورة الكلية لا يخرجها عن كونها خارجية ، إذ المناط في القضية الخارجية ، هو ان يكون الحكم واردا على الأشخاص لا على العنوان ، كما سيأتي في بيان القضية الحقيقية. وهذا لا يتفاوت بين وحدة الشخص وتعدده كما في المثال ، بعد ما لم يكن بين الأشخاص جامع ملاكي أوجب اجتماعهم في الحكم ، بل كان لكل مناط يخصه غايته انه اتفق اجتماعهم في ثبوت المحمول كما في المثال ، حيث إن ثبوت القتل لكل من زيد وعمرو وبكر كان لمحض الاتفاق واجتماعهم في المعركة ، و

١٧٠

الا لم يكن مقتولية زيد بمناط مقتولية عمرو ، بل زيد انما قتل لمناط يخصه ، حسب موجبات قتله من خصوصياته وخصوصيات القاتل ، وكذا مقتولية عمرو.

وبالجملة : العبرة في القضية الخارجية ، هو ان يكون الحكم واردا على الأشخاص وان كانت بصورة القضية الكلية ، مثل كل من في العسكر قتل ، فإنه بمنزلة زيد قتل ، وعمرو قتل ، وبكر قتل ، وهكذا.

واما القضية الحقيقية : فهي عبارة عن ثبوت وصف أو حكم على عنوان اخذ على وجه المرآتية لافراده المقدرة الوجود ، حيث إن العناوين يمكن ان تكون منظرة لمصاديقها ومرآة لافرادها ، سواء كان لها افراد فعلية أو لم يكن ، بل يصح اخذ العنوان منظرة للأفراد وان لم يتحقق له فرد في الخارج لا بالفعل ولا فيما سيأتي ، لوضوح انه لا يتوقف اخذ العنوان مرآة على ذلك ، بل العبرة في القضية الحقيقية هو اخذ العنوان موضوعا فيها ، لكن لا بما هو هو حتى يمتنع فرض صدقه على الخارجيات ويكون كليا عقليا ، بل بما هو مرآة لافراده المقدر وجودها بحيث كلما وجد في الخارج فرد ترتب عليه ذلك الوصف والحكم ، سواء كانت القضية خبرية ، أو طلبية ، نحو كل جسم ذو ابعاد ثلاثة ، أو كل عاقل بالغ مستطيع يجب عليه الحج ، فان الحكم في مثل هذا يترتب على جميع الافراد التي يفرض وجودها بجامع واحد وبملاك واحد.

وبذلك تمتاز القضية الخارجية عن القضية الحقيقية ، حيث إنه في القضية الخارجية ليس هناك ملاك جامع وعنوان عام ينطبق على الافراد ، بل كل فرد يكون له حكم يخصه بملاك لا يتعدى عنه ، ومن هنا لا تقع القضية الخارجية كبرى القياس ولا تقع في طريق الاستنباط ، لان القضية الخارجية تكون في قوة الجزئية لا تكون كاسبة ولا مكتسبة ، فلا يصح استنتاج مقتولية زيد من قوله : كل من في العسكر قتل ، لأنه لا يصح قوله : كل من في العسكر قتل ، الا بعد العلم بمن في العسكر وان زيدا منهم ، وبعد علمه بذلك لا حاجة إلى تأليف القياس لاستنتاج مقتولية زيد ، وعلى فرض التأليف يكون صورة قياس لا واقع له ، كقوله : زيد في العسكر وكل من في العسكر قتل فزيد قتل ، لما عرفت : من أنه لا يصح قوله : كل من في العسكر قتل ، الا بعد العلم بقتل زيد ، فلا يكون هذا من الأقيسة المنتجة.

١٧١

وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فإنها تكون كبرى لقياس الاستنتاج ويستفاد منها حكم الافراد ، كما يقال : زيد مستطيع وكل مستطيع يجب عليه الحج فزيد يجب عليه الحج ، ولا يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم باستطاعة زيد ووجوب الحج عليه ، كما كان يتوقف العلم بكلية القضية الخارجية على العلم بكون زيد في العسكر وانه قد قتل ، بل كلية الكبرى في القضية الحقيقية انما تستفاد من قوله تعالى (١) « ولله على الناس حج البيت » الخ.

وبما ذكرنا ظهر : ان ما أشكل على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج من استلزامه الدور ـ حيث إن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والعلم بكلية الكبرى يتوقف على العلم باندراج النتيجة فيها ـ فإنما هو لمكان الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، فان في القضية الحقيقية لا يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم باندراج النتيجة فيها ، بل كلية الكبرى انما تستفاد من مكان آخر كما عرفت. نعم في القضية الخارجية العلم بكلية القضية يتوقف على العلم بما يندرج تحتها من الافراد ، وقد عرفت : ان القضية الخارجية لا تقع كبرى القياس ، ولا يتألف منها القياس حقيقة ، وانما يكون صورة قياس لا واقع له ، فان القضايا المعتبرة في العلوم التي يتألف منها الأقيسة انما هي ما كانت على نحو القضايا الحقيقية ، فيرتفع الاشكال من أصله ، ولا حاجة إلى التفصي عن الدور بالاجمال والتفصيل ، كما في بعض كلمات أهل المعقول.

وقد وقع الخلط بين القضية الخارجية والحقيقية في جملة من الموارد ، كمسألة امر الآمر مع علمه بانتفاء الشرائط ، وكمسألة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وكمسألة الشرط المتأخر ، وغير ذلك مما يأتي الإشارة إليه كل في محله. فان هذه الفروع كلها تبتنى على تخيل كون القضايا الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، وهو ضروري البطلان ، لوضوح ان القضايا الواردة في الكتاب والسنة انما

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، ٩٧

١٧٢

هي قضايا حقيقية ، وليست اخبارات عما سيأتي بان يكون مثل قوله تعالى ولله على الناس الخ اخبارا بان كل من يوجد مستطيعا فأوجه عليه خطابا يخصه ، بل انما هي اخبارات عن انشاءات في عالم اللوح المحفوظ. وبالجملة : كون القضايا الشرعية من القضايا الحقيقية واضح لا يحتاج إلى مزيد برهان وبيان.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان الجهات التي تمتاز بها القضية الخارجية عن القضية الحقيقية وان كانت كثيرة قد أشرنا إلى بعضها ، الا ان ما يرتبط بما نحن فيه من الواجب المشروط والمط ، هي جهات ثلاث :

الجهة الأولى :

ان العبرة في القضية الخارجية ، هو علم الآمر باجتماع الشروط وما له دخل في حكمه ، فلا يوجه التكليف على عمرو مثلا بوجوب اكرام زيد الا بعد علمه باجتماع عمرو لجميع الشروط المعتبرة في حكمه : من العقل ، والبلوغ ، والقدرة ، وغير ذلك مما يرى دخله في مناط حكمه ، ولو فرض ان الآمر كان جاهلا بوجود شرط من شروط صدور الحكم ، كمجئ بكر الذي له دخل في تكليف عمرو بوجوب اكرام زيد ، فلا محالة يعلق حكمه بصورة وجود الشرط ، ويقول : ان جاء بكر فأكرم زيدا ، وتكون القضية الخارجية من هذه الجهة ـ أي من جهة تعليقها على الشرط ـ ملحقة بالقضية الحقيقية ، على ما سيأتي بيانه.

والحاصل : ان المدار في صدور الحكم في القضية الخارجية انما هو على علم الآمر باجتماع شروط حكمه وعدم عمله ، فان كان عالما بها فلا محالة يصدر منه الحكم ولو فرض خطأ علمه وعدم اجتماع الشروط واقعا ، إذ لا دخل لوجودها الواقعي في ذلك ، بل المناط في صدور الحكم هو وجودها العلمي ، فان كان عالما بها يحكم وان لم تكن في الواقع موجودة ، وان لم يكن عالما بها لا يحكم وان كانت موجودة في الواقع الاعلى وجه الاشتراط بوجودها ، فيرجع إلى القضية الحقيقية من هذه الجهة ، فلا يعتبر في صدور الحكم في القضية الخارجية الا علم الآمر باجتماع الشرائط.

واما في القضية الحقيقية : فيعتبر فيها تحقق الموضوع خارجا ، إذ الشرط في

١٧٣

القضية الحقيقية هو وجود الموضوع عينا ولا عبرة بوجوده العلمي ، لان الحكم في القضية الحقيقية على الافراد المفروض وجودها ، فيعتبر في ثبوت الحكم وجود الافراد ، ولا حكم مع عدم وجودها ولو فرض علم الآمر بوجودها ، فالحكم في مثل قوله : العاقل البالغ المستطيع يحج ، مترتب على واقع العاقل البالغ المستطيع ، لا على ما يعلم كونه عاقلا بالغا مستطيعا ، إذ لا اثر لعلمه في ذلك ، فلو فرض انه لم يعلم أن زيدا عاقل بالغ مستطيع لترتب حكم وجوب الحج عليه قهرا بعد جعل وجوب الحج على العاقل البالغ المستطيع ، كما أنه لو علم أن زيدا عاقل بالغ مستطيع وفي الواقع لم يكن كذلك لما كان يجب عليه الحج ، فالمدار في ثبوت الحكم في القضية الحقيقية انما هو على وجود الموضوع خارجا ، من دون دخل للعلم وعدمه في ذلك.

وبذلك يظهر : امتناع الشرط المتأخر ، لأنه بعد ما كان الشيء شرطا وقيدا للموضوع فلا يعقل ثبوت الحكم قبل وجوده ، والا يلزم الخلف وعدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا ، على ما سيأتي بيانه ، وارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي انما نشأ من الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، فان الوجود العلمي بتحقق الشرائط انما ينفع في القضية الخارجية كما عرفت ، لا في القضية الحقيقية.

نعم في القضية العلم بترتب الملاك والمصلحة على متعلق حكمه له دخل أيضا في صدور الحكم ، الا ان ذلك يرجع إلى باب الدواعي التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، وأين هذا من باب الشروط الراجعة إلى قيود الموضوع كما سيأتي بيانه ، فان العبرة في ذلك انما هو بوجودها العيني ، ولا اثر لوجودها العلمي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الشرط في ثبوت الحكم في القضية الخارجية هو العلم باجتماع شرائط التكليف لا وجودها الواقعي وفي القضية الحقيقية هو وجودها الواقعي لا وجودها العلمي. فهذه إحدى الجهات الثلاث التي تمتاز بها القضية الحقيقية عن القضية الخارجية.

الجهة الثانية :

هي ان القضية الخارجية لا يتخلف فيها زمان الجعل والانشاء عن زمان ثبوت الحكم وفعليته ، بل فعليته تكون بعين تشريعه وانشائه ، فبمجرد قوله : أكرم

١٧٤

زيدا ، يتحقق وجوب الاكرام ، الا إذا كان مشروطا بشرط لم يحرزه الآمر فتلحق بالقضية الحقيقية من هذه الجهة كما أشرنا إليه ، والا لا يعقل تخلف الانشاء عن فعلية الحكم زمانا ، وان كان متخلفا رتبة نحو تخلف الانفعال عن الفعل.

واما في القضية الحقيقية : فالجعل والانشاء انما يكون أزليا ، والفعلية انما تكون بتحقق الموضوع خارجا ، فان انشائه انما كان على الموضوع المقدر وجوده ، فلا يعقل تقدم الحكم على الموضوع ، لأنه انما انشاء حكم ذلك الموضوع ، وليس للحكم نحو وجود قبل وجود الموضوع حتى يسمى بالحكم الانشائي في قبال الحكم الفعلي ، كما في بعض الكلمات.

والحاصل : انه فرق بين انشاء الحكم وبين الحكم الانشائي ، والذي تتكفله القضايا الحقيقية الشرعية انما هو انشاء الحكم ، نظير الوصية ، حيث إن الوصية انما هي تمليك بعد الموت ولا يعقل تقدمه على الموت ، لان الذي أنشأ بصيغة الوصية هو هذا أي ملكية الموصى له بعد موته ، فلو تقدمت الملكية على الموت يلزم خلاف ما أنشأ ، ولا معنى لان يقال الملكية بعد الموت الآن موجودة ، لان هذا تناقض. فكذا الحال في الأحكام الشرعية ، فان انشائها عبارة عن جعل الحكم على الموضوع المقدر وجوده ، فما لم يتحقق الموضوع لايكون شيء أصلا ، وإذا تحقق الموضوع يتحقق الحكم لا محالة ولا يمكن ان يتخلف.

فتحصل : انه ليس قبل تحقق الموضوع شيء أصلا حتى يسمى بالحكم الانشائي في قبال الحكم الفعلي ، إذ ليس الانشاء الا عبارة عن جعل الحكم في موطن وجود موضوعه ، فقبل تحقق موطن الوجود لا شيء أصلا ، ومع تحققه يثبت الحكم ويكون ثبوته عين فعليته ، وليس لفعلية الحكم معنى آخر غير ذلك.

وحاصل الكلام : انه ليس للحكم نحو ان من الوجود يسمى بالانشاء تارة ، وبالفعلي أخرى ، بل الحكم هو عبارة عما يتحقق بتحقق موضوعه ، وهذا هو الذي أنشأ أزلا قبل خلق عالم وآدم ، فلو فرض انه لم يتحقق في الخارج عاقل بالغ مستطيع فلم يتحقق حكم أيضا أصلا ، فالحكم الفعلي عبارة عن الذي أنشأ وليس وراء ذلك شيء آخر ، فلو أنشأ الحكم على العاقل البالغ المستطيع ، فلا محيص من

١٧٥

ثبوت الحكم بمجرد تحقق العاقل البالغ المستطيع ، ولا يعقل ان يتخلف عنه ، فلو توقف ثبوت الحكم وفعليته على قيد اخر كعدم قيام الامارة على الخلاف مثلا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء ، لأنا فرضنا ان ذلك القيد لم يؤخذ في انشائه ، بل انشاء الحكم على خصوص العاقل البالغ المستطيع ، فإذا وجد العاقل البالغ المستطيع ولم يوجد الحكم يلزم ان لا يوجد ما أنشأه وهو محال ، إذ لا يعقل تخلف المنشأ عن الانشاء. ومعنى عدم معقولية تخلف المنشأ عن الانشاء ، هو انه لابد من أن يوجد المنشأ على طبق ما أنشأ وعلى الوجه الذي أنشأه ، فلو أنشأ الملكية في الغد فلابد من وجود الملكية في الغد ، ولا يعقل ان تتقدم عليه أو تتأخر عنه ، بان توجد الملكية قبل الغد أو بعد الغد ، لأنه يلزم تخلف المنشأ من الانشاء ، إذ الذي أنشأ هو خصوص ملكية الغد لا غير ، فكيف تتقدم الملكية على الغد أو تتأخر عنه؟.

وحاصل الكلام : انه لو كان زمام المنشأ بيد المنشى وله السلطنة على ايجاده كيف شاء وباي خصوصية أراد كما هو مفروض الكلام ، فح يدور المنشأ مدار كيفية انشائه ، فله انشائه في الحال كما في البيع الفعلي فلا بد ان يتحقق المنشأ في الحال والا يلزم التخلف ، وله ان ينشأه في الغد فلا بد ان يكون البيع في الغد والا لزم التخلف. وليس الانشاء والمنشأ من قبيل الكسر والانكسار التكويني ، بحيث لا يمكن ان يتخلف زمان الانكسار عن الكسر ، كما ربما يختلج في بعض الأذهان ، ولأجل ذلك تخيل انه لا يعقل تخلف زمان وجود المنشأ عن زمان وجود الانشاء ، فيكف يعقل ان يكون انشاءات الاحكام أزلية ومنشائها تتحقق بعد ذلك عند وجود موضوعاتها في الخارج؟ مع أنه يلزم ان يتخلف زمان الانشاء عن زمان وجود المنشأ لأنه لا يمكن ان يتخلف زمان الوجود عن الايجاد ، وزمان الانكسار عن الكسر ، ولأجل هذه الشبهة ربما وقع بعض في اشكال كيفية تصور كون انشاءات الاحكام أزلية مع عدم وجود منشئاتها في موطن انشائها ، هذا.

ولكن لا يخفى ضعف الشبهة ، وان قياس باب الانشائيات بباب التكوينيات في غير محله ، فان في التكوينيات زمام الانكسار ليس بيد الكاسر ، بل الذي بيده هو الكسر واما الانكسار فيحصل قهرا عليه.

١٧٦

وهذا بخلاف باب المنشئات ، فإنها أمور اعتبارية ، ويكون زمامها بيد المعتبر النافذ اعتباره ، وله ايجادها على أي وجه أراد. فالذي بيده زمام الملكية ، له ان يوجد الملكية في الحال ، وله ان يوجدها في المستقبل كما في الوصية ، فلو أنشأ الملكية في المستقبل بمعنى انه جعل ملكية هذا الشيء لزيد في الغد فلا بد من أن توجد الملكية في الغد ، والا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء.

وكذا الحال في الأحكام الشرعية ، فان زمام الاحكام بيد الشارع ، فله جعلها وانشائها على أي وجه أراد ، فلو جعل الحكم على موضوع ليس له وجود في زمان الجعل بل يوجد بعد الف سنة ، فلابد ان يوجد الحكم عند وجود موضوعه ولا يمكن ان يتخلف عنه. والسر في ذلك : هو انه الآن يلاحظ ذلك الزمان المستقبل ويجعل الحكم في ذلك الزمان ، حيث إن اجزاء الزمان بهذا اللحاظ تكون عرضية كاجزاء المكان ، فكما انه يمكن وضع الحجر في المكان البعيد عن الواضع إذا أمكنه ذلك لطول يده ، كذلك يمكن وضع الشيء في الزمان البعيد لمن كان محيطا بالزمان.

فظهر معنى كون انشاءات الاحكام أزلية ، وان تحقق المنشأ يكون بتحقق الموضوع ولا يلزم منه تخلف المنشأ عن الانشاء ، وانما التخلف يحصل فيما إذا وجد غير ما أنشأه ، اما لمكان الاختلاف في الكيف ، واما لمكان الاختلاف في الزمان ، أو غير ذلك من سائر أنحاء الاختلافات. فتأمل في المقام جيدا ، لئلا ترسخ الشبهة المتقدمة في ذهنك.

فظهر الفرق ، بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، بعدم تخلف زمان الفعلية عن الانشاء في الخارجية نظير الهبة ، وتخلفه في الحقيقية نظير الوصية. فهذه هي الجهة الثانية التي تمتاز إحديهما عن الأخرى.

الجهة الثالثة :

ان السببية المتنازع فيها من حيث كونها مجعولة أو غير مجعولة وان المجعول الشرعي هل هو نفس المسببات عند وجود أسبابها أو سببية السبب ، انما يجرى في القضايا الحقيقية ، دون القضايا الخارجية ، لوضوح ان القضايا الخارجية ليس لها موضوع اخذ مفروض الوجود حتى يتنازع في أن المجعول ما هو ، بل ليس فيها الا

١٧٧

حكم شخصي على شخص خاص ، كقول الآمر لزيد اضرب عمروا ، فلا معنى لان يقال : ان المجعول في قوله اضرب عمروا ما هو ، إذ ليس فيه الا حكم وعلم باجتماع شرائط الحكم من المصالح ، والمصالح غير مجعولة بجعل شرعي ، بل هي أمور واقعية تكوينية تترتب على أفعال المكلفين فلم يبق فيها الا الحكم وهو المجعول الشرعي.

وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لما اخذ فيها موضوع ورتب الحكم على ذلك الموضوع في ظرف وجوده ، كان للنزاع في أن المجعول الشرعي ما هو ، هل هو الحكم على فرض وجود الموضوع؟ أو سببية الموضوع لترتب الحكم عليه؟ مجال. وان كان الحق هو الأول ، والثاني غير معقول ، على ما أوضحناه في باب الأحكام الوضعية. والغرض في المقام مجرد بيان ان النزاع انما يتأتى فيما إذا كان جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية ، ولا يتصور النزاع في القضايا الخارجية لانتفاء الموضوع فيها بالمعنى المتقدم ، أي بمعنى اخذ عنوان الموضوع منظرة ومرآة لافراد المقدر وجودها. فهذه جهات ثلث تمتاز بها القضية الحقيقية عن القضية الخارجية.

الامر الثاني :

من الأمور التي أردنا رسمها في مبحث الواجب المطلق والمشروط ، هو انه قد عرفت ان القضايا الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، دون القضايا الخارجية ، وح تكون الأحكام الشرعية مشروطة بموضوعاتها ثبوتا واثباتا.

اما ثبوتا ، فلما تقدم من أن القضية الحقيقية عبارة عن ترتب حكم أو وصف على عنوان اخذ منظرة لافراده المقدر وجودها ، فلا يمكن جعل الحكم الا بعد فرض الموضوع ، فالحكم ثبوتا مشروط بوجود الموضوع ، نظير اشتراط المعلول بوجود علته.

واما اثباتا ، والمراد به مرحلة الابراز واظهار الجعل فتارة : يكون الابراز لا بصورة الاشتراط أي لا تكون القضية ، مصدرة بأداة الشرط ، كما إذا قيل : المستطيع يحج. وأخرى : تكون القضية مصدرة بأداة الشرط ، كما إذا قيل : ان استطعت فحج ، وعلى أي تقدير لا يتفاوت الحال ، إذ مآل كل إلى الآخر ، فان مآل الشرط إلى الموضوع ومآل الموضوع إلى الشرط ، والنتيجة واحدة ، وهي عدم تحقق الحكم الا بعد وجود الموضوع والشرط.

١٧٨

نعم يختلف الحال بحسب الصناعة العربية والقواعد اللغوية ، فإنه ان لم تكن القضية مصدرة بأداة الشرط تكن القضية ح حملية طلبية أو خبرية ، وان كانت مصدرة بأداة الشرط تكون القضية الشرطية ، ولكن مآل القضية الحملية إلى القضية الشرطية أيضا ، كما قالوا : ان كل قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية ، مقدمها وجود الموضوع ، تاليها عنوان المحمول. فقولنا الجسم ذو ابعاد ثلاثة يكون بمنزلة قولنا : كلما وجد في العالم شيء وكان ذلك الشيء جسما فهو ذو ابعاد ثلاثة ، فبالآخرة لا يتفاوت الحال ، بين كون القضية حملية طلبية ، أو شرطية طلبية. كما هو الشأن في الخبرية ، حيث لا يتفاوت الحال فيها ، بين كونها حملية كالمثال المتقدم ، أو شرطية كقوله كلما طلعت الشمس فالنهار موجود ، إذ الحملية ترجع إلى الشرطية ، كما أن نتيجة القضية الشرطية ترجع إلى قضية حملية ، فان النتيجة في قولنا كلما طلعت الشمس فالنهار موجود ، هي عبارة عن وجود النهار عند طلوع الشمس ، فلا فرق ، بين ان نقول : النهار موجود عند طلوع الشمس ، وبين قولنا : كلما طلعت الشمس فالنهار موجود. وقس على ذلك حال القضايا الطلبية ، وان مرجع الحملية منها إلى الشرطية ، والشرطية إلى الحملية ، والنتيجة هي وجود الحكم عند وجود الموضوع والشرط. ومن هنا قلنا : ان الشرط يرجع إلى الموضوع ، والموضوع يرجع إلى الشرط.

فتحصل : انه لافرق ، بين ابراز القضية بصورة الشرطية ، وبين ابرازها بصورة الحملية. نعم بحسب الصناعة ينبغي ان يعلم محل الاشتراط والذي يقع الشرط عليه ، بحسب القواعد العربية عند ابراز القضية بصورة الشرطية.

فنقول : يمكن تصورا ان يرجع الشرط إلى المفهوم الافرادي قبل ورود التركيب والنسبة عليه ، أي يرجع القيد إلى المتعلق الذي هو فعل المكلف في المرتبة السابقة على ورود الحكم عليه ، وهذا هو المراد من رجوع القيد إلى المادة الذي ينتج الوجوب المط ، فان معنى رجوع القيد إلى المادة هو لحاظ المتعلق في المرتبة السابقة على ورود الحكم عليه مقيدا بذلك القيد ، وبعد ذلك يرد الحكم عليه بما انه مقيد بذلك القيد ، كما ذا لاحظ الصلاة مقيدة بكونها إلى القبلة أو مع الطهارة وبعد ذلك أوجبها على هذا الوجه. فح يكون وجوب الصلاة مطلقا غير مقيد بقيد ، وان المقيد هو

١٧٩

الصلاة.

ويمكن ان يرجع الشرط إلى المفهوم التركيبي أي إلى النسبة التركيبية ، بمعنى ان تكون النسبة الايقاعية التي تتكفلها الهيئة مقيدة بذلك القيد.

ويمكن ان يكون المنشأ بتلك النسبة أي الطلب المستفاد منها مقيدا بذلك القيد.

ويمكن ان يكون راجعا إلى المحمول المنتسب ، وهذا وان كان يرجع إلى تقييد المنشأ ، الا انهما يفترقان اعتبارا من حيث المعنى الأسمى والحرفي على ما يأتي بيانه.

ثم إن رجوعه إلى المحمول المنتسب تارة : يكون في رتبة انتسابه ، وأخرى : يكون في الرتبة المتأخرة رتبة أو زمانا ، فهذه جملة الوجوه المتصورة في الشرط والقيد ، ولكن بعض هذه الوجوه مما لا يمكن.

وبيان ذلك : هو انهم عرفوا القضية الشرطية بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى ، ومعنى ذلك هو لزوم ان يكون راجعا إلى مفاد الجملة والمفهوم التركيبي ، ولا يصح ارجاعه إلى المفهوم الافرادي ، بل تقييد المفهوم الافرادي انما يكون بنحو التوصيف والإضافة ، لا بأداة الشرط ، فما في التقرير (١) من ارجاع الشرط إلى المادة اشتباه.

__________________

١ ـ وربما يختلج في البال : ان رجوع الشرط إلى وجوب الاكرام عبارة عن رجوع الشرط إلى المنشأ الذي قد تقدم انه لا يمكن رجوع الشرط إليه لكونه معنى حرفيا ، إذ المنشأ هو وجوب الاكرام المستفاد من الهيئة ، وكونه في المرتبة المتأخرة عن النسبة الايقاعية لا يخرجه عن كونه معنى حرفيا غير ملتفت إليه عند ايقاع النسبة الطلبية. كما أنه ربما يختلج في البال : عدم امكان رجوع الشرط إلى المادة الواجبة ، لأنه عند ورود الهيئة على المادة ، اما ان ترد عليها غير مشروطة بشرط ، واما ان ترد عليها مشروطة. وعلى الأول : لا يمكن لحوق الاشتراط لها. وعلى الثاني : يرجع القيد إلى المادة الذي أنكرناه.

وربما يختلج في البال أيضا : رجوع الشرط إلى ما هو الموضوع في القضية الجزائية ، وهو النهار في مثل النهار موجود إذا كانت القضية خبرية ، والى الفاعل المكلف إذا كانت القضية طلبية ، فيكون المعنى : النهار الذي طلع عليه الشمس موجود ، وزيد المستطيع يحج ، فتأمل جيدا ـ منه.

١٨٠