القول الصّراح في البخاري وصحيحه الجامع

الميرزا فتح الله بن محمّد جواد الإصبهاني

القول الصّراح في البخاري وصحيحه الجامع

المؤلف:

الميرزا فتح الله بن محمّد جواد الإصبهاني


المحقق: الشيخ حسين الهرساوي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-024-X
الصفحات: ٢٦٢

مسلم بن الحجاج يقول : لما قدم محمد بن اسماعيل نيسابور ما رأيت عالماً ولا والياً فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به فاستقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث فقال محمد بن يحيى الذهلي في مجلسه : من أراد أن يستقبل محمد بن اسماعيل غداً فليستقبله فإنّي استقبله ، فاستقبله محمد بن يحيى وعامة علماء نيسابور فدخل البلد فقال : محمد بن يحيى لا تسألوه عن شيء من الكلام ، فإن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه وشمتت بنا كلّ اباحتي وجهمي ومرجئي بخراسان.

فازدحم الناس على محمد بن اسماعيل حتى امتلأت الدار والسطوح فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث من قدومه قام رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن؟ فقال : لفظي بالقرآن مخلوق ؛ وقال بعضهم : لم يقل ، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتى قام بعضهم إلى بعض فاجتمع أهل الدار فاخرجوهم.

وقال ابن حجر أيضاً : قال الحاكم أبو عبدالله في تاريخه : قدم البخاري بنيسابور سنة خمسين ومائتين ، فأقام بها مدّة يحدّث على الدوام ، قال سمعت محمد بن حازم البزار يقول : سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول : سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه ، قال : فذهب الناس اليه واقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى ، قال : فتكلّم فيه ، وقال أيضاً :

وقال أبو أحمد بن عدي ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن اسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت ، فقال : يا أبا عبدالله ما تقول في اللفظ بالقرآن ، مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثاً ، فألحّ عليه ، فقال

٦١

البخارى : القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والإمتحان بدعة ، فشغب الرجل وقال : قد قال : لفظي بالقرآن مخلوق (١).

وقال أيضاً الحاكم : لما وقع بين البخاري وبين محمد بن محمد بن يحيى في مسألة اللفظ انقطع الناس عن البخاري إلاّ مسلم بن الحجاج ، وأحمد بن سلمة ، فقال الذهلي : ألا من قال باللفظ فلا يحضر مجلسنا.

وقال أيضاً : قال الحاكم أبو عبدالله : سمعت محمد بن صالح بن هاني يقول : سمعت أحمد بن سلمة النيسابوري يقول : دخلت على البخاري فقلت : يا أبا عبدالله أن هذا الرجل مقبول بخراسان خصوصاً في هذه المدينة وقد لَجَّ في هذا الأمر حتى لا يقدر أحد منّا ان يكلّمه فيه فماترى؟ قال : فقبض على لحيته ثم قال : ( وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ) (٢) اللهم إنّك تعلم اني لم أرد المقام بنيسابور [ اشراء ولابطراً ، ولاطلباً ] (٣) للرياسة وإنّما أبت نفسي إلى الرجوع إلى الوطن لغلبة المخالفين ، وقد قصدني هذا الرجل حسداً لما أتاني الله لا غير ، ثم قال لي : يا أحمد اني خارج غداً لتختلصوا من حديثه لأجلي (٤).

وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبدالله بن الأخرم قال : لما قام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة في مجلس محمد بن يحيى بسبب البخاري قال

__________________

١. مقدمة فتح الباري : ٤٩١.

٢. المؤمن : ٤٨.

٣. ما بين المعقوفتين بياض في الأصل.

٤. سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٩٥.

٦٢

الذهلي : لا يساكنني هذا الرجل في البلد ، فخشي البخاري وسافر (١).

وقال أيضاً : قال أبو حامد الشرقي (٢) سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجالس ولا يكلّم ، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن اسماعيل فاتّهموه ، فإنه لا يحضر مجلسه إلاّ من كان على مذهب (٣).

وقال تاج الدين عبدالوهاب السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة البخاري : وقال أبو حامد الشرقي (٤) رأيت البخاري في جنازة سعيد بن مروان والذهلي يسأله عن الأسماء والكنى والعلل ويمرّ فيه البخاري مثل السهم فما أتى على هذا شهر حتى قال الذهلي : ألا من يختلف إلى مجلسه فلا يأتنا ، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه يتكلم في اللفظ ، ونهيناه فلم ينته فلا تقربوه.

قلت : وكان البخاري على ما روى وسنحكي ما فيه ممن قال لفظي بالقرآن مخلوق ، وقال محمد بن يحيى الذهلي من زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجالس ولا يكلّم ، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر!

ثم اعلم أن علماء السنة فتحوا لتخليص البخاري من البدعة والضلالة أبواباً من صنوف الإحتيال ووقفوه بغرائب الهفوات وتكلموا بعجائب الخرافات ؛ منهم : علامتهم السبكي في الطبقات ، وحاصل جميع ما ذكره في دفع هذا الطعن وجوه ثلاثة :

__________________

١. المصدر السابق ١٢ : ٤٦٠ عن مقدمة فتح الباري : ٤٩٢.

٢. وفي « السير » الأعمشي ١٢ : ٤٥٥.

٣. مقدمة الفتح : ٤٩١ ـ ٤٩٢.

٤. في « السير » الأعمشي.

٦٣

الأول : أن الذهلي والبخاري كانا في هذه المسألة على رأي واحد وعقيدة متحدة اذ كيف يظن بالذهلي اعتقاد ان اللفظ الخارج من بين شفته المحدثين قديم ، وهو قول لا يشهد له معقول ولا منقول ، ومن زعمه فقد باء باثم عظيم.

وإنّما أراد الذهلي النهي عن الخوض في مسائل الكلام والافصاح بهذا القول خشية أن يجرّ الكلام إلى ما لا ينبغي كما أن نهي الإمام أحمد بن حنبل أيضاً عن القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق منزّل على ما ذكر.

وكلام البخاري عندنا محمول على ذكر ذلك عند الإحتياج فالكلام عند الإحتياج واجب والسكوت عنه عند عدم الاحتياج سنة ، وكيف يظن بالبخاري أنه يذهب إلى شيء من أقوال المعتزلة فضلاً عن الجهمية؟

وقد صح عنه أنه قال : إنّي لاستجهل من لايكفر الجهمية ، ومع ذلك فقد حكم الذهبي برجوع كلام البخاري إلى قول الجهمية وهم شرٌ من المعتزلة.

الثاني : أن الذهلي حمله الحسد على الوقيعة في البخاري! قال : ولا يرتاب المنصف في أن الذهلي لحقه الحسد التي لم يسلم منها إلاّ أهل العصمة وقد سأل بعضهم البخاري عما وقع بينه وبين الذهلي فقال البخاري : كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم ، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء.

الثالث : أن البخاري ما افصح بهذا القول فإنه قد ثبت أنه لما قال له أبو عمرو الخفاف أن الناس قد خاضوا في قولك : « لفظي بالقرآن مخلوق » قال : يا أبا عمرو احفظ ما أقول لك ، من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمدان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت لفظي بالقران مخلوق فهو كذاب ، فإني لم أقله إلاّ أني قلت : أفعال العباد مخلوقة ، قال يعني اني ما

٦٤

قلت ذلك الكلام لأنه خوض في صفات الله ولاينبغي الاّ للضرورة ولكني قلت : أفعال العباد مخلوقة وهو قاعدة مغنية عن التخصيص في هذه المسألة بالذكر ، فان كل عاقل يعلم أن لفظنا من جملة أفعالنا وأفعالنا مخلوقة ، ولقد أفصح بهذا المعنى في رواية أخرى صحيحة عنه ، رواها حاتم بن أحمد الكيدري ، فقال : سمعت مسلم بن الحجاج إلى آخر ما تقدم في كلام ابن حجر (١).

أقول : وفساد هذه الوجوه مما لا يخفى على ذي مسكة.

أما الأول : قلنا : فانه تصريح ما حكى عن الذهلي أنه قال : من ذهب إلى محمد بن اسماعيل فاتهموه ، فانه لا يحضر مجلسه الاّ من كان على مذهبه ، وهل يمكن صرف هذا الكلام إلى ما هجر به السبكي؟

مضافاً إلى ما هو صريح سائر الكلمات المتقدمة المنقولة عن الذهلي من تضليل البخاري والحكم بانه مبتدع والنهي عن الحضور عنده وغير ذلك ، وكذا ما تقدم منه سابقاً من استناده إلى ما كتبوا اليه من بغداد.

وأما الثاني : ففيه أولاً : أنه ينافي ظاهر ما حكى عن الذهلي من ترويجه للبخاري وأمر الناس باستقباله عند قدومه ، ثم أمرهم بالسماع منه ووصفه بالرجل الصالح ، ونهيه الناس عن السؤال منه في الكلام ، لئلا يقع بينه وبين معاشرته معه باحسن ما يكون ، حتى ظهر من البخاري ما ظهر.

وكتبوا إلى الذهلي من بغداد ما كتبوا ; ولو كان الذهلي حسوداً لما وقع منه بعض هذا الامور! بل كان يأمر بالسؤال عنه في الكلام حتى لا يقبل أحد اليه مع أنه نهى عن ذلك ، وقال : لا تسألوا عنه في الكلام كما تقدم ، مضافاً إلى ما ذكروا

__________________

١. طبقات الشافعية ٢ : ٢٢٨.

٦٥

في حق الذهلي من المحامد العظيمة والمناقب الفخيمة ، وأنه من أجلة شيوخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة والنسائي أصحاب الصحاح كما في تراجم الحفاظ.

وقال الصفدي في الوافي بالوفيات : محمد بن يحيى بن عبدالله بن خالد بن فارس الإمام الذهلي مولاهم النيسابوري الحافظ ، سمع من خلق كثير روى عنه الجماعة خلا مسلم.

قال : ارتحلت ثلاث رحلات وانفقت مائة وخمسين ألفاً.

قال النسائي : ثقة مأمون ، قال أبو عمرو الخفاف : رأيت محمد بن يحيى في المنام فقلت ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي ، قلت : ما فعل بحديثك؟ قال : كتب بماء الذهب ورفع في عليين.

وقال الذهبي في الكاشف : محمد بن يحيى بن عبدالله بن خالدبن فارس الذهلي أبو عبدالله النيسابوري الحافظ ، عن ابن مهدي وعبد الرزاق وأحمد واسحاق وعنه ( خ ) أي البخاري ، والأربعة ، وابن خزيمة ، وأبو عوانه ، وأبو علي الميداني.

ولايكاد البخاري يفصح باسمه لما وقع بينهما! قال ابن أبي داود : حدّثنا محمد بن يحيى وكان أمير المؤمنين في الحديث.

وقال أبو حاتم : هو امام أهل زمانه توفي ٢٥٨ هـ وله ستّ وثمانون.

وفي حاشية الكاشف روى عنه ( خ ) البخاري في صحيحه ، فتارة يقول : حدّثنا محمد فلا ينسبه ، وتارة يقول : حدّثنا محمد بن عبدالله فينسبه إلى جده ، وتارة يقول : حدّثنا محمد بن خالد فينسبه الى جدّ أبيه ولم يقل في موضع

٦٦

منها حدّثنا محمد بن يحيى ، ثم قال : قال ابن أبي حاتم : ثقة صدوق امام (١).

وقال النسائي : ثقة مأمون إلى غير ذلك مما ذكروه في حقه من جلائل الأوصاف.

وثانياً : ان هذه المعاندة ، والمباغضة ، واللّداد ، والحسد ، سيما على العلم والحديث الذي هو من رزق الله تعالى يعطيه من يشاء على ما نصّ عليه البخاري ، مما يوجب الفسق والفجور ، والضلال سيما بملاحظة منشأه ، وهو حب الرياسة ، والشهرة ، والتفرد بالأمر الذي نسبوه إلى الذّهلي.

ومع ذلك كيف روى عنه البخاري في صحيحه واحتجّ بحديثه مع شهادته عليه بما سمعت!؟ وقد بلغ من احتياطه! أنه والعياذ بالله ، لم يحتج بخبر الأمام الصادق صلوات الله عليه ، كما سمعت لما بلغه عن يحيى بن سعيد.

ثم انه دلّس في كتابه بأن لم يفصح باسم الذهلي (٢) مع أنه معتمداً ، ثقة ، في الحديث عند البخاري ، فلا وجه لاخفاء اسمه إلاّ الحسد والبغض ، كما ذكر الذهبي أن منشاءه ما كان بينهما ، وان لم يكن ثقة فاخفاء اسمه تدليس وخيانة صريحة ، حتى يظن أنه غير الذهلي وأنه رجل موثوق به مسكون إلى قوله (٣).

وثالثاً : بعد تسليم أن ما وقع من الذهلي وقع حسداً وبغضاً للبخاري ، وكذا ما وقع من البخاري نقول : يثبت بذلك سقوط أخبارهما جميعاً عن درجة

__________________

١. سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣٧٩ ، رجال صحيح البخاري ٢ : ١١٢٢ ، تاريخ الإسلام سنوات ٢٥١ ـ ٢٦٠ ص ٣٤٢.

٢. إكمال مبهمات البخاري لابن حجر : ٧٦ ، طبقات المدلسين له أيضاً : ٢٤ رقم ٢٣ ، تبيين أسماء المدلّسين لابن العجمي : ٧٧ رقم ٦٤.

٣. وقد فصّلنا البحث في ذلك في كتابنا : « الامام البخارى وصحيحه الجامع ».

٦٧

الإعتبار بناءً على ما ذكره الكابلي في الصواقع حيث قال في بيان الأدلة العقلية على بطلان مذهب الإمامية.

ورابعاً : أن قدماءهم وقدوتهم ورواة الأخبار من الأئمة من الثقات الذين أخذوا عنهم الأصول والفروع يكذب بعضهم بعضاً كهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وصاحب الطاق فان كلاً منهم ادعى الرواية عن علي بن الحسين وابنه محمد بن علي الباقر وابنه جعفر الصادق وأخذ المذهب عنهم وضلّل بعضهم بعضاً.

وقد صنّف هشام بن الحكم كتاباً في الرد على الجواليقي وصاحب الطاق كما ذكره النجاشي ، فلا يثبت بخبرهم حكم انتهى.

مع أنه من المعلوم أن مجرد ردّ أحد لا يوجب قدحاً ولا جرحاً في من ردّ عليه ولا في الرادّ.

فكيف بالتضليل والحكم الإبتداع والتكذيب؟

فنقول : ان قدماء العامة وقدوتهم ومن أخذوا عنهم الأحاديث والأصول والفروع يضلّل بعضهم بعضاً ويحكم بأنه مبتدع يحرم مجالسته والتكلم معه والحضور عنده كما صدر من الذهلي بالنسبة البخاري كما عرفت ومن أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين أيضاً بالنسبة إليه كما ستعرف فلا يثبت بخبرهم حكم.

وأما الثالث : ففيه ما لايخفى بعد ما حكي من البخاري من الإهتمام في اثبات خلق اللفظ بالقرآن والإستدلال عليه بالشكل الأول من الأشكال

٦٨

المنطقية ، لاسيما وقد اعترف السبكي بأنه أفصح بذلك ، يعني بكلتا المقدمتين في رواية صحيحة عنه.

وحكى هو أيضاً كغيره عن البخاري أنه استدل على المقدمة الاولى أعني قوله : أفعال العباد مخلوقة ، وبما رواه عن حذيفة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان الله يصنع كلّ صانع وصنعته.

والمقدمة الأخرى أعني قوله : ألفاظنا من جملة أفعالنا بديهية باعتراف السبكي.

والذي نقلنا عنه من قوله : بخلق القران والايمان ، فهو أيضاً ثابت عنه بلا مرية ، وذهب كثير من سلف العامة إلى كفر من قال بهذا القول ، وممن نصّ على كفره زين الدين عبدالرحيم صاحب الفصول العمادية ، سبط صاحب الهداية ، والشيخ أبو بكر بن حامد ، والشيخ أبو حفص الزاهد ، والشيخ أبوبكر الاسماعيلي ، ولنقل عبارة صاحب الفصول العمادية وهي هذه : من قال بخلق القرآن فهو كافر ، وكذا من قال بخلق الإيمان فهو كافر ، وروى عن بعض السلف أنه روى عن أبي حنيفة رحمهم‌الله أن الإيمان غير مخلوق ، وسئل الشيخ الامام أبوبكر محمد بن الفضل رحمهم‌الله عن الصلاة خلف من يقول بخلق الايمان؟ قال : لا تصلّوا خلفه.

وذكر أبو سهل بن عبدالله وهو أبو سهل الكبير عن كثير من السلف رحمهم‌الله ان من قال : القرآن مخلوق فهو كافر ، ومن قال : الإيمان مخلوق فهو كافر ، وحكي أنه وقعت هذه المسألة بفرغانة فأتي بمحضر منها إلى ائمة بخارى ، فكتب فيه الشيخ الامام أبوبكر بن حامد والشيخ الامام أبو حفص

٦٩

الزاهد والشيخ الامام أبو بكر الاسماعيلي رحمهم‌الله أن الايمان غير مخلوق ، ومن قال بخلقه فهو كافر.

وقد خرج كثير من الناس من بخارى منهم محمد بن اسماعيل صاحب الجامع بسبب قولهم الايمان مخلوق ، انتهى.

وهذا الرجل يعني صاحب الفصول من أعيان العامة وترجمته موجودة في كتاب « كتائب الاعلام الأخيار » من مذهب النعمان المختار (١).

وأما ما حكينا عنه من كونه متروكاً عند الرازيين فلأنّ الذهبي وهو الامام الحافظ المتقن المقدم في علم الرجال والحديث ذكر البخاري في كتاب الضعفاء والمتروكين ، وقال ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ ، تركه لأجلها الرازيان (٢).

ويظهر من الذهبي أيضاً في الميزان أن الرازيين تركا البخاري كما أن مسلماً ترك علي بن المديني شيخ البخاري ، قال ما لفظه : علي بن عبدالله بن جعفر أبوالحسن الحافظ أحد الاعلام الأثبات وحافظ العصر ، ذكره العُقيلي في كتاب الضعفاء ، فبئس ما صنع ، فقال : جنح إلى ابن أبي داود والجهمية وحديثه مستقيم ان شاء اللّه.

قال لي عبد الله بن أحمد : كان أبي حدّثنا عنه ، ثم امسك عن اسمه ، وكان يقول : حدّثنا رجل ، ثم ترك حديثه بعد ذلك.

__________________

١. من مصنّفات الكفوي محمود بن سليمان الحنفي الرومي المتوفى ٩٩٠ هـ وذلك في تراجم رجال الحنفية.

٢. الجرح والتعديل ٧ : ١٩١ رقم ١٠٨٦ ، المغني في الضعفاء ٢ : ٢٦٨ رقم ٥٣١٢.

٧٠

قلت : بل حديثه عنه في مسنده ، وقد تركه ابراهيم الحربي ، وذلك لميله إلى أحمد بن أبي داود ؛ فقد كان محسناً اليه ، وكذا امتنع مسلم من الرواية عنه في صحيحه لهذا المعنى ، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمد (١) لأجل مسألة اللفظ ، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : كان أبو زرعة ترك الرواية عن علي من أجل ما كان منه في المحنة انتهى (٢). وجلالة الرازيين مما لا يخفى على ناظر كتب القوم ، م ، ت ، س ، ق ، فلنذكر شطراً منها :

أما أبو زرعة : (٣) فهو شيخ النسائي ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجة ، قال الذهبي في الكاشف : عبيدالله بن عبدالكريم أبو زرعة الرازي الحافظ أحد الأعلام ، روى عن أبي نعيم والفضل ، وقبيصة ، وطبقتهم في الآفاق ، وعنه م ، ت ، س ، ق ، وأبوزرعة ، ومحمد بن الحسين القطان ، وأمم (٤).

قال ابن راهويه : كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل (٥) ، مناقبه تطول.

وفي حاشية الكاشف : أنه أحد الأئمة المشهورين والأعلام المذكورين ، الجوّالين ، المكثرين ، والحافظين ، والمتقنين.

__________________

١. محمد بن اسماعيل البخاري.

٢. ميزان الاعتدال ٣ : ١٣٨.

٣. الجرح والتعديل ١ : ٣٢٨ ـ ٣٤٩ و ٥ : ٣٢٤ ـ ٣٢٦ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٣٢٦ ، طبقات الحنابلة ١ : ١٩٩ ، المنتظم ٥ : ٤٧ ، تذكرة الحفاظ ٢ : ٥٥٧ ، سير أعلام النبلاء١٣ : ٦٥ رقم ٤٨ ، العبر ٢ : ٢٨ ، البداية والنهاية ١١ : ٣٧ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٣٠ ، طبقات الحفاظ : ٢٤٩ ، شذرات الذهب ٢ : ١٤٨.

٤. الكاشف ٢ : ٢٠١ رقم ٣٦١٩.

٥. تاريخ بغداد ١٠ : ٣٣٢ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٧١ ، العبر ١ : ٣٧٩ سنة ٢٦٤.

٧١

روى عنه أبو زرعة الدمشقي الرازي وعبدالله بن أحمد بن حنبل ، وعمرو بن علي الفلاس ، وهو من شيوخه وابن أخيه أبوالقاسم عبد الله بن محمد بن عبد الكريم الرازي ، وأبو حاتم محمد بن ادريس الرازي ، وهو من اقرانه.

قال النسائي : ثقة ، وقال أبو حاتم : امام (١).

وقال أبومصعب : رأيت مالكاً وغيره ، فما رأت عيناي مثله ، وقال فضلك الصائغ : دخلت على الربيع بمصر فقال لي من اين أنت؟ قلت : من الري من بعض شاكردي أبي زرعة ، فقال : تركت أبا زرعة وجئتني ، ان أبا زرعة آية وليس له ثان (٢).

وقال عبدالواحد بن غياث ما رأى أبا زرعة مثل نفسه أحداً (٣).

وقال أبو زرعة : أنا أحفظ عشرة آلاف حديث في القراءات ، وقال أيضاً : كتبت عن ابراهيم بن موسى الرازي مائة ألف حديث ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف حديث (٤).

وقال محمد بن جعفر بن حمكويه : سئل أبو زرعة الرازي ، عن رجل حلف بالطلاق ان أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل حنث؟ قال : لا. وقال :

__________________

١. تهذيب التهذيب ٧ : ٢٨ رقم ٦٣.

٢. وفي سير أعلام النبلاء : ابن عدي : سمعت محمد بن ابراهيم المقرئ ، سمعت فَضْلَكَ الصَّائغ يقول : دخلت المدينة فصرت إلى باب أبي مصعب ، فخرج إليّ شيخ مخضوب ، وكنت ناعساً ، فحرّكني وقال : يا مردريك! من أين أنت؟ أي شيء تنام؟ قلت : أصلحك الله من الري ، من بعض شاكردي أبي زرعة ، فقال : تركت أبا زرعة وجئتني؟ لقيت مالكاً وغيره ، فما رأت عيناي مثل أبي زرعة. ١٣ : ٧٣ ـ ٧٤.

٣. مقدمة الجرح والتعديل ٣٤١ ، و : ٥ : ٣٢٥ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٧٤.

٤. المصدر السابق ١٣ : ٦٨.

٧٢

أحفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الانسان قل هو الله أحد ، وفي المذاكرة : ثلاث مائة ألف حديث (١).

وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ : لم يكن في هذه الأمة أحفظ من أبي زرعة ، كان يحفظ مائة وأربعين ألفاً في القراءات والتفسير وحفظ كتب الامام أبي حنيفة في أربعين يوماً ، وكان يسريها مثل الماء.

وذكره ابن حجر العسقلاني في التقريب وقال : أنه امام حافظ ، ثقة مشهور من الحادية عشر (٢).

ذكره اليافعي في مرآة الجنان في وقائع سنة أربع وستين ومائتين وأثنى عليه ، وذكره ابن جزلة الحكيم في مختصر تاريخ بغداد وفيه أنه قال : أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الانسان قل هو الله أحد (٣).

وأما أبو حاتم الرازي : (٤) فمناقبه مذكورة في تهذيب الكمال ، والكاشف ، وتذكرة الحفاظ ، وتذهيب التهذيب ، وتهذيب التهذيب ، وتقريب العسقلاني ،

__________________

١. المصدر السابق ١٣ : ٦٨.

٢. تقريب التهذيب ٢ : ٤١٠ رقم ٤٣١٦.

٣. تاريخ بغداد ١٠ : ٣٢٦ ـ ٣٣٧ ، أنظر ترجمته : تاريخ الطبري ٥ : ٤٧٦ ، الجرح والتعديل ٥ : ٣٢٤ رقم ١٥٤٣ ، الثقات لابن حبان ٨ : ٤٠٧ ، رجال صحيح مسلم لابن منجويه ٢ : ١٤ رقم ١٠٢٩ ، طبقات الحنابلة١ : ١٩٩ رقم ٢٧١ ، صفة الصفوة ٤ : ٨٨ رقم ٦٧٣ ، المنتظم ٥ : ٤٧ رقم ١٠٩ ، تذكرة الحفاظ ٢ : ٥٥٧ ، تاريخ الاسلام ، سنوات ٢٧١ ـ ٢٨٠ ص : ١٢٤ رقم ١٠٠ ، البداية والنهاية ١١ ، ٣٧ ، مرآة الجنان ٢ : ١٧٦ ، طبقات الحفاظ : ٢٤٩ ، شذرات الذهب ٢ : ١٤٨ ، المغني في معرفة رجال الصحيحين : ١٦٤ رقم ١٤٠٦.

٤. الجرح والتعديل ١ : ٣٤٩ و ٧ : ٢٠٤ ، تاريخ بغداد ٢ : ٧٣ ، تذكرة الحفاظ ٢ : ٥٦٧ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٢٤٧ رقم ١٢٩ ، الوافي بالوفيات ٢ : ١٨٣ ، طبقات السبكي ٢ : ٢٠٧ ، البداية والنهاية ١١ : ٥٩ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٣١ ، طبقات الحفاظ : ٢٥٥ ، شذرات الذهب ٢ : ١٧١.

٧٣

وأنساب السمعاني ، وتراجم الحفاظ والتبيان لابن ناصر الدين ، وطبقات الفقهاء الشافعية للسبكي ، وغيرها (١).

ولنقصر على شطر يسير منها :

قال السمعاني في الأنساب في نسبة الحنظلي ما لفظه : وبالري درب مشهور يقال له درب حنظلة منها أبو حاتم محمد بن ادريس بن المنذر بن داود بن مهران الرازي الحنظلي امام عصره والمرجوع اليه في مشكلات الحديث ، وهو من هذا الدرب ، وكان من مشاهير العلماء المذكورين الموصوفين بالفضل والحفظ والرحلة ، وسمع محمد بن عبدالله الأنصاري وأبا زيد النحوي وعبيد الله بن موسى ، وهوذة بن خليفة ، وأبامسهر الدمشقي ، وعثمان بن الهيثم المؤذن وسعيد بن أبي مريم المصري ، وأبا اليمان الحمصي في أمثالهم.

وكان أول كتبه الحديث في سنة تسع ومائتين ، روى عنه الأعلام الأئمة مثل يونس بن عبدالاعلى والربيع بن سليمان المصريان وهما أكبر منه سنّاً وأقدم سماعاً ، وأبو زرعة الرازي والدمشقي ومحمد بن عوف الحمصي وهؤلاء من أقرانه ، وعلم لايحصون ، وذكر أبوحاتم وقال : أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سنين أحصيت ماشياً على قدمي زيادة على ألف فرسخ لم أزل أحصي حتى مما زاد على ألف فرسخ تركته.

وقال أبوحاتم : قلت على باب أبي الوليد الطيالسي ، من أغرب عليّ

__________________

١. الجرح والتعديل ٧ : ٢٠٤ رقم ١١٣٣ ، الثقات لابن حبّان ٩ : ١٣٩ ، تاريخ بغداد ٢ : ٧٣ رقم ٤٥٥ ، طبقات الحنابلة ١ : ٢٨٤ ، تذكرة الحفاظ ٢ : ٢٦٧ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٢٤٧ رقم ١٢٩ ، طبقات الشافعية ١ : ٢٩٩ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٢٨ رقم ٤٠ ، تقريب التهذيب ٢ : ٢١٠ رقم ٥٧١٨ ، العبر ١ : ٣٩٨ سنة٢٧٧ ، طبقات الحفاظ : ٢٥٥ ، شذرات الذهب ٢ : ١٧١ ، الأعلام ٦ : ٢٥٠ ، معجم المؤلفين ٩ : ٣٥.

٧٤

حديثاً غريباً مسنداً صحيحاً لم أسمع به فله عليّ درهم يتصدّق به ، وقد حضر على باب أبي الوليد خلق من الخلق أبو زرعة فمن دونه ، وانما كان مرادي أن يلقي عليَّ ما لم أسمع به فيقولون : هو عند فلان ، فاذهب واسمع وكان مرادي أن استخرج منهم ما ليس عندي فما تهيّأ لأحد منهم أن يغرب عليّ حديثاً (١).

الأمر الرابع : التعريف بالبخاري

من وجوه الطعن في البخاري ما يدل على عدم ديانته ووثاقته وتدليسه ، وأنه تصرف في مال الغير بغير اذنه مع العلم بكراهته وعدم رضاه ، وارتكب الكذب الصريح وأقدم على أمر قبيح ، كما يظهر كلّه مما قاله مسلمة بن قاسم في تاريخه على مانقل عنه

قال : وسبب تأليف البخاري الكتاب الصحيح أن علي بن المديني ألّف كتاب العلل وكان ضنيناً به لا يخرجه إلى أحد ولا يحدّث به لشرفه وعظم خطره وكثرة فائدته ، فغاب علي بن المديني في بعض حوائجه فأتى البخاري إلى بعض بنيه فبذل له مائة دينار على أن يخرج له كتاب العلل ليراه ويكون عنده ثلاثة أيام ففتنه المال وأخذ منه مائة دينار ثم تلطف مع أمه فاخرجت الكتاب فدفعه اليه ، وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يحبسه عنده أكثر من الامد الذي ذكر.

فأخذ البخاري الكتاب وكان مائة جزء فدفعه إلى مائة من الوراقين

__________________

١. الجرح والتعديل ١ : ٣٥٥ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٢٥٥.

٧٥

وأعطى كل رجل منهم ديناراً على نسخه ومقابلته في يوم وليلة ، فكتبوا له الديوان في يوم وليلة وقوبل ثم صرفه إلى ولد علي بن المديني ، وقال : انّما نظرت إلى شيء فيه.

وانصرف علي بن المديني فلم يعلم بالخبر ، ثم ذهب البخاري فعكف على الكتاب شهوراً واستحفظ ، وكان كثير الملازمة لابن المديني ، وكان ابن المديني يقعد يوماً لأصحاب الحديث يتكلم في علله وطرقه ، فلما أتاه البخاري بعد مدّة قال له : ما جلسك عنّا؟ قال شغل عرض لي ثم جعل علي يلقى الأحاديث ويسألهم عن عللها ، فيبدر البخاري بالجواب بنصّ كلام علي في كتابه فعجب لذلك ، ثم قال له من اين علمت هذا؟! هذا قول منصوص ، والله ما أعلم أحداً في زماني يعلم هذا العلم غيري ، فرجع إلى منزله كئيباً حزيناً ، وعلم أن البخاري خدع أهله بالمال حتى أباحوا له الكتاب.

ولم يزل مغموماً بذلك ولم يثبت الاّ يسيراً حتى مات ، واستغنى البخاري عن مجالسة علي والتفقه عنده بذلك الكتاب ، وخرج إلى خراسان وتفقّه بالكتاب ووضع الكتاب الصحيح والتواريخ فعظم شأنه وعلا ذكره ، وهو أول من وضع في الاسلام كتاب الصحيح ، فصار الناس له تباع بكتابه واشتهر لدى العلماء في تأليف الصحيح انتهى (١).

ووجوه الطعن في البخاري من هذا الكلام ظاهرة الوجه.

الوجه الرابع : ما يدل على بلادته وبُعده عن الفقه ذكر صاحب الكفاية في شرح الهداية في فقه الحنفية ، ما لفظه :

__________________

١. نقله ابن حجر بالاختصار في : تهذيب التهذيب ٩ : ٤٦.

٧٦

واذا شرب صبيان بلبن شاة فلا رضاع بينها لأنه لا حرمة بين الآدمي والبهائم ، لأن الحرمة لا تكون الاّ بعد الأُميّة والبهيمة لا يتصور أن تكون أُمّاً للآدمي ولاداً وكذا رضاعاً ، وكان محمد بن اسماعيل صاحب الحديث يقول : يثبت به حرمة الرضاع ، وانه دخل في بخارى في زمن الشيخ أبي حفص الكبير وجعل يفتي فقال له الشيخ لا تفعل فلست هنالك فأبى أن يقبل نصيحته حتى استفتي عن هذه المسألة اذا رضع صبيان بلبن شاة فافتى بثبوت الحرمة فاجتمعوا وأخرجوه من بخارى بسبب هذه الفتوى (١).

____________

١. المبسوط للسرخسي ٣٠ : ٢٩٧ ، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي ٢ : ٦٤١ ، وفى المبسوط : قال السرخسي : ولو أن الصبيين شربا من لبن شاة أو بقرة لم تثبت به حرمة الرضاع لأن الرضاع معتبر بالنسب وكما لايتحقق النسب بين الآدمي وبين البهائم فلذلك لا يثبت حرمة الرضاع بشرب لبن البهائم ، وكان محمد بن اسماعيل البخاري صاحب التاريخ يقول يثبت الحرمة ، وهذه المسألة كانت سبب إخراجه من بخارى فإنه قدم بخارى في زمن أبي حفص الكبير وجعل يفتي ، فنهاه أبوحفص وقال : لست بأهل له ، فلم ينته حتى سئل عن هذه المسألة فأفتى بالحرمة فاجتمع الناس وأخرجوه.

وقال الإِسكندراني في « المتواري في تراجم أَبواب البخاري » : « وبلغني عن الإِمام أَبي الوليد الباجي أَنّه كان يقول : « يسلم البخاري في علم الحديث ، ولا يسلم في علم الفقه ».

ويعلّل ذلك بأنَّ أَدلته عن تراجمه متقاطعة ، ويحمل الأَمر على أَنّ ذلك لقصور في فكرته وتجاوز عن حدّ فطرته ، وربما يجدون الترجمة ومعها حديث يتكلّف في مطابقته لها جدّاً ، ويجدون حديثاً في غيرها هو بالمطابقة أَولى وأَجدى ، فيحملون الأَمر على أَنّه كان يضع الترجمة ويفكر في حديث يطابقها ، فلا يعن له ذكر الجليّ فيعدل إِلى الخفي ... إِلى غير ذلك من التقادير التي فرضوها في التراجم التي انتقدوها فاعترضوها ».

نعم! ومما اعترضوا على البخاري عدم معرفته بعلم الفقه ، ويذكرون لذلك أَمثلة :

منها : ماذكره أَبو البركات في « كشف الأَسرار » من كتب الاُصولية للحنفية ، أَنَّه قال : المحدِّثُ غير الفقيه يغلط كثيراً ، فقد روي عن محمد بن إِسماعيل صاحب « الصحيح » أَنَّه استفتي في صبيَّين شربا من لبن شاة ، فأَفتى بثبوت الحرمة بينهما. واُخرج به من بخارى ، إِذ الاُختيَّة تتبع الاُمِّيَّة ،

٧٧

ويعلم حمقه اجمالاً من المكاتبة الجارية بين الفاضل التفتازاني وأبي مسعود البخاري حيث كتب البخاري إلى ذلك الفاضل شيئان لا يجتمعان : « الإنسانية والخراسانية » فكتب في جوابه : شيئان لا يفترقان : الحمارية والبخارية ، وكذا يعلم من شعر الذي نسبه مؤلف كتاب « روح الرواح » إلى أبي الكاتب في ذم بخارى وهو :

لو الفرس العتيق أتى بخارى

لصار بطبعها منها حمارا

فلم تر مثلها عيني كنيفاً

تبوأها أمير الشرق دارا

ومن أغلاطه الفاضحة التي يترتب عليه ما لا يحصى من المفاسد ما ذكر في باب الأنساب ، من الغاية للسخاوي الشافعي في شرح الهداية المنظومة للشيخ محمد الجزري الشافعي : أن أبا مسعود عقبة بن عمرو البدري لم ينسب كذلك لشهوده بدراً في قول الجمهور ، وان عدّه البخاري في صحيحه ممن شهدها! وانّما كان نازلاً يعني ساكناً بها ، فقد وقع لكبار أهل الحديث من ذلك أوهام انتهى.

ولايخفى ان مثل هذا الغلط مع أنه باطل في نفسه يقود إلى غيره من الباطل العظيم فان البخاري اذا توهم أن أبا مسعود شهد بدراً وقد تقرّر عند القوم

____________

والبهيمة لا تصلح اُمَّاً للآدمي!.

وقد أَجابوا في ذلك عند الدفاع عن البخاري ، بأنَّ هذه النسبة إِلى البخاري لَمُختلقة ، وسببها الحسد من ناحية أَتباع أَبي حنيفة نصرة لإمامهم.

وقال في ذلك جمال الدين القاسمي في كتابه « حياة البخاري » : « إِنَّ المفتري لهذه الحكاية أَراد أَن يثأر لأبي حنيفة ». حياة البخاري للقاسمي : ٤٨. وأَبو البركات هو عبدالله بن أَحمد بن محمود النسفي الحنفي المتوفى ٧١٠ هـ.

٧٨

أن أهل بدر كلهم كانوا عادلين فيعد جميع رواياته من الصحيح وهذا بلاء عظيم.

الوجه الخامس : ما يدل على خيانته الصريحة وضلالته القبيحة وان عادته أن يبتر الأحاديث النبوية الواردة في حقّ أمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين مما صحّت وثبتت عند أكابرهم المحققين وأعاظمهم المنقّدين ، بل بتر في غير موضع من كتابه ما أورده من الحديث المتعلق بهذا المقام كما نبه عليه بعض أكابرهم الاعلام.

قال العلامة ذو النسبين ابن دحية الكلبي وهو من أعيان علماء العامة كما يظهر من كتاب ابن خلّكان وبغية الوعاة ، وحسن المحاضرة ، وغيرها في كتب شرح أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لفظه : ترجم البخاري في وسط المغازي ما هذا نصه :

بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع ، حدّثني أحمد بن عثمان ، قال : حدّثنا شريح بن مسلمة ، قال : حدّثنا ابراهيم بن يوسف بن اسحاق بن أبي اسحاق ، حدّثني أبي عن أبي اسحاق سمعت البراء بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع خالد بن الوليد الى اليمن ، قال : ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه فقال : مُر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقّب ، ومن شاء فليقبل فكنت ممن عقّب معه ، قال : فغنمت اواق ذوات عدد (١).

حدثني محمد بن بشار ، قال : حدّثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا علي بن سويد ابن منجوف ، عن عبدالله بن بريده ، عن أبيه ، قال : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً إلى خالد ليقبض الخمس ، وكنت أبغض علياً وقد اغتسل ، فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت له ذلك فقال : يا بريدة أتبغض علياً؟

__________________

١. صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب بعث علي بن أبي طالب ... رقم ٤٣٤٩.

٧٩

فقلت : نعم ، قال : لا تبغضه ، فإن له في الخمس أكثر من ذلك (١).

قال ذو النسبين : أورده البخاري ناقصاً مبتراً كما ترى ، وهي عادته في ايراد الأحاديث التي من هذا القبيل ، وما ذاك الاّ لسوء رأيه في التنكب عن هذا السبيل ، وأورده الإمام أحمد بن حنبل كاملاً محققاً والى طريق الصحة فيه موفقاً ، فقال فيما حدّثني القاضي العدل بقية مشايخ العراق تاج الدين أبو الفتح محمد بن أحمد المنداني قراءة عليه بواسط العراق بحق سماعه ، على الثقة الرئيس أبي القاسم بن الحصين بحق سماعه على الثقة الواعظ أبي علي الحسين بن المذهب بحق سماعه على الثقة أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان الفطسي بحق سماعه من الامام أبي عبدالرحمن بن عبدالله بحق سماعه على امام أهل السنة أبي عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدّثنا عبد الجليل قال : انتهيت إلى حلقة فيها أبو مجاز وابنا بريدة ، فقال عبدالله بن بريدة : قال أبي أبغضت علياً بغضاً لم أبغضه أحداً قط ، قال : واحببت رجلاً لم أحبه إلاّ على بغضه علياً ، قال : فبعث ذلك الرجل على خيل فصحّبه ما اصحبه إلاّ على بغضه علياً ، قال : فأصبنا سبياً ، فكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابعث علينا من تخميسه.

قال : فبعث الينا علياً في السبي وصيفة هي أفضل من السبي ، قال : فخمس وقسم فخرج ورأسه يقطر فقلنا يا أبا الحسن ما هذا؟ قال : ألم ترد إلى الوصيفة التي كانت في السبي ، فانى قسمت وخمست فصارت في الخمس ، ثم صارت في أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم صارت في آل علي ووقعت بها.

__________________

١. المصدر السابق : رقم ٤٣٥٠

٨٠