جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٦

ويحرم الخوارج والغلاة.

ولو وقف على المؤمنين فهو للاثني عشرية ، وقيل : لمجتنبي الكبائر.

______________________________________________________

فانّ إرادة الوقف على جميع الفقراء على اختلاف آرائهم ومقالاتهم وتباين معتقداتهم أمر تشهد العادات بنفيه ، فلما لم يكن دليل على التخصيص تمسكنا بقرينة النحلة والدين فأمّا الوقف على جميع المسلمين فهو أمر راجح في نظر الشارع مطلوب ، ومثله واقع كثير فيجب إجراؤه على ظاهره.

قوله : ( ويحرم الخوارج والغلاة ).

أي : يحرمون من الوقف ، فلا يكون إطلاق الوقف على المسلمين متناولا لهم ، لأنّهم كفّار ، ولا وجه لتخصيصهم بالذكر ، بل كل من ارتكب ما يقتضي كفره لا يندرج فيهم ، ولا يخفى أنّ العبارة لا تتناول الجميع ، واستثنى في الدروس من حرمانهم ما إذا كان الواقف منهم (١) ، وفيه قوة.

قوله : ( ولو وقف على المؤمنين فهو للاثني عشرية ، وقيل لمجتنبي الكبائر ).

إطلاق ( المؤمنون ) على الاثني عشرية هو المتعارف بين الأصحاب ، والقائل باشتراط مجانبة الكبائر هو الشيخ في النهاية (٢) ، وهو ضعيف ، لأنّ الفاسق مندرج في المؤمنين.

قال المصنف في المختلف : التحقيق إنّ الايمان إنّ جعلناه مركبا من الاعتقاد القلبي والعمل بالجوارح لم يكن الفاسق مؤمنا ، وإن جعلناه عبارة عن الأول كان مؤمنا (٣) ، والحاصل أنّ قول الشيخ ضعيف ، وعنه قول آخر في التبيان يقتضي دخول‌

__________________

(١) الدروس : ٢٣٢.

(٢) النهاية : ٥٩٧.

(٣) المختلف : ٤٩٤.

٤١

والشيعة : كل من قدّم عليا عليه‌السلام كالإمامية ، والجارودية من الزيدية والكيسانية ، وغيرهم.

______________________________________________________

الفساق (١) ، حكاه في التذكرة (٢) ، وهو صحيح.

قوله : ( والشيعة كلّ من قدّم عليا عليه‌السلام كالإمامية ، والجارودية من الزيدية ، والكيسانية ، وغيرهم ).

إنّما قيّد بـ ( الجارودية من الزيدية ) ليخرج البترية منهم وقد صرّح بذلك الشيخان (٣) ، وغيرهما (٤) ، والبترية ينسبون إلى المغيرة بن سعيد ولقبه الأبتر ، وربّما وجد بخط بعضهم أنّه بتير الثومي (٥).

وقال ابن إدريس : إذا كان الواقف من إحدى فرق الشيعة حمل كلامه العام على شاهد حاله وفحوى قوله ، وخصص به وصرف الى أهل نحلته دون من عداهم (٦) ، ونفى عنه البأس في التذكرة (٧) والمشهور الأول.

وينبغي أن يقال : إن كان الواقف يعتقد وقوع اسم الشيعة على الجميع كما هو المتعارف فالعمل بعموم اللفظ كما في المسلمين هو المختار ، وإلاّ حمل اللفظ على مراد قائله.

وأعلم أنّ الكيسانية ـ ينسبون الى كيسان مولى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويقال أنّه تلميذ محمد بن الحنفية ـ يقولون بغيبة محمد رضي‌الله‌عنه ، وإنّما استثنى‌

__________________

(١) التبيان ٢ : ٨١.

(٢) التذكرة ٢ : ٤٣٠.

(٣) الشيخ المفيد في المقنعة : ١٠٠ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ٥٩٨.

(٤) كابن حمزة في الوسيلة : ٤٤٢ ، وابن البراج في المهذب ٢ : ٨٩.

(٥) في النسخة الحجرية : بتر العوقي ، وفي الخطية : الفرقي. وما أثبتناه هو الصحيح. انظر : كتاب التعريفات للجرجاني : ١٩ معجم الفرق الإسلامية لشريف يحيى الأمين : ٥١.

(٦) السرائر : ٣٧٨.

(٧) التذكرة ٢ : ٤٣٠.

٤٢

والزيدية : كل من قال بإمامة زيد بن علي.

والهاشميون : كل من انتسب الى هاشم من ولد أبي طالب والحارث والعباس ، وأبي لهب.

والطالبيون : من ولده أبو طالب.

وإذا وقف على قبيلة ، أو علّق بالنسبة إلى أب دخل فيهم الذكور والإناث بالسوية ، إلاّ أن يعيّن أو يفضّل.

______________________________________________________

الأصحاب البترية من الزيدية لأنّهم يخالفون قول أكثر الباقين في أنّ الإمامة لعلي عليه‌السلام بالنص ، بل قالوا إنّها شورى ، وجوزوا تقديم المفضول ، وقريب منهم السليمانية.

قوله : ( والزيدية : كل من قال بإمامة زيد بن علي ).

هو علي بن الحسين عليهما‌السلام ، ويقولون بإمامة كل من خرج بالسيف بعده من ولد فاطمة عليها‌السلام من ذوي الرأي والعلم والصلاح ، فإذا وقف عليهم صحّ واستحقه أهل هذه المقالة عند أكثر الأصحاب ، وشرط ابن إدريس في صحته كون الواقف زيديا ، فلو كان إماميا لم يصحّ عنده (١) ، وهو ضعيف.

قوله : ( وإذا وقف على قبيلة ، أو علقه بالنسبة إلى أب دخل فيهم الذكور والإناث بالسوية ، إلاّ أن يعيّن أو يفضّل ).

الوقف على القبيلة مثل الوقف على همدان وبجيلة ، وتعليق الوقف بالنسبة إلى أب مثل الوقف على الهاشمي والعلوي والحسيني ، وإنّما دخل فيه الذكور والإناث ، لأنّه يتناول كلا منهما ، لأنّ المراد من كان هاشميا ، ولفظ الذكور يتناول الإناث تغليبا ، ويكونون سواء بإسواء الإطلاق بالنسبة إليهم نعم لو عيّن الوقف لأحدهم تعيّن ، وكذا لو فضّل أحدهما على الآخر وجب اتباعه عملا بالشرط.

__________________

(١) السرائر : ٣٧٩.

٤٣

ويندرج فيهم كل من انتسب بالأب دون الأم خاصة كالعلوية ، فإنّه يندرج تحته كل من انتسب الى على عليه‌السلام من جهة الأب ولا يعطي من انتسب إليه بالأم خاصة على رأي.

ولو وقف على من اتصف بصفة ، أو دان بمقالة اشترك فيه كل من تصدق عليه النسبة ، كالشافعية يندرج فيهم كل من اعتقد مذهب الشافعي من الذكور والإناث.

ولو وقف على الجيران فهو لكل من يصدق عليه عرفا أنه جار ، وقيل : لمن يلي داره أربعين ذراعا من كل جانب ، وقيل : أربعين دارا.

______________________________________________________

قوله : ( ويعطى من انتسب بالأب دون الأم خاصة ، كالعلوية فإنّه يندرج تحته كل من انتسب الى علي عليه‌السلام من جهة الأب ، ولا يعطى من انتسب إليه بالأم خاصة على رأي ).

لأنّ ولد البنت لا ينتسب إلى أبيها عند أكثر الأصحاب ، وقد سبق تحقيق المسألة في الخمس ، والمخالف في الموضعين واحد ، والأصح ما عليه الأكثر.

قوله : ( ولو وقف على الجيران فهو لكل من يصدق عليه عرفا إنّه جار ، وقيل : لمن يلي داره أربعين ذراعا من كل جانب ، وقيل : أربعين دارا ).

الأول : هو مختار المصنف وجماعة من الأصحاب (١) ، وهو الأصح ، لأنّ الحقيقة العرفية هي المرجع عند انتفاء الشرعية.

والثاني : قول أكثر الأصحاب ، (٢) وهو المشهور بينهم ، وإن كانت عبارة ابن البراج تؤدي ما ليس مرادا له (٣) ، ذكرها المصنف في المختلف وبيّن ما فيها (٤).

__________________

(١) منهم المحقق في الشرائع ٢ : ٢١٥.

(٢) منهم الشيخ المفيد في المقنعة : ١٠٠ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ٥٩٩ ، وسلار في المراسم : ١٩٨.

(٣) المهذب ٢ : ٩١.

(٤) المختلف : ٤٩٤.

٤٤

ولو وقف على من لا يملك بطل كالمملوك القن ، ولا ينصرف الوقف الى مولاه ، ولا على أم الولد ، ولا المدبر ، ولا الميت ، ولا على الملك ، ولا الجن ، ولا المكاتب ولو عتق بعضه صحّ فيما قابل الحرية

______________________________________________________

والثالث : قول لبعض الأصحاب (١) ، لرواية عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه سئل عن حدّ الجواز فقال : « إلى أربعين دارا » (٢).

قوله : ( ولو وقف على من لا يملك بطل كالمملوك القن ، ولا ينصرف الوقف الى مولاه ... ).

في قوله : ( ولو وقف على من لا يملك ) إيماء إلى علّة عدم صحة الوقف على العبد.

وتحقيقه : إنّ الوقف تمليك عين أو منفعة ، وأصح القولين عندنا امتناع ملكية العبد ، ويجي‌ء على القول بصحة تملكه جواز الوقف عليه ، وعلى المنع لو وقف على عبد غيره بطل ، وفي أحد قولي الشافعي أنّه يكون وقفا على سيده (٣) ، ولا فرق في ذلك بين القن وأم الولد والمدبر.

قوله : ( ولا الميت ، ولا على الملك ، ولا الجن ، ولا الشياطين ).

لعدم صلاحيتهم للتملك.

قوله : ( ولا المكاتب ، ولو عتق بعضه صحّ فيما قابل الحرية ).

لا ريب أنّ المكاتب رق وإن انقطعت سلطنة المولى عنه ، فلا يصحّ الوقف عليه سواء كان مطلقا أو مشروطا ، نعم لو تحرر من المطلق شي‌ء بأداء بعض مال الكتابة صحّ الوقف في نصيب الحرية.

__________________

(١) الدروس : ٢٣٢.

(٢) كنز العمال ٩ : ٥٢ حديث ٢٤٨٩٥ ، الجامع الصغير : ٥٧٠ حديث ٣٦٨٧.

(٣) الوجيز : ٢٤٥ ، مغني المحتاج ٢ : ٣٧٩.

٤٥

ولو وقف على المصالح كالقناطر والمساجد والمشاهد صحّ ، لأنّه في الحقيقة وقف على المسلمين ، لكن هو صرف الى بعض مصالحهم ، بخلاف الوقف على البيع فإنّه لا ينصرف الى مصالح أهل الذمّة ولو وقف على البيع والكنائس ، أو معونة الزناة ، أو قطّاع الطريق ، أو على كتبة التوراة والإنجيل لم يصحّ.

______________________________________________________

قوله : ( ولو وقف على المصالح كالقناطر ، والمساجد ، والمشاهد صحّ ، لأنّه في الحقيقة وقف على المسلمين ، لكن هو صرف الى بعض مصالحهم ).

لمّا كان الوقف على المصالح ـ والقرب في الحقيقة ـ وقفا على المسلمين لأنهم المنتفعون به لم يرد لزوم بطلانه من حيث أنّ الموقوف عليه لا يملك ، غاية ما هناك أنّه وقف على المسلمين في مصلحة خاصة ، فإذا وقف على المسجد كان وقفا على المسلمين ، لأنّهم المنتفعون بالمسجد والتردد إليه للعبادة واقامة شعار الدين ، لكن على هذا الوجه المخصوص والمصلحة المعيّنة ، وكذا القول في الوقف على القناطر ، والمشاهد ، وأكفان الموتى ، ومؤنة الغسّالين والحفّارين.

قوله : ( بخلاف الوقف على البيع فإنّه لا ينصرف الى مصالح أهل الذمة ).

المراد : أن الوقف على المساجد ونحوها جائز ، لأنّه في الحقيقة وقف على المسلمين ، بخلاف الوقف على البيع والكنائس ونحوها فإنّه لا يجوز وان كان في الحقيقة وقفا على أهل الذمة وقلنا بجواز الوقف عليهم ، لأنّ الوقف على المساجد وقف على المسلمين في جهة خاصة هي طاعة وقربة ، وأمّا الوقف على البيع فإنه وقف على أهل الذمة في جهة خاصة هي معصية ، فإنّ اجتماعهم فيها للعبادات المحرّمة (١) والكفر وشتم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوقف عليها معونة على ذلك ، هذا هو مقصود المصنف ، وإن كانت العبارة لا تؤدي هذا المعنى على الوجه المراد.

__________________

(١) في « ك‍ » : المحرفة.

٤٦

______________________________________________________

وإن أمكن تكلّف حمل قوله : ( فإنّه لا ينصرف الى مصالح أهل الذمّة ) على أنّه لا يصرف الى مطلق مصالحهم ، بل الى ما يعد من مصالحهم معصية لكن في قوله : ( ولو وقف على البيع والكنائس ... ) تكرار لا فائدة فيه ، لأنّ المنع من ذلك قد استفيد من قوله : ( بخلاف الوقف على البيع ) لأنّ المتبادر منه أنّ مخالفته لما قبله في عدم الصحة ، إذ لو حمل على أنّ المراد : المخالفة باعتبار أنّه لا ينصرف الى مصالح أهل الذمّة لكان كلاما مع فساده عريا عن الفائدة ، لأنّ البحث عن انصرافه الى مصالحهم وعدمه هاهنا إنّما هو بفرض صحة الوقف وفساده.

وأمّا الوقف على معونة الزناة وقطاع الطريق ، أو على كتبة التوراة والإنجيل ، ونحو ذلك فإنّه فاسد ، لأنّ ذلك كله محرّم ، لأنّ الإعانة على فعل المعصية معصية ، ومن شرط صحة الوقف كونه قربة ، وأمّا التوراة والإنجيل فإنّهما منسوخان ، محرّفان ، فيحرم كتبهما والنظر إليهما ، وقد روى العامة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج الى المسجد فرأى في يد عمر صحيفة فيه شي‌ء من التوراة فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا رأى الصحيفة في يد عمر وقال له : « أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ ولو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلاّ اتباعي » (١) ولو لا أن ذلك معصية ما غضب منه.

قال الشيخ : إنّ العلّة في التحريم إنّهما محرّفان ، لأنّ النسخ لا يذهب بحرمتهما كالمنسوخ من القرآن ، وقال وهذا لا خلاف فيه (٢) ويشكل بأنّ في كتبهما فساد آخر لمخالفة الملتين لملتنا بخلاف منسوخ القرآن ، وقد سبق في البيع جواز حفظهما وغيرهما من كتب الضلال لغرض النقض والحجة ، فلا مانع من جواز الوقف على ذلك ، ولم يذكروه.

__________________

(١) نقله ابن قدامة في المغني ٦ : ٢٦٨.

(٢) المبسوط ٣ : ٢٩٥.

٤٧

ويصحّ من الكافر ،

______________________________________________________

قوله : ( ويصح من الكافر ).

هذا مناف لما سبق من اشتراطه في الوقف التقرب ، إلاّ أن يريد به كونه ممّا يتقرب به فيصح حينئذ وقف الكافر إذا كان في نفسه قربة.

لكن يرد أنّ المصنف جوز صدور الوقف من الكافر على نحو البيع والكنائس لا على نحو بيوت النيران محتاجا بأنّ الأول بيت عبادة لله سبحانه بخلاف الثاني ، مع أنّه قد تقرر أنّ الوقف عليها معصية ، وكأنّه نظر الى تأثير اعتقاد الواقف ففرّق بين المسلم والكافر في ذلك وفي الفرق نظر ، لأنّ ذلك لو أثّر لأثّر بالنسبة إلى الوقف على بيوت عبادة النيران.

اعلم أنّه قد سبق في كتاب الجهاد عند بحث البيع والكنائس : إنّه لا تصح وصية الكافر ببناء بيعة أو كنيسة ، ولا يخفى أنّ الحكم بصحة وقف الكافر عليهما مناف لما هنا.

ثم اعلم أنّ المراد بالصحة : ان كان هو الصحة عندهم فلا وجه لما ذكره والبحث عنه ، لأنّ البحث إنّما هو عن أحكام الإسلام ومع ذلك لا فرق بين الوقف والوصية للبيع والكنائس وغيرهما ، نظرا الى معتقد الواقف والموصي.

وإن كان المراد عندنا فيشكل ذلك ، لأنّ الحكم بصحته عندنا يقتضي تنفيذه ، وإلزام الوارث والوصي وناظر الوقف بالصرف إلى الوصية والموقوف عليهم لو امتنعوا ، وذلك محرّم ومنكر فكيف يجوز لحاكم الإسلام الإلزام بتنفيذه؟.

وإن حمل على أنّ المراد : أن لا نعرض إليهم فيه فهو خروج عن حقيقة الصحة إلى المجاز ، ومع ذلك فلا يفرّق بين الوقف والوصية ، ولا تكون المسألة على ذلك ذات قولين ، فإنّه القائل بعدم الصحة لا يمكنه أن يريد بها منع الكافرين من صرف الموصى به والموقوف على البيع والكنائس من الكافر حيث لا يقر أهلها عليها ، والقائل بالصحة لا يمكنه أن يريد بها الإلزام بالتنفيذ شرعا من الحاكم إذا رفع الأمر‌

٤٨

وفي وقفه على الذمّي خلاف.

والأقرب المنع في الحربي ، والصحة في المرتد عن غير فطرة.

______________________________________________________

اليه على نهج حكم بصحته.

قوله : ( وفي وقفه على الذمي خلاف ، والأقرب المنع في الحربي والصحة في المرتد عن غير فطرة ).

اختلف الأصحاب في جواز الوقف على الذمي على أقوال :

الأول : المنع مطلقا ، وهو قول سلاّر (١) ، وابن البراج (٢) ، لقوله تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ ) (٣) الآية ، والوقف نوع مودة فيكون منهيا عنه فلا يكون طاعة.

الثاني : الجواز مطلقا ، حكاه الشيخ في المبسوط (٤) ، واختاره نجم الدين بن سعيد (٥) ، لقوله تعالى ( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) (٦) الآية ، ولقوله عليه‌السلام : « على كل كبد حرّى أجر » (٧).

الثالث : الجواز إذا كان الموقوف عليه قريبا دون غيره ، وهو مختار الشيخين (٨) ، وأبي الصلاح (٩) ، وابن حمزة (١٠) ، لقوله تعالى : ( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا

__________________

(١) المراسم : ١٩٨.

(٢) المهذب ٢ : ٨٨.

(٣) المجادلة : ٢٢.

(٤) المبسوط ٣ : ٢٩٥.

(٥) شرائع الإسلام ٢ : ٢١٤.

(٦) الممتحنة : ٨.

(٧) عوالي اللئالي : ٩٥ حديث ٢ و ٣.

(٨) الشيخ المفيد في المقنعة : ١٠٠ ، والشيخ الطوسي في النهاية ٥٩٧ والمبسوط ٣ : ٢٩٤.

(٩) الكافي في الفقه : ٣٢٦.

(١٠) الوسيلة : ٤٤١.

٤٩

______________________________________________________

مَعْرُوفاً ) (١) و ( وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) (٢) والأوامر كثيرة في صلة الرحم ، وهذا القول ليس بعيدا من الصواب.

فإن قيل : قوله تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً ) الآية نص في المنع من ذلك ، لأن الوقف على الإنسان موادة له.

قلنا : أولا نمنع ذلك ، فإن المفهوم من الموادة غير ذلك ، ويؤيده قوله سبحانه في حق الأبوين الكافرين( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) ، فإنه ليس من الصحبة بالمعروف ترك صلتهما مع حاجتهما.

ولا يبعد أن يكون المراد من الآية : المباعدة لأعداء الله ، والتصلب في مجانبتهم على وجه لا يمنع صلة الرحم وحسن المصاحبة للوالدين المأمور بهما ، ويكون كل من الأمرين جاريا على ظاهره.

أو يقال : إن المباعدة بالنسبة الى كل شخص بحسب حاله ، ففي الوالدين والأقارب ما وراء الصلة المأمور بها بخلاف غيرهم.

والجواب عن قوله تعالى ( لا يَنْهاكُمُ ) الآية : أنه لا دلالة فيها على المواد ، وظاهرها يقتضي جواز الوقف على بعض الحربيين ، والمنع من بعض أهل الذمة الذين سبق منهم القتال.

ولعل المراد بها : النساء والصبيان ، إذ ليس من شأنهم القتال ، وهو قول بعض المفسرين ، بل قد قيل أنها منسوخة ، ويشكل بأنّه يلزم جواز الوقف على النساء والصبيان مطلقا ، وكيف كان فالأولى الاقتصار على الرحم ، وهو المشهور.

ووجه القرب في المنع من الوقف على الحربي : إنّ ذلك مناف للمباعدة والمجانبة المأمور بها ، لانتفاء القرابة المقتضية للصلة فيكون الوقف نوع مودة ويحتمل‌

__________________

(١) لقمان : ١٥.

(٢) العنكبوت : ٨.

٥٠

ويصحّ الوقف على الفاسق والغني.

ولو وقف على أقاربه اشترك الذكور والإناث بالسوية ، الأقرب والأبعد ، ويحمل على من يعرف بأنّه قرابة له

______________________________________________________

ضعيفا الجواز لعموم قوله عليه‌السلام : « على كل كبد حرى أجر » (١).

ووجه القرب في الصحة على المرتد عن غير فطرة إنّه بحكم المسلم ويشكل بأنّ ذلك في لحوق الأحكام له لا في جواز مودته والأصح أنّ المرتد كغيره من الكفّار أمّا المرتد عن فطرة فلا يجوز الوقف عليه أصلا إذا كان رجلا لوجوب قتله ، وأمّا المرأة فهي كالمرتد عن غيره فطرة.

قوله : ( ويصحّ الوقف على الفاسق والغني ).

المراد : صحة الوقف على الشخص الفاسق لكن لا من حيث كون وصف الفسق مناط الوقف ، لأنّه من هذه الجهة معصية فلا يصح.

قال المصنف في التذكرة : إذا وقف على الكفّار والفسّاق : فان كان ذلك لإعانتهم على فسقهم وكفرهم بطل الوقف قطعا ، وان كان لنفعهم في بقائهم فقد بيّنا الخلاف فيه (٢) فساوى بين الكفّار والفسّاق في الحكم ، ومقتضى عبارته أنّ في الوقف على الفسّاق لنفعهم في بقائهم خلافا ، وهو موضع تأمل ، اللهم إلاّ أن يريد بذلك الخلاف للعامة.

قوله : ( ولو وقف على أقاربه اشترك الذكور والإناث بالسويّة ، الأقرب والأبعد ، ويحمل على من يعرف بأنّه قرابة له ).

أمّا اشتراك الذكور والإناث فقد سبق ما يصلح أن يكون بيانا له ، وأمّا اشتراك الأقرب والأبعد فلأنّ الفرض شمول اسم القرابة لهما. ويستوون في القسمة ،

__________________

(١) عوالي اللآلئ : ٩٥ حديث ٣.

(٢) التذكرة ٢ : ٤٣١.

٥١

ولو شرط الترتيب ، أو التفضيل ، أو الاختصاص لزم.

ولو وقف على أخواله وأعمامه تساووا.

ولو وقف على أقرب الناس اليه ترتبوا كالميراث ، لكن يتساوون في الاستحقاق ، إلا أنّ يفضل.

ولو وقف في وجوه البر وأطلق فهو للفقراء ، والمساكين ، وكل مصلحة يتقرب بها الى الله تعالى.

______________________________________________________

لانتفاء المقتضي للتفضيل.

وقوله : ( ويحمل ... ) إشارة إلى معنى الأقارب ومن يراد بهم وتحقيقه : أنّ الأقارب من صدق عليه عرفا اسم القرابة ممّن اشترك معه في النسب ، فلو بعد الشخص جدا بحيث يكون الاشتراك بينه وبين الواقف في حد لا يعد مثله قريبا لم يدخل ، لأنّ المعتبر في ذلك العرف ، ولأنّه لو كان مطلق الاشتراك في النسب موجبا للقرابة لكان جميع الناس أقرباء لاشتراكهم في آدم.

قوله : ( ولو شرط الترتيب ، أو التفضيل ، أو الاختصاص لزم ).

لو شرط الترتيب في الأقارب بين الأقارب والأبعد ، أو بين الطبقة الاولى والثانية مثلا ، أو تفضيل الأقرب على الأبعد مثلا ، أو اختصاصه من دونه وجب اتباع الشرط ، لأنه شرط لا ينافي مقتضى الوقف فيجب الوفاء به.

قوله : ( ولو وقف على وجوه البر وأطلق فهو للفقراء والمساكين ، وكل مصلحة يتقرب بها الى الله تعالى ).

البر ، بكسر الباء : الصلة والخير والاتساع في الإحسان ، ذكر نحو ذلك في القاموس (١) ، فالوقف على وجوه البر أو على وجوه الخير وقف على وجوه القربات كلها‌

__________________

(١) القاموس المحيط : ٣٧٠.

٥٢

ويصرف الوقف على المنتشرين الى من يوجد منهم.

ولو وقف المسلم على الفقراء اختص بفقراء المسلمين ، ولو وقف الكافر اختص بفقراء نحلته.

______________________________________________________

كبناء القناطر ، وعمارة المساجد والمشاهد ، واعانة الحاج والزائرين ، وأكفان الموتى والحج والعمرة ، والغزو ، ونحو ذلك.

قوله : ( ويصرف الوقف على المنتشرين الى من يوجد منهم ).

لما كان الوقف على المنتشرين الّذين ليسوا بمنحصرين ليس وقفا على جملة أشخاصهم ، بل هو وقف على جهة مخصوصة ومصرفها أولئك المنتشرون ، فإذا وقف على بني هاشم مثلا ـ كان مصرف الوقف من كان هاشميا ـ لم يجب تتبع جميع المنتشرين في إيصال نماء (١) الوقف عليهم ، بل يجب صرفه الى من كان موجودا في البلد ، لرواية علي بن سليمان النوفلي ، عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : أنّه كتب إليه في مثل ذلك فأجاب : بأنّ الوقف لمن حضر البلد الذي هو فيه ، وليس لك أن تتبع من كان غائبا (٢).

وفي التذكرة اكتفى بالصرف إلى ثلاثة منهم في أول كلامه ، ثم قال : هكذا قال بعض الشافعية ، والأولى الصرف الى جميع من يحضر البلد منهم ، واحتج بالرواية المذكورة (٣).

وأعلم أنّه لا فرق في ذلك بين كون الوقف على من لا ينحصر في ابتداء الوقف وانتهائه ، وبه صرّح في التذكرة (٤) ، وظاهر الرواية يتناوله.

قوله : ( ولو وقف المسلم على الفقراء اختص بفقراء المسلمين ، ولو

__________________

(١) في « ك‍ » : جميع.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨ حديث ٣٧ ، الفقيه ٤ : ١٧٨ حديث ٦٢٧ ، التهذيب ٩ : ١٣٣ حديث ٥٦٣.

(٣) التذكرة ٢ : ٤٤٥.

(٤) التذكرة ٢ : ٤٤٥.

٥٣

ولو وقف على مصلحة فبطل رسمها صرف في وجوه البر.

المطلب الثالث : الموقوف ، وشروطه أربعة : أن يكون عينا ، مملوكة يصحّ الانتفاع بها مع بقائها ، ويمكن إقباضها‌

______________________________________________________

وقف الكافر اختص بفقراء نحلته ).

الحال ، فإنّه قاض بعدم إرادة فقراء كل ملّة ونحلة فيحمل على فقراء المسلمين ، لانتفاء ما يدلّ على غيرهم.

قوله : ( ولو وقف على مصلحة فبطل رسمها صرف في وجوه البر ).

هذا إذا لم يمكن صرف الوقف إليها بعد بطلان رسمها ، فلو أمكن تعيّن ، وإنّما يصرف الى وجوه البر حيث لا يمكن ذلك ، لأنّ عوده ملكا بعد خروجه عن ملك المالك على وجه الحبس باطل ، وأقرب شي‌ء إلى مراد الواقف صرفه في وجوه القربات ، لاشتراكها في القربة.

فإن قيل : صرفه في قربة تشابه تلك المصلحة التي بطل رسمها أقرب.

قلنا : لمّا بطل رسم المصلحة المخصوصة ، وامتنع عود الوقف ملكا كانت وجوه البر كلها بالنسبة الى عدم تعلق الوقف بها كلها على حد سواء ، لا أولوية لبعض على البعض الآخر ، والمشابهة وغيرها سواء في عدم شمول العقد لها ، ومجرد المشابهة لا دخل لها في تعلّق الوقف بها ، فيبطل القيد ويبقى أصل الوقف من حيث القربة.

قوله : ( يصحّ الانتفاع بها مع بقائها ).

لو قال : يصحّ الانتفاع بها دائما مع بقائها ، ليخرج الرياحين وما أشبهها لكان أحسن ، فقد صرّح المصنف بعدم جواز وقفها في التذكرة (١) ، وتردد الشهيد في الدروس (٢) ، وعدم الجواز لا يخلو من قوة ، لأنّ المفهوم من النصوص كون الوقف ذا‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤٣١.

(٢) الدروس : ٢٣٠.

٥٤

فلا يصحّ وقف الدين ، ولا المطلق كفرس غير معيّن وعبد في الذمة أو ملك مطلق ، ولا ما لا يصحّ تملكه كالخنزير ، نعم لو وقفه الكافر على مثله فالأقرب الصحة.

______________________________________________________

بقاء (١) ، وصحة غيره تحتاج الى دليل.

قوله : ( ولا يصح وقف الدين ).

إجماعا ، سواء كان على موسر أو معسر ، حالا أو مؤجلا.

قوله : ( ولا المطلق كفرس غير معين ، وعبد في الذمّة ، أو ملك مطلق ).

أي : وكذا لا يصحّ وقف الشي‌ء المطلق الّذي ليس بعين من الأعيان ، كما لو وقف فرسا ولم يعين وإن وصفها ، أو عبدا كذلك.

والمراد بقوله : ( غير معيّن ) إنّه غير مشخّص لا أنّه غير موصوف.

وقوله : ( في الذمّة ) لو اعتبر في كل من الفرس والعبد أمكن.

والمراد بقوله : ( أو ملك مطلق ) أن يقف ملكا من الأملاك أيّها كان ولا يشخصه ، ويجوز أن يراد به : أن يقول : وقفت ملكا ويقتصر على ذلك فإنّ الوقف لا يصح في شي‌ء من هذه المواضع اتفاقا.

قوله : ( ولا ما لا يصحّ تملكه كالخنزير ، نعم لو وقفه الكافر على مثله فالأقرب الصحة ).

وجه القرب : أنّه مملوك للكافر يصحّ نقله بالبيع ، ونحوه من أسباب النقل فجاز وقفه : لأن المانع من وقفه في حق المسلم إنّما هو عدم كونه مملوكا له ، ويحتمل العدم لامتناع التقرب به.

ولا ريب أن البحث في هذه المسألة فرع صحة الوقف من الكافر ، وإنّما تتحقق صحته إذا لم يشترط فيه التقرب ، أو اكتفينا بتقرب الكافر بحسب معتقده وإن‌

__________________

(١) في « ك‍ » : واقعا.

٥٥

ولا الحر نفسه ، ولا ما لا يملكه الواقف كملك الغير وان أجاز المالك فالأقرب اللزوم.

______________________________________________________

كان بعيدا ، لأن التقرب إنّما يكون بالفعل المثمر للقرب ، ولهذا لا يصحّ من الكافر شيئا من العبادات.

ثم إنّه لا دليل ينهض على اشتراط قصد التقرب أزيد من إطلاق اسم الصدقة عليه ، ولا يخفى أنّ اشتراط التقرب في صدق اسم الصدقة محل نظر. نعم قد يقال : لمّا كان لله تعالى فيه حق اشترط كونه قربة في نفسه ، فإذا تحقق إنّه ما لم تثبت صحة وقف الكافر لا يمكن الخوض في هذه المسألة فاعلم أنّه بناء على الصحة لا ريب أنّ الخنزير إذا لم يتظاهر به أهل الذمّة معدود مالا لهم كسائر الأموال ، والمعتبر كونه قربة بالنسبة إلى الوقف إنّما هو المصرف دون نفسه المال ، إذ لا يعتبر فيه إلاّ عده مالا في نظر الشارع ، فلا فرق حينئذ بين وقف الكافر الشاة أو الخنزير ، وهذا إنّما هو إذا ترافعوا إلينا ، وإلاّ فلا نتعرض لهم فيما يجري بينهم إلاّ المناكير إذا تظاهروا بها ، فما قرّبه المصنف هو الأصحّ.

قوله : ( ولا الحر نفسه ).

يجوز في : ( نفسه ) أن يقرأ منصوبا على أنّ المعنى : ولا أن يقف الحر نفسه ، ومجرورا على أنّه مؤكد للمجرور ، ( ووجه عدم الصحة : إن شرط الوقف الملك وهو منتف هنا ) (١).

قوله : ( ولا ما لا يملكه الواقف كملك الغير ، وإن أجاز المالك فالأقرب اللزوم ).

أي : لا يصحّ وقف ما لا يملكه الواقف ، والمراد بعدم الصحة : عدم اللزوم ، وإلاّ لكان منافيا لقوله : ( وإن أجاز فالأقرب اللزوم ) ، ووجه القرب : أنّه عقد صدر من‌

__________________

(١) لم ترد في « ك‍ ».

٥٦

ولا المستأجر ، ولا الموصى بخدمته ،

______________________________________________________

صحيح العبارة قابل للنقل وقد أجاز المالك فيصح كالبيع والنكاح.

ويحتمل العدم : لانتفاء دليل الصحة ، وما سبق ضعيف ، فإنّ عبارة الفضولي لا أثر لها ، وتأثير الإجازة غير معلوم مع أنّ بعض أقسام الوقف فك ملك فلا أثر لعبارة الغير فيه وقال المصنف في التذكرة في هذه المسألة : ولو أجاز المالك قيل : يصحّ : لأنّه كالوقف المستأنف (١) ، ولم يفت بشي‌ء ، وكذا توقف شيخنا الشهيد في الدروس (٢) ، وعدم الصحة قوي‌

قوله : ( ولا المستأجر ، ولا الموصى بخدمته ).

إذا آجر المالك العين ثم وقفها قال في التذكرة : إن أقبضها بإذن المستأجر فلا بأس ، وإلاّ لم يصحّ القبض ولا يثمر لزوم الوقف ، فحينئذ وقف المالك العين المؤجرة لا مانع من صحته ، وكذا العين المغصوبة ، وقال بعض الشافعية إنّ وقف المؤجرة مخرج على الوقف المنقطع الأول (٣).

وعبارة المصنف هنا تحتمل أن يريد بها : عدم صحة وقف المستأجر من المالك ، لكنه يشكل بأنّه لا يقع فاسدا ، غاية ما في الباب أنّه لا يتم إلاّ بالقبض ويحتمل أن يريد بها : عدم صحة الوقف من المستأجر ، لأنّه ليس بمالك للعين فلا يملك نقلها ولا حبسها ، والمنافع لا يتصور فيها معنى الوقف.

وكذا القول في الموصى بخدمته إذا وقفه الموصى له ، ولو وقفه الورثة فقد قال في التذكرة : وقف الورثة الموصى بخدمته شهرا كوقف المستأجر (٤).

وهنا شي‌ء ، وهو أنّ الوصية بالخدمة لو كانت دائما ففي صحة الوقف حينئذ‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤٣١.

(٢) الدروس : ٢٢٩.

(٣) التذكرة ٢ : ٤٣٢ ، المجموع ١٥ : ٣٢٦.

(٤) التذكرة ٢ : ٤٣٢.

٥٧

ولا وقف الطعام واللحم والشمع ، وفي الدراهم والدنانير اشكال ، ولا وقف الآبق لتعذر تسليمه ويصح وقف المشاع ،

______________________________________________________

تردد ، لأنّ العين حينئذ مسلوبة المنفعة فيكون كوقف ما لا منفعة فيه ، ولم أظفر فيه بكلام للأصحاب ، ولعلّ اقتصار المصنف في التذكرة على ذكر الموصى بخدمته شهرا لاستشعاره شيئا في إطلاق الحكم.

قوله : ( ولا وقف الطعام واللحم والشمع ).

لأنّ منفعة هذه المطلوبة منها عرفا إنّما تكون بإتلافها ، ولا يعتد بمنفعة الشمع لنحو الزينة وما جرى هذا المجرى ، وكذا كل ما لا ينتفع به إلاّ بإتلافه (١) لا يصحّ وقفه ، لأنّ الوقف يقتضي تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة ، وهو منتف هنا.

قوله : ( وفي الدراهم والدنانير إشكال ).

ينشأ : من أنّ المنفعة المطلوبة منهما عرفا إنّما تكون بإنفاقهما وذلك إتلاف ، ومن إمكان منفعة التحلي بهما والضرب على سكتهما ، فالإشكال ناشى‌ء من التردد في أن لهما منفعة مقصودة مع بقائهما وعدمه؟ ونقل في المبسوط الإجماع على المنع إلاّ ممن شذ (٢) ، والحق أنّه إن كان لهما منفعة مقصودة عرفا سوى الإنفاق صحّ وقفهما ، وإلاّ فلا.

قوله : ( ولا وقف الآبق لتعذر تسليمه ).

ظاهره إنّه لا يصحّ وقفه كما لا يصحّ بيعه وإن أمكن تسليمه بعد العقد ، وليس كذلك بل العقد صحيح ويتم بالقبض إن أمكن ، فلو تعذر أصلا بطل ، والفرق بينه وبين البيع : إنّه معاوضة فيقتضي إمكان تسليم العوض ، ولاختصاص البيع بالنص.

قوله : ( ويصحّ وقف المشاع ).

لأنّ مقصود الوقف ـ وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ـ يحصل به ، ومنع‌

__________________

(١) في « ك‍ » : بإبلائه.

(٢) المبسوط ٣ : ٢٨٨.

٥٨

ومن ينعتق على الموقوف عليه فيبقى وقفا ، وقبضه كقبض المبيع.

ويصحّ وقف كل ما ينتفع به منفعة محللة مع بقائه كالعقار ، والثياب ، والأثاث ، والآلات المباحة ، والحلي ، والسلاح ، والكلب المملوك والسنور ، والشجر ، والشاة ، والأمة والعبد

______________________________________________________

من ذلك بعض العامة (١).

قوله : ( ومن ينعتق على الموقوف عليه فيبقى وقفا ).

أي : يصحّ وقف من ينعتق على الموقوف عليه كغيره ، ولا ينعتق بدخوله في ملكه بالوقف على القول به ، بل يبقى وقفا ، لأنّ العتق دائر مع الملك التام ، وملك الموقوف عليه غير تام بل هو محبوس لا يقبل الزوال.

قوله : ( وقبضه كقبض المبيع ).

أي : قبض الموقوف كقبض المبيع : إمّا بالتخلية مطلقا ، أو فيما لا ينقل ويحوّل كما سبق تحقيقه ، وقبض المشاع فيهما أيضا سواء.

قوله : ( ويصحّ وقف كلّ ما ينتفع به منفعة محللة مع بقائه ).

هذا ضابط الموقوف وكان الأولى ذكره في أول الباب ، والمراد بـ ( ما ينتفع به ) كذلك : ما يكون له منفعة مقصودة عرفا ، فلا يعتد بالنفع اليسير الّذي لا يعتد بمثله في العادة كالتفرج على الدراهم ، ونحو ذلك.

قوله : ( كالعقار ، والثياب ، والأثاث ، والآلات المباحة ، والحلي ، والسلاح ، والكلب المملوك ، والسنور والشجر ، والشاة ، والأمة ، والعبد ).

وكذا المصاحف والكتب ، لأن معنى الوقف متحقق في ذلك كله ، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « أما خالد‌

__________________

(١) المغني لابن قدامة ٦ : ٢٦٦. الشرح الكبير المطبوع مع المغني ٦ : ٢٦٦ ، اللباب ٢ : ١٨١.

٥٩

دون المستولدة ، وفي وقف المستولدة نظر.

ولو جعل علو داره مسجدا دون السفل ، أو بالعكس ، أو جعل‌

______________________________________________________

فإنه قد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله » (١).

وقال أبو حنيفة : لا مدخل للوقف في الحيوانات وفي الكتب ، (٢) وعن مالك : إن المنقول مطلقا لا يجوز وقفه (٣).

قوله : ( دون المستولدة ).

فإنه لا يصح وقفها ، لأن الاستيلاد يقتضي المنع من نقلها عن ملك السيد الى ملك غيره ، والوقف يقتضي النقل الى ملك الموقوف عليه ، ولأنه تدخلها حرمة العتق فكأنها عتيقة ، ولأن الاستيفاد يقتضي انعتاقها بموت السيد ، والوقف يقتضي الدوام ما بقي الموقوف فيتنافيان.

واحتمل في التذكرة الجواز ، لعدم خروجها عن الملكية ، ومنع بيعها لا يقتضي منع وقفها ، لأنّ الوقف يشبه العتق لاشتراكها في إزالته الملك عن المالك الى وجه من وجوه القرب ، (٤) وليس بشي‌ء.

وربما بني الجواز وعدمه على أن الملك في الوقف هل ينتقل عن الواقف أم لا؟ فإن قلنا بالأول لم يصح لأنها لا تقبل النقل ، والاّ صح. ويضعف بأنه إن نفذ اقتضى سقوط حقها من الانعتاق بموت المولى ، ولم يذكروا هنا صحة وقفها حبسا ، لاشتراكهما في أصل معنى الحبس كما في الوقف المنقطع الآخر ، ولو ذكر هنا لأمكن.

قوله : ( ولو جعل علو داره مسجدا دون السفل ، أو بالعكس أو جعل‌

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٥، صحيح مسلم ٢ : ٦٧٧ حديث ١١.

(٢) بدائع الصنائع ٦ : ٢٢٠ ، الوجيز : ٢٤٤.

(٣) الوجيز : ٣٤٤.

(٤) التذكرة ٢ : ٤٣٢.

٦٠