الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٣
ولو ماتت في الطلق فعليه القيمة. وكذا لو وطأ أمة غيره لشبهة. ولا يضمن زوجته ، ولا المزني بها الحرة المختارة ، لأن الاستيلاد إثبات يد ، والحرة لا تدخل تحت اليد.
______________________________________________________
هو سبق حق المرتهن ، الذي لا دليل على بطلانه ، فيكون القول ببقاء حق الرهانة ، وجواز البيع مطلقا أقوى ، وإن كان تفصيل الخلاف أحوط.
قوله : ( ولو ماتت في الطلق فعليه القيمة ).
هذا إذا لم يكن الإحبال بالإذن ، فاما معه فالصواب أن لا قيمة هنا. والمراد بوجوب القيمة : جعلها رهنا كالعين ، محافظة على حق المرتهن.
قوله : ( وكذا لو وطأ أمة غيره لشبهة ).
أي : وكذا تجب القيمة للمالك لو وطأ شخص أمة غيره لشبهة ، فماتت في الطلق ، لأن الأمة مال ، فتدخل تحت اليد ، وتصير مضمونة ، فإذا استند تلفها الى سبب صادر عنه ، موجب للضمان عليه ، وجبت عليه القيمة.
ولا يضر في ذلك كون الوطء لشبهة ، لأنها إنما تمنع الإثم ، لا إسقاط ضمان مال الغير إذا استند إتلافه اليه بكون سببه منه.
ولا فرق في هذا الحكم ، بين كون الوطء لشبهة ، وعدمه ، فكان عليه أن يسكت عن قوله : ( لشبهة ) ، لأنه يوهم عدم الضمان بدونها. إلا أن يقال : يدل على الضمان بدونها بطريق أولى ، لأن ضمانه مع عدم التكليف يقتضي الضمان معه بطريق أولى.
قوله : ( ولا يضمن زوجته ).
لأن الوطء مستحق شرعا ، فكيف يعقل ترتب الضمان عليه ، إذ لا عدوان من قبله.
قوله : ( ولا المزني بها الحرة المختارة ، لأن الاستيلاد إثبات يد ، والحرة لا تدخل تحت اليد ).
أي : الاستيلاد ، وهو الوطء الذي ترتب عليه الاحبال ، والطلق تصرف يد ، والحرة لا تدخل تحت اليد ، لأن الذي يدخل تحت اليد هو المال دون الحر ،
وفي اعتبار القيمة يوم التلف ، أو الإحبال أو الأعلى نظر.
ولو باع الراهن بإذن المرتهن صح ، ولا تجب رهينة الثمن إلا أن يشترط.
______________________________________________________
ولهذا لا يضمن منافع الحر ، إلا بالاستيفاء ، بخلاف منافع العبد ، فإنها تضمن بمجرد وضع اليد عليه وإن لم يستوف ، لأنه مال.
واحترز بـ ( الحرة ) عن الأمة ، فإنها تضمن مطلقا ، وب ( المختارة ) عن المكرهة.
فلو أكره حرة على الزنا ، وأحبلها ضمنها لو ماتت في الطلق ، كما صرح به المصنف في التذكرة (١) ، لأنه أحدث سبب هلاكها فيها على كره منها ، فيضمن ديتها التي تجب على العاقلة.
قوله : ( وفي اعتبار القيمة يوم التلف ، أو الإحبال ، أو الأعلى نظر ).
المراد بذلك : القيمة السوقية ، فلو نقصت القيمة لنقصان في العين بعيب ونحوه ، فهو مضمون قطعا ، أما تفاوت السوق باعتبار وقت التلف والإحبال وما بينهما ، ففي اعتباره حيث تجب القيمة في المواضع السالفة كلها ، أو في الرهن الذي هو المقصود والباقي يحال عليه نظر ، والأصح اعتبار قيمته حين التلف ، لأنه حين الانتقال الى ضمان القيمة.
وقد سبق لهذا نظائر في البيع الفاسد ، والعين المغصوبة ، وسيأتي بعد ذلك.
واعلم أن المراد بـ ( الأعلى ) في قول المصنف : ( أو الأعلى ) ، الأعلى من يوم الإحبال إلى حين التلف ، لأن جميع ذلك الزمان العين فيه مضمونة ، وإن كان المتبادر من قوله : ( الأعلى ) بعد ذكر ( يوم التلف ) ، و ( الإحبال ) أن المراد الأعلى منها.
__________________
(١) التذكرة ٢ : ٢٩.
ولو قال : أردت بالإطلاق أن يكون الثمن رهنا لم يقبل.
ولو ادعى شرط جعل الثمن رهنا حلف المنكر.
ولو انعكس الفرض لم يكن للمرتهن التصرف في الثمن قبل الأجل.
ولو باع الراهن ، فطلب المرتهن الشفعة ففي كونه إجازة إشكال ،
______________________________________________________
قوله : ( ولو قال : أردت بالإطلاق أن يكون الثمن رهنا لم يقبل ).
أي : بإطلاق الإذن ، فيكون مقتضاه الاعتراف بإطلاق الاذن في البيع ، ودعوى إرادة كون الثمن رهنا بذلك اللفظ المطلق ولا أثر لهذا ، لأن الاعتبار بما دل عليه اللفظ ، ولذلك لم تتجه له المطالبة بالثمن ، ولا إثباته بيمينه.
قوله : ( ولو ادعى شرط جعل الثمن رهنا حلف المنكر ).
قيل : أي فائدة لقوله : ( حلف المنكر ) ، ولم يقل : حلف الراهن ، فإنه أظهر ، ولا تتصور إرادة غير الراهن بالمنكر هنا.
قلنا : فائدته أن فيه إشعارا بعلة تقديم قوله بيمينه ، وهي كونه منكرا أخذا بعموم : « واليمين على من أنكر » (١).
قوله : ( ولو انعكس الفرض ، لم يكن للمرتهن التصرف في الثمن قبل الأجل ).
المراد بانعكاس الفرض : أن يبيع المرتهن بإذن الراهن ، وإنما لم يكن له التصرف بالثمن قبل الأجل ، لعدم استحقاقه أخذ دينه حينئذ.
قوله : ( ولو باع الراهن ، فطلب المرتهن الشفعة ، ففي كونها إجازة إشكال ).
ينشأ : من كون اللفظ لا يدل على الإجازة بإحدى الدلالات ، أما المطابقة والتضمن فظاهر ، وأما الالتزام فلانتفاء اللزوم البيّن. ومن أن طلب الشفعة إنما يكون طلبا صحيحا حيث يستحق ذلك ، وإنما يستحقه بعد تحقق البيع المعتبر
__________________
(١) التهذيب ٦ : ٢٢٩ حديث ٥٥٤.
فإن قلنا به فلا شفعة ،
ولو أسقط حق الرهانة فله الشفعة إن قلنا بلزوم العقد.
______________________________________________________
شرعا ، وإنما يتحقق ذلك إذا أجازه المرتهن.
ويجب تنزيل طلب المكلف على الوجه الصحيح ، لوجوب صيانة كلامه شرعا عن الهذرية مع الإمكان ، فيكون دالا بالاقتضاء على الإجازة ، ودلالة الاقتضاء معتبرة ، لثبوت الدال عليها ، وإن لم تكن دلالة الالتزام ، لأن هذه الدلالة لا تستفاد من اللفظ بمجرده ، بل بمعونة شيء آخر.
ودلالة الالتزام تستفاد من اللفظ بمجرده ، بشرط العلم بالوضع ، وتحقيق اللزوم ، وهذا الأخير أقوى. وفي قول المصنف : ( ففي كونه إجازة ) تسامح ، لأن طلب الشفعة ليس نفسه إجازة كما هو معلوم ، وإنما هي من مقتضياته على الاحتمال.
قوله : ( فان قلنا به فلا شفعة ).
أي : فان قلنا بكون طلب الشفعة إجازة للبيع فلا شفعة ، لأن الإجازة رضى بالبيع ، والرضى بالبيع يسقط الشفعة.
واعلم أن الشارح ولد المصنف بنى المسألة على أن الشفعة تثبت بمجرد العقد أم بلزومه؟ فعلى الأول : لا تكون إجازة ، لعدم الاقتضاء ، فلا تسقط الشفعة بطلبها. وعلى الثاني : تكون إجازة فيسقط به ، كما بيناه (١). وفيه نظر ، لأنه لا يعقل ثبوت الشفعة بمجرد العقد ، الذي هو الإيجاب والقبول. لأن هذا بمجرده لا يقتضي البيع ، وإنما البيع : هو نفس نقل الملك ، أو نفس الإيجاب والقبول المقتضيين لنقل الملك أو الانتقال على اختلاف الآراء ـ وقد سبق بيانه في أول البيع ـ فكيف يعقل إثبات الشفعة التي هي تابع من توابع البيع بمجرد العقد ، ومع ذلك فلا يشترط بعد تحقق صحة البيع لزومه لثبوتها ، فلا يستقيم ما ذكره.
__________________
(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٢.
ويجوز أن يشترط المرتهن الوكالة في العقد لنفسه ، أو لغيره ، أو وضعه على يد عدل ، وليس للراهن فسخ الوكالة حينئذ ، نعم لو مات بطلت دون الرهانة. ولو مات المرتهن ، فإن شرط في العقد انتقال الوكالة إلى الوارث لزم ، وإلاّ لم تنتقل ،
______________________________________________________
وفي قول المصنف بعد هذا : ( ولو أسقط حق الرهانة فله الشفعة إن قلنا بلزوم العقد ) ما يدل على عدم صحة بنائه ، لأنه بعد إسقاطه الرهانة حكم بأنه يستحق الشفعة ، على تقدير القول بلزوم العقد ، لأنه حينئذ يكون بيعا صحيحا ، وبدونه هو كالفضولي لا يثمر ملكا.
ومقتضاه أنه لا يستحق شفعة على القول بعدم اللزوم ، إذ ليس بيعا ، ولا يثمر ملكا ، فلو كان بناء الشارح للإشكال صحيحا ، لكان جزم المصنف باشتراط القول بلزوم العقد في ثبوت الشفعة منافيا للتردد المستفاد من الاشكال السابق ، والمعتمد سقوطها بطلبها ، لاقتضائه الإجازة كما قررناه.
قوله : ( وليس للراهن فسخ الوكالة حينئذ ).
أي : حين اشتراطها في العقد لنفسه ولغيره ، لوجوب الوفاء بالعقد اللازم وشروطه ، وهذا مما يدل على أن بعض الشروط تصير لازمة ، إذا لم يكن المشروط فعل شيء يتحقق فعله بعد العقد.
قوله : ( نعم لو مات بطلت دون الرهانة ).
هذا استدراك ، وبمعنى الاستثناء مما تقدم ، أي : الوكالة المشروطة في العقد تبطل بموت الراهن ، لأن الوكالة استنابة في فعل يختص بحال الحياة ، فإن الوكيل ينعزل بموت الموكل.
قوله : ( ولو مات المرتهن ، فإن شرط في العقد انتقال الوكالة إلى الوارث لزم ، وإلاّ لم تنتقل ).
لأن اشتراط كون فلا وكيلا ، وانتقال الوكالة عنه في حال مخصوص لا ينافي مقتضى الرهن ، ولا الوكالة ، ولا شيئا من شروطها ، فيجب الوفاء به ، ويكون لازما. وإن لم يشترط الانتقال المذكور في العقد بطلت الوكالة بموت
أما الرهينة فتنتقل بالميراث كالمال بين الورثة.
ولو أقرّ المرتهن بالدين انتقلت الرهينة ، دون الوكالة والوصية.
______________________________________________________
المرتهن ، لأن موت الوكيل يقتضي بطلان الوكالة.
قوله : ( أما الرهينة فتنتقل بالميراث ، كالمال بين الورثة ).
لما كانت الرهينة حقا من الحقوق المتعلقة بالمال وجب انتقالها بالإرث كما ينتقل المال ، ويكون الحكم في استحقاقها كاستحقاق المال بين الورثة.
والميراث في قول المصنف : ( فتنتقل بالميراث ) يراد به : الإرث ، وهو سبب الاستحقاق ، فيكون مصدرا ميميا.
قوله : ( ولو أقرّ المرتهن بالدين انتقلت الرهينة دون الوكالة والوصية ).
أي : لو أقرّ المرتهن بالدين ـ الذي وقع الرهن به ـ لآخر ، وأنه كان وكيلا في الرهانة به صح الإقرار ، ويثبت كون الدين والرهانة به حقا للمقر له ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، وقد انحصر الحق في ذلك بحسب الظاهر في المقر ، فينفذ لا محالة.
ولو كان قد اشترط المرتهن في عقد الرهن ، أو غيره من العقود اللازمة كونه وكيلا في البيع حال حياة الراهن ، ووصيا في بيعه بعد موته لم ينتقل ذلك الى المقر له ، لأنه خلاف المشروط ، ولأن ذلك استنابة عن الراهن لا حقّ يختص به المرتهن ، ليعقل نفوذ إقراره فيه.
واعلم أن في عبارة المصنف عدة مناقشات :
أ : قوله : ( انتقلت الرهينة ) فإنه لا انتقال هناك ، بل الرهينة بمقتضى الإقرار حق للمقر له من أول الأمر.
ب : انه إنما تثبت الرهينة للمقر له بشرط كونه وكيلا عنه ، واعترافه بأنه أوقعها عنه ، وظاهر العبارة أن مجرد إيقاع الرهانة بين البراهن والمرتهن كاف في ثبوتها.
ولو امتنع الراهن من الأداء وقت الحلول باع المرتهن إن كان وكيلا ، وإلاّ فالحاكم ، وله حبسه حتى يبيع بنفسه.
الفصل الرابع : الحق :
وشروطه ثلاثة : أن يكون دينا لازما ، أو آئلا إليه ، يمكن استيفاؤه منه ، فلا يصح الرهن على الأعيان وإن كانت مضمونة كالغصب ، والمستعار مع الضمان ، والمقبوض بالسوم على اشكال ، ولا على ما ليس بثابت حالة الرهن ، كما لو رهن على ما يستدينه ، أو على ثمن ما يشتريه منه ،
______________________________________________________
ج : ان العبارة خالية من الدلالة على ما يراد بقوله : ( والوصية ) ، فإنه وإن جرى للوكالة في بيع الرهن ذكر ، لكن لم يجر للوصية ذكر أصلا ، ففي دلالة اللفظ على المعنى المراد شدة خفاء.
قوله : ( والاّ فالحاكم ).
فإن لم يكن موجودا باع بنفسه ، ولو شهّد شاهدي عدل كان أولى ، ولو تعذر إثبات الرهانة عند الحاكم باع بنفسه وإن كان مع وجود الحاكم ، لئلا يضيع حقه.
قوله : ( وله حبسه حتى يبيع بنفسه ).
لأن ذلك حق عليه ، وكذا تعزيره.
قوله : ( أن يكون دينا لازما ، أو آئلا إليه ).
المراد بكونه لازما : أن يكون ثابتا في الذمة ، فإنه سيأتي أن الثمن يصح الرهن به في مدة الخيار ، وبكونه آئلا إلى اللزوم : أن يكون ثبوته في الذمة بالقوة القريبة من الفعل ، كما في مسألة التشريك بين الرهن وسبب الدين.
قوله : ( فلا يصح الرهن على الأعيان ، وإن كانت مضمونة كالغصب ، والمستعار مع الضمان ، والمقبوض بالسوم على إشكال ).
الإشكال في الأعيان المضمونة خاصة ، ومنشؤه : من أن مقتضى الرهن استيفاء المرهون ، وفي الأعيان يمتنع ذلك لامتناع استيفاء العين الموجودة من
______________________________________________________
شيء ، آخر ، ومن أن معنى التوثق حاصل باستحقاق أخذ عوض العين عند تلفها من المرهون ، وذلك هو المقصود من الرهن ، إذ المعقول منه كونه وثيقة للحق المرهون به على أن تستوفي منه عند الحاجة ، وهذا كما يصدق في الرهن على الدين ، يصدق على الرهن في محل النزاع.
فان قيل : فعلى هذا يجوز الرهن على غير المضمون من الأعيان ، لثبوت التوثق بهذا المعنى في الرهن عليها.
قلنا : لما لم تكن مضمونة لم يكن تلفها موجبا لثبوت شيء في الذمة ، لانتفاء الضمان ، فلم يتحقق مقصود الرهن بالنسبة إليها.
فإن قيل : حيث أن الرهن وثيقة تستوفي منه عند الحاجة ، لزم القول بصحته هنا ، لإمكان عروض الحاجة بالتلف بعد التعدي.
قلنا : لما لم يكن الضمان متحققا ، كان المعنى المصحح للرهن منتفيا ، بخلاف المضمونة.
فإن قيل : المصحح للرهن ، كونه بحيث يستوفى منه عند الحاجة ، وهو ثابت في الموضعين.
قلنا : لما كانت الأعيان مضمونة ، كان المصحح للرهن موجودا بالقوة القريبة من الفعل ، بخلاف غير المضمونة ، فإنه لا مصحح فيها بالفعل ، ولا بالقوة القريبة.
ويمكن أن يقال : ان الرهن في الأعيان المضمونة على العهدة الثابتة ، وهي تعلق ضمان الأعيان بالذمة على تقدير التلف ، لأنها حق ثابت في الحال.
ولا يقال : إن المرهون به لا يمكن استيفاؤه هنا من المرهون ، لأن المطلوب استيفاؤه هو المقصود من تلك العهدة ، وهذا المعنى منتف في الأعيان الغير المضمونة.
أو يقال : ان الرهن على هذه الأعيان ، من جهة تعلق عهدة ضمانها على تقدير التلف بالذمة ، وهذا منتف أيضا فيما ليست بمضمونة.
فلو دفعه الى المرتهن ثم اقترض لم يصر بذلك رهنا.
______________________________________________________
والأوجه في الاستدلال أن يقال : ان الرهن في محل النزاع عقد صدر من أهله في محله ، ولا مانع إلاّ تخيل كون هذه الأعيان لا تستوفي من الرهن ، فانتفى مقصوده فامتنع صحته.
وهذا خيال ضعيف ، فان استيفاءها إنما يكون عند الحاجة لا مطلقا ، ومحل الحاجة هنا : هو حال التلف ، وفي تلك الحال هو ممكن ، لأن المراد باستيفائها : هو أخذ عوضها الواجب شرعا ، والاّ لامتنع الرهن على الثابت في الذمة مثله ، إذ من المعلوم أن ذلك بعينه لا يستوفى بشيء من ثمن الرهن ، فعلى هذا يجب الحكم بصحته ، لثبوت المقتضي بعموم النصوص وانتفاء المانع. ولا يرد لزوم مثل ذلك في غير المضمونة لوجهين :
أ : ثبوت الإجماع على عدم الجواز فيها ، ووقوع الخلاف هنا.
ب : أن يكون الاعتبار المصحح للرهن في المضمونة منتفيا فيها ، وهو تعلق عهدتها في الذمة ، وهذا القول قوي.
ومثله أخذ الرهن على الثمن للمشتري ، أو المبيع للبائع على تقدير ظهور فساد البيع ، وقد صرح باستوائهما في الحكم المصنف في التحرير (١) ، وشيخنا الشهيد في الدروس (٢).
وإن كان المصنف في التذكرة ـ مع قوله بصحة الرهن على الأعيان المضمونة ـ منع من الرهن بعهدة البيع (٣) ، وليس بواضح. وما علل به من منعه الارتفاق مردود ، لورود مثله في الرهن على ثمن المبيع مؤجلا ، والظاهر أن أخذ الرهن على الصحة حذرا من نقصانها كالرهن على المبيع.
قوله : ( فلو دفعه الى المرتهن ، ثم اقترض لم يصر بذلك رهنا ).
رد بذلك على أبي حنيفة ، ومالك ، وبعض الشافعية ، حيث قالوا : ان من دفع الى غيره ثوبا ، وقال : رهنتك هذا على عشرة دراهم تقرضنيها غدا ، وسلم اليه
__________________
(١) تحرير الأحكام : ٢٠٥.
(٢) الدروس : ٤٠٢.
(٣) التذكرة ٢ : ٢٣.
ولو شرك بين الرهن وسبب الدين في العقد ، ففي الجواز إشكال ينشأ : من جواز اشتراطه في العقد فتشريكه في متنه آكد ، ومن توقف الرهن على تمامية الملك ، لكن يقدّم السبب فيقول : بعتك هذا العبد بألف ، وارتهنت الدار بها ، فيقول : اشتريت ورهنت ، ولو قدّم
______________________________________________________
الثوب ، ثم أقرضه الدراهم لزم الرهن (١).
ووجه البطلان : مع إجماعنا أن العقود إذا شرط تأخير مقتضاها ، لم تحقق الإنشاء الصريح للفعل ، المطلوب ثبوته حالا ، المعتبر فيه لفظ الماضي ، فلا تكون صحيحة.
قوله : ( ولو شرك بين الرهن وسبب الدين في عقد ، ففي الجواز إشكال ، ينشأ : من جواز اشتراطه في العقد ، فتشريكه في متنه آكد ، ومن توقف الرهن على تمامية الملك ).
أما الوجه الأول : فما ادعاه فيه من الآكدية غير واضح ، فان اشتراط الرهن على ثمن المبيع في العقد ، الذي يقتضي وجوبه وثبوته ، غير إنشاء عقد الرهن ، والمشروط بثبوت الحق في الذمة هو الثاني ، دون الأول.
ولأن اشتراط الرهن ، مقتضاه إثبات استحقاق الرهن على الثمن بعد ثبوته. واما الرهن : فإنه إنشاء التوثق ، وإنما يكون بحق ثابت ، إذ لا يكاد يعقل معنى الوثيقة بحق لم يثبت بعد.
وأما الوجه الثاني ففيه نظر ، لأن الرهن غير متوقف على تمامية الملك ، بل على أصل الاستحقاق والثبوت ، إلا أن يريد بتمامية الملك ذلك ، من حيث أنه لا يثبت إلا بكمالية سببه ، وهو خلاف المتبادر.
ولو قيل في وجه الإشكال : إن منشأه : الشك في أن حصول سبب الوجوب كاف في صحة الرهن وعدمه.
قوله : ( لكن يقدم السبب فيقول : بعتك هذا العبد بألف وارتهنت الدار بها ، فيقول : اشتريت ورهنت ، ولو قدّم الارتهان لم
__________________
(١) المغني لابن قدامة ٤ : ٣٩٩ ، المجموع ١٣ : ١٨٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٧٤ ، الوجيز ١ : ١٦١.
الارتهان لم يصح ، ولو رهن على الثمن في مدة الخيار ، أو على مال الجعالة بعد الرد ، أو على النفقة الماضية أو الحاضرة صح ، لا على المستقبلة.
______________________________________________________
يصح ).
المراد : تقديم السبب إيجابا وقبولا ، فلو تأخر فيهما أو في أحدهما لم يصح ، لتقدم الرهن حينئذ على سبب الدين المقتضي لصحته ، وهو ظاهر اختياره في التذكرة (١).
ويشكل على الصحة في المسألة تقدم قبول الرهن على إيجابه ، وقد أسلفنا في أول الباب في الرهن والبيع عدم اعتباره لو تقدم واختار الشيخ الصحة هنا (٢) ، وفيما لو قال : بعتك هذا وارتهنته بكذا ، فقال : قبلت ورهنت ، والشارح ولد المصنف فرّق بينهما ، فحكم بالبطلان في الاولى ، والصحة في الثانية (٣) ، والفرق غير ظاهر.
والذي يقتضيه النظر البطلان ، لما قلناه من تقدم القبول ، ولأن مساواة هذا الرهن الأعيان المضمونة غير واضحة ، فإن هناك حقا في الجملة ، بخلاف ما هنا.
إذا عرفت هذا ، فعلى تقدير البطلان هنا لا يبقى لاشتراط أحد الأمرين : من كون الحق ثابتا ، أو آئلا إلى الثبوت وجه أصلا. إلا أن يقال : أنه يتحقق في الأعيان المضمونة ، فإنها لكون الحق فيها آئلا إلى الثبوت بوجود سببه ، يصح الرهن بها من هذه الجهة ، فلا يبقى مانع إلاّ جهة كونها أعيانا.
قوله : ( ولو رهن على الثمن في مدة الخيار ، أو على مال الجعالة بعد الرد ، أو على النفقة الماضية أو الحاضرة صح لا على المستقبلة ).
أما الثمن فإنه قد ثبت في الذمة ، وإن كان الفسخ بالخيار جائزا ، لأن
__________________
(١) التذكرة ٢ : ٢٣.
(٢) المبسوط ٢ : ١٩٧ ـ ١٩٨.
(٣) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٤.
والأقرب جواز الرهن على مال الكتابة.
ولا يصح على مال الجعالة قبل الرد ، ولا على الدية قبل استقرار الجناية.
ويجوز على كل قسط بعد حلوله في الخطأ على العاقلة ،
______________________________________________________
ذلك إبطال لما ثبت ، طارئ على الثبوت ، فهو بمنزلة عقد مستأنف. نعم لو قلنا : أن المبيع لا ينتقل إلاّ بانقضاء الخيار اتجه عدم جواز الرهن حينئذ ، لانتفاء الثبوت.
وأما مال الجعالة فإنه بعد الرد ثابت ، بخلاف ما قبله ، إذ لا شيء في الذمة من الجانبين ، لأن ذلك عقد جائز ، بخلاف الإجارة ومال السبق ، فإن الأصح أن عقد المسابقة لازم. وأما النفقة الماضية والحاضرة فإنهما واجبتان ، بخلاف المستقبلة.
قوله : ( والأقرب جواز الرهن على مال الكتابة ).
أي : مطلقا ، وخالف الشيخ في جواز الرهن على مال المشروطة (١) ، ووجه القرب : أنه حينئذ مال ثابت في الذمة فساوى غيره. واحتجاج الشيخ بان للعبد تعجيز نفسه ، ضعيف ، لأن التعجيز الى المولى لا اليه ، على أن التعجيز إبطال طارئ لما ثبت في الذمة بالعقد الصحيح ، فلا اثر له ، فالأصح الأول.
قوله : ( ولا على الدية قبل استقرار الجناية ).
أي : قبل انتهائها إلى الحد الذي يوجب الدية ، وإن علم أنها تأتي على النفس لانتفاء الثبوت حينئذ.
قوله : ( ويجوز على كل قسط بعد حلوله في الخطأ على العاقلة ).
وذلك لأنه حينئذ مال ثابت في الذمة ، فجاز الرهن عليه ، بخلاف ما قبل الحلول ، لأن المحكوم عليه بالوجوب في دية الخطأ هو الكامل من العاقلة بعد الحلول ، فربما كان قبل الحلول كاملا ، وخرج عن الوصف المقتضي لجواز
__________________
(١) المبسوط ٢ : ١٩٧.
ومطلقا في غيره. ومع فسخ المشروطة يبطل الرهن إن جوّزناه. ولو رهن على الإجارة المتعلقة بعين المؤجر كخدمته لم يصح ، لعدم تمكن الاستيفاء ، ويصح على العمل المطلق الثابت في الذمة.
ولا يشترط كون الدين خاليا عن رهن ، بل يجوز الزيادة في الرهن بدين واحد ، وكذا تجوز زيادة الدين على مرهون واحد.
الفصل الخامس : في القبض.
وليس شرطا على رأي ،
______________________________________________________
التقسيط بعده ، كالغني يتجدد له الفقر بعد الحلول ، وبالعكس ، فلا يكون محل ثبوت مال الدية متعينا ، فلا يصح الرهن به.
قوله : ( ومطلقا في غيره ).
أي : ويصح الرهن بعد الحلول وقبله في غير الخطإ ، لأن الدية من مال الجاني حينئذ ، والثبوت في ذمته متحقق ، والأجل في شبه العمد لا ينافي الثبوت.
قوله : ( ويصح على العمل المطلق الثابت في الذمة ).
لإمكان استيفائه من قيمة الرهن بالاستئجار عليه منها ، بخلاف المتعلقة بالعين عند الاحتياج ، وهو تعذر استيفاء الحق.
قوله : ( ولا يشترط كون الدين خاليا عن رهن ، بل تجوز الزيادة في الرهن بدين واحد ... ).
لأن معنى التوثق بشيء لا ينافي التوثق له بشيء آخر ، ومثله العكس.
قوله : ( وليس شرطا على رأي ).
اختلف في أن القبض في الرهن معتبر في تحقق الرهانة ، بحيث لا يحصل من دونه فيكون جزء السبب كالقبض في الهبة وعدمه على قولين ، وإطلاق الاشتراط عليه بطريق التوسع إذ لا يجب تقديمه على عقد الرهن.
وإنما أراد بكونه شرطا عدم تمامية السبب بدونه ، فالقولان يلتقيان الى
وهل له المطالبة به؟ اشكال ،
______________________________________________________
قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١) ، من حيث أنه أمر بالرهن المقبوض ، فلا يتحقق الرهن المطلوب شرعا بدون القبض ، ولأن فائدة التوثق إنما تتحقق معه ، ولرواية محمد بن قيس : « لا رهن إلا مقبوضا » (٢) والنفي للصحة.
ويضعّف بعدم الدلالة ، فإن الأمر إذا تعلق بالرهن والقبض لم يلزم أن يكون الرهن لا يتحقق بدونه. نعم ، الأمر بالقبض معه للإرشاد إلى كمال التوثق ، والظاهر أنه ليس المراد بالقبض مطلقه ، بل كون المرهون في يد المرتهن إذ لا يحصل كمال التوثق بدونه ، وهذا غير شرط باتفاقنا ، والرواية ضعيفة (٣). ومن حيث أنه وصف الرهن بكونها مقبوضة ، فيجب أن يتحقق معنى الرهينة بدون القبض.
ويضعّف بأن الصفة قد تكون كاشفة ، ونحوه قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٤).
والأولى الاحتجاج بأصالة العدم ، وعدم الدليل ، وبالعمومات الدالة بظاهرها على الأمر بالوفاء بالعقد الشامل لمحل النزاع. ولأن الحكم بفساد العقد ، بطروء ما يخرج العاقد عن أهلية التصرف يحتاج الى دليل ، والاقدام عليه لمجرد هذه الخيالات الضعيفة بعيد عن مرتبة الاستدلال ، والأصح عدم الاشتراط.
قوله : ( وهل له المطالبة به؟ إشكال ).
المراد بأن له المطالبة : أن له ذلك على طريق الاستحقاق ، والظاهر أن المراد بذلك : على تقدير عدم اشتراط القبض في صحة الرهن ، لأنه على تقدير الاشتراط لا وجه لثبوت المطالبة به بمجرد إيقاع العقد ، إذ لم يثبت حق الى الآن ، إلا أن تشترط الرهانة في عقد البيع.
__________________
(١) البقرة : ٢٨٣.
(٢) التهذيب ٧ : ١٧٦ حديث ٧٧٩.
(٣) التهذيب ٧ : ١٧٦ حديث ٧٧٩.
(٤) النساء : ٢٩.
وقيل : يشترط فيجب إذن الراهن فيه.
ولو قبض من دونه ، أو أذن ثم رجع قبله ، أو جن ، أو أغمي عليه ، أو مات قبله بطل.
ولا تشترط الاستدامة فلو استرجعه صح ، ويكفي الاستصحاب ، فلو كان في يد المرتهن لم يفتقر الى تجديد قبض ، ولا مضي زمان يمكن فيه.
______________________________________________________
ومنشأ الاشكال من ظاهر قوله تعالى ( مَقْبُوضَةٌ ) (١) ، فإنه أرشد الى أن كمال التوثق لا يتحقق بدونه ، وحيث استحق أصل التوثق بالعقد كان له المطالبة بالقبض الذي أمر الله به ، ومن انتفاء المقتضي ، إذ العقد لا يقتضيه ، ولا سبب غيره. والإرشاد إلى التوثق بالقبض في الآية لا يدل على كون ذلك مستحقا للمرتهن على الراهن بمجرد العقد.
قوله : ( وقيل : يشترط فيجب إذن الراهن فيه ).
أي : قيل : إن القبض شرط في الرهن ، أي : معتبر فيه على انه جزء السبب ، فيجب اذن الراهن فيه ، اي : فيشترط لصحته اذن الراهن ، لأن القبض بدونه غير مستحق ، إذ لم تحصل الرهانة إلى الآن فيكون عدوانا ، وما هذا شأنه كيف يكون معتبرا في السبب المشروط بالتراضي؟
قوله : ( ولو قبض من دون اذنه ... ).
هذا كله تفريع على أن القبض شرط كما في الهبة ، والمعتمد خلافه.
قوله : ( ولا تشترط الاستدامة ).
أي : على شيء من القولين عندنا.
قوله : ( ويكفي الاستصحاب ، فلو كان في يد المرتهن لم يفتقر الى تجديد قبض ، ولا مضي زمان يمكن فيه ).
بناء على اشتراط القبض يكفي استصحابه قبل العقد ، لتحقق تمامية
__________________
(١) البقرة : ٢٨٣.
ولو باع من المستودع دخل في ضمانه بمجرد البيع ، والأقرب زوال الضمان بالعقد لو كان غصبا.
______________________________________________________
السبب ، لأن استدامة القبض قبض ، فيصدق عليه أنه رهن مقبوض. ولا دليل يقتضي كون القبض واقعا بعد الرهانة ، فيكتفى بالقبض المقارن للعقد ، فلا يشترط مضي زمان يمكن فيه.
وربما قيل باشتراط مضي الزمان ، لأن الأمر بالقبض دل على اعتبار القبض بالفعل مطابقة ، وعلى اعتبار مضي الزمان إما بالالتزام أو بالاقتضاء. وإذا تعذر المعنى المطابقي ـ لامتناع تحصيل الحاصل ـ بقي المعنى الآخر. وضعفه ظاهر ، لأن الزمان المدلول عليه ما كان من توابع القبض. وقد حققنا أن القبض المقارن لزمان كاف في الامتثال فلا معنى لاعتبار مضي الزمان بعده ، نعم لو كان تأخره عن العقد معتبرا لوجب اعتبار مضي الزمان.
قوله : ( ولو باع من المستودع دخل في ضمانه بمجرد البيع ).
المستودع بفتح الدال ، وهذا من الأحكام الاستطرادية ، وحاصله : انه لما كان القبض المقارن للعقد ، كافيا في صحة الرهن ، لكونه معتبرا ، وجب الاكتفاء به في القبض المعتبر في البيع ، فيتحقق بمقارنته للعقد دخول المبيع في ضمان المستودع لو كان هو المشتري.
قوله : ( والأقرب زوال الضمان بالعقد لو كان غصبا ).
أي : لو كان مال الراهن مغصوبا ، فرهنه مالكه عند الغاصب فالأقرب زوال الضمان بمجرد العقد ، والظاهر أن هذا بناء على ما اختاره المصنف ، من أن القبض ليس شرطا في الرهن ، لظاهر قوله : ( بالعقد ).
ووجه القرب : أن الرهن يقتضي كون المرهون مأذونا في إبقائه في يد المرتهن ، وفيه منع ظاهر. وإن الرهن مبني على كونه أمانة في يد المرتهن ، فإذا تحقق المقتضي للائتمان ارتفع الضمان ، لأن وجود أحد المتنافيين يقتضي رفع الآخر. وفيه نظر لما سيأتي من منع التنافي.
ويحتمل الضمان ، لأن الابتداء أضعف من الاستدامة ، ويمكن اجتماعه مع الرهن كما لو تعدى المرتهن فيه ، فلئن لا يرفع ابتداء الرهن دوام الضمان أولى.
______________________________________________________
قوله : ( ويحتمل الضمان ، لأن الابتداء أضعف من الاستدامة ، ويمكن اجتماعه مع الرهن ، كما لو تعدّى المرتهن فيه ، فلئن لا يرفع ابتداء الرهن ، دوام الضمان أولى ).
هذا الاحتمال اختيار الشيخ في الخلاف (١) ، والمبسوط (٢) ، ويناسب أن يكون توجيهه هذا ، سندا لمنع التنافي المدعى في وجه القرب.
وتحقيقه أن يقال : أن لا نسلم أن الرهن ينافي الضمان ، لأن الرهن قد يكون أمانة ، وقد يكون مضمونا فيجتمعان. وحيث كان الابتداء أضعف من الاستدامة ، بناء على أن الباقي مستغن عن المؤثر ، فإن المبتدأ ـ اعني المحدث ـ محتاج اليه ، والمستغني أقوى من المحتاج ضرورة ، فعلى هذا يكون دوام الرهن أقوى من ابتدائه ، كما أن ابتداء الضمان أضعف من استدامته.
وإذا طرأ الضمان ـ مع ضعفه بالتعدي ـ على استدامة الرهن ، ولم تكن الرهانة ـ مع قوتها ـ رافعة للضمان ، فلئن لا ترفع الرهانة المبتدأة الضعيفة دوام الضمان الذي هو أقوى من ابتدائه أولى ، فيكون سندا للمنع بأبلغ الوجهين ، إذ يكفي فيه أن يقال : لا نسلم التنافي ، لإمكان اجتماعهما فيما إذا تعدى المرتهن.
ويمكن أن يجعل هذا دليلا بالاستقلال على الاحتمال الذي هو مذهب الشيخ (٣) ، بان يقال : الضمان مع الرهن في المغصوب باق ، لأن دوام الرهن مع قوته لا يرفع ابتداء الضمان مع ضعفه ، فلئن لا يرفع ابتداء الرهن الضعيف الضمان المستدام القوي بطريق أولى.
ولما كان هذا مبنيا على أحد القولين في المسألة الكلامية ، اقتضى ابتناء
__________________
(١) الخلاف ٢ : ٥٨ مسألة ١٧ كتاب الرهن.
(٢) المبسوط ٢ : ٢٠٤.
(٣) المبسوط ٢ : ٢٠٤.
ولو أودع الغاصب أو آجره فالأقرب زوال الضمان ،
______________________________________________________
الحكم في المسألة بعدم زوال الضمان عليه ، مع أنه لا حاجة الى هذا البناء ، للاكتفاء بمنع التنافي ، واسناد المنع بما ذكر.
ويمكن الاستدلال أيضا بظاهر قوله عليهالسلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (١) فإنه لو زال الضمان بمجرد العقد ، لم تكن الغاية المذكورة في الحديث غاية ، ولوجوب استصحاب ما كان قبل الرهن الى أن يحصل الناقل ، وهذا القول أصح.
إذا عرفت هذا ، فالشارح ولد المصنف يظهر من كلامه أن المسألة مفروضة فيما إذا أذن الراهن في إبقائه في يد الغاصب (٢) ، والعبارة تنافي ذلك ، لظاهر قوله : ( بمجرد العقد ).
وذكر أيضا أن في توجيه المصنف نظرا ، وما ذكره غير ظاهر ، لكن لو اذن الراهن للغاصب في القبض ، ففي زوال الضمان نظر ، ينشأ : من أن ذلك هل يعد استنابة في اليد ، أم لا؟ وهو موضع اشكال.
قوله : ( ولو أودع الغاصب ، أو آجره فالأقرب زوال الضمان ).
وجه القرب : أن كلا منهما أمانة ، وهي منافية للضمان ، ويحتمل ثبوته لما ذكر في الرهن.
والتحقيق أن يقال : ان الضمان ثابت الى أن يؤدي العين الى مالكها ، ـ كما دل عليه الحديث (٣) ـ ثم يزول. وتتحقق التأدية إلى المالك ، بالتأدية الى وكيله في الحفظ وإثبات اليد.
وحينئذ ، فكل موضع يجعل المالك الغاصب فيه نائبا له في الحفظ ، وإثبات اليد عليه يجب أن يزول الضمان ، وما لا فلا.
ولما كان المستودع مستنابا في الحفظ ، وإثبات اليد عن المالك لمحض
__________________
(١) عوالي اللآلي ٣ : ٢٤٦ حديث ٢ ، المستدرك للحاكم ٢ : ٤٧.
(٢) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٦.
(٣) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٤ حديث ١٠٦ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٥.
وفي العارية والتوكيل بالبيع أو الإعتاق نظر. ولو أبرأ الغاصب عن ضمان الغصب والمال في يده فإشكال ، منشؤه : الإبراء مما لم يجب ، ووجود سبب وجوبه ، لأن الغصب سبب وجوب القيمة عند التلف. والأقرب انه لا يبرأ ، ولا تصير يده يد أمانة.
______________________________________________________
مصلحته كانت يده يد المالك ، فوجب زوال الضمان الثابت على الغاصب بإيداعه ، لكون المال حينئذ معدودا في يد المالك ، لأن يد المستودع متمحضة للمودع في مصلحة الحفظ ، ومع ذلك فان المستودع بالتعدي يخرج عن كونه مستودعا.
وأما المستأجر فإن يده وإن كانت في الأصل يد أمانة ، إلا أن الضمان قد يجامع يد المستأجر إذا تعدى ، وليست يد نيابة عن المالك في الحفظ ، إنما هي يد استيفاء للمنفعة ، فهي لمصلحة المستأجر ، فوجب أن يبقى الضمان معها الى أن تتحقق التأدية إلى المالك بنفسه أو وكيله ، كما دل عليه الحديث (١).
قوله : ( وفي العارية ، والتوكيل بالبيع ، والإعتاق نظر ).
ينشأ : من أنها أمانة ، وهي منافية للضمان ، ولأن العارية كالإجارة في التسليط على الانتفاع ، والتوكيل كالوديعة في الاستنابة في الحفظ ، ومن أن العارية لا تنافي الضمان كما في بعض أقسامها ، ومع اشتراط الضمان مطلقا.
وكذا القول في التوكيل ، لأن الوكيل إذا تعدى لا ينعزل بمجرد التعدي ، ولما سبق في الرهن ، والظاهر عدم زوال الضمان بهما ، نعم لو وكله في إثبات اليد مع التوكيل في البيع وعدمه فان زوال الضمان هنا متجه.
قوله : ( ولو أبرأ الغاصب من ضمان الغصب ، والمال في يده فإشكال ، منشؤه : الإبراء مما لم يجب ، ووجود سبب وجوبه ، لأن الغصب سبب وجوب القيمة عند التلف ).
إنما كان إبراء مما لم يجب ، لأن الوجوب إنما يتعلق به عند التلف ، لأن
__________________
(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٤ حديث ١٠٦ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٥.
______________________________________________________
العين ما دامت موجودة ، لا يتعلق بالذمة شيء سوى وجوب ردها ، ومعلوم أن الإبراء ليس من هذا ، إنما الإبراء من مقتضى الغصب ، وهو ضمانها عند التلف.
فان قلت : إذا كانت العين موجودة ، فهنا أمران : وجوب ردها على الفور ، لكون يد الغاصب يد عدوان ، وضمانها عند التلف ، وهو أثر ذلك ، فإذا أبرأه تعلق الإبراء بالأمر الأول ، فيسقط الثاني وهو أثره.
قلت : الضمان أثر يد العدوان ، لا أثر وجوب الرد على الفور ، والإبراء إنما يسقط به الحق الثابت في الذمة ، لا كون اليد يد عدوان ، ونحوه. وإنما يزول عدوان اليد ، بان تصير يد أمانة ، ولا دخل للإبراء في ذلك ، وما دام وصف العدوان ثابتا فالضمان بحاله.
وما ذكره في توجيه الوجه الثاني من وجهي الإشكال لا محصل له ، لأن وجود سبب وجوب الشيء لا يقتضي صحة تعلق الإبراء بذلك الشيء ، الذي لا تحقق له ، فلهذا كان الأقرب أنه لا يبرأ بذلك ، ولا تصير يده يد أمانة ، وإنما يبرأ بالرد اليه ، أو بأن يستنيبه في الحفظ عنه ، وإثبات اليد على الظاهر في الثاني ، لأن يده يده حينئذ.
ولا يقال : إن التأدية غير صادقة على هذا ، لأنا نقول : يكفي فيها التأدية بالاعتبار ، فهو باعتبار كونه غاصبا مؤد ، وباعتبار كونه وكيلا في إثبات اليد على المالك آخذ.
فان قيل : قد اختار فيما سبق أن ضمان الغاصب يزول بالرهن ، فكيف لا يزول بالإبراء؟
قلت : لو صح ذلك لم يكن بينه وبين هذا منافاة ، لأن المقتضي للزوال هناك كون الرهن أمانة ، وهو سبب غير الإبراء ، ولا يمتنع إمكان أحد السببين وامتناع الآخر.