الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٣
ولو ضمن اثنان طولب السابق ، ومع الاقتران اشكال.
______________________________________________________
قوله : ( ولو ضمن اثنان طولب السابق ، ومع الاقتران إشكال ).
ينشأ : من احتمال أمور ثلاثة متكافئة هي أقوال للأصحاب :
الأول : التخيير في مطالبة من شاء منهما ، وهو قول ابن حمزة (١) ، تمسكا بصحة العقدين فإنها الأصل.
ونقل الشارح عن المصنف في درسه توجيهه : بأن مثله واقع في العبادات ، كالواجب على الكفاية ، وفي الأموال كالغاصب من الغاصب (٢).
وفيه نظر ، فان العقدين المتنافيين يمتنع التمسك بصحتهما ، ووجه التنافي : أن انتقال المال إلى ذمة أحدهما يقتضي أن لا ينتقل إلى ذمة الآخر شيء فيكون ضمانه باطلا لانتفاء مقتضاه ، ولا نعني بالباطل إلاّ ما لا يترتب عليه أثره.
وهذا يصلح جوابا لما ذكره المصنف ، وفي الغاصب من الغاصب لم يثبت المال في ذمم متعددة ، وإنما وجب على من جرت يده على المغصوب ردّه على مالكه ، عملا بعموم : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (٣) فإن تعذر وجب البدل للحيلولة.
وهذا لا يتفاوت الحال فيه ببقاء العين وتلفها ، ومعلوم أنه مع بقائها لا يكون في ذمة أحد ، وإنما الذي في الذمة وجوب ردّها ، فظهر أنه ليس هناك مال واحد في ذمم متعددة ، ولو قدر أنه كذلك في هذا الفرد ـ على خلاف الأصل للنص والإجماع ـ لم تجز تعديته إلى غيره إلاّ بنص آخر.
الثاني : التنصيف ، فيطالب كل واحد منهما بنصف المال في هذا الفرض ، ولو زادوا فبالحصة بعد اعتبار العدد ، لأن الأصل صحة الضمان ، ولمّا امتنع انتقال المجموع إلى كلّ من الذمتين ولا أولوية ، انتقل إلى كل واحدة منهما
__________________
(١) قاله في الوسيلة : ٣٢٨.
(٢) إيضاح الفوائد ٢ : ٨٩.
(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ حديث ٢٤٠٠.
ولو ضمن كل من المديونين ما على صاحبه تعاكست الأصالة والفرعية فيهما إن أجازهما ويتساقطان ،
______________________________________________________
ما يقتضيه التحاصّ.
وفيه نظر ، لأنه خلاف ما اقتضاه العقدان وأراده الضامنان ، بل إن كان العقد صحيحا ترتب عليه مقتضاه ، وإلاّ كان باطلا.
الثالث : البطلان ، للحصر في الأمور الثلاثة ، وقد بطل اثنان فتعين الثالث ، وهو الأصح.
قوله : ( ولو ضمن كلّ من المديونين ما على صاحبه ، تعاكست الأصالة والفرعية فيهما إن أجازهما ويتساقطان ).
أي : لو ضمن كل من المديونين ما على صاحبه من الدين ، انتقل ما في ذمة كلّ منهما إلى ذمة الأخر ، فيصير كل واحد بضمانه فرعا وبمضمونيته أصيلا ، فتتعاكس الأصالة والفرعية ، فيكون كل واحد منهما فرعا بالجهة التي يكون بها الآخر أصيلا.
وهذا كلّه إذا أجاز المضمون له ضمانهما معا ، ويتساقطان بعد أداء الدينين ، إذا كان ضمانهما بسؤال وكان الدينان مستويين ، كما لو كان لواحد على اثنين عشرة بالسوية ، فضمن كل منهما ما على الآخر بسؤاله ، فإذا أدياها ثبت لكل منهما على الآخر ما أدّاه ، فاستوى الدينان قدرا ووصفا فيقع التقاص.
ولا يخفى أن هذا إذا كان الضمان دفعة ، أما لو وقع على التعاقب ، فان الجميع على الأخير.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن قوله : ( تعاكست الأصالة والفرعية فيهما ) فيه إشارة إلى فائدة هذا الضمان ، فإنه وإن لم تكن له فائدة من جهة المطالبة ـ حيث أن المضمون له انما يطالب كل واحد بمقدار ما كان يطالبه ـ لكن تترتب عليه فوائد أخرى باعتبار الأصالة والفرعية ، فلو أبرأ المضمون له أحدهما من شيء برئت ذمة الآخر منه ، وغير ذلك.
فلو شرط أحدهما الضمان من مال بعينه ، وحجر عليه لفلس قبل الأداء رجع على الموسر بما أدى ، ويضرب الموسر مع الغرماء ،
______________________________________________________
قوله : ( ولو شرط الضمان من مال بعينه وحجر عليه لفلس قبل الأداء ، رجع على الموسر بما أدّى ، ويضرب الموسر مع الغرماء ).
هذا أيضا من فوائد الضمان ، فإنه لو شرط أحدهما في العقد الأداء من مال بعينه ، وحجر عليه للفلس قبل أداء الدين المضمون ، فان المضمون له مقدم على الغرماء بدينه ، لتعلقه بالعين المشروط الأداء منها ، كما في دين المرتهن بل أقوى ، لما سبق من احتمال كونه كتعلق الأرش بالجاني ، وحق الجناية مقدم على حق المرتهن كما سبق في الرهن ، وحينئذ فإذا استوفاه من العين استحقه المفلس على الموسر ، فيرجع عليه به.
ولا يتساقطان إذا أدّى الموسر الدين الآخر ، لعدم استواء الدينين حكما ، لأن أحدهما يستحق الجميع (١) ، والآخر له حكم الغرماء فيضرب معهم بالحصة ، فالزائد على ما يقتضيه التحاصّ غير مستحق الآن ، فكيف تقع المساقطة به؟
واعلم أنه لا بد في الحكم من قيدين :
الأول : كون المال المشروط الأداء منه بحيث يفي بذلك الدين ، إذ لو قصر لكان الضامن بالزائد من جملة الغرماء ، ولعلّه إنما لم يتعرض إليه اعتمادا على الغالب ، من أنه إنما يشترط الأداء من مال يفي بالدين ، على أنه ليس في العبارة ما ينافيه ، لأن قوله : ( رجع على الموسر بما أدى ) صادق في الجميع والأقل.
الثاني : كون أداء الموسر قبل الحجر ، إذ لو كان بعده لاتجه أن لا يزاحم الغرماء فلا يضرب ، بل يصير إلى ما بعد الفكّ ، كمن باع بعد الحجر على أصح الوجوه ، لأن الضامن لا يستحق شيئا على المضمون عنه إلاّ بعد الأداء عندنا ، ولهذا لا يستحق الأخذ قبله.
وأيضا فلا بد من كون الإفلاس طارئا بعد الضمان ، أو كون المضمون
__________________
(١) في النسخ الخطية والنسخة الحجرية وردت هنا لفظة ( لعدم ) والظاهر زيادتها.
وإلاّ طولب من أجيز ضمانه بالجميع خاصة ، فإن دفع النصف انصرف الى ما قصده ، ويقبل قوله مع اليمين ، فإن أطلق فالوجه التقسيط ،
______________________________________________________
عالما بتقدمه أو رضاه بعد علمه ، فإنه لو لم يكن عالما وفسخ لمّا علم ، لم يترتب عليه هذا الحكم.
قوله : ( وإلاّ طولب من أجيز ضمانه بالجميع خاصة ).
أي : وإن لم يجز المضمون له ضمانهما ، بل أجاز ضمان أحدهما دون الآخر ، طولب من أجيز ضمانه بجميع الدين الذي عليهما ـ بعض بالضمان ، وبعض بأصل الاستدانة ـ دون الآخر ، وهو معنى قوله : ( خاصة ).
قوله : ( فان دفع النصف انصرف إلى ما قصده ، ويقبل قوله مع اليمين ).
أي : فان دفع من أجيز ضمانه دون صاحبه نصف الدين ـ وكان ينبغي أن يأتي بالبعض بدل ( النصف ) فان الحكم لا يختص بالنصف ـ انصرف المدفوع إلى ما قصده الدافع من الدينين ، فان قصده عن نفسه لم يرجع على المضمون عنه ، وإن قصده عنه رجع عليه ، فان وقع اختلاف بينه وبين المضمون عن قدم قوله بيمينه ، لأنه أعرف بقصده ، وصرفه إلى شيء بخصوصه إنما يكون به.
قوله : ( فإن أطلق فالوجه التقسيط ).
أراد بالإطلاق : دفعه من غير قصد شيء من الدينين ، ولا قصد المجموع ، فالوجه عند المصنف التقسيط ـ أي : توزيع المدفوع على الدينين بالنسبة لامتناع صرفه إلى أحدهما ـ نظرا إلى عدم الأولوية ، فيتعين الأول لانحصار الحال فيهما.
ويحتمل صرفه الان إلى ما شاء لعدم القصد ، وامتناع وقوعه بدونه.
ويضعّف بأن المدفوع إليه ملكه من حين القبض ، فيمتنع أن لا يسقط شيء من الدين في مقابله ، لأن قبضه إنما كان عن جهته ، فتعين التوزيع لما قلناه من انتفاء الأولوية ، وهو الأصح.
وينصرف الإبراء الى ما قصده المبرئ ، فإن أطلق فالتقسيط.
ولو ادعى الأصيل قصده ففي توجه اليمين عليه أو على الضامن إشكال ، ينشأ : من عدم توجّه اليمين لحق الغير ، وخفاء القصد.
______________________________________________________
واعلم أن المصنف تردد في الرهن في نظائر هذه المسألة ، ثم رجع إلى الفتوى هنا.
قوله : ( وينصرف الإبراء إلى ما قصده المبرئ ، فإن أطلق فالتقسيط ).
أي : فان أطلق الإبراء وعرّاه عن قصد شيء مخصوص من واحد منهما ، أو من كل منهما بالنسبة ، فالحكم التقسيط المذكور في المسألة السابقة بعين ما ذكر.
قوله : ( ولو ادّعى الأصيل قصده ، ففي توجه اليمين عليه أو على الضامن إشكال ، ينشأ : من عدم توجه اليمين لحق الغير ، وخفاء القصد ).
أي : لو ادعى المضمون عنه على الضامن ، أن المضمون له إنما أبرأ الضامن من الدين المضمون به ، ففي توجه اليمين على المبرئ أو على الضامن إشكال من أن اليمين لإثبات حق الغير لا تجوز ، فيمتنع توجهها على المبرئ ، لأنه إنما يثبت بها رجوع الضامن على المضمون عنه ، فيكون لمجرد إثبات حق الغير ، فيكون اليمين في جانب الضامن.
ومن أن القصد أمر خفي على غير القاصد ، فلا يحلف الضامن على قصد المبرئ ، بل ينحصر اليمين في جانبه.
وحمل الشارح (١) الشق الثاني من شقي الإشكال على التقسيط ، وهو خلاف صريح العبارة ، فإن قوله : ( ففي توجه اليمين عليه أو على الضامن ) يتبادر منه كون أحد الشقين توجه اليمين على المبرئ ، وما ذكره في أول منشأ الإشكال صريح في ذلك ، نعم يكون احتمال التقسيط احتمالا ثالثا ، ويحتمل أيضا
__________________
(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٩٠.
ولو ضمن الثالث المتبرع بسؤاله رجع عليه دون الأصيل وإن أذن له الأصيل في الضمان والأداء.
ولو دفع الأصيل إلى الضامن أو المستحق فقد بريء وإن لم يأذن
______________________________________________________
القرعة ، لأن الواقع غير معلوم ، فهو أمر مشكل.
والذي يقتضيه النظر أن يقال : إن المبرئ إن صرح في عقد الإبراء بتعين الدين الذي يبرأ منه ، بحيث علم الضامن بذلك ، جاز حلفه على عدم سقوط الحق عن ذمة المضمون عنه ، وإلاّ لم يحلف على البت بل على نفي العلم ، لأن الاختلاف في فعل الغير ، ولا يتوجه اليمين على المبرئ أصلا ، فإذا حلف على نفي العلم ، انتفى المسقط للدين الذي في ذمة المضمون عنه ، فيتمسك بأصالة بقائه ولزوم كون الأداء عنه ، فيستحق الرجوع عليه حينئذ.
وفيه نظر ، لأن عدم علمه بالمسقط لا يقتضي عدمه ، وأصالة بقاء الدين زالت بالقطع بوجود مسقط أحد الدينين ، كما زال أصل الطهارة عما اشتبه فيه الطاهر بالنجس ، فإن الإبراء ثابت والمبرئ منه مشتبه ، على أن رجوع الضامن على الأصيل واستحقاقه الدين إنما يكون بأداء ما ضمنه ، وهو غير معلوم ، فيتمسك بأصالة عدم الاستحقاق ، ولا أرى هنا شيئا أوجه من القرعة.
قوله : ( ولو ضمن الثالث المتبرع بسؤاله ، رجع عليه دون الأصيل ، وإن أذن له الأصيل في الضمان والأداء ).
أي : لو ضمن شخص ما في ذمة زيد تبرعا ، ثم سأل الضامن عمرا أن يضمنه فضمنه ، رجع الضامن الثاني على ذلك الشخص بالمال المضمون به إذا أدّاه ، ولا يرجع على الأصيل ـ أعني : المضمون عنه أولا ـ وإن أذن الأصيل للضامن الثاني في ضمان الضامن المتبرع وفي أداء المال ، لأن ذمة الأصيل قد برئت بالضمان الأول ، ولم يبق في ذمته حق ، فلا أثر لإذنه في الضمان ولا في الأداء.
قوله : ( ولو دفع الأصيل إلى الضامن أو المستحق فقد بريء ).
هذا عود إلى أصل الباب ، أي : بعد صحة الضمان ، إذا دفع المضمون عنه
الضامن في الدفع ، وعلى الضامن البينة بالإذن لو أنكره الأصيل ، أو أنكر الدين.
ولو أنكر الضامن الضمان فاستوفى المستحق بالبينة لم يرجع على الأصيل إن أنكر الدين أيضا أو الاذن ،
______________________________________________________
الدين ـ الذي وقع الضمان به ـ إلى الضامن ، أو إلى المستحق فقد بريء.
أما إذا دفع إلى الضامن ، فلأنه وإن لم يستحق عليه شيئا إلاّ بعد الأداء ، لكن دفعه إياه لجهة ذلك الدين ، فإن أدّى منه فواضح ، وإن أدّى من غيره قام هذا المدفوع مقام ما أداه ، بل لو أدّى أقل رجع عليه الأصيل بالزائد.
وأما إذا دفع إلى المستحق ، فلأن أقصى ما فيه أن يكون قد أدى الدين الذي لزم الضامن بالضمان تبرعا ، فإنه لا يرجع عليه شيء إذا لم يؤد شيئا.
قوله : ( وعلى الضامن البينة بالإذن لو أنكره الأصيل أو أنكر الدين ).
لأنه مدع على كل واحد من التقديرين ، فانّ استحقاقه الرجوع مشروط بكل من الأمرين ، وهو ظاهر.
قوله : ( ولو أنكر الضامن الضمان فاستوفى المستحق بالبينة ، لم يرجع على الأصيل إن أنكر الدين أيضا أو الإذن ).
أي : لو أنكر الضامن في نفس الأمر كونه ضامنا ، فأقام المستحق للدين ـ وهو المضمون له ـ البينة بكونه ضامنا ، واستوفى ما شهدت البينة بضمانه من الضامن ، لم يرجع الضامن على الأصيل ، لأنه بإنكاره الضمان مقرّ بأنه لا يستحق في ذمة المضمون عنه شيئا ، إذ وجه الاستحقاق على هذا التقدير إنما هو الضمان ، وقد نفاه ، ولا تنفعه البينة في ذلك ، لتكذيبه إياها بنفي الضمان ، واقتضاء نفيه كونه مظلوما في المطالبة والأخذ.
ولا فرق في ذلك بين أن ينكر الضامن الدين أيضا ـ أي : مع إنكاره الضمان ـ أو ينكر الاذن فيه من المضمون عنه مع إنكار الضمان وعدمه ، كما هو
وإلاّ رجع اقتصاصا ، إلاّ أن ينكر الأصيل الإذن ولا بينة.
______________________________________________________
ظاهر ، فلا يظهر لا لاشتراط المصنف لعدم الرجوع على الأصيل أحد الأمرين ، أعني : إنكار الضامن الدين ـ فان الضمير في ( أنكر ) إنما يعود إليه لا إلى الأصيل ، لأن مجرد إنكاره لا يمنع الرجوع ، إنما يؤثر مع انتفاء البينة واليمين المردودة ـ أو إنكاره الإذن في الضمان وجه.
وكذا قوله : ( وإلا رجع اقتصاصا ، إلاّ أن ينكر الأصيل الإذن ولا بينة ) إذ المعنى : وإن لم ينكر واحدا من الأمرين ، رجع على المضمون عنه اقتصاصا ، أي : باطنا على ما فسّره بعضهم.
ولا يستقم غيره على تقدير فرض المسألة في الضمان ، إلاّ أن ينكر الأصيل الإذن في الضمان ولا بينة ، لأنه إذا كان رجوعه اقتصاصا ـ أي : باطنا ـ فلا فرق بين إنكاره الدين أو الإذن أو إقراره بهما ، وإنما الشرط لرجوعه اقتصاصا وقوع الضمان في نفس الأمر.
ويمكن تنزيل العبارة على شيء آخر ، وهو : أن يكون المراد بالضامن المأذون له من المديون في الأداء بشرط الرجوع.
وحينئذ نقول : إذا أنكر المأذون له في الأداء الضمان المدّعى به عليه ، فأقام المستحق للدين بينة به واستوفى منه ، لم يرجع على الأصيل إن أنكر الضامن الدين أو أنكر الإذن ، لانتفاء جهة الاستحقاق المنحصرة هنا في الضمان بسؤال ، وفي الإذن في الأداء بشرط الرجوع المشروطين لشغل الذمة بالدين ، فان لم ينكرهما ، لم يقدح في جواز الرجوع إنكار الضمان ، فيرجع اقتصاصا ـ أي : أخذ الدين الذين يستحقه ـ إلاّ أن ينكر الأصيل الإذن ولا بينة.
ولقائل أن يقول : إن قوله ( لو أنكر الضامن الضمان ) ينافي ذلك ، لأنه يقتضي ضامنا في نفس الأمر ، فيمكن إجراء الفرض الأول على ما ذكر.
ويقال : انه إذا كان ضامنا في نفس الأمر بسؤال ، لا يمتنع رجوعه على المضمون عنه بمجرد إنكار الضمان ، إذا أدّى الدين إلى المستحق بالبينة ، لأن
ولو أنكر المستحق دفع الضامن بسؤال قدّم إنكاره ،
______________________________________________________
لاستحقاق الرجوع طريقين :
أحدهما : الضمان بسؤال إذا أدى الضامن.
والثاني : أداء الدين بالاذن وشرط الرجوع.
فإذا انتفى الاستحقاق لإنكار أحدهما لم ينتف مطلقا ، إذ لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم كما هو ظاهر ، فيرجع اقتصاصا ، أي : أخذا لحق يستحقه في نفس الأمر بشروط :
أ : أن لا ينكر الضامن أصل الدين ، فإنه لو أنكره امتنع استحقاق الرجوع بالطريق الثاني أيضا.
ب : أن لا ينكر الإذن ، فإن أنكره فكالأول.
ج : أن لا ينكر المضمون عنه الإذن ، أو يثبت بحجة شرعية ، فإن انتفت امتنع الرجوع أيضا ، وحينئذ فلا يكون المراد بالاقتصاص الرجوع باطنا كما قيل ، بل يرجع على هذا التقدير ظاهرا.
وطريق مطالبة الضامن المنكر للضمان في الفرض المذكور ، أن يقول للمضمون عنه : إني أديت دينك على وجه يلزمك الأداء إليّ ، ويقيم عليه البينة بالإذن إن كانت ، وإن كان وجه الاستحقاق هو الضمان بالإذن ، لأن التوصل إلى الحق بطريق لا يكون مشتملا على محذور جائز.
فإن قيل : هل يسوغ أن تشهد له البينة بالإذن ، على تقدير حصوله مع سؤال الضمان ووقوعه ، مع العلم بأن طريق الاستحقاق إنما هو الضمان بسؤال ، وقد امتنع بإنكاره؟
قلنا : لا محذور إذا كان مطابقا للواقع ، أما مع عدم المطابقة فهل تكفي شهادة البينة بالاستحقاق في الجملة من غير تقييد بواحد من الطريقين؟ الظاهر نعم ، حتى لو طلب المضمون عنه التقييد بواحد منهما لم يلزم.
قوله : ( ولو أنكر المستحق دفع الضامن بسؤال قدم إنكاره ).
فإن شهد الأصيل ولا تهمة قبلت ، ومعها يغرم ثانيا ويرجع على الأصيل بالأول مع مساواته الحق أو قصوره ،
______________________________________________________
الباء في ( بسؤال ) يتعلق بـ ( الضامن ) لا بـ ( دفع ) أي : لو أنكر المستحق ـ وهو المضمون له ـ دفع الضامن لغيره بسؤال ذلك الغير قدم إنكاره ، تقديما لقول المنكر بيمينه. وإنما قيد بكون الضمان بسؤال ، لأنه لو كان تبرعا لم تتطرق إليه التهمة لبراءة ذمته.
قوله : ( فان شهد الأصيل ولا تهمة قبلت ).
من صور التهمة : أن يكون معسرا ولم يعلم المضمون له بإعساره ، فإنّ له فسخ الضمان حينئذ ، ويرجع على المضمون عنه ، فشهادة الأصيل تدفع عنه عود الحق إلى ذمته.
ومنها : أن يكون الضامن قد صالح على أقل من الحق ، فيكون رجوعه إنما هو بذلك المصالح عليه ، فيقل ما يؤديه عن أصل الحق لو ثبت الأداء على هذا الوجه.
وفي كون ذلك موجبا للتهمة نظر ، إذ يكفي لعدم وجوب الزائد إقرار الضامن بذلك ، ولا حاجة الى الثبوت ظاهرا ، فتندفع التهمة فتقبل الشهادة.
ومنها : أن يكون الضامن قد تجدد الحجر عليه للفلس ، والمضمون عنه أحد غرمائه ، فإنه بثبوت الأداء يقل الغرماء فيزداد ما يضرب به.
قوله : ( ومعها يغرم ثانيا ، ويرجع على الأصيل بالأول مع مساواة الحق أو قصوره ).
أي : ومع التهمة يغرم الضامن ثانيا ، لانتفاء ثبوت الأداء ، ثم انه يرجع على الأصيل بالأول ، لأنه الذي وقع به الأداء باعترافه. والثاني ظلم ، فلا يتفاوت الحال بكون الأول أقل من الحق والثاني بقدره ، لكن يشترط أن لا يزيد على الدين ، لأنه لا يستحق الرجوع بالزائد كما علم غير مرة.
ولو لم يشهد رجع بالأقل من الثاني والأول والحق.
ولو ادعى القضاء المأذون له فيه فأنكر المستحق ، فإن كان في غيبة الآذن فهو مقصّر بترك الإشهاد ، إذ كان من حقه الاحتياط وتمهيد طريق الإثبات ، فلا يرجع عليه إن كذّبه ، وإن صدّقه احتمل ذلك حيث لم ينتفع به الأصيل ،
______________________________________________________
قوله : ( ولو لم يشهد رجع بالأقل من الثاني والأول والحق ).
أما إذا كان الأول أقل فلأنه باعتراف الضامن لا يستحق غيره ، لأنه بزعمه مظلوم في الأخذ ثانيا ، فالأداء الصحيح بزعمه هو الأول فيؤاخذ به.
وأما إذا كان الثاني أقل ، فلأن الأداء الأول الذي يدعيه لم يثبت ، والثابت ظاهرا إنما هو الثاني.
وأما إذا كان الحق أقل منهما ، فلأنه إنما يرجع بالأقل من المدفوع والحق.
قوله : ( ولو ادعى القضاء المأذون له فيه فأنكر المستحق ، فان كان في غيبة الآذن فهو مقصر بترك الإشهاد ، إذ كان من حقه الاحتياط أو تمهيد طريق الإثبات ، فلا يرجع عليه إن كذبه ، وإن صدّقه احتمل ذلك حيث لم ينتفع به الأصيل ).
فاعل ( ادعى ) هو ( المأذون ) ، وأخره لأجل ضمير القضاء. أي : لو ادعى قضاء الدين الشخص المأذون له فيه فأنكر المستحق ، أي : صاحب الدين فلا يخلو : إما أن يكون القضاء في غيبة الآذن في القضاء ، أو في حضوره. فان كان ذلك في غيبته فهو مقصّر بترك الإشهاد ، فلم يؤد على الوجه المأذون فيه ، فلا يرجع ، لأن من حق المأذون ـ أي : من حق الواجب عليه ـ الاحتياط للإذن في إسقاط حق الغير عنه ظاهرا وباطنا ، وتمهيد طريق الإثبات بالإشهاد ، لتنقطع عنه الدعوى. كما يجب على الوكيل الاحتياط ، فلا يسلم المبيع حتى يتسلم الثمن ونحو ذلك ، فحيث ترك الإشهاد كأنه لم يقض ، فلا يستحق رجوعا.
والرجوع لاعترافه ببراءة ذمته ، وفعل ما اذن فيه ، فلا يخرج استحقاق المأذون بظلم المستحق.
______________________________________________________
أو يقال : إن إطلاق الإذن لما حمل على القضاء الذي لا تبقى معه دعوى الدين ثانيا بحسب الإمكان ، وذلك بالإشهاد كان قضاؤه بدونه غير مأذون فيه فلم يستحق رجوعا. وهذا التوجيه لا يفترق الحال فيه ، بتصديق الآذن في الدفع وتكذيبه.
فلم يبق لقول المصنف : ( إن كذبه ) وجه ، ولم يحسن قوله ( وإن صدّقه ... ) لأنه مدافع للتعليل المذكور. وكان الأولى في العبارة أن يقول : فأنكر المستحق ، فإن كذبه ولا طريق إلى الإثبات لم يرجع قطعا ، وإن صدقه ، فان كان في غيبة الآذن ، ففي الرجوع احتمالان ينشآن : من كونه مقصرا بترك الإشهاد ، إذا كان من حقه الاحتياط وتمهيد طريق الإثبات. ولأنه كمن لم يقض إذ لم ينتفع به الأصيل وعدمه ، لأن المأذون فيه القضاء وقد حصل. وفي الأول قوة ظاهرة ، كما بيناه في كتاب الرهن.
واعلم أن قوله : ( ذلك ) يشير به الى عدم الرجوع ، وأن المراد بـ ( الأصيل ) هنا : المديون وهو الآذن مجازا ، إذ ليس هنا ضمان فيكون مضمون عنه.
قوله : ( والرجوع لاعترافه ببراءة ذمته وفعل ما اذن فيه ، فلا يخرج استحقاق المأذون بظلم المستحق ).
هذا هو الاحتمال الثاني المعادل لقوله : ( احتمل ذلك ) ووجهه أنه حيث كان مصدقا معترفا ببراءة ذمته من الدين الذي كان ، ويفعل المأذون ما اذن له فيه مجهولا ومعلوما. فلا يخرج استحقاق المأذون عن الثبوت بظلم المستحق ، وطلبه ثانيا. وضعفه ظاهر ، لأن اعترافه إنما هو ببراءة ذمته باطنا فقط ، وفي كونه فعل ما اذن فيه منع ، وقد سبق سنده.
وهل له إحلاف الأصيل لو كذّبه؟ إن قلنا بالرجوع مع التصديق حلّفه على نفي العلم بالأداء.
وإن قلنا بعدمه ، فإن قلنا : اليمين المردودة كالإقرار لم يحلّفه ، لأن غايته النكول ، فيحلف الضامن فيصير كتصديق الأصيل.
وإن قلنا كالبينة حلّفه ، فلعله ينكل فيحلف.
______________________________________________________
قوله : ( وهل له إحلاف الأصيل لو كذّبه؟ إن قلنا بالرجوع مع التصديق حلّفه على نفي العلم بالأداء ).
أي : هل للمأذون إحلاف الأصيل ، أي : الآذن على تقدير تكذيبه في الأداء؟ يبنى على استحقاق الرجوع مع التصديق وعدمه ، فان قلنا باستحقاق الرجوع على ذلك التقدير ، حلّفه على نفي العلم بالأداء ، لأن كل موضع لو أقر المنكر لنفع المدعي يتوجه عليه اليمين ، لعله يقر فيثبت الحق.
وعندي في هذا الاحتمال نظر ، لأن جواب المدعى عليه بإنكار أو إقرار فرع توجه الدعوى ، فإذا ادعى المأذون الأداء بإذنه ، لم يطالب المدعى عليه بجواب ، إلا إذا قلنا بأن الإشهاد غير واجب ، إذ على القول بوجوبه لا يستحق شيئا بمجرد الأداء حتى يقول : وأشهدت.
ومثله ما لو ادعى الهبة ولم يذكر الإقباض ، إذ لا حكم لها بدونه. فمتى سمعت الدعوى ، وأجاب المدعى عليه بالإنكار توجهت عليه اليمين ، وحيث كان المدعى به فعل الغير يحلف على نفي العلم به.
قوله : ( وان قلنا بعدمه ، فان قلنا : اليمين المردودة كالإقرار لم يحلفه ، لأن غايته النكول ، فيحلف الضامن فيصير كتصديق الأصيل. وان قلنا كالبينة حلف ، فلعله ينكل فيحلف ).
هذا معادل قوله : ( إن قلنا بالرجوع مع التصديق ) أي : وإن قلنا بعدم الرجوع مع تصديق الآذن ـ الذي سماه ( الأصيل ) ـ يخرج توجه اليمين عليه ، وعدمه على قاعدة هي : ان اليمين المردودة كالبينة أو كالإقرار ، وفيه قولان مشهوران
ولو جحد الأصيل وصدّقه المستحق احتمل الرجوع ، لسقوط المطالبة بإقراره الذي هو أقوى من البينة ، وعدمه إذ قول المستحق ليس حجة على الأصيل.
______________________________________________________
يأتيان ان شاء تعالى في كتاب القضاء.
فإن قلنا : إنها كالإقرار لم يحلّفه ، أي : لم يحلّف المأذون الآذن على عدم العلم بالأداء ، لأن غايته ـ أي : غاية توجهه ـ تحليفه ، أي : أقصى أحواله إذا خاف من اليمين ، ولم يقر النكول عن اليمين فيها على الضامن ، أي : المأذون سماه ( ضامنا ) مجازا كما سمى الآذن ( أصيلا ). فإذا حلف صار كما لو صدّق الأصيل على الأداء ، ولا رجوع مع تصديقه لأنه المفرع عليه.
وإن قلنا : إن المردودة كالبينة توجهت اليمين عليه ، فإذا كان كذلك فلعله ينكل فيحلف المأذون ، فيكون كما لو أقام البينة بما يدعيه. هذا محصل كلامه ، وعندي فيه نظر ، لأن الذي يحلف عليه إنما هو الذي ادعى به قطعا ، والحال لا يخلو من أن تكون دعواه أنه أدى بإشهاد أو بدونه ، فان كانت دعواه الأول فلا شبهة في ثبوت ذلك باليمين المردودة ، سواء قلنا هي كالإقرار أم كالبينة ، ومتى أقر بذلك الآذن كان الرجوع مستحقا.
وإن كانت الدعوى الثاني ، فإن قلنا باستحقاق الرجوع بهذا الأداء ، وكونه غير مقصر استحق الرجوع بتصديقه ، وباليمين المردودة وإن قلنا : إنها كالإقرار. وإن قلنا بالعدم ، وحكمنا بكونه مقصرا فلا رجوع ، سواء أقر الآذن أو أثبت ذلك باليمين المردودة أو بالبينة ، فلا يظهر لهذا الذي ذكره وجه أصلا.
قوله : ( ولو جحد الأصيل وصدّقه المستحق احتمل الرجوع ، لسقوط المطالبة بإقراره الذي هو أقوى من البينة وعدمه ، إذ قول المستحق ليس حجة على الأصيل ).
( أي : لو جحد الأصيل الدفع المأذون فيه ، وصدق المأذون المستحق للدين
ولو كان الدفع بحضور الأصيل فلا ضمان ، إذ التقصير ينسب اليه. ولا تفريط لو أشهد رجلا وامرأتين ، أو مستورين.
______________________________________________________
في القضاء والدفع ، احتمل الرجوع على الأصيل ) (١) ، لأن المطلوب بالقضاء سقوط المطالبة وقد حصل ذلك بوجه أقوى ، فإن إقرار المستحق أقوى من البينة التي يمكن ظهور فسقها. وفيه نظر لمنع كون المطلوب بالقضاء ذلك ، وإنما يراد به براءة الذمة ظاهرا وباطنا وعدمه ، أي : واحتمل عدم الرجوع ، لأن قول المستحق ليس حجة على الأصيل. وفيه نظر ، لأن إثبات ذلك بقوله إنما هو من جهة سقوط المطالبة ، لا من حيث كونه حجة عليه. والأصح عدم الرجوع لعدم تحقق ما يقتضي الرجوع ، وهو الأداء المأذون فيه وإقرار المستحق لا يحققه لا مكان كذبه ، وجواز المواطاة بين المستحق والأصيل بالصبر عليه إلى مدة ، وأخذه الآن من المديون.
قوله : ( ولو كان الدفع بحضور الأصيل فلا ضمان ، إذ التقصير ينسب اليه ).
هذا قسيم قوله أولا : ( فإن كان في غيبة الآذن ) أي : لو كان الدفع من المأذون ـ الذي سماه ضامنا ـ بحضور الأصيل ، الذي هو الآذن ، فلا ضمان عليه ، حيث أنه غير مقصّر بترك الإشهاد ، إذ التقصير الآن ينسب الى الآذن ، لأن أمره بالدفع وهو حاضر ، وسكوته على ترك الإشهاد يؤذن برضاه به ، فيكون هذا التقصير من قبله.
قوله : ( ولا تفريط لو أشهد رجلا وامرأتين ، أو مستورين ).
وذلك لأن الأموال تثبت بالرجلين اللذين قد حكم شرعا بعدالتهما ، وكذا الرجل مع امرأتين كذلك. فلا يكون مقصرا بترك الإشهاد ، إذ قد مهد طريق الإثبات. وكون الشاهدين في نفس الأمر فاسقين لا يعد تقصيرا ، لأن المكلف به هو العدالة ظاهرا.
__________________
(١) ما بين القوسين لم يرد في « م ».
وفي رجل واحد ليحلف معه نظر.
ولو اتفقا على الاشهاد وموت الشهود أو غيبتهم فلا ضمان.
ولو ادعاه الدافع فأنكر الأصيل الإشهاد تعارض أصلا عدم الاشهاد وعدم التقصير ، لكن تأيد الأول بأصالة براءة ذمته عن حق الدافع.
______________________________________________________
غاية ما في الباب أنها لا تثبت إلا بالمعاشرة الباطنة ، ومعلوم أنها لا يعلم بها ما في نفس الأمر ، نعم لا بد من كونهما عدلين في نظر الشرع حين الاشهاد.
قوله : ( وفي رجل واحد ليحلف معه نظر ).
أي : وفي كونه مفرطا لو أشهد رجلا واحدا عدلا ليحلف هو معه ، عند الحاجة الى إثبات الدفع الى المستحق نظر ينشأ : من تمهيد طريق الإثبات بذلك ، فان الدفع يثبت بالشاهد واليمين. ومن أنه لم يشهد إشهادا مثبتا ، لأن الدفع لا يثبت بشاهد واحد. وفيه نظر ، لأن الواجب هو تمهيد طريق الإثبات وهو حاصل بهذا ، فان الاشهاد كذلك إذا انضم الى اليمين كان مثبتا ، لكن يرد عليه أن لو أمكنه الإثبات باليمين المردودة لم يعد مقصرا.
ولا يستبعد أن يقال : الواجب هو الإشهاد الذي يستقل الاذن بإثبات الدفع به.
فان قيل : قد تغيب البينة أو تموت.
قلنا : هذا ليس بمقدور للمأذون ، وإنما يخاطب بمقدوره.
قوله : ( ولو اتفقا على الاشهاد ، وموت الشهود ، أو غيبتهم فلا ضمان ).
لعدم التفريط حينئذ ، لأن بقاء الشهود ليس مقدورا له.
قوله : ( ولو ادعاه الدافع فأنكر الأصيل الإشهاد ، تعارض أصلا عدم الاشهاد ، وعدم التقصير. لكن تأيد الأول بأصالة براءة ذمته عن حق الدافع ).
الفصل الثاني : في الحوالة :
وهي عقد شرع لتحويل المال من ذمة إلى أخرى.
وشروطها ثلاثة : رضى الثلاثة ،
______________________________________________________
أي : لو ادعى الاشهاد الدافع وهو المأذون ، فأنكر الأصيل وهو الآذن تعارض أصلان : أصل عدم الاشهاد ، وأصل عدم التقصير الموجب لعدم استحقاق الرجوع ، لكن الأصل الأول متأيد بأصل آخر ، وهو أصالة براءة ذمة الأصيل عن حق الدافع فان شغل ذمته لم يكن ثابتا ، وإنما يحدث بالقضاء المأذون فيه بالإشهاد ، والأصل عدمه الى أن يثبت فيترجح جانب الأصيل ، فيقدم إنكاره باليمين.
قوله : ( وهي عقد شرع لتحويل المال من ذمة إلى ذمة أخرى ).
قيل : هذا صادق على الضمان بالمعنى الأخص ، فإنه عقد شرع لتحويل المال من ذمة إلى أخرى ، لأن المال ينتقل من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن.
والسبب في هذا التعريف ، أن المصنف لما لم يشترط في الحوالة شغل ذمة المحال عليه ، حاول في التعريف شموله لهذا القسم ، أعني ما تكون ذمة المحال عليه فيه بريئة ، فترك القيد بقوله : مشغولة بمثله. ويمكن دفعه بأن المراد عقد مخصوص شرع لكذا إلى أخره.
قوله : ( وشروطها ثلاثة ).
المراد : شروط الصحة.
قوله : ( رضى الثلاثة ).
لأصحابنا قول : بأنه لا يشترط رضى المحال عليه ، ويلوح من المختلف الميل اليه (١) ، والمشهور اشتراطه. ووجهه : أن نقل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال
__________________
(١) المختلف : ٤٣٢.
وعلمهم بالقدر ، ولزوم الدين أو كونه صائرا اليه وعلم المحتال بإعسار المحال عليه لو كان أو رضاه به بشرط اللزوم.
______________________________________________________
عليه تابع لرضاه.
ولا ريب في متانة دليل الأول ، فإن التمسك بأصالة عدم الاشتراط ، وبمنع كون الحوالة تقتضي النقل ، بل هي إيفاء لما في ذمة الغير ، فلا يقصر عن بيع ما في ذمة الغير. ولا يشترط فيه الرضى ، إلا أن الشهرة ، ونقل الشيخ الإجماع (١) مرجح للاشتراط. وهذا كله إذا كانت الحوالة على مشغول الذمة ، أما على البريء فلا بد من رضاه قطعا.
قوله : ( وعلمهم بالقدر ).
لأن الحوالة إن كانت بيعا فظاهر ، وإن كانت استيفاء فلا بد من العلم ، إذ لا يمكن استيفاء المجهول. واحتمل في التذكرة صحة الحوالة بالمجهول ، ويلزم ما تقوم به البينة كما في الضمان (٢) ، والمشهور الأول.
قوله : ( ولزوم الدين أو كونه صائرا إليه ).
في اشتراط هذا ، مع القول بأن الحوالة على بريء الذمة جائزة نظر.
قوله : ( وعلم المحتال بإعسار المحال عليه ، لو كان ، أو رضاه به شرط اللزوم ).
أي : ليس هذا شرطا للصحة ، فمتى لم يعلم بالإعسار ثم ظهر وجوده حال العقد فله الفسخ ، لرواية منصور بن حازم عن الصادق عليهالسلام (٣).
__________________
(١) الخلاف ٢ : ٧٧ مسألة ٢ ، كتاب الحوالة.
(٢) التذكرة ٢ : ١٠٧.
(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ حديث ٤ ، التهذيب ٦ : ٢١٢ حديث ٤٩٨.
وهل يشترط شغل ذمة المحال عليه بمثل الحق للمحيل؟ الأقرب عدمه ، لكنه أشبه بالضمان ، ولا يجب قبولها وإن كانت على ملي ، فإن قبل لزم ، وليس له الرجوع وإن افتقر.
______________________________________________________
قوله : ( وهل يشترط شغل ذمة المحال عليه بمثل الحق للمحيل؟ الأقرب عدمه ، لكنه أشبه بالضمان ).
اختلف كلام الأصحاب في اشتراط شغل ذمة المحال عليه بدين المحيل لتصح الحوالة ، فجوزها الشيخ بدون الشغل تارة (١) ، ومنع اخرى (٢). والأقرب عند المصنف عدم الاشتراط ، تمسكا بأصل الجواز ، وأصل عدم الاشتراط ، وهذا إنما يجري على القول بأن الحوالة استيفاء أما على القول بأنها بيع فلا.
وعلى الأقرب فعقد الحوالة أشبه شيء بالضمان ، لأن كل واحد منهما اقتضى نقل المال من ذمة مشغولة إلى ذمة بريئة ، فكان المحال عليه بقبوله لذلك ضامن لدين المحتال على المحيل.
قوله : ( ولا يجب قبولها وإن كانت على ملي ).
لأن الواجب أداء الدين ، وليست الحوالة أداء ، وإنما هي نقل الدين من ذمة إلى ذمة (٣) ، فيمتنع بدون رضى صاحبه ، خلافا لأحمد (٤).
قوله : ( فان قبل لزم ، وليس له الرجوع وإن افتقر ).
لأن الحوالة موجبة للبراءة من الحق ، فلا يعود إلا بسبب ، ولرواية عقبة بن جعفر ، عن أبي الحسن عليهالسلام (٥) ، خلافا لبعض العامة (٦).
__________________
(١) المبسوط ٢ : ٣١٣ ، الخلاف ٢ : ٧٧ مسألة ٣ كتاب الحوالة.
(٢) المبسوط ٢ : ٣١٦.
(٣) في « ق » : نقل من الذمة إلى الذمة.
(٤) المغني لابن قدامة ٥ : ٦١.
(٥) التهذيب ٦ : ٢١٢ حديث ٥٠١.
(٦) انظر : المغني لابن قدامة ٥ : ٥٩.
ولو ظهر له فقره حال الحوالة تخير في الفسخ.
وهل يتخير لو تجدد اليسار والعلم بسبق الفقر؟ اشكال.
وهي ناقلة ، فيبرأ المحيل عن دين المحتال وإن لم يبرئه المحتال على رأي ،
______________________________________________________
قوله : ( ولو ظهر له فقره حال الحوالة تخيّر في الفسخ ).
لرواية منصور بن حازم ، عن الصادق عليهالسلام ، ولوجود المقتضي للخيار.
قوله : ( وهل يتخير لو تجدد اليسار والعلم بسبق الفقر؟ إشكال ).
أي : لو أحيل على شخص فاحتال عليه ، وكان معسرا ولم يعلم بإعساره حتى تجدد له اليسار ، فهل يتخير في الفسخ أم لا؟ فيه إشكال ينشأ : من أن المقتضي له هو العيب بالفقر وقد زال فيزول الحكم.
ومن أن الخيار قد ثبت من حين العقد ، والأصل بقاؤه. وهذا أظهر ، فإن المقتضي ليس هو العيب في الجملة بالفقر ، بل العيب بالفقر وقت الحوالة وهذا لم ينتف ، فيبقى حكمه وهو ثبوت الفسخ.
قوله : ( وهي ناقلة ، فيبرأ المحيل عن دين المحتال ، وإن لم يبرئه المحتال على رأي ).
هذا مذهب ابن إدريس (١) ، وهو المشهور ، وعليه الفتوى ، لأن نقل الحق بالحوالة يقتضي عدم الاحتياج إلى الإبراء. وقال الشيخ : لا يبرأ إلا أن يبرئه (٢) ، محتجا برواية زرارة في الحسن عن الصادق عليهالسلام « وإن لم يبرئه فله أن يرجع على الذي احاله » (٣). ويمكن تنزيلها على ما إذا ظهر إعسار المحال عليه وقت الحوالة ، جمعا بين الأدلة.
__________________
(١) السرائر : ١٧٣.
(٢) النهاية : ٣١٦.
(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ حديث ٢ ، التهذيب ٦ : ٢١١ حديث ٤٩٦.