جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٥

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٣

ومع قسمة ماله يجب إطلاقه ، ويزول الحجر بالأداء لا بحكم الحاكم.

______________________________________________________

مع المشهود له ، أي : مع معاشرة كثيرة يطلعان بها على أحواله.

ولا يراد كون ذلك شرطا في نفس الأمر فقط لا في علمنا ، لأن اشتراط العلم بحقيقة الحال في نفس الأمر ثابت في كل مشهود له.

فان قيل : مع عدالة الشاهدين لم يشترط هذا الأمر الزائد؟

قلنا : لأن الشهادة على النفي حقّها أن لا تسمع ، فإذا سمعت لكونها قد ضبطت بما يلحقها بالإثبات ، لم تبلغ مرتبة الإثبات ، فلا بد من تقويتها بالعلم بالصحبة المؤكدة ، حتى يعلم أنهما لا ينفيان المال ـ بشهادتهما بالإعسار ـ تعويلا على ظاهر الحال.

ومن ثم كان للغرماء إحلاف المديون حينئذ مع البينة ، لأن شهادة النفي لا يزول معها الاحتمال بالكلية ، ولا صراحة لها في تلف الأموال ، بخلاف شهادة الإثبات ، فضعفها قائم ، فتجبر باليمين ، وهذا هو مختار الأكثر ، وعكس الحكم في التذكرة (١) ، وهو ضعيف كما قلناه.

قوله : ( ومع قسمة ماله يجب إطلاقه ).

ينبغي أن يكون مرجع الضمير مطلق الديون بمعونة المقام ، كما سبق في أول المبحث ، فيندرج فيه المفلس وغيره ، فإذا قسم جميع مال المديون ولم يبق له مال يصرف في الدين ، يجب على الحاكم إطلاقه من الحبس إذا كان محبوسا.

قوله : ( ويزول الحجر بالأداء ، لا بحكم الحاكم ).

أي : بأداء أمواله في الديون على الوجه السابق ، فحينئذ يزول حجر المحجور ، ولا يتوقف على حكم الحاكم عندنا ، لأنه إنما كان لحقوق الغرماء ليقسموا أمواله الموجودة ، وقد حصلت ، فيزول.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥٩.

٣٠١

ويجوز الحبس في دين الولد ، ولا تمنع الإجارة المتعلقة بعين المؤجر من حبسه.

المطلب السادس : في بقايا مباحث هذا الباب :

لو أفلس المشتري بعد جناية العبد فالأقرب أن للبائع الرجوع ناقصا بأرش الجناية ، أو الضرب بثمنه مع الغرماء. ولا يسقط حق المجني عليه من أخذ‌ العين ،

______________________________________________________

قوله : ( ويجوز الحبس في دين الولد ).

في رواية الحسين بن أبي العلاء عن الصادق عليه‌السلام (١) ما يدل على عدم الجواز ، وإن كان في الحسين قول ، لكن ظاهر قوله عليه‌السلام : « أنت ومالك لأبيك » ومؤكدات القرآن في حق الوالدين (٢) مؤيدة لهذا الرواية ، والقول بعدم الجواز لا يخلو من قوة ، واختاره في التذكرة (٣).

قوله : ( ولا تمنع الإجارة المتعلقة بعين المؤجر من حبسه ).

أي : من حبسه بدين شخص آخر مطالب ، حيث يجوز الحبس ، وفي المسألة تردد ، ينشأ من تعارض إطلاق أوامر الحبس في الدين للممتنع من الأداء مع المطالبة وعدم الإعسار ، واختصاص المستأجر لعينه بمنافعه ، ولا أولوية.

ويحتمل اعتبار الأسبقية ، وإن ضعف فيما إذا كان الدين أسبق دون المطالبة ، وللتوقف مجال ، والمسألة موضع إشكال ، وهذا إذا لم يمكن الجمع.

قوله : ( لو أفلس المشتري بعد جناية العبد ، فالأقرب أن للبائع الرجوع ناقصا بأرش الجناية ، أو الضرب بثمنه مع الغرماء ، ولا يسقط حق المجني عليه من أخذ العين ).

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٣٦ حديث ٦ ، الفقيه ٣ : ١٠٩ حديث ٤٥٦ ، التهذيب ٦ : ٣٤٤ حديث ٩٦٦ ، الاستبصار ٣ : ٤٩ حديث ١٦٢.

(٢) منها ما ورد في سورة البقرة : ٨٣ ، والنساء : ٣٦ ، والأنعام : ١٥١ ، والإسراء : ٢٣.

(٣) التذكرة ٢ : ٥٩.

٣٠٢

والأقرب تقديم حق الشفيع على البائع ، لتأكيد حقه حيث يأخذ من المشتري ، وممن نقله اليه ، وسبقه.

ويحتمل تقديم البائع ، لانتفاء الضرر بالشفعة ، لعود الحق كما كان ، وأخذ الثمن من الشفيع فيختص به البائع جمعا بين الحقين.

______________________________________________________

أي : لو أفلس المشتري بعد جناية العبد المبيع بثمنه ، فالأقرب أن للبائع الرجوع بالعبد ناقصا بأرش الجناية ، أي : ناقصا بتعلق أرش الجناية به ، لأن ذلك عيب ، ولا يرجع بأرش هذا العيب ، بناء على قاعدة المصنف والجماعة.

وعلى ما اخترناه ، فله الضرب بنقص القيمة ، لكونه مضمونا عليه ، أو الضرب بثمنه مع الغرماء ، فيكون مخيرا بين الأمرين ، الفسخ والرجوع إلى العبد ، والضرب مع الغرماء بثمنه.

ووجه القرب : أن حق البائع سابق ، ولعدم المنافاة ، ويحتمل المنع ، لأن حقّ المرتهن مانع من الرجوع كما سبق ، وتعلق حق المجني عليه أقوى من تعلق حق المرتهن ، فلا يرجع معه بطريق أولى.

ويضعف بأن الرجوع يقتضي إبطال الرهن لا حق المجني عليه ، فلا منافاة ، والأولوية غير ظاهرة ، واعلم أن الجار في قوله : ( بأرش الجناية ) يتعلق بقوله : ( ناقصا ).

قوله : ( والأقرب تقديم حق الشفيع على البائع لتأكد حقه ، حيث يأخذ من المشتري وممن نقله إليه وسبقه ، ويحتمل تقديم البائع ، لانتفاء الضرر بالشفعة ، لعود الحق كما كان ، وأخذ الثمن من الشفيع ، فيختص به البائع جمعا بين الحقين ).

لو كان المبيع شقصا مشفوعا ، وأفلس المشتري بالثمن ، ففي الحكم احتمالات ثلاثة :

أقربها عند المصنف تقديم حق الشفيع ، فيأخذ المبيع دون البائع ، ويكون الثمن حينئذ كسائر أموال المشتري يشترك فيها الغرماء ، والبائع كأحدهم ، ووجّه‌

٣٠٣

______________________________________________________

هذا الاحتمال المصنف بوجهين :

أ : تأكد حقه ، أي : قوته بالنسبة إلى حق البائع ، بدليل أنه يأخذ من المشتري ، وممن نقل المشتري المبيع إليه ، والبائع إنما يختص بالعين إذا لم يتعلق بها حق ثالث كما سبق ، فلا يأخذ من المشتري المفلس (١) ولا من المتهب والمرتهن ، ولا ريب أن استحقاق من لا ينبغي استحقاقه بتعلق حق ثالث أقوى ممن ليس كذلك ، ومع تعارض الحقين يقدّم الأقوى.

ب : سبق حق الشفيع على حق البائع ، وذلك لأن حقه ثبت من حين البيع ، وحق البائع إنما يثبت بالتفليس ، والأسبق مقدّم ومانع من ثبوت الآخر ، عملا بالاستصحاب وللمنافاة بينهما ، فلا يثبتان ، ويمنع ثبوت المتأخر ورفع المتقدم ، لانتفاء المقتضي ، بل المقتضي للعدم قائم ، وهذا أقوى.

والشارح وجه السبق ، بأن حق الشفيع لا حق للبيع لذاته ، وحق البائع لا حق بواسطة الإفلاس ، وما بالذات أسبق (٢) ، وهذا سبق معنوي ، وما ذكرناه أفقه.

الثاني : تقديم البائع ، فيفسخ ويختص بالعين ، ووجهه المصنف بزوال الضرر الحاصل بالشفعة به ، فان التسلط على مال الغير بغير رضاه ضرر ، وما يزال به الضرر أقوى ، فإن الضرر منفي بالنص (٣).

وإنما قلنا : أن الضرر يزول بذلك ، لأن الأخذ بالشفعة يقتضي عود الحق كما كان قبل البيع ، ويؤيده عموم الخبر الدال على اختصاص البائع بعين ما له إذا أفلس المشتري بالثمن (٤).

__________________

(١) في نسختي « م » و « ق » : من المفلس.

(٢) إيضاح الفوائد ٢ : ٨٠.

(٣) هو حديث « لا ضرر ولا ضرار » ، انظر : سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ حديث ٢٣٤٠ و ٢٣٤١ ، سنن الدار قطني ٤ : ٢٢٧ حديث ٨٣ ، مسند أحمد ١ : ٣١٣ و ٥ : ٣٢٧ ، الكافي ٥ : ٢٨٠ حديث ٤ ، الفقيه ٣ : ٤٥ حديث ١٥٤ ، التهذيب ٧ : ١٤٦ حديث ٦٥١.

(٤) التهذيب ٦ : ١٩٣ حديث ٤٢٠ ، الاستبصار ٣ : ٨ حديث ١٩.

٣٠٤

وليس للمحرم الرجوع في الصيد ،

______________________________________________________

ويضعّف بأن المنفي هو الضرر الذي لم يعلم ثبوته شرعا ، أما ما ثبت بالنص والإجماع فلا ينتفي إلاّ بدليل منهما أقوى ، وبمنع شمول الخبر لهذا القسم ، لسبق حق الشفعة الثابت قطعا ، فلا بد لزواله ليشمله الخبر من قاطع ، وهو منتف.

ولا يقال : تعارض العامان ، لأن ثبوت الشفعة أسبق.

الثالث : أخذ الثمن من الشفيع ، فيقدم بعين المبيع على البائع ، ويخص البائع بالثمن ، حيث أنه عوض عن ماله ، وحيث تعذر أخذه للعين واختصاصه بها ، فليجعل حقه في قيمتها.

ووجهه المصنف ، بأن فيه جمعا بين الحقين ، يعني حق البائع وحق الشفيع ، حيث جعل لأحدهما العين وللآخر القيمة.

وضعفه ظاهر ، إذ البائع لا حق له إذا قدّم الشفيع في العين عليه ، وإنما الثمن من أموال المشتري ، والبائع واحد من الغرماء ، فيضرب معهم.

قوله : ( وليس للمحرم الرجوع في الصيد ).

أي : لو باع صيدا ، ثم أحرم وأفلس المشتري بالثمن ، لم يكن للبائع الرجوع في الصيد ، لامتناع دخوله في ملك المحرم ، بل يضرب بالثمن.

وينبغي أن يقيد ذلك بالصيد الحاضر ، أما النائي فإنه لا يمتنع دخوله في الملك ، فينبغي أن لا يمتنع رجوعه به.

وهذا الذي ذكره المصنف ، مبني على أن الصيد الحاضر لا يدخل في ملك المحرم ، ويزول ملكه عنه بالإحرام ، ولو قلنا ببقاء الملك وجب الإرسال ، فينبغي هنا ان يثبت له الرجوع ، ثم يرسله بعده.

ولو انعكس الفرض ، بأن كان المحرم هو المفلس انعكس الحكم ، فيرجع به إن قلنا ببقائه على ملك المحرم ، وإنما الواجب الإرسال ، لانتفاء المانع حينئذ ، وإلاّ ضرب بدينه.

٣٠٥

والرجوع فسخ فلا يفتقر إلى معرفة المبيع ، ولا القدرة على التسليم ، فلو رجع في الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ، ثم وجده على حاله صح ، وإن تغير فله الخيار ، ولو رجع في العبد بعد إباقه صح ، فإن قدر عليه وإلا تلف منه.

ولو ظهر تلفه قبل الرجوع ضرب بالثمن وبطل الرجوع ،

______________________________________________________

قوله : ( والرجوع فسخ ، فلا يفتقر إلى معرفة المبيع ، ولا القدرة على التسليم ).

ولا غير ذلك من شروط البيع ، وقد سبق في الإقالة حكاية قول لبعض أهل الخلاف أنها بيع ، فهل يجي‌ء هنا؟

يبعد ذلك ، والفرق أنه لو كان الرجوع بيعا ، لم يستحقه البائع إلاّ برضى المفلس ، وليس كذلك ، لأنه قهري.

قوله : ( لو رجع في الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ، ثم وجده على حاله صح ، وإن تغير فله الخيار ).

لأنه إنما رجع فيه بناء على أنه باق على ما كان عليه ، فيكون الرجوع متزلزلا ، فله إبطاله ، وعند أحمد لا يصح الرجوع حينئذ ، لفوات الشرط.

وهنا إشكال ، وهو أن الرجوع فسخ ، وهو رفع العقد ، فكيف يتصور الرجوع فيه؟

قوله : ( ولو رجع في العبد بعد إباقه ، فإن قدر عليه وإلاّ تلف منه ).

حيث أن الرجوع فسخ يصح ، وإن كان المبيع عبدا قد أبق ، وحينئذ فإن قدر عليه فلا بحث ، وإن لم يقدر عليه فهو تالف من مالكه ، لكن يجب أن يقيد ذلك ببقاء العبد ، فان تلف بموت ونحوه قبل القدرة عليه ، فسيأتي حكمه.

قوله : ( ولو ظهر تلفه قبل الرجوع ، ضرب بالثمن وبطل الرجوع ).

أي : لو ظهر موت العبد مثلا قبل زمان رجوع البائع ، فقد تبين بطلان‌

٣٠٦

وبعده أمانة على اشكال.

ولو تنازعا في تعيين المبيع بعد الرجوع قدّم قول المفلس ، لأنه منكر ، فيضرب بالثمن خاصة

______________________________________________________

الرجوع ، لعدم ما يرجع فيه ، فحينئذ يضرب بالثمن.

قوله : ( وبعده أمانة على إشكال ).

أي : لو ظهر موت العبد الآبق بعد الرجوع من البائع وقد أفلس المشتري بالثمن ، فهو قبل التلف أمانة في يد المشتري ، فيكون تلفه من البائع على إشكال ، ينشأ من أن المقتضي لكون العبد مضمونا على المشتري هو البيع ، وقد زال بالفسخ وعاد الملك إلى البائع ، فيكون تلفه منه ، ومن أن المشتري قبضه مضمونا ، فيكون كذلك إلى أن يقبضه البائع ، عملا بالاستصحاب ، ولعموم قوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (١) وهذا أقوى.

قوله : ( ولو تنازعا في تعيين المبيع بعد الرجوع قدم قول المفلس ، لأنه منكر ، فيضرب بالثمن خاصة ).

أي : لو تنازع البائع والمفلس بعد تحقق الرجوع ، مع الاتفاق على بقاء العين في تعيين المبيع ، فالقول قول المفلس بيمينه في أن المبيع ليس هو ما عينه البائع ، لأنه منكر والبائع مدع ، فإذا حلف اندفعت دعواه ، فيضرب بالثمن ، لتعذر الوصول إلى العين.

ويشكل فرض المصنف ، إن أراد بـ ( الثمن ) ما جرى عليه العقد ـ وهو المتبادر إلى الفهم ـ لأنه بعد الفسخ والرجوع كيف يبقى استحقاقه للثمن؟ فلا بد لصحة هذا الفرض من حمل الثمن على القيمة إن اتفقا عليها ، أو ما يحلف عليه المفلس ، أو فرض التنازع في التعيين قبل الرجوع والفسخ.

__________________

(١) سنن البيهقي ٦ : ٩٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ حديث ٢٤٠٠ ، مسند أحمد ٥ : ٨ ، ١٣ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٤٧ ، وفي هذه المصادر : حتى تؤديه ، سنن الترمذي ٢ : ٣٦٨ حديث ١٢٨٤ ، مسند أحمد ٥ : ١٢.

٣٠٧

وكل ما يفعله قبل الحجر ماض.

المقصد الرابع : في الضمان :

وهو عقد شرع للتعهد بنفس ، أو مال ممن عليه مثله أولا ، فهنا فصول ثلاثة :

الأول : الضمان بالمال ممن ليس عليه شي‌ء ، ويسمى ضمانا بقول مطلق ، وفيه مطلبان :

______________________________________________________

قوله : ( وكل ما يفعله قبل الحجر ماض ).

أي : ما يفعله المفلس قبل الحجر صحيح ماض ، لأنه حينئذ كامل له أهلية التصرف.

قوله : ( وهو عقد شرع للتعهد بنفس أو مال ممن عليه مثله أولا ).

هذا التعريف شامل للضمان بالمعنى الأخص والحوالة والكفالة ، ويجي‌ء في قوله : ( وهو عقد ) ما سبق في البيع على القول بأنه العقد ، فان الضمان هو التعهد لا نفس الإيجاب والقبول ، وإنما الضمان أثرهما.

ويرد على هذا هنا وفي البيع ، أن البيع والضمان وغيرهما قد يكون صحيحا ، وقد يكون فاسدا ، ونقل الملك لا يكون إلا صحيحا ، وكذا التعهد.

ويجاب بأن النقل لا يلزم أن يترتب عليه الانتقال ، وكذا التعهد ، فلا يترتب عليه أثره ، والتعهد بالنفس هو الكفالة ، وبالمال ممن ليس عليه مثله هو الضمان ، إن شرطنا في الحوالة اشتغال ذمة المحال عليه ، وإلاّ فهو أحد القسمين ، والقسم الآخر من الحوالة يتحقق بقوله : ( ممن عليه مثله ).

قوله : ( ويسمى ضمانا بقول مطلق ).

أي : غير محتاج إلى تقييده بكونه ضمان المال ممن ليس عليه مثله ، فيكون الضمان واقعا على معنيين ، وهذا بخلاف الكفالة ، فإنها لا تطلق على ضمان المال إلاّ بقيد ، فيقال : كفالة بالمال.

٣٠٨

الأول : في أركانه ، وهي خمسة :

الصيغة : وهي ضمنت ، وتحملت ، وتكفلت ، وما أدى معناه.

ولو قال : أؤدي ، أو أحضر لم يكن ضامنا.

ولا تكفي الكتابة مع القدرة ، وتكفي مع عدمها مع الإشارة الدالة على الرضى ، لإمكان العبث.

وشرطه التنجيز ، فلو علّقه بمجي‌ء الشهر ، أو شرط الخيار في‌

______________________________________________________

وفي حواشي الشهيد : إن الكفالة والحوالة لا يطلق عليهما الضمان إلاّ مضافا ، فيقال في الكفالة : ضمان النفس ، وفي الحوالة : ضمان المال ممن عليه مثله ، فيكون قوله : ( بقول مطلق ) مشيرا إلى ذلك.

وفيه نظر ، فإنه على هذا لا يكون صدق الضمان عليهما بطريق الحقيقة ، وتعريف المصنف يقتضي الحقيقة ، ومع ذلك فالحوالة لا تختص بمن عليه مثله ، كما سيأتي في كلام المصنف إن شاء الله تعالى ، والصواب ما ذكرناه ، وهو الذي ذكره في التذكرة (١).

قوله : ( ولا تكفي الكتابة مع القدرة ).

لأن النطق معتبر في العقود اللازمة بالإجماع.

قوله : ( وتكفي مع عدمها مع الإشارة الدالة على الرضى ، لإمكان العبث ).

أي : مع عدم القدرة لا بدّ من الإشارة الدالة على رضاه بمضمون ما كتبه ، لانتفاء دلالة الكتابة ، إذ يمكن وقوعها عبثا أو لغرض آخر.

قوله : ( أو شرط الخيار ).

مختاره هنا فساد الضمان باشتراط الخيار فيه ، وظاهر الكتاب في البيع الصحة ، وهو صريح التذكرة (٢) هناك ، وهو الأصح ، للأصل ولانتفاء المانع.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٨٥.

(٢) التذكرة ١ : ٥٢٢.

٣٠٩

الضمان فسد. والإبراء كالضمان في انتفاء التعليق فيه ، ولو شرط تأجيل الحال صح ، والأقرب جواز العكس.

______________________________________________________

فان قيل : الضمان يتضمن إبراء ذمة المضمون عنه ، والإبراء لا يدخله خيار الشرط.

قلنا : هو حكم من أحكام نقل المال ، لا انه يتضمنه ، فإذا تحقق النقل غير متزلزل تحققت البراءة ، وإلا فلا.

قوله : ( ولو شرط تأجيل الحال صح ).

ظاهرهم أن صحة هذا بالإجماع ، ويؤيده أن نقل المال الحال إلى الذمة جائز ، واشتراط الأجل في عقد لازم لا مانع منه ، وإن كان أمرا زائدا.

قوله : ( والأقرب جواز العكس ).

وجه الأقرب : أن الأداء معجلا جائز ، فكذا الضمان ، لأنه كالأداء ، وقال الشيخ : لا يصح ، لأن الفرع لا يكون أقوى من الأصل (١) ، وفي هذا التوجيه ضعف ، ولأن الضمان نقل المال على ما هو به.

ولا يرد تأجيل الحال ، لأن ذلك شرط زائد يستقل صاحب الحق بإثباته في العقد اللازم ، بخلاف الأجل الذي هو مشترك بين المضمون له والمضمون عنه ، ولأن الحلول زيادة في الحق ، ولهذا يختلف الأثمان به ، وهذه الزيادة غير واجبة على المديون ولا ثابتة في ذمته ، فيكون ضمان ما لم يجب ، فلا يصح عندنا ، وهذا التوجيه الأخير ذكره الشيخ فخر الدين ولد المصنف (٢) ، وحسنه في المختلف (٣) ، وهو المختار.

__________________

(١) قال السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٥ : ٣٥٣ : ( وقد نسب الخلاف في المختلف الى الشيخ في المبسوط أنه قال : لا يصح لان الفرع لا يكون أقوى من الأصل ، ولم أجد ذلك فيه. ونسب الخلاف جماعة إلى المفيد في المقنعة والشيخ في النهاية ولم أجد ذلك في المقنعة وليس في النهاية الا قوله : ولا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل ... ). وللزيادة راجع عبارة المفتاح بأكملها.

(٢) إيضاح الفوائد ٢ : ٨١ ـ ٨٢.

(٣) المختلف : ٤٣٢.

٣١٠

فيحل مع السؤال على اشكال.

الثاني : الضامن : وشرطه البلوغ ، والرشد ، وجواز التصرف ، والملاءة حين الضمان أو علم المستحق بالإعسار. ولا يشترط استمرار الملاءة ، فلو تجدد لم يكن له فسخ الضمان ، أما لو لم يعلم كان له‌ الفسخ.

______________________________________________________

قوله : ( فيحل مع السؤال على إشكال ).

هذا فرع على صحة ضمان المؤجل ، وإنما يكون ذلك مع السؤال لا في التبرع ، وتحرير المسألة : أنه إذا سأل المضمون عنه غيره أن يضمن ما عليه مؤجلا حالا ، فضمنه كذلك ، فهل يحل ما عليه بذلك؟ فيه إشكال ، ينشأ من أن الضمان في حكم الأداء ، ومتى أذن المديون لغيره في قضاء دينه معجلا فقضاه استحق مطالبته ، ولأن الضمان بالسؤال موجب لاستحقاق الرجوع على وفق الاذن ، ومن أن الاذن في الضمان حالا إنما يقتضي حلول ما في ذمة الضامن ، ولا يدل على حلول ما في ذمة المضمون عنه بإحدى الدلالات.

ويمكن أن يقال : استحقاق الرجوع بما أداه بالاذن يقتضي الحلول.

والتحقيق : أنه إن كان الاذن في قضاء المؤجل في الحال موجبا لثبوت الرجوع كذلك ، قوي حلول المؤجل بما ذكر.

واعلم أن الشارح ولد المصنف قال : إن موضع الاشكال ما إذا أذن في الضمان وأطلق ، أما إذا أذن فيه حالا فلا إشكال في الحلول (١) ، وليس بشي‌ء ، بل قد يقال : انه مع الإطلاق لا إشكال في عدم الحلول.

قوله : ( وشرطه : البلوغ ، والرشد ).

يحترز بذلك عن الصبي ، والمجنون ، والمحجور بالسفه إذا لم يأذن له الولي.

قوله : ( والملاءة حين الضمان ، أو علم المستحق بالإعسار ، ولا يشترط استمرار الملاءة ، فلو تجدد لم يكن له فسخ الضمان ، أما لو لم يعلم فان له الفسخ ).

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٨٢.

٣١١

ويصح ضمان الزوجة بدون اذن الزوج ، وفي صحة ضمان المملوك بدون اذن السيد إشكال ، ينشأ : من أنه إثبات مال في الذمة بعقد فأشبه النكاح ، وانتفاء الضرر على مولاه ،

______________________________________________________

لا يخفى أن الشروط السابقة إنما تشترط حين الضمان ، وإنما خص هذه بالتقييد لينبه على أنّ طروء الإعسار لا يثبت الفسخ ، وإنما كان هذا موضع توهم ثبوت الفسخ دون غيره ، لأن الضمان في معنى أداء الدين ، والمقصود الأصلي منه الارتفاق بنقل الدين إلى ذمة الضامن ، وإنما يكون ذلك إذا كان الأداء منه أيسر.

فلا جرم إذا فات هذا المقصود الذي إنما يبنى الضمان عليه ، تخير المضمون له ، لفوات المقصود منه ، كما يتخير المشتري إذا ظهر في المبيع عيب أو غبن ، حيث كان المقصود هو الصحة والأخذ بالقيمة أو أدون ، إذ البيع مبني على المكايسة.

وهذا بخلاف ما إذا باع مؤجلا فظهر الإعسار ، إذ ليس مقصود البيع الأصلي بالنسبة إلى أداء الثمن كما في الضمان ، وظاهرهم أن هذا الحكم موضع وفاق.

قوله : ( ويصح ضمان الزوجة بدون إذن الزوج ).

خلافا لبعض العامة (١) ، قيل : قد يفضي إلى تعطيل بعض حقوقه بنحو استحقاق الحبس ، قلنا : هذا ليس من لوازمه ، وإن كان قد يترتب عليه بمطل ونحوه ، ولو كان هذا مانعا لمنعت من جميع المعاوضات ، لتطرق المحذور إليها.

قوله : ( وفي صحة ضمان المملوك بدون إذن السيد إشكال ، ينشأ من أنه إثبات مال في الذمة بعقد فأشبه النكاح ، وانتفاء الضرر على مولاه ).

توضيح الوجه الأول من وجهي الاشكال : أن النكاح ممنوع منه العبد ،

__________________

(١) ذهب اليه مالك ، انظر : المجموع ١٤ : ١٠ ، الوجيز ١ : ١٨٣ ، فتح العزيز ١٠ : ٣٦١.

٣١٢

فإن جوزناه يتبع به بعد العتق.

ولو أذن احتمل تعلقه بكسبه وبذمته ، ويتبع به بعد العتق.

______________________________________________________

لأنه يتضمن إثبات مال في ذمته ، وهذه العلة قائمة في الضمان.

وفيه ـ مع كونه قياسا باطلا ـ منع كون المانع في النكاح هو إثبات المال في الذمة ، وينقض بما إذا خلا العقد عن المهر ، فان المنع من العقد ثابت مع انتفاء العلة.

وتوضيح الثاني : أن المانع هو تضرر المولى بتعلله عن خدمته ، وذلك منتف ، لأن استحقاق المطالبة بعد عتقه.

وضعفه ظاهر ، لأن المانع هو كونه لا يقدر على شي‌ء بنص القرآن العزيز (١) ، وان ذمته مملوكة للمولى ، فلا يملك إثبات شي‌ء فيها بدون إذنه ، وما ثبت قهرا من عوض إتلاف وجناية لا يقدح ، لأن ذلك مبني على القهر بالنسبة إلى كل جان ، وليس ذلك بالالتزام ، والأصح عدم الصحة.

قوله : ( فان جوزناه تبع به بعد العتق ).

قطعا ، لأن كسبه مملوك للمولى ، ولا يملك التصرف في مال مولاه.

قوله : ( ولو أذن احتمل تعلقه بكسبه ، وبذمته ، فيتبع به بعد العتق ).

أي : لو أذن المولى للمملوك في الضمان وأطلق فلم يشترط الأداء من الكسب ونحوه ، ولا الصبر إلى ان يعتق فيه احتمالان :

الأول : تعلق الحق بكسبه ، لأن إطلاق الاذن في الضمان إنما يحمل على الضمان الذي يستعقب الأداء ، فإنه المعهود ، والأداء من غير مال السيد ممتنع.

وهذا التوجيه إن تم يقتضي عدم القصر على الكسب ، بل يقتضي وجوب الأداء على السيد ، وهو قريب من قول ابن الجنيد (٢) ، ولا يخلو من قرب.

__________________

(١) سورة النحل : ٧٥.

(٢) نقله عنه العلامة في المختلف : ٤٣١ ، وفخر المحققين في إيضاح الفوائد ٢ : ٨٣.

٣١٣

أما لو شرطه في الضمان بإذن السيد صح ، كما لو شرط الأداء من مال بعينه.

والسفيه بعد الحجر كالمملوك ، وقبله كالحر. وكذا المفلّس كالحر لكن لا يشارك.

______________________________________________________

الثاني : تعلقه بذمته ، فيتبع به ، لأن الاذن في الضمان أعم من كل منهما ، والعام لا يدل على معين.

قوله : ( أما لو شرطه في الضمان باذن السيد صح ، كما لو شرط الأداء من مال بعينه ).

في صحته نظر ، لأن ذمة العبد مملوكة للسيد ، فكيف يثبت فيها مال باختيار العبد والسيد ، ولا يكون على السيد مع كونه لا يقدر على شي‌ء؟

ولا ينتقض بعوض الإتلاف ، لأنه قهري لا بقدرته ، وليس هو كما لو شرط الأداء من مال بعينه ، لأن ذلك من جملة أموال السيد ، ومال العبد بعد العتق ليس من جملة أمواله.

قوله : ( والسفيه بعد الحجر كالمملوك وقبله كالحر ).

هذا بناء على أن الحجر عليه لا يثبت بمجرد السفه ، وهو مختار المصنف ، وقد سبق في الحجر ، وإنما كان بعد الحجر كالمملوك ، لأنه ممنوع من التصرفات المالية ، فيمكن القول بالبطلان لذلك والصحة ، ويتبع به بعد فك الحجر.

والأصح الأول ، لأن الحجر مانع من إثبات مال في ذمته ، ومن ثم لا يصح بيعه على أن يؤدي الثمن بعد الفك ، ولو أذن الولي صح.

قوله : ( وكذا المفلس كالحر ، لكن لا يشارك ).

يصح ضمان المفلس كما يصح ضمان غيره ، لأنه إنما يمنع من التصرف في الأموال الموجودة عند الحجر ، لا من إثبات مال في الذمة ، ومن ثم لا يشارك المضمون له الغرماء ، وفي العبارة مناقشتان :

إحداهما : أن قوله : ( وكذا ) مستدرك ، بل لو لا قوله : ( كالحر ) لاقتضي‌

٣١٤

ولا يصح من الصبي وإن أذن الولي ، فإن اختلفا قدّم قول الضامن ، لأصالة براءة الذمة ، وعدم البلوغ.

وليس لمدعي الأهلية أصل يستند اليه ، ولا ظاهر يرجع إليه ،

______________________________________________________

المساواة في الحكم بينهما ، وهو فاسد.

الثانية : ان قوله : ( لا يشارك ) إن قرئ بصيغة البناء للفاعل وللمفعول ، لم يكن لضميره مرجعا ، ولم يصح نظم العبارة ، ويمكن جعله مصدرا ولا جنسية.

قوله : ( ولا يصح من الصبي ، وإن أذن الولي ).

لأن عبارته مسلوبة الاعتبار ، فلا يؤثر فيها إذن الولي ، ولا فرق بين المميز وغيره ، وإن جوزنا بيعه بالإذن ، لأن الضمان التزام مال لا فائدة له فيه ، وإنما يؤثر إذن الولي فيما يضمن مصلحة الصبي.

قوله : ( فان اختلفا قدّم قول الضامن ، لأصالة براءة الذمة وعدم البلوغ ، وليس لمدعي الأهلية أصل يستند إليه ولا ظاهر يرجع إليه ).

أي : فان اختلف الضامن والمضمون له في وقوع الضمان من الضامن حال الصبا أو حال الكمال ـ ويرشد إلى مرجع الضمير في ( اختلفا ) ، والمحذوف الذي هو المختلف فيه المقام ـ قدّم قول الضامن في أنه كان صبيا وقت الضمان ، لأن الأصل براءة الذمة ، فيستصحب ، وكذا الأصل عدم البلوغ.

وليس لمدعي أهليته للضمان حين وقوعه ـ وهو المضمون له ـ أصل يستند إليه ، ولا ظاهر يرجع إليه يكون معارضا للأصلين السابقين.

فان قيل : له أصالة الصحة في العقود ، وظاهر حال العاقد الآخر أنه لا يتصرف باطلا.

قلنا : الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها ، ليتحقق وجود العقد ، أما قبله فلا وجود للعقد ، فلو اختلفا في كون المعقود عليه هو الحر أم العبد حلف منكر وقوع العقد على العبد ، وكذا الظاهر إنما يثبت مع الاستكمال المذكور لا مطلقا.

٣١٥

بخلاف ما لو ادعى شرطا فاسدا ، لأن الظاهر أنهما لا يتصرفان باطلا ، وكذا البحث فيمن عرف له حالة جنون ، أما غيره فلا ، والمكاتب كالعبد والمريض يمضي من الثلث ، والأخرس إن عرف إشارته صح ضمانه ، وإلا فلا.

______________________________________________________

واعترف شيخنا الشهيد في حواشيه بوجود أصالة الصحة في العقود ، لكن بمعارضة أصالة الصبا يتساقطان ، ويبقى أصل البراءة سليما عن المعارض ، فكأنه لا أصل له ، وبأن وقوع العقد من بالغ مع صبي خلاف الظاهر. وما ذكرناه أثبت.

قوله : ( بخلاف ما لو ادّعى شرطا فاسدا ، لأن الظاهر انهما لا يتصرفان باطلا ).

حيث كان المتعاقدان كاملين ، تحقق الظاهر المذكور ، وأصالة صحة العقود.

قوله : ( وكذا البحث فيمن عرف له حالة جنون ).

أي : ما سبق في الاختلاف في وقوع الضمان حالة الصبا أو البلوغ ، آت فيمن عرف له حالة جنون بعين ما ذكر ، لكن لو حصل الاختلاف في وقوع العقد في يوم الجمعة وكان فيه كاملا ، أو في يوم الخميس قبله وكان باتفاقهما صبيا أو مجنونا ، فهل هو كما سبق ، أم يحتمل هنا التمسك بأصالة عدم التقدم؟ كل ممكن.

قوله : ( اما غيره فلا ).

أي : أما غير من عرف له حالة جنون فليس كذلك ، لانتفاء ما يستند إليه في عدم كمال المتعاقدين.

قوله : ( والمكاتب كالعبد ).

لأنه محجور عليه في تصرفاته ، كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

قوله : ( والمريض يمضي من الثلث ).

لا شك في صحة ضمان المريض ، سواء كان مرض الموت أم لا ، فان لم يكن مرض الموت ، أو عوفي من مرضه صح الضمان ، وإلاّ نفذ من الثلث ، لأن‌

٣١٦

الثالث : المضمون عنه : وهو الأصيل ، ولا يعتبر رضاه في صحة الضمان ، لأنه كالأداء فيصح ضمان المتبرع. ولو أنكر بعد الضمان لم يبطل على رأي ، ويصح الضمان عن الميت وإن كان مفلّسا.

______________________________________________________

منجزات المريض المتبرع بها ، من الثلث عند المصنف ، ولو قيل : بأنها من الأصل نفذ منه.

قوله : ( ولا يعتبر رضاه في صحة الضمان ، لأنه كالأداء ).

لما كان الضمان كأداء الدين ولا يعتبر فيه رضى المديون ، لم يعتبر في الضمان رضاه أيضا ، وهذا الحكم بالإجماع ، ويدل عليه ضمان أمير المؤمنين عليه‌السلام ما في ذمة الميت ليصلي عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

قوله : ( فيصح ضمان المتبرع ، ولو أنكر بعد الضمان لم يبطل على رأي ).

المراد بـ ( المتبرع ) : من لم يأذن له المضمون عنه في الضمان ، فإذا ضمن ثم علم المضمون عنه وأنكر الضمان ـ أي : لم يرض به ـ لم يبطل على أصح القولين ، لانتفاء المقتضي للبطلان ، وقال الشيخ (٢) وجماعة (٣) : يبطل ، وهو ضعيف.

قوله : ( ويصح الضمان عن الميت وإن كان مفلسا ).

لما روي من ضمان أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) ، وقال أبو حنيفة : لا يصح الضمان عن الميت إذا لم يخلف وفاء ، لأن الموت مع عدم الوفاء يسقط المطالبة بالحق (٥) ، وبطلانه ظاهر ، إذ لا يسقط بذلك ما في الذمة.

__________________

(١) سنن الدار قطني ٣ : ٧٨ حديث ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) النهاية : ٣١٤.

(٣) منهم : المفيد في المقنعة : ١٣٠ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٣٢٧.

(٤) سنن الدار قطني ٣ : ٧٨ حديث ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٥) المجموع ١٤ : ٨ ، فتح العزيز ١٠ : ٣٥٨ ، الوجيز ١ : ١٨٣.

٣١٧

ولا يشترط معرفة المضمون عنه ، نعم لا بد من امتيازه عن غيره عند الضامن بما يمكن القصد معه الى الضمان عنه.

الرابع : المضمون له : وهو مستحق الدين ، ولا يشترط علمه عند الضامن بل رضاه.

وفي اشتراط قبوله‌ احتمال ،

______________________________________________________

قوله : ( ولا يشترط معرفة المضمون عنه ، نعم لا بد من امتيازه عن غيره عند الضامن بما يمكن القصد معه إلى الضمان عنه ).

أما أنه لا يشترط معرفته ، فلان الواجب بالضمان أداء الدين عن المضمون عنه ، وليس فيه ما يقتضي معرفته ، قال في التذكرة : وهل يشترط معرفة ما يميزه عن غيره؟ الأقرب العدم ، بل لو قال : ضمنت لك الدين الذي لك على من كان من الناس ، جاز على إشكال ، نعم لا بد من معرفة المضمون عنه بوصف يميزه عند الضامن بما يمكن القصد معه الى الضمان عنه (١).

قوله : ( ولا يشترط علمه عند الضامن ، بل رضاه ).

يدل عليه ضمان علي عليه‌السلام (٢) ، ولأن المقصود أداء الحق ، وهو لا يقتضي معرفته ، ويحتمل اشتراطه ، لتفاوت الناس في المعاملة والاقتضاء والاستيفاء تشديدا وتسهيلا ، واختلاف الأغراض في ذلك ، واستشكله في التذكرة (٣) ، والأكثر على عدم الاشتراط (٤) ، وهو الأصح ، نعم لا بد من تميزه عند الضامن.

قوله : ( وفي اشتراط قبوله احتمال ).

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٨٨.

(٢) سنن الدار قطني ٣ : ٧٨ حديث ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٣) التذكرة ٢ : ٨٨.

(٤) منهم : الشيخ في الخلاف ٢ : ٧٨ مسألة ١ كتاب الضمان ، وابن زهرة في الغنية : ٥٣٣ ، والمحقق في شرائع الإسلام ٢ : ١٠٨.

٣١٨

فإن شرط اعتبر فيه التواصل المعهود بين الإيجاب والقبول في العقود.

الخامس : الحق المضمون به ، وشرطه المالية ، والثبوت في الذمة وإن كان متزلزلا كالثمن في مدة الخيار ، والمهر قبل الدخول ، أو لم يكن لازما لكن يؤول إليه كمال الجعالة قبل الفعل ، ومال السبق والرماية.

______________________________________________________

ينشأ من واقعة علي عليه‌السلام (١) ، والتمسك بالأصل ، والأصح الاشتراط ، لأن الضمان عقد إجماعا ، فلا بد فيه من القبول ، ولأن المال للمضمون له ، فكيف يملك شخص نقله الى ذمته بغير رضاه؟ وقضية علي عليه‌السلام واقعة في عين لا عموم لها ، ولا أصل في هذا ، بل الأصل عدم شرعيته إلى أن يثبت.

قوله : ( فان شرط ، اعتبر فيه التواصل المعهود بين الإيجاب والقبول في العقود ).

لأنه عقد ، فلا بد من رعاية ما يشترط في سائر العقود ، وهو الأصح ، وضابط التواصل ما لا يخرج به القبول عن كونه قبولا لذلك الإيجاب عرفا ، ولا بد من الموالاة بحيث لا يتخلل كلام أجنبي ، ويعتبر وقوعه بلفظ العربية.

قوله : ( أو لم يكن لازما لكن يؤول إليه ، كمال الجعالة قبل الفعل ، ومال السبق والرماية ).

الجعالة ـ بفتح الجيم ويكسر ـ مبنية على الجواز ، لكن تؤول إلى اللزوم بعد العمل ، وقد أطلق المصنف هنا جواز ضمانه قبل الفعل ، وقال في التذكرة ما محصله : أنه إن ضمن قبل الشروع في العمل لم يصح ، لأنه ضمان ما لم يجب ، وإن ضمن بعد فراغ العمل واستحقاقه للمال صح قطعا ، وإن ضمن بعد الشروع في العمل وقبل إتمامه ، فالأقرب جواز الضمان ، لوجود سبب الوجوب ، ولانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم ، كالثمن في مدة الخيار (٢).

__________________

(١) سنن الدار قطني ٣ : ٧٨ حديث ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) التذكرة ٢ : ٩٠.

٣١٩

والأقرب صحة ضمان مال الكتابة وإن كانت مشروطة ، ويصح ضمان النفقة الماضية والحاضرة للزوجة لا المستقبلة ، والحاضرة للقريب دونهما.

______________________________________________________

وفي هذا القسم الأخير نظر ، لانتفاء الثبوت ، واللزوم فيما بقي من الجعل الذي لم يأت بمقابله من العمل ، والفرق بينه وبين الثمن في مدة الخيار ظاهر ، لأن الثمن حينئذ ثابت ، غاية ما في الباب أنه متزلزل ، بخلاف الجعل ، فإنه لا ثبوت له أصلا ، والمتجه عدم الجواز قبل الفعل.

وأما مال السبق والرماية ، فإن ألحقناه بمال الجعالة في عدم الثبوت بدون العمل لكون عقده جائزا ، فكما في الجعالة ، وإن ألحقناه بالإجارة وحكمنا بلزوم العقد ـ وهو الأصح على ما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ فإنه يجوز.

واعلم أنه لو قال المصنف : أو لم يكن ثابتا لكن يؤول إليه ، لكان أوجه ، لأن عدوله إلى نفي اللزوم الذي هو أعم يوهم أن الثبوت حاصل.

قوله : ( والأقرب صحة ضمان مال الكتابة وإن كانت مشروطة ).

هذا هو الأصح ، لأنه مال ثابت في الذمة بعقد لازم ، ومنعه الشيخ (١) ، لأن للعبد تعجيز نفسه ، وفيه نظر ، للمنع من أن له ذلك ، بل يجب عليه القيام بالمال ، لأنه صار دينا عليه ، ولو سلّم فأقصى ما فيه ان يكون ثبوت المال في ذمته متزلزلا.

قوله : ( ويصح ضمان النفقة الماضية والحاضرة للزوجة لا المستقبلة ).

نفقة الزوجة ـ لأنها كالعوض عن التمكين ـ دين ، فيصح ضمان الماضية والحاضرة منها ، لا المستقبلة ، لكونها لم تثبت بعد.

قوله : ( والحاضرة للقريب دونهما ).

أي : دون الماضية والمستقبلة ، أما المستقبلة فظاهر ، وأما الماضية ، فلأن‌

__________________

(١) المبسوط ٢ : ٣٣٦.

٣٢٠