جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٥

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٣

وينفق على من استلحقه من بيت المال ، وبما يوجب القصاص ، ولو صولح فيه على مال فالأقرب ثبوت المال.

ولو وكله غيره في بيع أو هبة جاز ، لبقاء أهلية التصرف. وللولي أن يشتري له جارية ينكحها مع المصلحة ، فإن تبرم بها أبدلت ، وهو في العبادات كالرشيد ، إلا أنه لا يفرّق الزكاة بنفسه.

وينعقد إحرامه في الواجب‌ مطلقا ،

______________________________________________________

قوله : ( وينفق على من استلحقه من بيت المال ).

جواب عن سؤال ، تقديره : أن الإقرار بالنسب يقتضي ثبوت النفقة ، فيجب أن لا ينفذ ، لأنه إقرار بما يتضمن التصرف في المال. والجواب : أن النسب يثبت بالنسبة إلى ما عدا المال ، فينفق حينئذ على المقرّبة من بيت المال ، لعدم ثبوت استحقاق النفقة من مال السفيه.

وفي حواشي شيخنا الشهيد : أنه لو قيل : يكون من ماله لكان حسنا ، لأن النسب قد ثبت ، فتثبت النفقة تبعا ، ولأن في ذلك إضرارا لجميع المسلمين لأجل قول واحد.

وجوابه : أن النسب إنما يثبت بالنسبة إلى ما عدا المال ، وبيت مال المسلمين لمصالح المسلمين ، وهذا منهم ، فلا يتصور أن يقال : وجوب النفقة إضرار بالمسلمين ، وإلا لقيل في كلّ فرد منهم مثل هذا.

قوله : ( ولو صولح فيه على مال ، فالأقرب ثبوت المال ).

وجه القرب : أنّ فيه حفظ نفسه ، وهو أولى من حفظ المال. ويحتمل العدم ، لأن ذلك مفوّت للغرض من الحجر ، لإمكان أن يتواطأ مع المقرّ له على الإقرار ، ثمّ الصلح توصلا إلى الغرض الفاسد.

وجوابه : اندفاع ذلك بقرائن الأحوال ، فإنّ المقدم على الاستيفاء لا يكاد يخفى ، ولا يلتبس بمن يحاول المال ، فيصح الصلح ، إلاّ مع حصول الريبة.

قوله : ( وينعقد إحرامه في الواجب مطلقا ).

٢٠١

وفي التطوع إن استوت نفقته سفرا وحضرا ، أو أمكنه تكسب الزائد ، وإلا حلله الولي بالصوم.

______________________________________________________

أي : سواء استوت النفقة ، أو زادت نفقة السفر.

قوله : ( وفي التطوع إن استوت نفقته سفرا وحضرا ، أو أمكنه تكسب الزائد ).

لا بحث مع الاستواء ، أما مع تكسب الزائد ، فإنّه يرد عليه : أنّ ما يكتسبه مال ، فيتعلق الحجر به.

وجوابه : أنه قبل الاكتساب لم يكن مالا ، وبعده صار محتاجا إلى زيادة النفقة. وأيضا فإنّ الاكتساب غير واجب على السفيه ، وليس للولي قهره عليه ، فلا يلزم من صرف ما يحصل به إتلاف لشي‌ء من المال الذي تعلق الحجر به.

قوله : ( وإلاّ حلّله الولي بالصوم ).

أي : وإن لم تستو النفقتان ولا أمكنه تكسّب الزائد ، حلّله الولي بالصوم كالمحصور ، قال في التذكرة : إذا جعلنا لدم الإحصار بدلا (١) ، وظاهر قوله : ( حلّله ) تعين ذلك ، وهو الذي يقتضيه الحجر ، لحفظ المال ، وظاهر التذكرة (٢) والتحرير (٣) أنّ له كلاّ من الأمرين.

إذا تقرر ذلك ، فالصوم الذي يحلّله الولي به على ما سبق في الحج عشرة أيام ، وهي بدل الهدي ، كهدي التمتع ، من غير اعتبار للتوالي والزمان ، وكونه في الحج وعدم ذلك ، ونقل شيخنا الشهيد : أن في رواية ثمانية عشر يوما.

فان قلنا ببدلية الصوم عن هدي الإحصار فلا بحث ، وإلاّ فاللازم أحد الأمرين : إما بقاؤه على إحرامه إلى زمان الفكّ ، أو القول بأنّ إحرامه في هذه الحالة فاسد ، لاستلزامه التصرف في المال.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٨٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) التحرير ١ : ٢١٩.

٢٠٢

وينعقد يمينه ، فإن حنث كفر بالصوم ، وله أن يعفو عن القصاص لا الدية والأرش ، والولاية في ماله للحاكم خاصة.

ولو فك حجره ثم عاد التبذير أعيد الحجر ، وهكذا.

الفصل الثالث : في المملوك :

المملوك ممنوع من التصرف في نفسه ، وما في يده ببيع ، واجارة ، واستدانة ، وغير ذلك من جميع العقود ، إلا بإذن مولاه ، عدا الطلاق فإن له إيقاعه وإن كره المولى.

والأقرب أنه لا يملك شيئا سواء كان فاضل الضريبة ، وأرش الجناية على رأي ، أو غيرهما ، وسواء ملكه مولاه على رأي أو لا.

______________________________________________________

قوله : ( والولاية في ماله للحاكم خاصة ).

الأصح أن ذلك إذا تجدد سفهه بعد البلوغ رشيدا ، وإلا فالولاية للأب والجد له ، ثمّ لوصي أحدهما.

قوله : ( عدا الطلاق ، فانّ له إيقاعه وإن كره المولى ).

لأن الطلاق بيد من أخذ بالساق.

قوله : ( والأقرب أنه لا يملك شيئا ، سواء كان فاضل الضريبة وأرش الجناية على رأي ، أو غيرهما ، وسواء ملكه مولاه على رأي أولا ).

الضريبة : فعيلة من الضرب ، وهو : ما يضربه المولى على العبد ، ويقاطعه عليه من كسبه ، في كلّ يوم أو في كل أسبوع ، ونحو ذلك ، فان الفاضل عنه من الكسب هو فاضل الضريبة ، فقد قيل : بأن العبد يملكه (١) ، وكذا قيل : إنه يملك أرش الجناية عليه ، وقيل : يملك إذا ملّكه المولى. والأصح عدم ملكه بحال ، للآية (٢) الدالة على أن العبد المملوك لا يقدر على شي‌ء ، ومن جملته القدرة على تلك المذكورات ، فيكون النفي شاملا لذلك.

__________________

(١) قال به الصدوق في المقنع : ١٦١ ، والمحقق في المختصر النافع : ١٣٢.

(٢) النحل : ٧٥.

٢٠٣

ولا تصح له الاستدانة ، فإن استدان بدون اذن مولاه استعيد ، فإن تلف فهو في ذمته ، إن عتق أدّاه وإلا ضاع ، سواء كان المدين جاهلا بعبوديته أو لا.

ولو أذن له مولاه في الاستدانة لزم المولى إن استبقاه ، أو باعه.

ولو أعتقه فالأقوى إلزام المولى ، ويتشارك غرماؤه وغرماء المولى في التركة القاصرة على النسبة.

ولو أذن له في التجارة لم يجز التعدي فيما حدّه ، وينصرف الاذن في الابتياع الى النقد ، وله النسية إن أذن فيها ، فيثبت الثمن في ذمة المولى.

______________________________________________________

قوله : ( ولو أعتقه فالأقوى إلزام المولى ).

هذا هو الأصح ، وللشيخ قول بلزوم العبد (١) ، واختاره المصنف في المختلف (٢) ، تعويلا على رواية (٣) لا دلالة فيها.

واعلم : أن نظم العبارة غير حسن ، لأن ظاهر اشتراط استبقائه أو بيعه في لزوم الدين المولى يقتضي النفي عما عداهما ، مع أن مختاره مع العتق اللزوم أيضا ، فلو قال : وكذا لو أعتقه على الأقوى لكان أحسن.

قوله : ( ويتشارك غرماؤه وغرماء المولى ).

الجميع غرماء المولى ، لأن الدين لزم ذمته ، فإطلاق غرماء العبد عليهم بالمجاز لوقوع الاستدانة منه.

قوله : ( وينصرف الاذن في الابتياع إلى النقد ).

لأنه الغالب ، ولأن النسيئة غير مرغوبة غالبا ، ولأنها معرضة للتلف والضياع.

__________________

(١) النهاية : ٣١١.

(٢) المختلف : ٤١٤.

(٣) التهذيب ٨ : ٢٤٨ حديث ٨٩٥ ، الاستبصار ٤ : ٢٠ حديث ٦٤.

٢٠٤

ولو تلف الثمن قبل التسليم فعلى المولى عوضه.

وليس له الاستدانة ، إلاّ مع ضرورة التجارة المأذون فيها له فيلزم المولى ، وغيره يتبع به بعد العتق ، وإلا ضاع ، ولا يستسعي على رأي.

______________________________________________________

قوله : ( ولو تلف الثمن قبل التسليم فعلى المولى عوضه ).

لأن تلفه بيد العبد كتلفه بيد السيد.

قوله : ( وليس له الاستدانة ، إلاّ مع ضرورة التجارة المأذون فيها له ، فيلزم المولى ، وغيره يتبع به بعد العتق ).

أي : ليس للعبد الاستدانة مع عدم الاذن ، بدليل ما سبق ، إلاّ مع اقتضاء ضرورة التجارة المأذون فيها الاستدانة ، فحينئذ يلزم ما استدانه ـ للضرورة ـ المولى ، لأن الاذن في التجارة يستلزم الاذن في جميع ضرورياتها ، كنقل المتاع ، وحمله ، واجرة حافظه ونحوها ، مع الاحتياج إلى ذلك.

وغير المستدان لضرورة التجارة المأذون فيها إذا تلفت عينه ، يتبع به العبد بعد العتق إن عتق ، ويندرج في ( غيره ) شيئان : ما استدانه لا لضرورة التجارة المأذون فيها ، وما استدانه لغير المأذون فيها مطلقا.

إذا عرفت ذلك ، فالضمير في قوله : ( فيلزم المولى ) يعود إلى ما دل عليه قوله : ( الا مع ضرورة التجارة المأذون فيها ) أعني : ما استدانه ، وكذا ضمير ( غيره ).

قوله : ( والاّ ضاع ).

معطوف على محذوف ، يدل عليه قوله : ( بعد العتق ) أي : ان أعتق ، وإن لم يعتق ضاع ذلك الدّين في الدنيا.

قوله : ( ولا يستسعي على رأي ).

هذا هو الأصح ، لأن ما يحصل بسعيه ملك المولى ، وقد علم أن أداء هذا الدين ليس على المولى. وقال الشيخ : يستسعي (١) ، وابن حمزة : إن لم يعلم المدين‌

__________________

(١) قاله في النهاية : ٣١١.

٢٠٥

ولا يتعدى الاذن الى مملوك المأذون ، ولو أخذ المولى ما استدانه وتلف في يده تخيّر المقرض بين اتباع العبد بعد العتق ، وإلزام المولى معجلا.

ويستعيد المقرض والبائع العين لو لم يأذن المولى فيهما ، فإن تلفت طولب بعد العتق.

ولو أذن له المولى في الشراء لنفسه ففي تملكه اشكال.

______________________________________________________

عدم الاذن (١) ، وهما ضعيفان.

قوله : ( ولو أخذ المولى ما استدانه وتلف في يده ، تخيّر المقرض بين اتباع العبد بعد العتق ، وإلزام المولى معجّلا ).

لأن كلّ واحد منهما أثبت يده على ماله عدوانا ، فلو تبع العبد بعد العتق وأغرمه ، فله الرجوع على المولى ، لأن إقرار التلف في يده ، ولو غرّه العبد ، بأن قال : هذا ملكي أو كسبي ، فلا رجوع له ، ولو أغرم المولى في هذه الحالة ، فإن أغرمه قبل العتق فلا شي‌ء له ، وإن أغرمه بعد العتق فليس ببعيد رجوعه على العبد. ومثله : لو أخذه المولى ثم ردّه على العبد ، فتلف في يده.

قوله : ( ويستعيد المقرض والبائع العين لو لم يأذن المولى فيهما ).

أي : في القرض والبيع ، لدلالة الكلام عليهما.

قوله : ( ولو أذن له المولى في الشراء لنفسه ، ففي تملّكه إشكال ).

الضمير في ( تملكه ) يعود إلى ( المولى ) ، لأنّ العبد لا يملك عند المصنف كما سبق. ومنشأ الاشكال : من أن الاذن في الشراء لنفسه فاسد ، فلا تترتب عليه صحة البيع ، فلا يثبت بيع الملك للمولى ، ومن حيث أن الاذن في الشراء لنفسه تضمن أمرين : مطلق الاذن في الشراء ، وتقييده بكونه لنفسه ، فإذا بطل القيد بقي المطلق ، وإذا كان الشراء في الجملة مأذونا فيه ، أثمر الملك للمولى.

ويضعف : بأن الاذن ، إنما تعلق بأمر واحد ، وهو : شراء مخصوص للعبد ،

__________________

(١) الوسيلة : ٣١٨.

٢٠٦

وهل يستبيح العبد البضع؟ الأقرب ذلك ، لا من حيث الملك ، بل لاستلزامه الاذن.

وإذا أذن له في التجارة جاز كل ما يندرج تحت اسمها أو استلزمته ، كحمل المتاع الى المحرز ، والرد بالعيب. وليس له أن ينكح ولا يؤاجر نفسه ،

______________________________________________________

وقد انتفى بامتناعه ، فيكون البيع الواقع غير مأذون فيه ، فلا يثمر ملكا للمولى ، وهو الأصح.

قوله : ( وهل يستبيح العبد البضع؟ الأقرب ذلك ، لا من حيث الملك ، بل لاستلزامه الاذن ).

كأن قوله : ( لا من حيث الملك ... ) جواب عن سؤال ، تقديره : حيث انتفى الملك ، فكيف يستبيح الوطء؟

وجوابه : أن الاستباحة ليست من حيث الملك ، بل لاستلزام الاذن في الشراء لنفسه الاذن في الوطء ، لأنّها إذا كانت مملوكة له كانت جميع التصرفات حلالا له ، فإذا بطل الإذن الأول ، لم يلزم بطلان الثاني.

وليس بشي‌ء ، لأن المأذون فيه هو الشراء لنفسه ، فإذا تحقق استلزم (١) إباحة التصرفات ، أما الاذن فيها فغير حاصل ، وهذا تفريع على ثبوت الملك للمولى ، وهو ضعيف مبني على ضعيف.

قوله : ( وإذا أذن له في التجارة ، جاز كلّما يندرج تحت اسمها أو استلزمته ، كحمل المتاع إلى المحرز والرد بالعيب ).

كأنه أراد بالاندراج ما يعمّ الدلالة الالتزامية ، فإنّ حمل المتاع إلى المحرز ليس من جملة أقسام التجارة ، إذ التجارة هي الاكتساب وهذا من مقدماته.

قوله : ( وليس له أن ينكح ولا يؤاجر نفسه ).

لعدم تناول الاذن في التجارة لشي‌ء منهما ، ولأنه لا يملك التصرف في‌

__________________

(١) في « م » و « ق » : استلزام ، وما أثبتناه من الحجري ، وهو الصحيح.

٢٠٧

والأقرب ان له أن يؤجر أموال التجارة.

ولو قصر الاذن في نوع أو مدة لم يعم ، ولا يتصدق ، ولا ينفق على نفسه من مال التجارة ، ولا يعامل سيده بيعا ولا شراء ـ خلافا للمكاتب ـ

______________________________________________________

منفعته ، فيتوقف على الاذن.

إن قيل : الاذن في التجارة يعم وجوه الاكتساب ، وهذا من جملتها.

قلت : المتبادر من الاذن له في التجارة الاكتساب بشي‌ء آخر ، فلا يكون اللفظ متناولا للاكتساب بمنفعته.

قوله : ( والأقرب أنّ له أن يؤجر أموال التجارة ).

وجه القرب : أن ذلك من جملة وجوه الاكتسابات بالمال ، فيتناوله الاذن. ويحتمل ضعيفا العدم ، توهما أن التجارة هي البيع ، فلا يتناول الاذن فيهما الإجارة ، والأصح الأول.

قوله : ( ولا يتصدق ).

قال في التذكرة : إلاّ مع علم انتفاء كراهية المولى (١) ، وهو حسن.

قوله : ( ولا ينفق على نفسه من مال التجارة ).

لأنه مناف لمقصود التجارة ، وعند أبي حنيفة يجوز ، فان اضطرّ ولم يمكنه الاستئذان فيه وفي القرض للإنفاق ، أمكن أن يكون ذلك من ضروريات التجارة. ولو استأذن الحاكم في الإقراض أو الإنفاق مع تعذّره وتعذر مراجعة المولى ، فلا كلام في الجواز. وكذا لو تعذر ذلك كله وبلغ حد الضرورة ، فإنّ له دفعها.

قوله : ( ولا يعامل سيده بيعا ولا شراء خلافا للمكاتب ).

لأن تصرّفه لسيده ، ولا كذلك المكاتب ، لانقطاع سلطنة المولى عنه وكون تصرفه لنفسه ، وقال أبو حنيفة بالجواز (٢).

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٩٠.

(٢) بدائع الصنائع ٧ : ١٧١.

٢٠٨

ولا يضم ما اكتسبه بالاحتطاب والاصطياد الى مال التجارة.

وهل ينعزل بالإباق؟ نظر ، ولا يصير مأذونا بالسكوت عند مشاهدة بيعه وشرائه ، وإذا ركبته الديون لم يزل ملك سيده عما في يده ، ويقبل إقراره بديون المعاملة في قدر ما اذن له لا أزيد ،

______________________________________________________

قوله : ( ولا ينضم ما اكتسبه بالاحتطاب والاصطياد إلى مال التجارة ).

لعدم تعلق الاذن به ، ولو عمم كان له أن يضمه.

قوله : ( وهل ينعزل بالإباق؟ نظر ).

ينشأ : من أنّ الأصل بقاء حكم الاذن عملا بالاستصحاب ، ومن شهادة الحال بأن السيد لا يرضى بالاذن بعد الإباق ، ولأن الشارع نزله منزلة الموت ، ولهذا يزول نكاحه عن امرأته. ويضعّف بأن التمسك بصريح الإذن أقوى ، إلى أن يتحقق العزل.

قوله : ( ولا يصير مأذونا بالسكوت عند مشاهدة بيعه وشرائه ، وإذا ركبته الديون لم يزل ملك سيده عمّا في يده ).

خالف في الحكمين أبو حنيفة (١).

قوله : ( ويقبل إقراره بديون المعاملة في قدر ما أذن له لا أزيد ).

فإن أقرّ بأن في ذمته لزيد مقدارا من ثمن مبيع ، قيل : إن لم يتجاوز مقدار المأذون فيه ، لأن المأذون فيه جائز له ، فيكون مقبولا ، بخلاف ما سواه. ويحتمل عدم القبول إن لم يصدقه المولى ، لأن الإذن له في المعاملة لا يستلزم قبول إقراره على المولى.

والتحقيق ، أن هذا المبحث يحتاج إلى التحرير : فإن أريد : أن السيد إذا أذن لعبده في المعاملة بمقدار كذا ، ودفع إليه مالا ليتّجر به ، فعاد وبيده أعواض يدّعي أنه اشتراها في ذمته ، وأن دينها باق ، وادّعى تلف ما كان بيده ، أنه يقبل‌

__________________

(١) بدائع الصنائع ٧ : ١٩٢ ، اللباب ٢ : ٦٧ ، المبسوط للسرخسي ٢٥ : ١١.

٢٠٩

سواء أقر للأجنبي أو لأبيه أو لابنه.

ولا تجوز معاملته بمجرد دعواه الاذن ، ما لم يسمع من السيد أو تقوم به بينة‌

______________________________________________________

إقراره هنا على السيد فهو مستبعد جدا مع إنكاره ذلك.

وإن أريد : أن السيد إذا أذن له في التجارة والمعاملة بمقدار كذا ، ولم يدفع إليه شيئا ، فعاد وبيده أعواض ، يدّعي شراءها في ذمته وبقاء الثمن ، أنه يقبل إقراره فهو قريب ، نظرا إلى شهادة الحال ومقتضى الاذن ، ولتضرر معامليه لو لم يقبل.

والأصح : أنه لا يمضي إقراره على المولى ، وشهادة الحال ليست حجة ، لشغل الذمة الخالية ، والضرر (١) يندفع بالإشهاد ، وليس إقرار العبد بأولى من إقرار الوكيل.

نعم ، يشكل الحال لو أقر العبد المأذون : بأن ما في يده ملك لفلان ( وديعة أو غصبا ونحوهما ، فانّ في القبول وعدمه إشكالا ، يلتفت إلى أنّ الإقرار على ما في يده ) (٢) لا على المولى ، وقد صارت يده بالاذن كيد الوكيل ، وأن ما بيده لمولاه.

قوله : ( سواء أقر لأجنبي أو لأبيه أو لابنه ).

وقال أبو حنيفة : لا يقبل إقراره لهما (٣) ، ولا يخفى أن الإقرار لو كان بغير دين المعاملة ، أو من غير المأذون لا يقبل.

فرع : لو أقر المأذون بدين اقتضته ضرورات التجارة ، فعلى القول بالقبول في المسألة السابقة يجب القبول هنا ، ولا يتقيد بمقدار المأذون بالتجارة فيه ، لأن ضرورات التجارات لا تنحصر في مقدار.

قوله : ( ولا تجوز معاملته بمجرد دعواه الاذن ، ما لم يسمع من السيد ، أو يقيم به بينة عادلة ).

__________________

(١) في « س » و « م » : والضرورة ، وما أثبتناه هو الصحيح.

(٢) ما بين القوسين لم يرد في « ق ».

(٣) المبسوط للسرخسي ٢٥ : ٨٠.

٢١٠

عادلة ، والأقرب قبول الشياع.

ولو عرف كونه مأذونا ، ثم قال : حجر عليّ السيد لم يعامل ،

______________________________________________________

أي : لا يجوز ذلك ، ما لم يسمع مريد معاملته من السيد الاذن له ، أو يقيم العبد بالاذن بينة عادلة ، وعدم جزم ( يقيم ) لكون الجملة معطوفة على الجملة لا على المجزوم ، ويكون الحكم محذوفا ، أي : أو يقيم به بينة عادلة فيجوز.

قوله : ( والأقرب قبول الشياع ).

لأن إقامة البينة على الاذن عند كلّ معاملة مما يتعذر ، ويرد عليه مثله في الشياع ، لأن إخبار جماعة يثمر إخبارهم ظنّا قويا متاخما للعلم عند كلّ معاملة ، مما يتعذر أيضا ، وليس مطلق الإخبار شياعا.

هذا مع أنه إن أريد قبول الشياع بحيث يحكم به على المولى لو أنكر فهو مشكل ، لأنه سيأتي أن الشياع لضعفه لا يثبت به الملك الذي يد شخص آخر عليه ، فكيف يحكم به على المولى في قطع سلطنة الحجر على عبده ، وخروج أملاكه عنه بتصرفه؟ نعم لو اعتبرنا في الشياع حصول العلم بالإخبارات اتّجه ذلك ، لأنه أقوى من البينة حينئذ.

وإن أريد جواز المعاملة بسببه ، بحيث يرتفع المنع ، وتكون الدعوى بين المولى والعبد لو أنكر باقيه ، فهو متجه ، لكن اشتراط حصول الشياع بجواز ذلك لا وجه له ، بل لا يبعد الاكتفاء بخبر العدل الواحد ، إذ الأصل في إخبار المسلم الصحة ، وقد تأكد بالعدالة ، بل لو أخبر من أثمر خبره الظن أمكن القبول ، إذ ليس ذلك بأقل من خبر من يدعي الوكالة عن الغير في بيع ماله ، وليس بأقل من خبر الصبي في الهدية ، ولو ظفرت بموافق على هذا لم أعدل عنه.

قوله : ( ولو عرف كونه مأذونا ، ثم قال : حجر عليّ السيد لم يعامل ).

لقبول إقراره في عود الحجر ، لأنه إقرار على نفسه.

٢١١

فإن قال السيد : لم أحجر عليه احتمل أن لا يعامل لأنه العاقد والعقد باطل بزعمه ، والمعاملة أخذا بقول السيد.

ولو ظهر استحقاق ما باعه المأذون بعد تلف الثمن في يده رجع المشتري على السيد ، ولا يقبل إقرار غير المأذون بمال ولا حد ، وهل يتعلق بذمته؟ نظر.

______________________________________________________

قوله : ( فان قال السيد : لم أحجر عليه احتمل أن لا يعامل ، لأنه العاقد ، والعقد باطل بزعمه ، والمعاملة أخذا بقول السيد ).

لا شبهة في أنّ الحجر فعل السيد وحق له ، وليس للعبد فيه دخل ولا يعتبر رضاه ، كما لا يعتبر في ثبوت الاذن له إذا أذن له المولى ، فلا يعتد بمخالفته فيه للسيد ، لأن السيد أحقّ بنفسه منه. نعم قد يتخيل أن صحة العقد منه متعذّرة ، لأن العقد بزعمه باطل ، فلا يكون قاصدا إلى عقد صحيح.

ويرده : أن الشرط لصحة العقد القصد إليه من حيث كونه صحيحا ، للقطع بصحة مبايعة من ينكر صحة بيع الغائب ـ من العامة ـ هذا النوع من البيوع ، ولجواز المتعة بالمرأة من المخالفين.

والأصح : أنه إن قصد إلى العقد ولم يقصد إيقاعه باطلا يصح ، ولا يلتفت إلى قول العبد.

قوله : ( ولو ظهر استحقاق ما باعه المأذون بعد تلف الثمن في يده ، رجع المشتري على السيد ).

لأن العهدة عليه ، فانّ العبد لم يقبضه إلا للسيد ، ويده يد ضمان.

قوله : ( ولا يقبل إقرار غير المأذون بمال ولا حدّ ).

في بعض النسخ : ( بمال لا حدّ ) بغير واو ، وكلاهما غير حسن ، لأن نفي قبول الحد سيأتي في كلامه ، فعلى نسخة ولا حدّ يلزم التكرار ، ولا فائدة في التقييد للمال بكونه لأحد ، بل يضر ، لأن المال المقرّ به لنحو المسجد والبقعة أيضا لا يقبل ، فالتقييد يمنع العموم.

قوله : ( وهل يتعلق بذمته؟ نظر ).

٢١٢

ولا يقبل إقرار المأذون وغيره بالجناية ، سواء أوجبت قصاصا أو مالا ، ولا بالحد ، ولو صدّقه المولى في ذلك فالأقرب النفوذ.

______________________________________________________

ينشأ : من التردد في كونه مسلوب أهلية الإقرار ، فعبارته لا غية كعبارة الصبي ، أو الرقية مانعة من النفوذ لحق الغير. والحق الثاني ، للقطع بكونه كامل التصرف لو لا حقّ المولى ، فلا تخرج بذلك عبارته عن الاعتبار ، فتعد لغوا ، ولعموم : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (١) ، والعبد منهم ، فيقبل إقراره بالإضافة إلى نفسه ، وحينئذ فيؤاخذ به بعد العتق.

قوله : ( ولا يقبل إقرار المأذون وغيره بالجناية ، سواء أوجبت قصاصا أو مالا ).

لأن الاذن إنما تعلق بالتجارة دون ما عداها ، وإقرار العبد على نفسه إقرار على سيده فلا ينفذ ، لكن يتبع به.

قوله : ( ولا بالحدّ ).

لما قلناه : من أنه إقرار على المولى ، وهل يتبع به ، بحيث يكون هذا من جملة السبب المثبت للحدّ ، حيث يعتبر تعدد الإقرار؟ لا يبعد القول بذلك للعموم السابق ، نعم لو عدل عن الإقرار بعد العتق إلى تأويل اتجه السقوط ، درءا للحد بالشبهة.

قوله : ( ولو صدقه المولى في ذلك ، فالأقرب النفوذ ).

وجه القرب : أن المانع إنما كان حقّ المولى وقد زال بتصديقه. ويحتمل ـ ضعيفا ـ العدم ، لاحتمال سلب الأهلية ، ولأن المولى لا يملك ثبوت الحد والقصاص عليه. وليس بشي‌ء ، لأن المثبت إقراره ، ومانعية حق السيد زالت بتصديقه ، وقوله : ( في ذلك ) إشارة إلى ما سبق من الحدّ والقصاص.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٣ : ٤٤٢ حديث ٥.

٢١٣

الفصل الرابع : في المريض :

ويحجر على المريض في التبرعات كالهبة ، والوقف ، والصدقة ، والمحاباة ، فلا تمضي إلا من ثلث تركته وإن كانت منجزة على رأي ، بشرط موته في ذلك المرض ، وإقراره كذلك إن كان متهما ، وإلا فمن الأصل ، سواء كان لأجنبي أو لوارث على رأي.

______________________________________________________

قوله : ( ويحجر على المريض في التبرعات ، كالهبة والصدقة والوقف والمحاباة ).

المحاباة : مفاعلة من الحبوة ، وهي : العطية ، والمراد : أن يبيع بأقل من القيمة ، أو يشتري بأزيد منها ، فانّ ذلك إعطاء للزائد.

قوله : ( وإن كانت منجّزة على رأي ، بشرط موته في ذلك المرض ).

هذا هو الأصح ، عملا بصحيح الأخبار (١) ، ولو بري‌ء من مرضه ذلك ثم مات نفذت إجماعا.

قوله : ( وإقراره كذلك إن كان متّهما ، وإلا فمن الأصل ، سواء كان لأجنبي أو وارث على رأي ).

هذا أحد الأقوال ، ووراؤه أقوال أخر ، وما اختاره هنا هو اختيار نجم الدين في الشرائع (٢) ، وهو الأصح ، عملا بالخبر ومحافظة على حق الوارث ، ففيه جمع بين الحقين. والمراد بتهمته : أن تشهد قرينة بكذبه في إقراره ، فلو كان عدلا مأمونا اتجه منع التهمة ، لأن العدالة تمنع من ارتكاب المحرم في تضييع حق الوارث حيث لا يجوز.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٨ حديث ١٠ ، الفقيه ٤ : ١٤٩ حديث ٥١٧ ، ٥١٨ ، التهذيب ٩ : ١٨٦ ، ١٨٨ حديث ٧٤٨ ـ ٧٥١ ، ٧٥٥ ، الاستبصار ٤ : ١٢١ حديث ٣٦٢.

(٢) شرائع الإسلام ٣ : ١٥٢.

٢١٤

وإذا مات حل ما عليه من الديون دون ماله على رأي ، والأقرب إلحاق مال السّلم والجناية به ،

______________________________________________________

قوله : ( وإذا مات حلّ ما عليه من الديون ، دون ماله على رأي ).

أما الأول فإجماع ، وأما الثاني فلانتفاء الدليل ، وتمسّك الشيخ (١) وجماعة (٢) ـ على أن ما له يحلّ أيضا ـ برواية أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) ، وفيه ضعف ، والأصح العدم.

قوله : ( والأقرب إلحاق مال السلم والجناية به ).

وجه القرب : أنهما من جملة الديون التي عليه ، فيحلاّن بالموت كغيرهما ، عملا بعموم النص. ويحتمل العدم ، لأن الأجل في السلم جزء من العوض ، فلو حلّ مال السلم بالموت لزم نقصان العوض ، وهو باطل ، لانتفاء العمل بمقتضى العقد على ذلك التقدير.

وكذا القول في مال الجناية ـ أعني : الدية ـ فإنّ الأجل فيها بتعيين الشارع ، فبدونه لا يكون دية. ويضعف بأن ذلك حق أسقطه الشارع بعد ثبوته بالمعاوضة وضرب الدية ، ودليل السقوط النص الدّال بعمومه على الحلول (٤) ، فما ذكر اجتهاد في مقابل النص.

لا يقال : تعارض عمومان ، أعني : عموم حلول الديون ، وعموم تأجيل الدية ومال السلم ، فيتساقطان ويرجع إلى الأجل.

لأنا نقول : ليسا عامّين ، بل عامّ وخاص ، فإن الفردين من الديون أخص من مطلق الديون (٥) ، ولو تمّ ذلك لكان طريقا إلى بقاء الأجل في كلّ فرد من أفراد الديون ، والأصح حلولهما كغيرهما.

__________________

(١) في النهاية : ٣١٠.

(٢) منهم : أبو الصلاح في الكافي في الفقه : ٣٣٣ ، وفخر المحققين في إيضاح الفوائد ٢ : ٦١.

(٣) الكافي ٥ : ٩٩ حديث ١ ، الفقيه ٣ : ١١٦ حديث ٤٩٦ ، التهذيب ٦ : ١٩٠ حديث ٤٠٧.

(٤) الكافي ٥ : ٩٩ حديث ١ ، الفقيه ٣ : ١١٦ حديث ٤٩٦ ، التهذيب ٦ : ١٩٠ حديث ٤٠٧.

(٥) في « م » : فإن الفردين من الديون مطلقا.

٢١٥

فلا يحل المؤجل بالحجر.

وديون المتوفى متعلقة بتركته ، وهل هو كتعلق الأرش برقبة الجاني ، أو كتعلق الدين بالرهن؟ احتمال.

______________________________________________________

واعلم : أن الضمير في قوله : ( به ) راجع إلى ما في قوله : ( ما عليه من الديون ).

قوله : ( ولا يحلّ المؤجل بالحجر ).

لعدم الدليل ، والقياس لا نقول به.

قوله : ( وديون المتوفى متعلقة بتركته ، وهل هو كتعلق الأرش برقبة الجاني ، أو كتعلق الدين بالرهن؟ احتمال ).

لا شكّ أنّ دين المتوفى يتعلق بعد موته بتركته ، لانحصار جهة الأداء فيها ، لكن هل تعلّقه بها تعلق الأرش برقبة الجاني ، أو الدين بالرهن؟ كلّ محتمل.

وجه الأول : أن الدين يسقط بتلف التركة من غير تفريط من الوارث ، ولا يلزمه الضمان ، كما لا يلزم ضمان الأرش المولى لو تلف الجاني لا من قبله. وفيه نظر ، فانّ الدّين لا يسقط من ذمة المتوفى ، بخلاف الأرش ، فإنّه يسقط بتلف الجاني ، ويندفع ببقائه في ذمة الجاني ، فيستويان في تعذر الاستيفاء في الدنيا ، وأيضا فتعلقه بالتركة لا باختيار المالك ، كما أن تعلق الأرش برقبة الجاني كذلك. وأيضا فإنه ليس للمدين إلاّ أقلّ الأمرين من الدين والتركة ، كما أن المجني عليه ليس له إلاّ أقل الأمرين من الأرش وقيمة الجاني ، وليس الرّهن كذلك في شي‌ء من الأمور المذكورة.

ووجه الثاني : أنه يسبب دين في ذمة المالك الحرّ وهذا يستقيم إذا قلنا : أن التركة باقية على حكم مال الميت ما دام الدين لم يقض ، ولو قلنا : أن وجه الشبهة أن ثبوت هذا التعليق ناشى‌ء عن دين سابق في ذمة من كان مالكا استقام مطلقا ، ولسقوط الدين هنا من ذمة المديون بالأداء ، وليس أرش الجناية كذلك في شي‌ء منهما ، وإنما المساوي في ذلك دين الرهن.

٢١٦

ويظهر الخلاف فيما لو أعتق الوارث أو باع ، نفذ على الأول دون الثاني.

______________________________________________________

ويضعفان : بأن مشابهة الدين المتعلق بالتركة لكل من الأرش ودين الرهن ، يقتضي أن لا يكون من قبيل واحد منهما. وأيضا فإنّ مجرد المشاركة في شي‌ء من الصفات لا يقتضي المساواة في الماهية ليشتركا في باقي الأحكام. والأصح أن هذا تعلق مستقل برأسه ليس من قبيل واحد منهما.

قوله : ( ويظهر الخلاف فيما لو أعتق الوارث أو باع ، نفذ على الأول دون الثاني ).

أثر الخلاف لا يظهر في الأحكام المشتركة بين الرهن والجاني اللاّحقة لهما باعتبار تعلّق الدين والجناية ، وإنما يظهر في الأحكام التي اختلفا فيها ، فلو تصرف الوارث في التركة ببيع أو إعتاق أو هبة أو رهن ونحو ذلك ، ابتنى الحكم بالنفوذ وعدمه على القولين.

فان قلنا : إن التعلّق هنا كالتّعلق في أرش الجناية ، صحت التصرفات من الوارث ، وتحتّم عليه أداء الدين إن ساوى التركة أو نقص ، كما في الجاني خطأ ، فإنّ تصرف المولى فيه نافذ قطعا ، ويلزمه أقل الأمرين من الأرش والقيمة.

وإن قلنا : إن التعلق هنا كالتعلق في دين الرهن ، لم ينفذ شي‌ء من ذلك ، كما لا ينفذ تصرف الراهن في الرهن ، بل يقع موقوفا.

وعلى ما اخترناه من أنه تعلق برأسه يحتمل النفوذ ، تمسكا بأصالة الصحة ، وأصالة عدم بلوغ الحجر إلى مرتبة لا يكون التصرف معتبرا ، ولأن في القول بالصحة جمعا بين الحقين. ويحتمل العدم ، لانتفاء فائدة التعلق بدونه ، ولأداء النفوذ إلى ضياع الدين ، وأيضا فإنّ أصل التعلق يقتضي ثبوت حقّ سلطنة للمدين ، ومع اجتماع الحقين لشخصين لا ينفذ تصرف أحدهما.

والكلّ ضعيف ، فإنّ فائدة التعلق تحتم الأداء على الوارث إن تصرف ، والتسلّط على الفسخ ان لم يؤد ، ويمنع الضياع مع النفوذ ، وثبوت أصل السلطنة لا يستلزم المنع كلّيا ، لانتقاضه بالأرش المتعلق بالجاني ، وجزئيا لا يفيد.

والتحقيق : أنّ القول بالنفوذ أقوى.

٢١٧

وهل يشترط استغراق الدين؟ اشكال ، أقربه ذلك ، فينفذ تصرف الولي في الزائد عن الدين ،

______________________________________________________

قوله : ( وهل يشترط استغراق الدين؟ إشكال ، أقربه ذلك ).

أي : هل يشترط ـ لتعلق الدين بكل التركة ـ استغراقه إيّاها ، بأن يكون بقدرها أو أزيد ـ حتى لو كان أنقص منها لم يتعلق إلا بقدره ـ أم لا يشترط ذلك ، فيتعلق الدين القليل جدا بجميع التركة ، وإن تجاوزت الحد في الكثرة؟ إشكال ، أقربه ذلك ، حذف المشترط لظهوره.

ومنشأ الاشكال : من أن الحجر إنما وقع لأجل أداء الدين ، وذلك يتحقق بقدره فيختص الحجر بقدره ، وهذا هو وجه القرب ، ومن أنه لا أولوية لبعض على بعض في اختصاص التعلق به ، ولأن الأداء لا يقطع بكونه بذلك البعض ، لجواز التلف ، ولظاهر قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (١) ولأنه لمّا خرج الميت من صلاحية استقرار الدين بذمته ، وجب أن يتعلق بكلّ ما يمكن أداؤه منه من أمواله ، لأن حدوث تعلقه ببعض آخر عند تلف بعض معلوم انتفاؤه ، والأصح أنه لا يشترط ذلك ، فيتعلق بالجميع مطلقا.

قوله : ( فينفذ تصرف الوليّ في الزائد عن الدين ).

هذا تفريع على الأقرب ، وهو : اشتراط الاستغراق ، وعلى أنّ تعلق الدين بالتركة كتعلق الدين بالرهن ، إذ لو كان تفريعا على أنه كتعلق الأرش بالجاني لكانت التصرفات نافذة مطلقا.

وأراد بـ ( الولي ) المستحق للتركة ، فإنّه وليّها وهو الوارث ، والمعنى : أنه إذا كان الدين أقل من التركة يكون تعلقه بمقداره من التركة ، ويبقى الباقي طلقا لا حجر على الوارث فيه ، فينفذ تصرفه فيه.

وبناء على ما اخترناه ، لو قلنا بأن تعلق الدين بالتركة كتعلقه بالرهن ، لم ينفذ في شي‌ء منها ، لتعلقه بجميعها وثبوت المنع.

__________________

(١) النساء : ١١.

٢١٨

فإن تلف الباقي قبل القضاء ضمن الوارث ، فإن أعسر فالوجه أن للمدين الفسخ.

وعلى القول ببطلان تصرف الوارث لو لم يكن في التركة دين ظاهر فتصرف ، ثم ظهر دين ، بأن كان قد باع متاعا وأكل ثمنه فرد بالعيب ، أو تردى في بئر حفرها عدوانا ، أو سرت جنايته بعد موته احتمل فساد تصرفه لتقدم سبب الدين فأشبه الدين المقارن ، وعدمه ، فإن أدّى الوارث الدين ، وإلا فسخ‌ التصرف ..

______________________________________________________

قوله : ( فان تلف الباقي قبل القضاء ضمن الوارث ).

هذا تفريع على ما سبق أيضا ، فإنه في موضع يكون الدين أقل ، إذا تصرف الوارث بما زاد ، ثم تلف الباقي قبل قضاء الدين ، يضمن الوارث الدين ، لأن ذلك البعض الذي تصرف فيه الوارث متعين للقضاء لو بقي ، فحيث تصرف فيه الوارث ـ وإنما يستقر استحقاقه إياه بعد القضاء ـ تعيّن عليه ضمانه ، وهذا دليل على ان التعلق بجميع التركة ، والا فكيف يتعلق بما يمتنع حدوث تعلقه به ، ليجب بدله ، حيث تعذر؟

قوله : ( فإن أعسر فالوجه أنّ للمدين الفسخ ).

وجهه : أنّ تصرفه إنما جاز بشرط الأداء ولم يحصل. ويحتمل العدم ، لثبوت الاذن في التصرف ، وقد امتنع التعلق به ، لخروجه عن الملك ، ودخوله في ملك آخر. والحقّ القطع بالأول ، وهذا دليل على تعلّق الدين بجميع التركة وإن قلّ.

قوله : ( وعلى القول ببطلان تصرف الوارث لو لم يكن في التركة دين ظاهر ، فتصرف الوارث ثم ظهر دين ، بأن كان قد باع متاعا وأكل ثمنه فرد بالعيب ، أو تردى في بئر حفرها عدوانا أو سرت جنايته بعد موته ، احتمل فساد التصرف ، لتقدم سبب الدين ، فأشبه الدين المقارن ، وعدمه ، فإن أدى الوارث الدين وإلاّ فسخ التصرف ).

٢١٩

______________________________________________________

هذا تفريع على القول ببطلان تصرف الوارث ، بناء على أن تعلق الدين بالتركة كتعلقه بالرهن ، وبيانه أنه : ( لو لم يكن في التركة دين ظاهر ) لو سكت عن قوله : ( ظاهر ) لكان أولى ، إذ ليس في هذا الفرض دين ظاهر ولا خفي.

( فتصرف الوارث ثم ظهر دين ) لو قال بدله : ثم حدث لكان أولى ، لما قلنا من أنه لم يكن هناك دين ، ويتحقق ذلك : بأن يكون الميت قد باع متاعا وأكل ثمنه ، إذ لو كان ثمنه موجودا لوجب ردّه عليه عند الفسخ ، ولا يحتاج إلى تقييده بكون الميت قد أكل الثمن ، بل يكفي تصرف الوارث في الجميع أيضا ، فإنه يجي‌ء فيه ذلك أيضا ، ثم بعد ذلك ردّ بالعيب السابق ، لحدوث العلم به حينئذ ، وبأن يكون الميت قد حفر بئرا عدوانا فتردّى متردّ فيها بعد الموت ، وتصرف الوارث في التركة ، وبأن يكون قد جنى جناية ووداها ، ثم بعد الموت والتصرف سرت إلى النفس مثلا ، فإنه حينئذ يحتمل فساد التصرف ، لتقدم سبب الدين ، فيكون ذلك بمنزلة تقدّم الدين ، فيكون كالدين المقارن في بطلان التصرف في التركة معه.

ويضعف : بأن تقدّم السبب لا يقتضي تقدم المسبب ، والمنع من التصرف إنما هو مع وجود الدين ، لا لحدوثه ، لسبق وجود سببه. ويحتمل عدم الفساد ، لعموم( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ولتعلق حقّ ثالث بالمبيع حين لم يكن حقّ آخر ، ولا مانع من صحة التعلق ، فإبطاله يحتاج إلى دليل ، وهو منتف ، وهذا هو الأصح. فعلى هذا إن أدّى الوارث الدين فلا بحث ، وإلاّ فسخ المدين التصرف ، توصّلا إلى أخذ دينه من تركة المتوفى.

والتحقيق : أنه قد كان هناك عهدة ودرك ، حيث كان المبيع معيبا ، والبئر المحفورة عدوانا ، والجناية في محلّ السراية ، وتلك العهدة كانت متعلقة بالذمة ، فبعد الموت يتعلق بالمال.

__________________

(١) المائدة : ١.

٢٢٠